السبت - 15 جمادى الآخر 1447 هـ - 06 ديسمبر 2025 م

أين العرب عن تدوين الأحاديث؟!

A A

بين الفينَة وأختِها تثور زوبعات، وتُنفخ فقاعات، وتطلُّ رؤوسُ شبهاتٍ ضدَّ الإسلام وتراثِه، وبعضُ تلك الشُّبهات والأسئلة لها حظٌّ من النظر وتستحقُّ البحث والدراسة، بينما هناك شبهاتٌ أخرى فسادُها يُغني عن إفسادها، وحكايتُها كافية في إبطالِها؛ لهشاشة بنيانِها، وتهافُت أصولِها التي بُنيَت عليها.

ومن تلكَ الشُّبهات: ما أثير مؤخَّرًا حول الكُتُب الستة وأعجميَّة كُتَّابها، وسأنقل الشُّبهة بنصِّها حتى نستطيع أن نقفَ على تهافُتها وضعفها وهزالها، وحتى نعرفَ أنَّ أقلَّ ما يقالُ فيها أن كاتبَها ومثيرَها لم يطَّلع ولم يقرأ في كتب الحديث وكتبِ روايتِه وتدوينه.

تقولُ الشُّبهة:

(كتبُ الصحاح الستة:

البُخاري ولد عام 194هـ، ومات 256هـ، الجنسية: أوزبكستان.

الترمذي 209هـ، مات 279هـ، أوزبكستان.

النسائي 214هـ، مات 303هـ، تركمانستان.

مسلم 206هـ، مات 261هـ، إيران.

أبي داود 202هـ، مات 275هـ، إيران.

ابن ماجه 209هـ، مات 273هـ، إيران.

عاشوا في فترة واحدة تعادل 109 سنوات، كلهم ليسوا عربًا، والرسول والرسالة والكتاب عربي. صُدفة؟!).

الجواب على هذه الشبهة:

ترتكزُ الشبهة على نقطة جوهرية وهي: أنَّ أصحاب دواوين الحديث الستَّة أعاجم، بدليل أنَّهم من هذه البلدان التي سمَّاها، وقد عاشوا في فترةٍ زمنية متقاربة، فقال أحدُ الكتَّاب المتشكِّكين متعجِّبًا ومستنكرًا: صدفة؟! وهو بذلك يريد أن يفتح الأبوابَ على مصراعيها للتشكيك في كلِّ كتب الحديث، فمنطقُه يقول: إنَّ وراءَ الأكمة ما وراءَها، وظهور كُتُب الحديث في بلادٍ أعجميَّة وفي فترةٍ زمنيَّة متقاربَة لا بدَّ أنَّها تخفي شيئًا ما، وإلا فأينَ العربُ عن كتابة هذه الأحاديث؟!

هكذا يريدُ هذا الكاتب الحائرُ المتشكِّك أن يصوِّر كتبَ الحديث للناس، وهو في الحقيقة قد وقع في مغالطاتٍ عديدَة سنناقش أبرزَها في النقاط الآتية:

1- ادِّعاؤُه بأن هؤلاء الأئمةَ مشكوكٌ في أمرهم وكتابتهم لأنَّهم من بلدانٍ أعجمية معيَّنة كإيران وتركمانستان وأوزبكستان، هو ادِّعاءٌ غريبٌ في الحقيقة؛ لأنَّه قائمٌ على الاعتماد على جغرافيَّةٍ سياسيَّة لم تكُن في زمانِهم، فمتى قامت إيران وتركمانستان وأوزبكستان؟ فالانطلاقُ من اختلاف البلدان انطلاقٌ سقيمٌ هزيل، فالأمّة الإسلامية كانت دولةً واحدةً، بدينٍ واحدٍ، وعلماؤُها في كلّ مصر من أمصارها هم علماءُ الإسلام، فلا فرق بينَ أن يكونَ العالم في مكة أو الصِّين، ولم يشترط أحدٌ من علماء المسلمين لأن يكون الإنسانُ مجتهدًا في علمٍ ما أن يكونَ من منطقةٍ معيَّنة! بل كانت الدولة الإسلامية هي المسيطرة على كلّ تلك البلاد بأسمائها القديمة، فكانت دولة واحدة، وكان علماء الإسلام من أي مكانٍ على وجه الأرض يمثِّلون الإسلام متى ما طَلبُوا العلم على الوجهِ الصَّحيح، فقولُه: “وكُلُّهم ليسوا عربًا، والرسول والرسالة والكتاب عربي!” يتناقض مع أصل عموم رسالة الرسول والدين والقرآن! فإنَّ الله تعالى يقول مخاطبًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ويقول عن الرسالة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وقال عن الكتاب: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسولٌ عالميّ، والرسالة -وهي دين الإسلام- رسالةٌ عالمية، والكتاب كتابٌ للعالم أجمع، فكيف يأتي هذا الكاتب ويناقض هذه الأصول المحكمة؟!

ثم إنَّنا لو اشترطنا في كل عالمٍ أن يكون عربيًّا لضاعَت العربية نفسُها! فواضع دستورِ اللغة العربية وباسطُ علم النحو هو: سيبويه، وهو من أسرةٍ فارسية([1])، وفقيه اللغة ابن جني كان عبدًا روميًّا، وأبو علي الفارسي لم يكن عربيًّا، وأحمد بن فارس صاحب أحد أشهر معاجم اللغة وهو “مقاييس اللغة” من أصلٍ فارسي، والفيروز آبادي صاحب “القاموس المحيط” من فيروز آباد، وأبو منصور الثعالبي أديب العربية الأشهر في القرن الخامس حتى قال عنه أبو إسحاق الحصري: “هو فريد دهره، وقريع عصره، ونسيج وحده، وله مصنَّفات في العلم والأدب، تشهدُ لهُ بأعلى الرُّتب”([2]) هو من نيسابُور، وانظر إلى “يتيمَة الدَّهر” وهي موسوعةٌ ألَّفها الثعالبي لأدباءِ عصرِه في القرن الخامس لترى أنَّ ما يُقارب النِّصف من الأدباء والشعراء من بلادِ ما وراء العراق من تلكَ البِلاد الأعجميَّة، وكل هذا دليلٌ على عالميَّة الدِّين، وأنَّ اعتبار البُلدان في النُّبوغ العلمي في علوم الإسلام ليس له أي اعتبار.

ثم هناك أمر آخر يجبُ أن نعرّج عليه وهو: هل كانَت هذه البلاد التي ذَكَرها المتشكِّك أعجميَّةً بالكامل؟

الأمر ليس كذلك، فإنَّ اللغة العربية كانت اللغة الرسمية للدَّولة الإسلامية، وكان المسلمون كلَّما فتحوا بلادًا نشروا فيها العربية لأنَّها تابعة للدولة الإسلامية التي لغتُها العربية، ومن أدلِّ الدلائل على هذا ما ذكره الحافظ الخليلي من المحدِّثين في تلك البلاد وعددهم كبير، ومعلومٌ أنَّ التَّحديث لا يكون إلا بالعربية لأنها أحاديث محفوظة تُنقل بنصِّها([3]).

وخلاصة الأمر: أن هذه البلاد كانت ضمنَ الدَّولة الإسلامية، ولا فرق بين أن ينبغ عالمٌ من شرق الدولة وآخر من غربها ما دام أنَّه عالمٌ في المجال الذي يتحدَّث فيه.

2- يصوِّر هذا الكاتب المتشكِّك للقرَّاء هذه الكتب الستة بأنَّها هي فقط كتب الحديث عند المسلمين، فالتَّشكيكُ فيها تشكيكٌ في الأحاديث كلِّها، وهذا باطلٌ يعرف بطلانه أيضًا طلبة العلم الصغار من طلبة علم الحديث، فأين مدوَّنات الإسلام الكبرى في الحديث في نفس زمن ظهور هذه الكتب وبعده؟! أين سنَن الدَّارمي، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن السَّكن، وصحيح ابن حبان، والمستدرك على الصَّحيحين للحاكم، والسنن الكبرى والصغرى للبيهقي، والمُعجم الصَّغير والأوسط والكبير للطَّبراني، ومسند أبي يعلى، ومسند البزَّار، ومسند الحارث، ومسند إسحاق ابن راهويه، ومسند ابن أبي شيبة، والسُّنة لابن أبي عاصم، وقائمة طويلَة من كُتُب الحديث الكبيرة، وكلُّها في عصرٍ قريبٍ من عصر الكُتُبِ الستة، ناهيك عن كتب ومدوَّنات السُّنة قبل هذه الكتب والتي سأذكرها في النقطة الآتية.

3- هذا الفهم الخاطئ من الكاتب المتشكِّك جاءَ بسبب عدم معرفةِ طبيعة كُتُب الحديث وطبيعة تدوينه، فإنَّ دعواه كان يمكن أن يكونَ لها حظٌّ من النظر لو كانت تلك الدواوين كتبًا مستقلة مُبدَعة من أصحابها، والأمر ليس كذلك، فكُتب الحديث ليس لأصحابِها فيها إلَّا الجمع والتَّدقيق والترتيب، ليس إلَّا! فمنذ متى كانت هذه الأحاديث من صنيعِ البخاري أو مسلم أو أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه؟! فإن كانوا ليسوا إلا نقَلةً فمِمَّن نقلوا؟

لفهم هذه النقطة ينبغي أن نعرِّجَ سريعًا وباختصار على قصة تدوين السنة، فإن كتابة الحديث قد بدأَت كما هو معروفٌ ومقرَّر بالأدلَّة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن كتابة الأحاديث لاعتباراتٍ عديدة في صدر الإسلام، فقال كما روى عنه أبو سعيد الخدري: «لا تكتبوا عنِّي، ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه، وحدِّثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار»([4]إلا أنَّه جاء بعد ذلك الإذن فسمح بالكتابة كما في الحديث الصَّريح من النَّبي صلى الله عليه وسلم حينَ قال: «اكتبوا لأبي شاه»([5])، وصحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منّي، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب»([6]).

فبدأت الكتابة منذ زمنِ النبي صلى الله عليه وسلم([7])، وبعد موته اهتمَّ الصحابة الكرام بالحديث الشَّريف حفظًا وتداولًا وتحديثًا([8]كما اهتمُّوا بالكتابة أيضًا مع تفاوت بينَ الصَّحابة في كتابتها وتشريع كتابتها، فقد كرهَها بعض الصحابة كابن مسعود وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم، كما جوَّزها آخرون وكتبوها كأبي بكر وعائشة وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم([9]).

ثم بدأت حركة التدوين تتوسَّع مع عصر التَّابعين، فهم قد تلقَّوا العلم كلَّه من الصحابة الكرام وحدَّثوا عنهم، وكانت حلقات الحديث والتحديث معروفة، فكانَ التابعون يهتمُّون أيّما اهتمام بالتدوين والكتابة، حتَّى إنَّك تقرأ في سيرهم عن طريقَة تلقِّيهم الحديث وكتابتِها، فتتعجَّب من الحِرص والاهتمام الشَّديدَين على الكتابة، كما يقول سعيد بن جبير: “كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفِّي”([10]).

وبقِيَ الأمرُ كذلك حتى جاءَ عمر بن عبدالعزيز، وعلى يده قامت حركة التَّدوين الكبرى في علم الحديث، حيث أرسل إلى عامله بالمدينة أن “انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه؛ فإني قد خِفت دروس العِلم وذهابَ أهله”([11])، فقامت حركةٌ علميَّة كُبرى، وكَتَب العُلماء والمحدِّثُون (وجلُّهم من العرب) الصحف الحديثية الموطّآت والمصنَّفات والمسانيد، ويعتبرُ هذا الجيل جيل التَّأسيس لعلوم السنَّة المطهَّرة، ففيه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم، وحتى لا نُطيل الكلام في هذا الباب دُونك جملة من مصنَّفات علمِ الحديث، وكلُّهم قبلَ أصحاب الكتب الستَّة، منها: صحيفَةُ الصَّحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري، وصحيفة الصَّحابي الجليل عبد الله بن أبي أَوفى، وصحيفة الصَّحابي الجَليل أبي رافع القبطي، وكتب أبي هريرة رضي الله عنه([12])، وصحيفة الصَّحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وصحيفَة عبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة نبيط بن شريط الأشجَعي رضيَ الله عنهم أجمَعِين([13]). ومن كُتُب التَّابعين رحمهم الله: صحيفة أبي الزُّبير محمد بن مسلم الأسدي، وصحيفة أبي عدي الزبير الكوفي، وصحيفة أبي العُشَراء الدارمي، وصحيفة زيد بن أبي أُنيسة الرهاوي، وصحيفة أيوب السختياني، وصحيفة هشام بن عروة بن الزبير، وصحيفة أبي عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ويونس بن عبيد العبدي([14]). ثم من جاء بعدَهم من أتباعِ التَّابعين ككتُب عبد الملك ابن جريج، وموطَّأ مالك بن أنس، وجامع مَعمر بن راشد الأزدي، وكتب سعيد بن أبي عروبة، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وحمَّاد بن سلمة بن دينار، والليث بن سعد، وكُتب الزُّهد والرَّقائق والجهاد لعبد الله بن المبارك، وغيرهم، وممَّن جاء بعدهم كأبي داود الطيالسي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ونُعيم بن حمَّاد الخُزاعي، وعبد بن حميد، والدارمي، ومن أكبر هذه الكتب والدواوين وأوسعها مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله أجمعين([15])، ولا نريد التوسُّع في باب تدوين السُّنة فهو موضوعٌ آخر([16]).

فانظر إلى هذِهِ الكُتُب والمصنَّفات قبل الإمام البُخاري ومن جاءَ بعده وهي كثيرةٌ متعدِّدة، وكتَّابها ومؤلِّفوها جُلُّهم عرب، فأمرر بَصَرَك على هذه القائمة وانظر كم عدد غير العرب منهم؟ وكم عدد الأعاجم الذين وضعوا كتبًا في الحديث؟ وما تركنا أكثر مما ذكرنا، ثم فكر مليًّا في سؤال قائل هذه الشُّبهة: فأين العرب؟!

ها هم نصبَ عينيك، بل هم من أقاموا سوقَ الحديث، ووضعوا أركانه، ووطَّدوا دعائمَه، وشيَّدوا بُنيانَه، وثبَّتوا أوتادَه، وكانَ من جاء بعدَهُم عالةً عليهم، ثم فكِّر مرةً أخرى فيمن زعمَ هذا الكاتب المتشكِّك أنهم أعاجم، هل وضعوا هذه الكتب ابتداعًا من عندِ أنفسهم، أم أنَّهم رووها ونقلوها عمَّن سبَقهم من أتباع التابعين ومن فوقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟!

فاستنكارُ الكاتب أعجميةَ أصحاب الكتب الستة استنكارٌ مُستنكر؛ لأنَّهم إنما نقلوا علمًا كان موجودًا، وأحاديث كانت موجودة، متَّصلة الأسانيد بالنبي صلى الله عليه وسلم.

4- يصوِّر الكاتبُ أصحاب الكتب الستة وكأنَّ حياتهم كلها كانت في تلكَ البلاد الأعجمية، فنشؤوا فيها وطلبوا فيها العلم، وألَّفوا فيها إلى أن ماتوا بها، ومن تتبَّع سِيَر هؤلاء العلماء يجد أنَّ طلَبهم للعلم كان في ديارٍ عربية، ورحلاتهم كانت إلى بلادٍ عربية، وتحديثهم وبثّهم للعلم كانت في بلادٍ عربية، فحياتهم جلُّها في بلادٍ عربية! فالبخاري طلبَ العلم في بغداد والبصرة والكوفة ومكَّة ومصر والشام([17])، ومسلم طلب العلم في مكة والكوفة والعراق ومصر([18])، وأبو داود طلب العلم أيضًا بمكة والبصرة والكوفة وحرَّان وحمص ودمشق ومصر([19])، والترمذي سمع بالعراق ومكة والمدينة([20])، أما النسائي فقد طلب العلم في الحجاز ومصر والشام والعراق واستوطن مصر([21])، وابن ماجه ارتحل وطلب العلم في العراق والشام ومكة ومصر([22]فهؤلاء العلماء قد أفنوا أعمارهم في بلادٍ عربية، وتحملوا العلم بلغةٍ عربية، وحدثوا عن عرب، ورجال أسانيدهم عرب، فما وجه الإشكال والنَّقد؟!

5- بقي أمرٌ أخيرٌ نختم به هذا الردَّ، وهو أنَّ دعوى هذا المتشكِّك باطلة من أساسها، فمن هؤلاء الأئمَّة السّتَّة من هم عربٌ أقحاح، وليسوا عَجمًا، فمن المعلوم أن هناكَ علماء كثيرين عرب ولدوا في بلادٍ أعجمية، وقد تتبَّعَهُم وجمع سيرَهم ناجي معروف في كتابه: “عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي”، وذكر منهم: الإمام مسلمًا فهو عربي من قُشير([23])، والإمام أبو داود عربي من الأزد([24])، والإمام الترمذي عربي من قبيلة سُليم([25])، فهؤلاء عربٌ ولدوا في تلك البلاد الأعجمية، وما لبثوا أن رحلوا عنها لطلب العلم وبثِّه.

وأخيرًا: تلك شبهةٌ متهافتة قد ظهر تهافتها وضعفُها، وأنه لا قيمة لها إطلاقًا في الميزان العلمي إلا عند من يجهل التاريخ ويجهل الجغرافيا، فأصحاب الكتب الستة علماء أجلاء من علماء المسلمين، لسانهم عربيّ فصيح، وبعضهم نسبهم عربي صحيح، ودرسوا بِلغةٍ عربية، وطلبوا العلم في بلادٍ عربية، ورحلاتهم كانت إلى بلادٍ عربية، فكون أصول بعضهم من العجم، وكون بعضهم ولد في بلاد أعجمية، لا يعني ذلك شيئا في تحمُّل العلم وأدائه، وقد صنَّفوا الكتب بناء على أصول علمية متينة وقواعد منهجية سديدة، وحدَّثوا بها الناس، وهي أحاديث موجودة من قبل، لم يخترعوها ولم يبتدعوها من عند أنفسهم، وإنما غاية ما فعلوه هو التقميش والتفتيش، والتدقيق والتمحيص، والتأليف والتبويب، وليس عندنا أدنى ريب في أن الله حافظ دينه بحفظه للقرآن الكريم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا تطالها أيادي العابثين وتشكيكات المتشكِّكين.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: تاريخ العلماء النحويين للتنوخي (ص: 90-112).

([2]) زهر الآداب وثمر الألباب (1/ 169).

([3]) انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث.

([4]) أخرجه مسلم (3004).

([5]) أخرجه البخاري (2434)، ومسلم (1355).

([6]) أخرجه البخاري (113)، ومسلم (3004).

([7]) انظر: السنة قبل التدوين (ص: 303-310).

([8]) انظر: تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين لأحمد السيد (ص: 100-101).

([9]) انظر: السنة النبوية حجيتها وتدوينها (ص: 74-75)، والسنة قبل التدوين (ص: 300-301، 309-321).

([10]) انظر: تقييد العلم للخطيب البغدادي (102).

([11]) سنن الدارمي (505). وانظر: السنة قبل التدوين (ص: 328-333).

([12]) ولهمام بن منبه صحيفة طبعت باسم: صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، بتحقيق رفعت فوزي عبد المطلب.

([13]) انظر: تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 98)، السنة النبوية حجيتها وتدوينها (ص: 76-77)، وبحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص: 294-295).

([14]) انظر: السنة النبوية حجيتها وتدوينها (ص: 82-83)، وبحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص: 297-298)، والسنة قبل التدوين (ص: 321-328).

([15]) انظر: السنة النبوية حجيتها وتدوينها (ص: 89-100)، وبحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص: 301-303)، والسنة قبل التدوين (ص: 337-340).

([16]) يراجع: تقييد العلم للخطيب البغدادي، والسنة النبوية حجيتها وتدوينها، والسنة قبل التدوين، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لعبد الحليم محمود (ص: 35-60)، وتدوين السنة النبوية نشأته وتطوره لمحمد بن مطر الزهراني.

([17]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 394-395).

([18]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 558).

([19]) انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 206).

([20]) انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 271).

([21]) انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 127).

([22]) انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 279).

([23]) انظر: عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي (ص: 269-270).

([24]) انظر: المصدر السابق (ص: 287-288).

([25]) انظر: المصدر السابق (ص: 293-294).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

إعادة قراءة النص الشرعي عند النسوية الإسلامية.. الأدوات والقضايا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تشكّل النسوية الإسلامية اتجاهًا فكريًّا معاصرًا يسعى إلى إعادة قراءة النصوص الدينية المتعلّقة بقضايا المرأة بهدف تقديم فهمٍ جديد يعزّز حقوقها التي يريدونها لا التي شرعها الله، والفكر النسوي الغربي حين استورده بعض المسلمين إلى بلاد الإسلام رأوا أنه لا يمكن أن يتلاءم بشكل تام مع الفكر الإسلامي، […]

اختلاف أهل الحديث في إطلاق الحدوث والقدم على القرآن الكريم -قراءة تحليلية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدّ مبحث الحدوث والقدم من القضايا المركزية في الخلاف العقدي، لما له من أثر مباشر في تقرير مسائل صفات الله تعالى، وبخاصة صفة الكلام. غير أنّ النظر في تراث الحنابلة يكشف عن تباينٍ ظاهر في عباراتهم ومواقفهم من هذه القضية، حيث منع جمهور السلف إطلاق لفظ المحدث على […]

وقفة تاريخية حول استدلال الأشاعرة بصلاح الدين ومحمد الفاتح وغيرهما

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يتكرر في الخطاب العقدي المعاصر استدعاء الأعلام التاريخيين والحركات الجهادية لتثبيت الانتماءات المذهبية، فيُستدلّ بانتماء بعض القادة والعلماء إلى الأشعرية أو التصوف لإثبات صحة هذه الاتجاهات العقدية، أو لترسيخ التصور القائل بأن غالب أهل العلم والجهاد عبر التاريخ كانوا على هذا المذهب أو ذاك. غير أن هذا النمط […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الثاني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة خامسًا: الاستدلال بإباحة التوسل وشدّ الرحل لقبور الصالحين: استدلّ المخالفون بما أجازه جمهور المتأخرين من التوسّل بالصالحين، أو إباحة تحرّي دعاء الله عند قبور الصالحين، ونحو ذلك، وهاتان المسألتان لا يعتبرهما السلفيون من الشّرك، وإنما يختارون أنها من البدع؛ لأنّ الداعي إنما يدعو الله تعالى متوسلًا بالصالح، أو عند […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الأول)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من المعلوم أن مسائل التوحيد والشرك من أخطر القضايا التي يجب ضبطها وفقَ الأدلة الشرعية والفهم الصحيح للكتاب والسنة، إلا أنه قد درج بعض المنتسبين إلى العلم على الاستدلال بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين لتبرير ممارساتهم، ظنًّا منهم أن تلك الأقوال تؤيد ما هم عليه تحت ستار “الخلاف الفقهي”، […]

ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ

أحد عشر ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ. مما يتكرر كثيراً ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين ،مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم ؛واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون […]

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وَقَد تأخَّر تدوِينُها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ إثارةَ الشكوك حول حجّيّة السنة النبوية المشرَّفة بسبب تأخُّر تدوينها من الشبهات الشهيرة المثارة ضدَّ السنة النبوية، وهي شبهة قديمة حديثة؛ فإننا نجدها في كلام الجهمي الذي ردّ عليه الإمامُ عثمانُ بن سعيد الدَّارِميُّ (ت 280هـ) رحمه الله -وهو من أئمَّة الحديث المتقدمين-، كما نجدها في كلام […]

نقد القراءة الدنيوية للبدع والانحرافات الفكرية

مقدمة: يناقش هذا المقال لونا جديدًا منَ الانحرافات المعاصرة في التعامل مع البدع بطريقةٍ مُحدثة يكون فيها تقييم البدعة على أساس دنيويّ سياسيّ، وليس على الأساس الدينيّ الفكري الذي عرفته الأمّة، وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى التشويش على مبدأ محاربة البدع والتقليل من شأنه واتهام القائمين عليه، والأهم من ذلك إعادة ترتيب البدَع على أساسٍ […]

كشف الالتباس عما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى في حق الرسل عليهم السلام: (وظنوا أنهم قد كُذبوا)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن ابن عباس رضي الله عنهما هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولا تخفى مكانة أقواله في التفسير عند جميع الأمة. وقد جاء عنه في قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) ما يوهم مخالفة العصمة، واستدركت عليه عائشة رضي الله عنها لما بلغها تفسيره. والمفسرون منهم […]

تعريف بكتاب “نقض دعوى انتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقَـدّمَـــة: في المشهد العقدي المعاصر ارتفع صوت الطائفة الأشعرية حتى غلب في بعض الميادين، وتوسعت دائرة دعواها الانتساب إلى أهل السنة والجماعة. وتواترُ هذه الدعوى وتكرارها أدّى إلى اضطراب في تحديد مدلول هذا اللقب لقب أهل السنة؛ حتى كاد يفقد حدَّه الفاصل بين منهج السلف ومنهج المتكلمين الذي ظلّ […]

علم الكلام السلفي الأصول والآليات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى […]

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017