يعيش لها الجهابذة… شيء من أحوال المحدثين في حفظ السنة والذبّ عنها
قدَّم الإمام المحدث أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الرازي الشهير بابن أبي حاتم (327هـ) كتابه “الجرح والتعديل” بهذا النصِّ الذي يبيِّن فيه دقَّةَ المحدِّثين وجهودَهم في الذبِّ عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لم يُعرَف مثلُها في الدنيا -وهو ما نقصد الإشارة إلى طرف منه في هذا المقال-، وأيضًا يبيِّن موقفَ المحدِّثين وردَّهم على تشكيكات المشكِّكين في السنَّة منذ ذلك الزمان.
فأورد على نفسه هذا السؤال الذي يردِّده المشكِّكون كثيرًا في كل الأزمان: “بماذا تُعرَف الآثار الصحيحة والسقيمة؟”.
ثم أجاب واثقا مطمئنًا: “بنقدِ العلماء الجهابذةِ الذين خصَّهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفةَ، في كل دهر وزمانٍ”.
واستشهد لذلك بقصَّة ينقلُها لنا من الجيل الأوَّل الذي روَّج أصحابُ الشبهاتِ في أوساط الناس إشكالاتهم وتشكيكاتهم فيهم وتهويلاتهم حولهم، فينقل عن الإمام المحدث عبد الله بن المبارك (181ه) أنه جاءه شخص متخوِّفًا من كثرة الكذَّابين والوضَّاعين الذين كذَبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه فزعًا قائلًا: هذه الأحاديث المصنوعة! فكان الجواب من الإمام بكل ثقة واطمئنان إلى جهود المحدِّثين فقال: “يعيش لها الجهابذة“([1]).
ابن أبي حاتم الرازي ووالده مِنَ الجهابذة:
الإمام ابن أبي حاتم الذي أورد هذه القصَّة لم يورِدها من باب التهويل وخلعِ أستار القداسة والتعظيم على علماء الحديث؛ لإكبار مكانتهم عند العامة دون أن يكونَ ذلك واقعًا كما يقول ذلك من يقوله من المشكِّكين في السنة وأهلها، بل كان رحمه الله إمامًا من أئمَّة الحديث في وقته، وإذا تجاوزنا الكلام عن شخصه فستأخذنا أبصارنا إلى والده الذي في كنفه نشأ وتربَّى، فقد ترعرع في كنف جهبذٍ من أولئك الجهابذة الذين يتحدَّث عنهم، وفتح عينيه في الدنيا أولَ ما فتح على رجلٍ سبرَ الرجال والمتون والأسانيد، وكان أحد الأعمدة التي يُستند إليها لتمييز الأحاديث الصحيحة ونخلها نخلًا من بين الأحاديث الضعيفة والمنكرة والمصنوعة.
ودونك هذا الحدَث الذي يرويه ابن أبي حاتم نفسُه عن أبيه لتعرف من هو ذلك الجهبذ، فقد خرَج أبو حاتم الرازي مرةً إلى نادٍ من أندية المحدثين، وتحديدًا على باب أبي الوليد الطيالسي، وجعل ينادي فيهم: مَن أَغرب عليَّ حديثا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع به فله عليَّ درهم يتصدق به. فماذا كانت النتيجة؟ لقد حضر هذا التحدِّيَ الذي أطلقه الإمام خَلقًا من المحدِّثين منهم أئمَّة في الحديث كالإمام أبي زرعة الرازي، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يأتيَه بحديث مسندٍ صحيح لا يعرفه!
ومع أنَّ مرادَ الإمام أبي حاتم الرازي لم يكن هو المفاخرة والتّعالي كما صرَّح بذلك فقال: “وإنما كان مرادِي أن يُلقَى عليَّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان، فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن أستخرجَ منهم ما ليس عندي”([2]).
ولكن هذه القصَّة تُوقفنا على الحالة التي عاش عليها رجالاتُ هذا العلم الشريف وجهدِهم الذي بذلوه. ولئن عرفت هذه المنزلة العظيمة التي بلغها الإمام أبو حاتم الرازي، فمن البديهي أن يتساءل العاقل: هل هذه القصَّة معقولة وممكنة؟ وهل الوصول إلى هذه المرتبة ممكنة ومتهيِّئَة للإنسان؟
دعنا إذن ننظر في سيرة وحياة هذا الرجل؛ لنعرف كيف بلغ هذه المنزلة.
الجهابذة أفنوا حياتهم كلَّها في طلب الحديث وضبطه:
بعد أن انتهى هذا الإمام من جمع الأحاديث من بلده خرج رحمه الله إلى الأمصار ليجمع أحاديثَها كما هو عادةُ طلبةِ الحديث، يقول الإمام أبو حاتم الرازي: “أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، ما كنتُ سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدِس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دِمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيءٌ من حديث أبي اليمان، فسمعت ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبتُ الفرات إلى بغداد، وخرجتُ قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيًا، كل هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين“([3]).
فهو إذن قبل أن يبلغ العشرين من عمره قد أحصى وجمع أحاديثَ من في بلده من الشيوخ. ثم تنقَّل بين الأمصار لم يكن له في تلك التنقُّلات همٌّ وهدف سوى جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها والذبِّ عنها، وأفنى في هذه الرحلة سبع سنوات من عمره، تنقَّل بين أكثر من عشرين مصرًا من أمصار الإسلام في المشرق، وقطع فيها آلاف الكيلومترات، وهو في العشرين من عمره!
إن هذه الحال التي نشأ بها هذا الجهبذ تدلُّنا على قوة الهمة التي بلغ بها هذا المبلغ، وإذا ما تجاوزنا كلَّ تلك الرحلات فسينتبه المتأمِّل لملحظٍ هامٍّ في هذا النصِّ، وهو الغاية التي يرنو إليها هذا الجهبذ من هذا التطواف في البلدان، ألا وهي جمع كل ما وُجد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض.
نعم، هذه الهمة قد تبدو غريبةً علينا اليومَ، ولكنها الحقيقة التي سبَق لنا عرضُها في قصة سابقة، نفهم هذا الهدف وهذا الهمَّ من قول الإمام: “ثم رجعت من طرسوس إلى حمص وكان بقيَ عليَّ شيءٌ من حديث أبي اليمان فسمعت”، فرغم أنه مرَّ بمدينة حمص وسمع منها حديث أبي اليمان رحمهم الله أجمعين، إلا أنه رجع إليها ليجمع حديثه كلَّه.
وقد حصل له ما تمنَّى رحمه الله، فقد كان إمامًا من أئمة نقَّادِ الحديث وصيارفته، وانظر هذا في حالة أبي اليمان الذي رجع أبو حاتم من أجله ليكمل عمليَّة الجمع، ما النتيجة التي توصَّل إليها بعد ذلك العناء الطويل؟
لقد سبر أحاديثه ورواياته كلها، وسجَّل عليه جميع الملاحظات التي رآها، ثم بيَّن للأمة حاله ومنزلته في الحديث فقال: “كان كاتب إسماعيل بن عياش – كما يسمى أبو صالح كاتب الليث- وهو نبيل صدوق ثقة”([4]).
ولعل قائلًا هنا تراوده نفسه أنَّ هذه الأحداث من مبالغات المحدِّثين في حقِّ آبائهم! ولم يكن المحدِّثون ليحابوا آباءهم، بل اتَّسموا بمنزلة عالية من الموضوعية؛ ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى أمرٍ أعظمَ من أمر آبائهم وما يجدون من الدوافع التي تدفعهم إلى مدح آبائهم، وهو تعظيم أمر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان صون حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب هو المبدأ الذي يعيشون من أجله، وهو المبدأ الذي من أجله أفنوا زهرةَ أعمارهم في جمعها وفحصها وتمحيصها وبيان صحيحها من سقيمها للأمة، وتنقَّلوا بين الأمصار عشراتِ السنين، وقطعوا آلاف الكيلومترات ليصلوها، ولكن قد ظهر في المحدّثين ما لا يكاد يظهر في أحد في العالم كلّه، بل وفي التاريخ كله.
الجهابذة يضعِّفون آباءهم وأبناءهم حفظًا للسنة:
لقد تجرَّد المحدِّثون من كلّ المصالح والأهواء، وتفانوا في الذبِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك على حساب آبائهم أو أبنائهم أو عشيرتهم.
فهذا علي ابن المديني (234هـ) الإمام المحدِّث، كان رحمه الله من أئمة المحدِّثين، ومن أشدِّهم في قبول الحديث وتصحيحه، ولكن والده كان “ممن يهم في الأخبار، ويخطئ فيها حتى يأتي بها مقلوبة، ويخطئ في الآثار حتى كأنها معمولة”([5]). فسئل هذا الإمام عن والده، فماذا كان؟
لقد تجرَّد الإمام علي ابن المديني من كل الأهواء صونًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذبًّا عن هذا الدين، يقول الإمام ابن حبان (354هـ): “وقد سئل علي ابن المديني عن أبيه، فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرَقَ، ثم رفع رأسه وقال: هذا هو الدين، أبي ضعيف”([6]).
فرغم صعوبة كلام الإنسان على أبيه لم يرض بإخفاء أمر أبيه، بل بيَّن حاله بعد أن ألحَّ عليه تلامذته بالسؤال، وأخبر أنه غير مرضيٍّ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبوه!
إنَّ هذا الإخبار لم يكن أمرًا يخفيه هذا الإمام مع خواصِّ تلاميذه، بل أشيع ذلك بين طلبة الحديث، حتى إنهم امتنعوا عن الأخذ من أبيه لكلامه فيه، يقول الإمام ابن حبان: “وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بغداد فجعلتُ أملي عليهم، فقلت في المجلس: حدثنا عبد الله بن جعفر المديني، فقام غلام في المجلس فقال: يا أبا رجاء، ابنه واجدٌ عليه، فإذا رضي ابنُه عنه كتبنا حديثه”([7]).
والإمام علي ابن المديني ليس بدعًا بين العلماء في هذا الأمر، بل هذا ديدن المحدِّثين وهجِّيراهم، وليس ذلك بغريبٍ إذا عرفنا السببَ، وهو الذبُّ عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم شيئًا من ذلك، ومنها تضعيف جرير بن عبد الحميد لأخيه الشقيق حين سئل عنه، حيث قال: “لا يُكتب عنه؛ فإنه يكذب في كلام الناس، وقد سمع من هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، ولكن يكذب في حديث الناس، فلا يكتب عنه”([8]).
هذا الذي ذكرناه غيضٌ من فيض، وقد كان المحدّثون على قدر عالٍ من التفاني في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبِّ عنه، وبذلوا أعمارهم وأموالهم في جمع الأحاديث التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وميَّزوا صحيحَها من ضعيفها، وتكلَّموا عن أسانيدها ومتونها، وبيَّنوا عللها وآفاتها، ثم بيَّنوا معانيَها، واستنبطوا أحكامها.
الجهابذة أقاموا التحدِّي للوضاعين ولم يصمد أمامهم أحد:
ولقد بلغ بهم الحال أن نصبوا أنفسَهم للتحدِّي في اختبارهم في هذا العلم، بل وتحذير الكذَّابين من الكذب وهم أحياء، ولئن سبق معنا مقولة أبي حاتم الرازي: “مَن أَغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع به فله عليَّ درهم يتصدق به“([9])، فلقد حصل مثل هذا أكثر من مرَّة، من ذلك قول الإمام الدارقطني (385هـ): “يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدًا يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حيّ”([10])، وكان محمد بن إسحاق بن خزيمة (311هـ) يقول: “ما دام أبو حامد الشرقي في الأحياء لا يتهيَّأ لأحدٍ أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم”([11]).
ومنطلق هذا التجرّد وهذه الموضوعية هو الذبُّ عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرَّح بذلك يحيى القطان حين قيل له: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركتَ حديثَهم خصماءَك عند الله؟! قال: “لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبُّ إليَّ من أن يكونَ خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لِمَ حدَّثت عني حديثًا يُرى أنّه كذب؟!”([12]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الجرح والتعديل (1/ 2-3).
([2]) الجرح والتعديل (1/ 355).
([3]) الجرح والتعديل (1/ 359).
([4]) الجرح والتعديل (3/ 129).
([5]) المجروحين لابن حبان (10/ 507).
([8]) الجرح والتعديل (2/ 289).
([9]) الجرح والتعديل (1/ 355).
([10]) ينظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/ 45).