محاضرة (مختــارات من كتـاب جـامع بيــان العلــم وفضله والتعليق عليها)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
نبذة مختصرة عن المؤلف:
هو: يوسف بن عبد البر، من أواخر القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس، وتميز بإسناد الحديث إلى رسول الله، فكان راويةً مسندًا، وكان يُسمَّى حافظ المغرب، ونظيره الخطيب البغدادي حافظ المشرق، وقدِ اعتنى بالفقه وبالرواية وجمع الشيء الكثير، والخطيب البغدادي كان له عناية بالتفصيل وله كتاب (الكفاية) في علم الحديث.
ألف ابن عبد البر أعظم كتابين في شرح موطأ الإمام مالك: (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) والكتاب الآخر: (الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار).
- تعريف بالكتاب:
(جامع بيان العلم وفضله) لم يؤلف كتاب مثله في بابه فيما نعلم، وهو من الكتب التي أسند المؤلف فيها مروياته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين وغيرهم.
- الحث على لزوم السنة والاقتصار عليها:
يقول ابن عبد البر: (باب الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها).
والحض أي: الحث، وهما كلمتان تكادان تكونان مترادفتين.
وقوله: (على لزوم السنة) أي: طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي اتخاذ أفعاله وأقواله وتقريراته منهجًا للحياة.
وقوله: (والاقتصار عليها) أي: عدم الزيادة عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُزاد ولا ينقص.
يقول ابن عبد البر: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم”).
ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا: كتاب الله وأهل بيتي”؛ لأن المقصود (وأهل بيتي) أي: أهل بيته الذين صحبوه أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس عند آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء غير ما أمر الله به وما أمرت السنة التي رواها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله.
- شر الأمور محدثاتها:
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في خطبة الحاجة: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم..)، (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين).
(شر الأمور محدثاتها) المقصود بالأمور ليس مطلق الأمور من البيوت والمخترعات والعادات كما يقول بعض الناس بزعمهم أن هذه الرواية لا تتفق مع العقل، إنما المقصود بـ(الأمور) ما يتعلق بالدين، وما يُظن أنه في الدين أو يدخل في الدين، فكل شيء يدخل في الدين مما لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأتِ في كتاب الله عز وجل فهو شر، ويدل على ذلك المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنكر تأبير النخل وقال: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى المحدثات في أمور الدنيا ولم يستنكرها، وكذلك الصحابة من بعده؛ لأنها من أمور الدنيا التي تعين الناس على حياتهم وتسهل لهم معاشهم.
ما مناسبة استشهاد ابن مسعود بقول الله تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)؟
الجواب: مما توعدت أمة الإسلام به الانحراف عن السنة، قال صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة”، فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: “فمن غيرهم؟!”.
- أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم:
حديث عبد الله بن مسعود: كان يقوم الخميس قائمًا فيقول: (إنما هما اثنان: الهدي والكلام، فأصدق الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، ألا وإن كل محدثة بدعة، ألا لا يتطاولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ولا يلهينكم الأمل؛ فإن كل ما هو آت قريب، ألا إن بعيدا ما ليس آتيا).
كان عبد الله بن مسعود يقوم واعظًا لأصحابه يوم الخميس؛ لأن الخميس يوم ترفع فيه الأعمال، وأن بعد الخميس الجمعة والجمعة قد ألِف أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم أن يقتصروا فيها على موعظة الخطيب الذي يخطب في الناس يوم الجمعة، فكان ابن مسعود يقوم يوم الخميس؛ لأنه يوم سابق للجمعة التي لا يقوم واعظًا فيها.
إنما قوام الشرع أمران: (الهدي) (والكلام)، فأصدق الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، إذن فلا شرع إلا كلام الله وهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فعندما يقول: (اثنان) ليس معناه التغاير التام بين الهدي والكلام، وإنما معناه أن بين الأمرين عمومًا وخصوصًا، فكل كلام هدي وليس كل هدي كلام.
(ولا يلهينكم الأمل) هو أن ينظر الإنسان إلى الدنيا وكأنها هي الحياة الدائمة بسبب الانغماس في اللذات والشهوات والبعد عن هدي رسول الله.
- قول عمر رضي الله عنه: (تعلموا السنة والفرائض):
يحتمل أن عمر رضي الله عنه أراد بالسنة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: تعلموا الأحاديث واحفظوها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ غير فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ”، وفي رواية: “سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها”.
ويحتمل أن يكون أراد (تعلموا السنة) أي: طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إجمالا في التوحيد ونبذ الشرك وإخلاص العبادة له.
والأظهر أن تحمل العبارات على جميع ما تحتمل، فعمر رضي الله عنه أراد أن يتعلم الناس حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته.
وقوله: (والفرائض) أي: المواريث؛ لأنها من العلوم التي تنسى، وهذا سيرًا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “تعلموا الفرائض”.
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: “تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء المهتدين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا، عضّوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الآنِف، كلما قيد انقاد”.
كان من عادة رسول الله الموعظة، ولكن هذه الموعظة أطال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير عادته، فقد كان يتخوَّل صحابته بالموعظة.
وفهم الصحابة رضي الله عنهم من موعظته هذه قرب موته، فذرفت عيونهم ووجلت قلوبهم حين ذكَّرهم، فينبغي علينا الالتزام بهذه الوصية التي عهد بها إلى الصحابة.
(تركتم على البيضاء ليلها كنهارها) والبيضاء: الطريق الأبيض المضيء، والمحجة أي: الطريق المضيء الذي ليله كنهاره، يصعب أن يضل الإنسان فيه، والطريق الواضح لا يميل عنه إلا من أراد الهلكة، ومن عنده كتاب الله وسنة رسول الله فالحجة قائمة عليه.
وقد أكمل لنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة والقرآن كل شيء، فليس هناك نقص، وليس هناك داع للضلال؛ لأن السنة لم تترك شيئًا وبينت للناس كل شيء.
- اختلاف الأمة بعد رسول الله في عقائدهم:
(ومن يعش فسيرى اختلافًا كثيرًا) المقصود بذلك الاختلاف في العقيدة، وأما اختلاف الفقه فقد حصل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليهم كما في حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة، فمنهم من صلى العصر في مكانه وفهم من كلام رسول الله حض الناس على السرعة، ومن الصحابة من فهم أنه لا يُصلي العصر إلا في بني قريظة، ومن ذلك أيضا: (فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم).
أما الاعتقاد فقد فصله الله سبحانه وتعالى تفصيلا دقيقًا لا يحتمل معه الاختلاف؛ لأن الآيات جاءت قطعية في دلالاتها لا تحتمل تأويلا ولا فهمًا آخر غير فهم الصحابة الذين فهموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أركان الإيمان.
- ما المخرج من الاختلاف الكثير؟
قال: (عليكم بسنتي) أي: لزوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته العامة في التوحيد والعبادة، فلا يزيد الإنسان عليها ولا ينقص، و(سنته) أحاديثه الصحيحة التي أقر العلماء أنها حجة.
- المقصود بالخلفاء الراشدين في قوله: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي):
إما أن يقصد بالخلفاء الراشدين المعنى الاصطلاحي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفي هذا دليل على إخبار النبي صلى الله عليه وسلم على ما علمه الله من أمور الغيب.
أو يكون المقصود بالخلفاء الراشدين المعنى العام (المعنى اللغوي) وهم صحابته الذين عاشوا بعده رضي الله عنهم، وقد شهد الله عز وجل لهم ورضي عنهم في كتابه وكلهم راشدون.
والمقصود (بسنتهم) طريقتهم العامة في اتباع سنة رسول الله، وهم ليسوا مشرِّعين، وإنما نتَّبعهم لأنهم يبيّنون لنا كيف نتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد من الصحابة من ابتدع، أي: أحدث أمرًا من تلقاء نفسه.
- لماذا الطاعة للولاة والأمراء؟
حتى لا يتفرق الناس وتحصل الفوضى ويضيعون كما حصل في عهد عثمان رضي الله عنه، حتى وإن كان الحاكم عبدًا حبشيًّا.
قوله: (وإن كان عبدًا حبشيًّا) هذا نهي عن التفريق بين الناس بسبب ألوانهم، أي: أن إمارة العربي كإمارة الحبشي، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطيعوا الكل العربي والحبشي، كلاهما لهما حكم واحد، يطاعون ويصح أن يكون أميرًا على الناس، وهذا النص لا يوجد في أي دين من الأديان قبل الإسلام، كما أنه سبق ما يزعم من حقوق الإنسان بألف وأربعمائة عام.
والاستعباد عند العرب لم يكن مقصورًا على الأحباش، وإنما كان أيضًا عند العرب ومن أمثلتهم: (زيد بن حارثة) وكان من سلالة عربية من بني كلب، وأيضًا صهيب كان عبدًا وكان روميًّا، وسلمان رضي الله عنه كان عبدًا وكان فارسيًّا، وهذه من الأمور التي رفعها الإسلام بأمره بالعتق، فالمؤمن حينما يقوده الشرع ينقاد للشرع، فيتواضع طاعة لله ورسوله.
- خلافة الأربعة ثابتة بالنص عند ابن عبد البر:
وهنا يظهر أن ابن عبد البر يرجح أن خلافة الأربعة ثابتة بالنص، وأن حديث العرباض بن سارية يدل على ذلك، وهو أقوى في الدلالة على خلافة الأربعة من حديث: “اقتدوا باللَّذينِ من بعدي أبو بكر وعمر”.
ومن المرجحات الفقهية قول أبي بكر وعمر لأن الغالب أن الحق لا يتجاوزهما.
حث النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع سمت عمر؛ لأنه سيعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرًا طويلا، ومما حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه التمسك بعهد أم عبد (ابن مسعود رضي الله عنه) لأنه كان حافظًا للقرآن.
يبين ابن عبد البر أنه بلغ من فضل أبي بكر وعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بهما وأي فضل أعظم من هذا، وأن من يطعنون في أبي بكر وعمر فإنما يطعنون في حديث رسول الله الذي روي عن حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه: (ولا على الذين إذا ما آتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه)، فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، وقال العرباض: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: “أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيًّا؛ فإن من يعيش منكم سيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة”.
- لا يوجد بدعة حسنة في الدين:
البدعة إذا كانت في الدين فهي ضلالة، وهي التي ينطبق عليها: (إياكم ومحدثات الأمور)، وينطبق عليها (وكل بدعة ضلالة).
وأما ما كان من أمور الحياة وليس من أمور الدين فإن منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون سيئًا، فهنا الفرق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة، ولا يوجد في الدين بدعة حسنة.
وجمْعُ عمر الناس على التراويح كان موجودًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بدعة، فكان يصلي كل أربعة أو ثلاثة أو اثنين على حدة، والنبي صلى الله عليه وسلم تركها خشية أن تفرض عليهم.
- لماذا جعل ابن عباس الحرورية أهل ضلالة؟
الجواب: لأن الحرورية أخذوا بكلام رسول الله، وأخذوا بكلام الله عز وجل، ولكنهم أخطؤوا في فهمهما، ولم يفهموهما كما فهمهما الصحابة رضي الله عنهم.
فيقاس على كلام ابن عباس أن كل من جاء من بعد الحرورية ممن يؤمن بالكتاب والسنة ولا يفهمهما على فهم الصحابة فهو ضال، ومن جاء من بعد ابن عباس ويأتي بالشريعة مما ليس منه فهو هالك.
- ذكر مدة الخلافة الراشدة من معجزات الرسول:
يروي ابن عبد البر عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكًا” وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر أن الخلافة بعده ثلاثون سنة، فكانت كذلك، ويدخل فيها خلافة الحسن رضي الله عنه؛ لأن الإمام أحمد يرى أن الحسن من الخلفاء الراشدين.
ومناسبته لهذا الباب أنه يشرح الحديث المتقدم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وأن المقصود به الخلفاء الأربعة وليس المعنى العام.
- أيهما أفضل من الخلفاء الراشدين؟
لم يأتِ نص أن عليًّا أفضل من عثمان، أو أن عليًّا أفضل من عمر، أو أفضل من أبي بكر، وإنما الأفضلية لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
وقد أراد أناس تشويه الإمام أحمد والزعم بأنه لا يفضل الإمام علي رضي الله عنه، وقد ورد أن الإمام أحمد قد ذكر فضلهم جميعًا كما ذكر ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) نقلا عن أبي الحسين بن أحمد بن الليث الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله، من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء المهديون الراشدون، ورَدَّ البابَ في وجهِي.
الحديث عن إمامة الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يفيدنا بالاعتصام بالسنة، والذين يزعمون أن عليًّا أفضل من الأئمة الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان خالفوا سنة رسول الله؛ لأن رسول الله نص على فضل الأئمة الثلاثة، والذين يزهدون في علي رضي الله عنه ولا يفضلونه كذلك مخالفون في السنة، والذين يذمون أبا بكر وعمر وعثمان هؤلاء ضلال مبتدعون.
- أيهما أفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز:
لا يعنى قول سفيان: (الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وما سوى ذلك فهم منتزون) أن عمر بن عبد العزيز أفضل من معاوية رضي الله عنه.
قال أبو عمر بن عبد البر: قد روي عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا، وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية؛ لمكان صحبته، ولكلا القولين آثار صحاح مرفوعة يحتج بها الفريقان.
نجمع بين أقوال الأئمة لنرى أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا هؤلاء هم الأئمة الخلفاء الراشدون المهديون الذين قولهم سنة، وأن عمر بن عبد العزيز إمام تولى الخلافة بشورى ورضا من المسلمين جميعًا، وأنه عمل بعمل الأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا مكان في الفضل عظيم، وأما أنه في الجملة أفضل من معاوية فهذا غير صحيح، وهذا ليس قول مالك، وإنما سفيان الثوري.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدل بهم في الفضل أحدٌ، كما نقل ابن عبد البر قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: سألت أبا أسامة: أيما كان أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: (لا نعدل بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدا).
ونقل ابن عبد البر: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: وفدت مع أبي إلى معاوية وفدنا إليه زياد، فدخلنا على معاوية فقال: حدثنا يا أبا بكرة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك” قال: فأمر بنا فوُجِئَ في أقفائنا حتى أخرجنا.
(وهذا الحديث إسناده ضعيف كما ذكر المحقق لأن فيه علي بن زيد وهو ضعيف).
- موضع السنة من الكتاب وبيانها له:
يقول ابن عبد البر: قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة)، وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم * صراط الله..).
وهنا يبين مكانة السنة من الكتاب، فبينته هذه الآيات التي صدر بها ابن عبد البر في هذا الباب، ونقل ابن عبد البر عن علقمة أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول، وإني لأظن على أهلك منها، فقال لها عبد الله: فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، فلم تر شيئا، فقال لها عبد الله: أما قرأت: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)؟! قالت: بلى، قال: فهو ذاك.
معنى كلام عبد الله بن مسعود أن من لعنه رسول الله أو ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كمن لعنه الله وكمن أوجبه الله وكمن لعنه الله.
وهذا يدل على أن الكتاب والسنة في فرض الأحكام منزلتهما واحدة، وهذا خلاف بعض المذاهب الكلامية الذين جاؤوا من بعد ذلك، فيرون أن السنة متأخرة عن الكتاب، فإذا ثبتت السنة فإنها والكتاب بمنزلة واحدة.
ويدل على أن السنة كذلك وحي يجب العمل بها ويحذر الإنسان من مخالفتها لا كما يقول من يسمون اليوم أنفسهم قرآنيين أن السنة لا يعمل بها: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى طاوسًا صلى ركعتين بعد العصر، فقال: لا أدري أتؤجر عليهما أم تعذب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر والله يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وأكثر بدع الشيعة أنهم ينكرون السنة، ويدَّعون أن ذلك موجود في كتاب الله، والحقيقة أن بدعهم ليست موجودة لا في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- منزلة السنة من الكتاب:
السنة تأتي من الكتاب على أمرين:
إما أحكام زائدة كتحريم زواج المرأة وعمتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكما في حديث الواشمة، وإما تفصل المجمل في الكتاب كبيان الصلوات الخمس ومقدار الزكاة.
- الأسئلة:
السؤال: نريد أن تبين لنا ما معنى قولهم: (اختلاف أمتي رحمة)؟
الجواب: أما القول بأن اختلاف أمتي رحمة فالصحيح أنه ليس بحديث، وإنما هو من قول مالك لأبي جعفر المنصور، والمقصود بالاختلاف الذي هو رحمة الاختلاف في الفروع؛ لأن الفروع مبنية على أحاديث ألفاظها مجملة ومشتركة، فقد يفهمها كل مجتهد على فهم، ففي ذلك توسيع على الأمة.
السؤال: حين جمع الناس عمر رضي الله عنه الناس على التراويح وهي سنة قال: (نعمت البدعة هذا)، لماذا لم يقل: (نعمت السنة) مع أنها سنة؟
الجواب: المقصود بالبدعة هنا البدعة اللغوية، وهي فعل كل جديد، والمقصود بـ(نعمت البدعة) في الفعل وليس في الصلاة ذاتها.
السؤال: الناسخ والمنسوخ هل السنة بنفس المنزلة في مسألة النسخ؟
الجواب: أما نسخ القرآن بالقرآن فهذا ثابت ومتفق عليه بين العلماء، وأيضًا نسخ السنة بالقرآن هذا متفق عليه، ونسخ السنة بالسنة أيضًا متفق عليه، وأما نسخ القرآن بالسنة فهذا مختلف فيه وهو نادر.
السؤال: ما الفرق بين البدعة والشبهة؟ وهل توجد في الدين بدعة حسنة؟
الجواب: البدعة هي العمل الذي يقوم به الإنسان ويزعم أنه من الدين ولم يرد به أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من الله عز وجل، وكما عرفها الإمام الشاطبي رحمه الله: أمر محدث في الدين يراد به مزيد من التعبد لله عز وجل، إذا كنت تدخله في الدين وليس منه وتريد التعبد لله عز وجل.
وأما الشبهة فهي الدليل غير الصحيح على المبتدعات أو على السنن حينما يستدلون بأدلة غير صحيحة، بمعنى حينما يقول القائلون: نحن لا نأخذ من السنة إلا ما نجد أنه يوافق كتاب الله لقول رسول الله: (ما وجدتم من كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه)، فنقول: هذه شبهة وهذا الكلام غير صحيح.
وأما البدعة الحسنة فليس في الدين بدعة حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “كل بدعة ضلالة”، وإنما البدعة الحسنة تكون في أفعال الناس الدنيوية وفي وسائلهم وحياتهم الدنيوية.
السؤال: يبدو أن الشيخ المحاضر من العلماء الذين لا يؤمنون بتقسيم البدع على كل حال، فالبدعة عمومًا بدعة ضلالة، كيف نفسر قول الإمام الشافعي رحمه الله الذي نقله عنه البيهقي: (المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة) وكلام الإمام العز بن عبد السلام حول تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة وكلام النووي حول هذا؟
الجواب: الحمد لله، إن كلام هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم كله يوافق ما ذكرته آنفًا، فكلهم يقولون: ليس في الدين بدعة حسنة؛ بمعنى أنه ما يدَّعى أنه من العبادات ولم يأت به رسول الله ولم يقل به رسول الله لا يسمَّى بدعة حسنة، وإنما البدعة الحسنة ما قلته آنفًا تكون في أعمال الناس ووسائلهم الدنيوية.
أما أن تكون البدعة موافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي ليست بدعة أصلا وإن سميت بدعة تجوزًا، فهي حسنة وفي الحقيقة هي ليست بدعة.
البدعة الحسنة هي الأمر الذي يأتي يصلح أمور الناس في حياتهم ووسائل النقل التي تعينهم على عبادتهم مثلا.
وكلام الشافعي يقول: ما أحدث مخالفًا لكتاب الله وسنة رسوله فهو بدعة، وما جاء زيادة عن كتاب الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مخالف لسنة رسول الله، لماذا؟ لأن الدين قد كمل بأمر الله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فمن جاء بشيء جديد فهو يدعي أن الدين ناقص.
وكلام الشافعي هنا يقول: (ما أحدث من الخير لا خلاف فيه) أي: لا خلاف فيه بين العلماء كالمخترعات وكل ما يسهل للناس أمور ديناهم.
السؤال: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل صلاة التراويح فهي بدعة، وإذا كان فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا نقول عنها: إنها بدعة أصلا والرسول فعلها؟!
الجواب: كلا القسمين غير صحيح، وهناك قسم ثالث: موافقة لشرع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بأس أن يفعله الإنسان، فمثلا لو أن إنسانًا صلى على سطح بيته، هل روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على سطح البيت؟ الجواب: لا، لا يوجد رواية فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سطح البيت.
والمقصود من فعل عمر رضي الله عنه هو جعلهم يصلون خلف إمام واحد، فهي موجودة في إقرار الرسول صلى الله ولم يفعلها.
السؤال: سؤالي عن البدعة، هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عملها إلى يوم القيامة”، فلماذا نضيق في جانب الخير ولا نوسعه؟
الجواب: الخير ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم والشر ما نهى عنه، وابن عبد البر رحمه الله جاء بباب مهم (الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها) فأعظم الخير هو لزوم السنة والاقتصار عليها، وما تمسك الناس ببدعة إلا وتركوا من أجلها سنن كثيرة.