وقفات مع بعض اعتراضات العصرانيين على حديث الافتراق
إنَّ أكثرَ ما يميِّز المنهج السلفيَّ على مرِّ التاريخ هو منهجه القائم على تمسُّكه بما كان عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه على الصعيد العقدي والمنهجي من جهة الاستدلال وتقديمهم الكتاب والسنة، ثمّ ربط كل ما عداهما بهما بحيث يُحاكّم كل شيء إليهما لا العكس، فالعقل والذوق والرأي المجرَّد كلها مرجعيَّتها الكتاب والسنة، وهما اللذان يحدِّدان الصالح وغيره من هذه الأشياء إذا كان الأمر متعلِّقًا بالحقل المعرفيّ الديني، أو ما يتعلَّق بالشريعة عمومًا.
وهذه الخصوصية للمنهج السلفيِّ يتمسَّك بها السلفيَّة كثيرًا، ويبرزونها ويدعون الناس إليها -وحُقَّ لهم ذلك-، بيد أنَّ من الناس من ظنَّ أنَّ هذه الميزة لدى السلفية ما هي إلا ادِّعاء، وأنَّها لا حقيقة لها، وأنَّ السلفية في سبيل تمكين هذا الادِّعاء والترويج له يتمسَّكون بنصوصٍ غير صحيحة تجعلهم ينفَردون بالحقِّ في الاعتقاد والمنهج دون غيرهم، ويعتبرون أنفسَهم أنَّهم أصابوا الحقَّ، فمن وافقهم كان مصيبًا مثلهم، ومن خالفهم ابتعَد عن المنهج الصحيح بقدر تلك المخالفات.
ومن تلك النصوص التي يرى المخالفون لأهل السنة والجماعة أن أهل السنة والجماعة قد استندوا إليها في سبيل بيان أنَّ الحق لا يتعدَّد وأنه مجموعٌ في منهج واحد يعتقِده ويأخذ به أهل السنة والجماعة وأنَّ هناك فِرقًا وأحزابًا خَرجت عن هذا المنهج إلى أصول كلية بدعية: حديثُ الافتراق بجميع رواياته، وأشهرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى –أو: ثنتين- وسبعين فرقة، وتفرَّقت النصارى على إحدى –أو: ثنتين- وسبعين فرقة، وتفترق أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة»([1]).
فالأمر يتعلَّق بأن هناك فرقةً واحدة تأخذ بالمنهج الصحيح، وتكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وهي الموعودة بالنجاة دون غيرها، وليس معنى ذلك نجاةَ الأفراد بأعيانهم، أو عدم نجاة الآخرين بأعيانهم، كما هو مقرَّر مبثوث عند أهل السنة والجماعة.
وحديثُ الافتراق هذا هو واحدٌ من أبرز النصوص المبيِّنة لظاهرة الافتراق في الدِّين؛ ولهذا يكثر الاعتماد عليه في تقرير هذه المسألة وتبيينها، وفي حقيقة الأمر فكل مفردات هذا الحديث مبثوثة في النُّصوص الشرعية الأخرى، فمع كلِّ هذا الاهتمام بهذا الحديث إلا أنَّه ليس فيه الجديد الذي ليس في غيره، إلا قضيَّة العدَد؛ وهي قضية ثانَويَّة، خاصَّةً إذا ما قلنا: إنَّه لا ينبغي تعيين الفرق الثلاث والسبعين هذه، وهو القول الأرجح، فلا يكون للعدد حينئذٍ كبيرُ أثَر.
وممَّا يؤكد ذلك أن الافتراقَ أمر جاءت فيه نصوص كثيرة؛ محذرةً منه، ومبينة كيفية التعامل معه عند وقوعه، كما أن الافتراق حقيقة واقعَة لا تحتاج إلى دليل شرعي لإثباتها، فهو الواقع الذي نعيشه، وهو الماضي الذي نقرؤه في كتب التاريخ، وكذلك كون فرقة واحدة هي الناجية هو مقتضى النُّصوص الشرعية، فالدين إنما جاء ليؤخَذ به كلّه، وإذا كان المخالف للمنهج في المعاصي والذنوب يدخل في نصوص الوعيد ويكون متوعَّدًا بالنار كما في نصوصٍ كثيرة، فأن يكون المخالف في أمور اعتقادية وأمور منهجية إجماعية أولى بأن يتناوله الوعيد، كما أنه لا يُحتاج إلى كثير عناء لإدراك أن الموعود بالنجاة لا شكَّ أنه سيكون هو من سار على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وحديث الافتراق هو واحد من أبرز النصوص المتعلقة بقضية الافتراق وتحديد معياريَّة الفرقة الناجية؛ ولذا كثر البحث والحديث عنه وعن معاني مفرداته، وكثرت الاعتراضات عليه قديمًا وحديثًا. وليس غرضنا التأصيل لحديث الافتراق من حيث ثبوته ومعانيه وبسط الخلاف في ذلك، وإنَّما بيان عددٍ من اعتراضات العصرانيين عليه، وليس الغرض أيضًا هو تتبُّع كلّ الاعتراضات، فالحديث في حديث الافتراق متشعّبٌ وكثير من جهات عدَّة، وقد كتب مركز سلف فيه ثلاث أوراق مهمَّة([2])، تطرقت إلى الحديث في صحته، وبيان مفهومه، وبيان بعض الاعتراضات عليه؛ ككون أكثر المسلمين في الجنة ومعارضة ذلك للحديث، أو كون الحديث دعوةً إلى التفرق، كما أن في الباب كتابات أخرى([3])، ففي هذا المقال مناقشة بعض الاعتراضات العصرانية لحديث الافتراق.
الاعتراض الأول: كلّ فرقةٍ تدعي أنها الناجية:
في سبيل الطَّعن في حديث الافتراق يلجأ البعض إلى ادِّعاء أنَّ الفرقة الناجية غير متحقِّقة في الواقع، فمن ضِمن كل هذه الفرق الإسلامية الكثيرة أيُّها الناجية؟! وكيف نعرف أنها كذلك وكل فرقة تدَّعي أنها الناجية؟! ما يعني أنّ هذا الحديث لا يمكن أن يصحَّ، وفي هذا يقول عبد الرحمن بدوي: “لا يمكن أن يكونَ الحديث صحيحًا للأسباب التالية:
أولًا: أنَّ ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية (71، 72 ،73) أمرٌ مفتَعَل لا يمكن تصديقه فضلًا عن أن يصدُر مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أنَّه ليس في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنبَّأ مقدّمًا بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون.
ثالثًا: لا نجد لهذا الحديث ذكرًا فيما ورد لنا من مؤلفات من القرن الثاني، بل ولا الثالث الهجري، ولو كان صحيحًا لورد في عهد متقدّم.
رابعًا: أعطت كلّ فرقة لختام الحديث الرواية التي تناسبها، فأهل السنة جعلوا الفرقة النَّاجية هي أهل السنة، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة، وهكذا”([4]).
وترى أنَّه اعتمد على عدد من المسوِّغات التي من خلالها حكم على الحديث بأنه لا يمكن أن يصح، وهذا كله بعيدٌ عنِ النَّقد الحديثيّ الذي ينصرف إلى السند والمتن، والذي ينتهجه المحدثون في الحكم على الأحاديث. وعلى كل حال فإنه اعتمد على أنَّ الحديث ذكرت فيه أعداد متوالية وهي 71، 72، 73، ولا يمكن أن يصدر هذا عن نبي! أمَّا لِمَ لا يمكن أن يصدر عن نبي؟! ولِمَ عَقْل عبد الرحمن بدوي لا يستطيع تصديق ذلك؟! فلا نعلم، ولم يبين هو ذلك، وإذا كان توالي الأعداد لا يمكن أن يكون صِدقًا فماذا عسانا أن نفعل بقوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]، وهذه أعداد متوالية ذكرها الله في كتابه، وعلى كل حال فهذه النقطة ليست مما يمكن أن يقف الإنسان عندها كثيرًا، فلا تستحقّ هذا القدر، ولربما لو أعاد بدوي النظر فيما كتب لأزاحها.
أمَّا النقطة الثانية فستأتي مناقشتها.
أمَّا الثالثة فإن هذا ادِّعاء غريب؛ إذ إنَّ الحديث أخرجه الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ، وابن ماجه المتوفى سنة 273هـ، وأبو داود المتوفى سنة 275هـ، وعلى كل حال فهو حديث مروي بسنده المتَّصل، ومروي في أشهر كتب السنن، والتي عاش أصحابها في القرن الثاني والثالث، فقوله هذا خطأ صريح.
وأمَّا الرابعة وهو ما أروم التعليق عليه، وهو قوله: إنَّ كل فرقة تدعي أنها هي الناجية، وأن أهل السنة قد حوَّلوا الحديث إليهم، والمعتزلة ادَّعوا أنهم هم المعنيّون، وهكذا الطوائف والفرق الأخرى، وهو دليلٌ على أنَّ هذا الحديث لا يصح، فيمكن مناقشة هذا الكلام في الآتي:
أولًا: الانتساب إلى أهل السنة والصحابة منتشرٌ بين الفرق ومشهور عنهم ذلك، فإن أكثرَ الطوائف تنتسب إلى الصحابة، ولا تتبرأ منهم إلا القليل كالخوارج والشيعة، كما أنَّ كثيرًا من الفرق تنتسب إلى السنَّة صراحة، فقد عقد القاضي عبد الجبار المعتزلي فصلًا في نقد من يخرجهم عن أهل السنة والجماعة سماه: “فصل في نسبتهم المعتزلة إلى الخروج عن التمسك بالسنة والإجماع، وأنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة”([5])، وما دام أنه يناقش ما أثير على المعتزلة فإنه يرى أنَّ هذا الكلام خاطئ، والصحيح -حسب رأيه- أنَّهم هم أهل السنة والجماعة، وهو ما يصرّح به فيقول: “فالمتمسك بالسنة والجماعة هم أصحابنا -والحمد لله- دون هؤلاء المشنِّعين الذين عند التحقيق لا يميزون ما يقولون”([6]). وأما انتساب الأشعرية والماتريدية لأهل السنة فظاهر، بل كثيرًا ما يقولون: وبهذا قال أهل السنة والجماعة، وإنما يريدون أنفسَهم، ولا يخفى هذا على طالب علم.
والشاهد أن هذه ظاهرة منتشرة، سواء وجد هذا الحديث أم لم يوجد؛ إذ إن من يضعِّفه ينسبون أنفسهم إلى السنة.
ثانيًا: أنَّ الادعاء غير الحقيقة، ولو أنَّنا كلّما ادعى مدَّعٍ شيئًا أثبتنا له، أو كلما تنازع اثنان في شيء أبطلناه لما سلم لنا شيء من المعارف، وعلى رأسها معرفة الله سبحانه وتعالى، فكم يدعي الملاحدة إنكار وجود الله، ويدعي أهل الأديان الأخرى إنكار نبَّوة محمد صلى الله عليه وسلم، فهل يعني ذلك أننا نبطل هذه الحقائق لمجرد تنازع الناس حولها؟!
ثالثًا: أنَّه قد ورد في بعض روايات الحديث المعيارُ الذي به يمكن معرفة الفرقة الناجية، فليس الأمر مجرد الادّعاء، بل بتحقيق ذلك المعيار، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية: من هي؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»([7])، وهذا الجزء يبين صراحةً معياريَّة الفرقة الناجية، وإن قلنا بضعف سند هذه الزيادة فإنَّ معناها صحيح؛ إذ إنَّ الناجي من الفرق لا شك أنَّه هو من يتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتبعه عليه أصحابه، فلا بدعة ولا اختراع في الدين. والشاهد أنَّ ردَّ الحديث لا يمكن أن يكون مبنيًّا على مجرد وجود ادِّعاء من الفرق المختلفة بكونها الفرقة الناجية، فإنَّ هذا مبحث آخر غير صحة الحديث؛ إذ يمكن أن يقال: إنَّ الحديث صحيح، ثم يُختلف في تحديد الفرقة الناجية، فسواء اتَّفقنا أو اختلفنا يبقى الحديث صحيحًا ثابتًا، مع تأكيدنا على وضوح قضية الفرقة الناجية بحسب قيامها بهذا المعيار من عدمه.
الاعتراض الثاني: حديث الافتراق والتنبؤ بالمستقبل:
مِن أغرب ما تمسَّك به المشكِّكون في الحديث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيه عن المستقبل والغيب، وهو ما لا ينبغي أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يعلم الغيب، وفي هذا يقول عبد الرحمن بدوي وهو يبين أسباب ردِّ هذا الحديث: “ثانيًا: إنه ليس في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنبَّأ مقدَّمًا بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون”([8])، ويقول خميس العدوي: “إن كان القرآن الكريم -وهو تنزيل من علام الغيوب- لم يتعرض بالتفصيل لغيب المستقبل الدنيوي -ونقصد به حركة النَّاس في واقع الحياة الدنيا-، فإنَّ الروايات المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تقرأ على هذا الأساس، كيف وهو عليه السلام لا يعلم الغيب تمامًا كغيره من البشر، فقد أكد الله في كثير من مواضع الكتاب العزيز أنَّه لا يعلم أحد من الخلق الغيب إلا إن كان تبليغًا عن طريق الوحي الإلهي، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، بل الله بيّن في كتابه أنه لم يُطْلِع نبيه والمؤمنين على أحوالهم حتى لا تحصل المفاصلة بينهم وبين المنافقين، وإنما استأثر بذلك في غيبه، حيث قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179]، وهذا فعلًا يجعلنا نتساءل: هل يمكن أن يعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقسيم الأمة بين هالكٍ وناجٍ بدعوى علمه عليه السلام الغيب من قبل الله تعالى؟!”([9]).
وفي الحقيقة هذا الادعاء غريب جدًّا، وربما تصوُّره كافٍ في إبطاله، ومع ذلك يقال:
أولًا: إنَّ أهل السنة والجماعة -بل وجلُّ الطوائف الأخرى- لا يقول أحدٌ منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، والاعتراض بمثل هذه المعارضة وبناء ضعف الحديث عليه ما هو إلا تهميش لكل هذه العقول منذ أربعة عشر قرنًا! فالحديث لا يمكن أن يضعَّف بمثل هذا اللازم الذي لم يقل به أحد.
ثانيًا: مع كون هذا الادعاء لا يقول به أحد، فهو أيضًا مخالفٌ للقرآن الكريم، فإنَّ الأنبياء صحيحٌ أنهم لا يعلمون الغيب، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمهم من الغيب ما يريد، وهذا صريحٌ في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، يقول الطبري رحمه الله: “عن قتادة قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه يصطفيهم ويطلعهم على ما يشاء من الغيب… قال ابن زيد في قوله: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} قال: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء؛ أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن، قال: وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة”([10]).
ثالثًا: أنَّ هذا مخالفٌ للواقع، فالنَّبي صلى الله عليه وسلم أخبر بغيوب كثيرة ستحدث في المستقبل، وهي من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام؛ كفتح بلاد كسرى وبلاد قيصر، وعلامات الساعة، بل وإخباره بمصارع الكفار في غزو بدر، وقضايا أخرى كثيرة، وكلها غيبيّات تفصيليّة أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بإخبار الله له، وهو ما يصادم قولهم: إنَّه لا يعلم أي شيء من الغيب.
رابعًا: ما الفرق بين هذا الغيب وبين ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن أمور ستحدث في الآخرة؟! بل كل تفاصيل الآخرة الواردة في السنة غيب، ولا يرده إلا من يردّ السنَّة مجملًا، أو من ينكر بعض التفاصيل لإنكاره أحاديث الآحاد، وليس لكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.
الاعتراض الثالث: حديث الافتراق وتكفير الناس:
ادَّعى حسن حنفي في قراءته ونقده لهذا الحديث أنَّه يؤدِّي إلى تكفير كل الناس، أو يكفِّر اجتهاداتهم، يقول: “إنَّ أشدَّ ما أضرَّنا هو حديث الفرقة الناجية المشكوك في صحته عند ابن حزم، والذي يكفر اجتهادات الأمة كلها، ولا يستبقي إلا واحدًا هو اجتهاد الدولة القائمة، وهو ما ترسَّب في وعينا القومي بتكفير كل فرق المعارضة، واستبقاء اجتهاد واحد صائب هو اجتهاد السلطة القائمة”([11])، ويفتتح بحثه الذي هو بعنوان: “حديث الفرقة الناجية بين تعدد الروايات والتوظيف السياسي في علم أصول الدين”([12]) فيقول: “يعتمد تكفير الفرق على حديث الفرقة الناجية، سواء تم عرضها على نحو موضوعي محايد، أو على نحو ناقد مفند، ففي كلتا الحالتين يتمّ حصر الفرق وجمعها وتصنيفها وتكفيرها طبقًا لهذا الحديث”([13]).
ويرى أنَّ حديث الفرقة الناجية حديث سياسي بامتياز، فإن مفهوم الفرقة الناجية يعني الانضواء تحت السلطة الحاكمة وتكفير كل المعارضين، فتكفير المعارضين وقتلهم كان يحتاج إلى حجة شرعية، فكان هذا الحديث، يقول: “ومن الطبيعي أن تأتي الفرقة الناجية في النهاية، فختامه مسك، وما بعد الضلال إلا الهداية، وبقدر ما يتم التفصيل في الفرق الضالة وتقسيمها إلى فرق، والفرق إلى فرق أصغر؛ تعرض الفرقة الناجية وحدَة واحدة متَّحدة متماسكة، وكأنها هي رأي الأمة والجمهور، الأصل والجذع، وما دونها الفروع والشتات، الفرقة الناجية تجمع، والضالة تفرق، الأولى توحّد، والثانية تبعثر، وهو حكم قيمة مسبق يقوم بالكشف عن موقف السلطة السياسي تجاه المعارضة، وموقف الدولة تجاه خصومها السياسيّين، فالسلطة هي الأساس، والمعارضة خروج عليها. والحقيقة أنَّ الفرقة الناجية تكون أيضًا من فرق بل ومن فرق صغيرة عدّة، ولا تمثل إجماعًا واحدًا على رأي واحد، سواء في المسائل النَّظرية أو في الموضوعات العمليَّة. يجمعها جميعًا التسليم بالأمر الواقع والإقرار بالسلطة القائمة… وقد استعمل سلاح الألقاب لنصرة الفرقة النَّاجية وحصارًا للفرق الهالكة، استعملته السلطة ضدَّ فرقِ المعارضة. فالمتكلمون أهل الأهواء، والمعتزلة معطِّلة مجوس الأمة، والثوار خوارج، والرافضون شيعة أو روافض… إلخ. وقد استمر هذا التقليد متَّبعًا حتى الآن في اتهام فرق المعارضة بالعمالَة والإلحاد والكفر والخروج”([14]).
وهذا القول لا شك أنه ناشئ من أجنبيّ عن الحقول المعرفية السنية، على الأقل فيما يتعلق بالإيمان والكفر ومفاهيمهما عند أهل السنة والجماعة، ويقال فيه:
أولا: إن هذا الادِّعاء وارد في غير محلّ، ووارد بتصوّر خاطئ تمامًا، فإن أهل السنة والجماعة لم يكفِّروا هذه الفرق، لا بهذا الحديث ولا بدونه، فالتشنيع وارد في غير محله، وقد بنى ضعفَ الحديث على القول بالتكفير، وحين نعرف أنه لا تكفيرَ فإنَّ بناءه كلَّه ينهدم في تضعيف هذا الحديث من هذا الوجه.
ثانيًا: أهل السنة والجماعة ليسوا فقط لا يكفرون تلك الفرق، بل يصرِّحون بأن من كفَّرهم فقد خالف الإجماع، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ومن قال: إنَّ الثنتين والسبعين فرقة كلّ واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفَّر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضًا ببعض المقالات كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع”([15]).
ثالثًا: لعله فهم هذا الفهم الخاطئ من قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: «كلها في النار»([16])، ولم يدرك حسن حنفي أنَّ هذه النصوص عند أهل السنة والجماعة هي نصوص وعيد، ويعني ذلك أنَّ من فعل هذا الفعل فهو متوعَّد بالنار يستحقّه، وليس بالضرورة يقع عليه، فإنَّ ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، كما أنه جزمًا لا يخلد في النار وإن دخلها إذا كان مات على دين الإسلام.
رابعًا: إذا سقط القول بالتكفير سقط القول بأن هذا الحديث إنما اختُرِع لغرض سياسي وهو قتل المعارضين أو إقصاؤهم، فإنه لا مبرِّر في الحديث لقتلهم أو تكفيرهم.
وفي الحقيقة إنك لا تحتاج مع حسن حنفي وأمثاله إلى هذا البيان؛ فإن كلام أي متخصِّص في غير تخصّصه لا يُقبَل، وليس هذا حكرًا للاجتهاد، وإنما هو حفظ للمنهجية العلمية السليمة، وإن أردت أن تنظر إلى فهم حسن حنفي لهذه القضية جيّدًا وهي: أن حديث الفرقة الناجية يؤدِّي إلى التكفير فانظر إلى كلامه هذا الذي لا نحتاج معه إلى أكثر من علامات التعجب، يقول: “كان تكفير الفرقة الناجية للفرقة الضالة الهالكة تكفيرًا عقائديًّا نظريًّا بالأساس، قبل أن يكون تكفيرًا عمليًّا إخفاء للمواقف العملية وإبرازا للعقائد النظرية تملقًا للعامة ودفاعًا عن السلطان. فهل يتم التكفير طبقًا للآراء النظرية أم للأفعال؟ إن الآراء النظرية ما دام لا ينتج عنها فعل فإنها تظلّ خارج نطاق التكفير، بل إن تعريف الفرقة الناجية للأمة هو: كلّ من نطق بالشهادتين. فالإيمان قول قبل أن يكون نظرًا أو تصديقًا أو فعلًا. فكيف يتم التكفير النظريّ والنظر ليس من الإيمان عند الفرقة الناجية؟! وكيف يتم التكفير في أصلي التوحيد والعدل؟! هل يكفر أحد في التوحيد والعدل؟! لماذا يكفر من يرى أن هناك ذاتًا لها صفات وأنَّ هناك إنسانًا حرًّا عاقلا ومسئولًا؟! ولما تكفر باقي الأصول الخمسة: الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وإذا اتفقت فرق المعارضة الرئيسية الثلاث على أصلي التوحيد والعدل فإن ذلك يعنى التكفير النظري لها جميعا”([17]). فهذا الخلط الشديد بين هذه الموضوعات، وإدخال التكفير بين كل جملة وأخرى لم يجعل من حسن حنفي أكثر من حاطب ليل في نقد هذا الحديث.
وأخيرًا: من الجيِّد لنا ولهم أن يكون مثل هذا الحديث دافعًا إلى أن يكون الإنسان من الفرقة الناجية، فيبحث عن الحقِّ ويتبعه، ويبحث عن المنهج السليم في الاستدلال والاعتقاد فيأخذ به، لا أن يردَّ الحديث لمجرَّد تمييع الحق وتشتيته وادِّعاء عدم حيازته من أحد! فإن الحقَّ موجودٌ مجموعٌ في منهج -بغض النظر عن الحديث بعينه-، والإنسان يكون متَّبعًا للكتاب والسنة أو غير متَّبع لهما حسب قربه وبعده من هذا المنهج.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (4596)، وابن ماجه (3992)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (203).
([2]) وهي بعنوان: حديث الافتراق رواية ودراية، على الروابط التالية:
([3]) من أجود الكتب في ذلك رسالة علمية بعنوان: المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم، للباحث: أحمد سردار.
([4]) مذاهب الإسلاميين (1/ 33-34).
([5]) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (ص: 185).
([7]) أخرجه الترمذي (3641)، وينظر في تخريج هذا الحديث الورقة العلمية التي اهتمت بهذا الجانب على الرابط التالي:
حديث الافتراق رواية ودراية [الجزء الثاني]
([8]) مذاهب الإسلاميين (1/ 33-34).
([9]) ينظر: بحث بعنوان: قراءة في رواية الفرقة الناجية، مقدم في مؤتمر “الوحدة الإسلامية وديعة محمد”، بمملكة البحرين، 28 ديسمبر 2007م.
([10]) تفسير الطبري (23/ 672).
([11]) حوار المشرق والمغرب (ص: 7).
([12]) هو بحث مقدم في مؤتمر “الوحدة الإسلامية وديعة محمد”، بمملكة البحرين، 28 ديسمبر 2007م.
([15]) مجموع الفتاوى (7/ 218).
([16]) أخرجه ابن ماجه (3993 )، وأحمد (12208)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 408)، وفي مناقشة تصحيح هذه الزيادة وتضعيفها تنظر الورقة العلمية على الرابط:
حديث الافتراق رواية ودراية [الجزء الثاني]
([17]) في بحثه الذي بعنوان: “حديث الفرقة الناجية بين تعدد الروايات والتوظيف السياسي في علم أصول الدين”، وهو بحث مقدم في مؤتمر “الوحدة الإسلامية وديعة محمد”، بمملكة البحرين، 28 ديسمبر 2007م.