إضاءات من حياة الشيخ المحدث محمد بن علي بن آدم الإتيوبي..(من خلال صحبته ثلاثين عامًا)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
افتتاحية
«الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا مِن أهل العلم يدعون من ضَلَّ إلى الهدى، ويصبرون مِنهم على الأذى، يُحْيُون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم مِن قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْهُ، وكم مِن ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوْه، فما أحسن أَثَرَهُم على الناس وأقبح أثرَ الناس عليهم» ([1]).
وبعد؛ فإن شيخنا الوالد العلامة المحدِّث محمد بن عليّ بن آدم الولَّوي الإتيوبي، المولود في نحو سنة (1366هـ) مِن نوادر علماء هذا العصر، الذين أفْنَوْا أعمارهم مشتغلين بنشر العلم تعليمًا وتأليفًا، الحريصين على أوقاتهم غاية الحرص، المنصرفين الانصرافَ التامَّ عن الدنيا ولذائذها وشهواتها، التاركين الاشتغالَ بما لا يعود إليهم نفعُه في الآخرة، الزاهدين في مدح الناس وثنائهم([2]).
هذا الحرص على الأوقات، والانصراف عن شواغل الدنيا، مع حبِّه للتأليف؛ قد أنتج لنا -بتوفيق من الله- شروحًا ضخمةً لثلاثةٍ من كتب الحديث الستة التي حفظت لنا أصول الإسلام وفروعه، فإنَّه قد خلَّف وراءه شرحًا لـ(صحيح الإمام مسلم) في سبعة وأربعين جزءًا، وشرحًا لـ(سنن الإمام النسائي) في أربعين جزءًا، وشرحًا لـ(لجامع الإمام الترمذي) في ستة وعشرين جزءًا، هذا مع شرحه لمقدمة (سنن الإمام ابن ماجه) في أربع مجلدات.
وهذا شرفٌ حازَه شيخُنا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وما إن سَمِع الناسُ بوفاة هذا الجبل الأشمّ، حتى سارع أحبابُه وطلابُه بإخراج المقالات والصوتيات التي تتحدث عن مكانة هذا العالم الجليل، فبيَّنوا فيها فضلَه، وأثنوا عليه بالثناء العطِر، الذي نرجو أن يكون مِن عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا([3]).
ولم يكن المكتوبُ عن شيخنا والمسموعُ بالشيء القليل؛ فقد جلس للتدريس أربعة وثلاثين عامًا، -غير السنوات التي درسها في بلاده- وذلك أنه بدأ تدريسه في مكة المكرمة عام 1408هـ، فانظر كم مِن جيلٍ مرَّ عليه من الطلاب! وكم مِن عالم مُبَرِّز وكاتب أديبٍ قد نهلوا من معين علومه ومعارفه! فلذا انهالت الصوتيات والمقالات عنه، أدلى كل فيها بما يعرفه عن شيخنا؛ مما قد رآه وسمعه عنه، فتناقلها الناس وتداولوها.
وبعضُ مَن قد كتب هم مِمَّن لازموا شيخنا السنوات الطِّوال، وعرفوه من جوانب شتَّى، وأفاضوا في كتاباتهم بما عرفوه عنه؛ إلا أنَّني -بحكم قُرْبي الشَّخصي منه زمنًا طويلًا- ربما عرَفتُ ما لا يعرفُه غيري، فأحببتُ أن أُسْهِم في نشرِ بعضِ أخباره وبثِّها، مما سيُغَطِّي بعضَ جوانب حياتِه التي لم تعط حقَّها.
وليس الغرضُ من هذه الكتابة التَّرجمةَ المستفيضةَ للشيخ في مراحل حياته والتَّعريفَ بمؤلفاته، فهذا مشروع قد كُفِيتُه، وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ أنه كتب، وبعضهم أخبرَ أنه سيكتب فيه.
وهدفي الرئيسُ أن أبين في هذه العجالة أسبابَ تميُّز الشيخ العلمي، من خلال مخالطتي له ومعرفتي به، وبعض الأمور مما يلحقها، وختمت المقالة بملحق ذكرت فيه بعض ما ألَّفه الشيخ ولم يتمَّه، أو كان ينوي تأليفه مما غاب خبرُه عن كثير ممن يتابع مؤلفات الشيخ.
وأسأل الله أن يكون في نشر هذه المقالة بيانٌ لمآثر شيخنا، وزيادةٌ في أجره ممن سيُفيد من أخباره، فلعله يرفع دعوة صالحة لشيخنا رحمه الله.
فإلى شيء من أخباره:
أهم أسباب تميُّزه العلمي:
أبدأ في هذه العُجالة بذكر أبرز أسباب تميز شيخنا العلمي، التي أثَّرت في مسيرته العلمية، تنشيطًا للطلاب وتحفيزًا لهم، وفي ظني أن تناول سيرته بهذه الطريقة أكثر فائدة لطلبة العلم، فأقول مستعينًا بالله:
أولاً: تحصيله العلم مبكرًا:
لقد اعتنى بشيخنا -رحمه الله- والدُه الشيخ العلامة علي بن آدم (ت1412هـ)؛ فقد علَّمه القرآن في صغره، وألحقه بالمدارس الريفية لتعليم العلوم الشرعية، هذا مع حضور شيخنا لدروس والده ودراسته عليه.
وهذا مِن خيرِ ما فعلَه والدُه -رحمه الله – معه، إذ إنَّ طلب العلم في الصغر يرسخ في نفس الطفل ويثبت، ولأجل ذلك قال الحسن البصريُّ -رحمه الله- مقولته المشهورة: «طلب العلم في الصِّغَر كالنقْشِ في الحجر» ([4]).
ولقد كانت هذه طريقةُ السلفِ الصالح مع أبنائهم؛ يحثون أبناءهم على التبكير في طلب العلم ويحضُّونهم عليه، ومن ذلك وصية عروة بن الزبير -رحمه الله- لبنيه: «هلموا إليَّ فتعلموا مِنِّي، فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم، إني كنت صغيرًا لا يُنظَر إِلَيَّ، فلما أدركت مِن السنِّ ما أدركتُ جعل الناسُ يسألونني، وما شيء أشدُّ على امرئ مِن أن يُسأل عن شيء مِن أمر دينه فيجهله» ([5]).
ولم تكن دراسةُ شيخنا في تلك المرحلة بالدراسة الميسّرة سهلة النَّوال؛ بل إنَّه كان يقول: «كنا نقطع المسافات الطويلة لطلب العلم، وأسير تلك المسافات حافي القدمين، وقد تصيب رجلي الحافيةَ شيءٌ من الشوكِ أو الأذى، فأخرجه وأزيله، ثم أستمر في طريقي، وأمّا الطعام في تلك المدارس فخبزةٌ واحدةٌ يعطوننا إيّاها في الصباح لا يكاد يسدُّ جوعَنا، بل إنَّنا إذا أكلناها ازددنا جوعًا، ويعطوننا مثلَ تلك الخبزة في المساء، وما كان كلُّ هذا ليوقف مسيرتنا في طلب العلم، بل كنّا نتوقَّد نشاطًا وهمَّةً في تحصيل العلم وطلبه».
ثانيًا: حفظه لوقته:
مَن عَرَف شيخنا أدنى معرفة لاحظَ اهتمامه الكبير بحفظه لوقته، وعدم صرف شيءٍ من الوقت للعوارض والأشغال الدنيوية إلا بقدر الحاجة، فضلًا عن أن يصرف وقتَه لِما لا فائدة فيه.
فمن مظاهر حفظه لوقته: قضاؤه لحوائجه على وجه العجلة والسرعة؛ فقد كان شيخنا سريعًا في مشيه، سريعًا في أكله، سريعًا في كلامه.
لأجل هذا لم يكن يسهل على الطلبة أن يَقِفوه ليسألوه، ومن طريف ما حصل أنَّ بعض الطلبة لحق به وقتَ الانصرافِ من الدراسة ظهرًا، وأدرك الشيخَ وقد همَّ أن يركب سيارته ليذهب، فسأله: «يا شيخ، ما منهج السلف في طلب العلم؟» فلم يزِدِ الشيخُ على أن نظر نظرةً إلى حقيبة ذلك الطالب المليئة بالكتب، ثم قال له: «لم يكن من منهج السلف حمل كل هذه الكتب لطلب العلم»! ثم انطلق بسيارته.
ومن مظاهر حفظه لوقته: استغلالُه الأوقات التي يعتبرها أغلبُ الناس ضائعةً؛ فإنَّه يستغلُّ أوقات الأكل، والراحة، والدقائق التي تكون بين أعمالِه المختلفة.
فقد سألتُه يومًا متعجبًا من كثرة محفوظاته -مع إخباره بأنَّه يحفظ كلَّ يومٍ عشرة أبياتٍ-: متى تجد الوقتَ للحفظ؟ فأجابني قائلًا: «ما عندي وقتٌ للحفظ إلا وأنا آكلُ!».
وأمّا أوقات حصصه الفارغة في دار الحديث؛ فقد كان يستغلها في نظمِ بعض المتون، أو شرح بعض المتون، حتَّى إنَّه اشترى حاسبًا محمولًا ليكتب عليه في هذه الحصص الفارغة، وبعض مؤلفاته المطبوعة هي ثمار استغلال تلك الأوقات.
ومِن استغلاله لأوقات الفراغ والراحة أنَّه كان يُدرِّس الطلبة في الفسحة الواقعة بين الحصص، التي تُعْتَبَر لأغلب المدرسين وقت الراحة أو الإفطار، ومن آخر ما كان يقرئه: (ألفية التوحيد) كما سمعته منه.
ومن مظاهر حفظه لوقتِه: أنَّه كان لا يصرِفُ شيئًا من وقته لغير العلم والتعليم والتأليف، إلّا أن يكون شيئًا لا بُدَّ له منه من حوائج الدنيا، وأمّا ما كان زائدًا عن ذلك فإنه ينصرفُ عنه.
ومن عجائب المواقفِ التي حضرتُها ولا أنساها: أنَّ شيخنا كان مريضًا بمرض السكري، فذهبنا للطبيب فنصحه بأن يمشي نصفَ ساعةٍ يوميًّا على الأقل، فغضب الشيخُ من تلك النصيحة، وقال للطبيب متعجبًا: «نصف ساعة! كم يمكن أن أكتبَ في نصف الساعة هذه من علم!»، ولم يعمل بتلك النصيحة، وقال: «يكفي المشي للمسجد وصعود الدرج»!
وكان شيخنا في آخريات حياته يتنقل كثيرًا من مكة إلى جدة لمراجعة الطبيب مراجعاتٍ دورية، فكان يتحسَّرُ على هذا الوقت الضائع، ويكثر من قول: «الله المستعان! ضاع الوقتُ!».
بل حتَّى حوائج أهله وعياله ما كان يعطيها من وقته ليقضيها لهم إلا ما لا بُدَّ لهم منه؛ وقال لي مرَّة: «قبل أن يكبر الأبناء ويحملوا عنّي مشاوير البيت كنت إذا ذهبت مع زوجي أم عبد الجليل للسوق لشراء غرضٍ تحتاج إليه، أشتري غرضي من أولِ محلٍّ، فتخبرني أنه يمكن شراء ذلك الغرضِ من محلٍّ آخر بثمن أرخص، فأرفض أن يضيع وقتي مقابل توفير المال، واشتري ذلك الغرض من ذلك المحلِّ حفاظًا على الوقت».
وليس معنى هذا أن شيخنا لم يكن يسعى في أمور معاشه، وإنما المقصد أنه كان يختصر غالب حاجاته ويستغني عمّا يُمكنه الاستغناء عنه؛ إيثارًا للتفرغ للعلم.
ثالثًا: ضبطه لعلمه.
مما تميز به شيخنا محمد آدم -رحمه الله- ضبطه لعلمه، واستحضاره له كل وقتٍ وحينٍ، ويظهر ذلك في دروسه وجواباته عن أسئلة مَن يسأله، وكذا في تأليفه من خلال مناقشاته للأقوال وترجيحه بينها.
وكان يحرص-رحمه الله- أن يبين لطلبته سبل ضبط العلم وإتقانه، يقول في ألفية العلل([6]):
يَا أيُّهَا العَزِيزُ فَاعْلَم أَنَّه |
|
لاَ بُدَّ في ذَا الْعِلمِ أَنْ تُتْقِنَه |
فَإِنَّما الحُجَّةُ عِندَ القَوْمِ |
|
الحِفْظُ والفَهْمُ وَحُسْنُ الْعَوْمِ |
ويحذر طلابه كثيرًا مما يخل بضبط العلم وتحصيله، وأذكر أنه في بداية دراستنا عليه البخاري عام 1413هـ قال له أحد الطلبة: «متى نقرأ فتح الباري لابن حجر؟»-وكان شيخنا يمسك مجلدًا منه بيده- فقال: «هذا نهاية العلم!»، ورفعه بيده رفعًا شديدًا، ثم تكلم عن التدرج في أخذ العلم.
وقد ساعد شيخنا على ضبطه للعلم أمور؛ منها:
– دراسته علوم اللغة واهتمامه بجميع فنونها، فإنَّ شيخنا قد أخبرَنا عن نفسه أنه قد حصَّل علوم اللغة العشرة، التي قد لا يعرفُها بعض طلبة العلم.
واعتناء شيخنا بعلوم اللغة -لا سيما النحو والصرف والبلاغة- ظاهرٌ في دروسه وتآليفه، وكان ينكرُ على مَن يطلب منه التخفيفَ من تلك العلوم في دروسه ومؤلفاته، لا سيما عند شرحه المنظومات التي يطيل في بيان صرفها ونحوها، فيقول: كيف يُفْهَم النظم بلا نَحْوٍ؟!
وقد كان من اهتمامه باللغة حفظه لشواهدها، وقد أخبرني ذات مرةٍ أنه يحفظ 3000 شاهدٍ من شواهد العربية.
– ومما ساعده على ضبط العلم: حفظه للعلم سواء الأحاديث، أو الرجال، أو المنظومات والألفيات، بل إنه لم يؤلف كتابه: (قرة العين في تراجم رجال الصحيحين) المشتمل على (2618) ترجمة إلا ليحفظه، وقد عَددنا لشيخنا حفظه لأكثر من ألفية ، ومن الألفيات التي أجزم أنه يحفظها كاملة (ألفية ابن مالك) و(ألفية الحديث) للسيوطي، فكثيرًا ما كان يستشهد بهما، وكنت أراه قديمًا في مسجد دار الحديث يسمعهما للطلبة، وقد أخبرني أحد نجباء طلابه أنه سمّع الألفيتين على الشيخ كاملة والشيخ يرده إن أخطأ من حفظه، وقد أخبرني الشيخ أنه يحفظ الشاطبية في القراءات السبع، وكنت أراه يحفظ ألفيتين: (الكوكب الساطع) للسيوطي، وألفيته في العِلَل-(شفاء الغلل)-، ولكن لا أدري هل أتمهما؟
– ومِمّا ساعده على ضبط العلم: استمراره في التحصيل، حيث كنت أراه يحفظ ألفيته في العلل بعد أن كبِر، ورأيته يحفظ الكوكب الساطع في الأصول للسيوطي وكان في العقد السادس من عمره آنذاك.
– ومِمّا ساعده على ضبط العلم: مراجعته لمحفوظاته، فكثيرًا ما كنا نراه يتمتم ويراجع ما يحفظه من منظومات، بل إنني زرتُه أول مرة دخل المستشفى من قرابة خمسة عشر عامًا، فرأيتُ أمامه ألفية السيوطي في المصطلح، وألفية الشاطبي في القراءات، فسألته عن الشاطبيةِ، فأخبرني أنه يراجع حفظها، وأنه درسها على والده وقرأ عليه أحد شروحها.
– ومِمّا ساعده على ضبط العلم: تدريسه المبكر للعلم، حيث بدأ التعليمَ قبل قدومه للسعودية عام 1401هـ، بمدة تقارب الأربع سنوات، وقد ذكر في (ثبته)([7]) أنَّ شيخه العلامة النحوي عبد الباسط بن محمد البورني المناسي (ت1413هـ) كان يُنِيبُه للتدريس في مدرسته إن سافر، وقد أخبرني أنَّه كان يُدَرِّس صحيح البخاري في بلاده.
وقد كان مُحِبًّا للتدريس؛ حتى إنَّ بعض الأفاضل قد سعى لتفريغه ليكمل شرح صحيح مسلم، وقد وافق أول الأمر، ثم تراجع وقال لي: إن التدريس يعينني على التأليف.
رابعًا: جمع هِمَّته للعلم وعدم التشاغل بسواه.
قد جالستُ شيخنا -رحمه الله- في جميع أحواله؛ في صحته ومرضه، وفي حضره وسفره، وفي كهولته وشيخوخته، ولا أذكر -واللهِ- أنه ابتدأنا بحديث دنيوي، وإن ابتدأ أحد الحاضرين بحديث دنيوي فإنَّ شيخنا لا يسترسل معه، ولا يتجاوب مع المتحدث إلا بنحو قوله: «الله المستعان، الله المستعان».
ما كان شيء من الدنيا همَّه، وإنما كان همُّه بثَّ العلم، وغاية أمنيته إكماله لشروحه على كتب السنة، وما كان يحرص عليه مِن أمر الدنيا إنما هو للاستعانة به في أمر آخرته.
وكأنه يعمل بقول الإمام أبي حنيفة النعمان -رحمه الله- لَـمّا سُئِل: بِمَ يستعان على الفقه حتى يُحْفَظ؟ قال: بجمع الهمّ. فقيل له: وبم يستعان على جمع الهم؟ قال: بحذف العلائق. فقيل له: وبِم يُستعان على حذف العلائق؟ قال: تأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد([8]).
فلم يكن ككثير من طلبة العلم مِمَّن انشغلوا بكثير من الملهيات، وأضاعوا الأوقات في وسائل التواصل الاجتماعي، وتتبع الأخبار، وما إلى ذلك مما لم يكن شيخنا -رحمه الله- منصرفًا أو متلفتًا إليه.
قال ابن فارس النحويّ (ت:395هـ)([9]):
إذا كُنتَ تُؤذى بحرِّ الـمَصِيف |
|
ويُبس الخريفِ وبَرْدِ الشِّتا |
ويُلْهِيكَ حُسْنُ زَمانِ الرَّبيع |
|
فأَخذُكَ لِلْعِلْمِ قُل لي مَتَى؟ |
خامسًا: تكامل تحصيله العلمي.
مِن أبرز ما تصدى له شيخنا في تأليفه هو بيانُ فِقه السنة، من خلال شرحه لأحاديث (صحيح مسلم)، و(جامع الترمذي)، و(سنن النسائي)، و(مقدمة سنن ابن ماجه).
وتنوُّع المعارف مِن أهم ما يحتاج إليه شارحُ الأحاديث، فالحديث لا يخلو موضوعه من مسألة فقهية، أو عقدية، أو حديثية، أو نحوية أو صرفية أو بلاغية …، وكلما كان الشارح قويًّا في مجال من مجالات التخصص أفاد في توظيف هذا المجال في بيانه وشرحه لأحاديث الكتاب، ولذا تجد المفسرين وشرّاح الحديث يغلب على كتاب كلِّ واحد منهم العلمُ المشتهر به، ويضعف شرحُه للحديث في الجانب التابع للعلوم التي لم يحققها.
وأذكر مرةً أنه جادله أحد الطلبة ممن دَرَس المذهب الحنفي في مسألة رجحّ فيها شيخنا خلاف مذهب الحنفية، وأكثر في مجادلة الشيخ، فقال له الشيخ ممازحًا: أنا أعلم منك بمذهب أبي حنيفة رحمه الله؛ فقد درسناه في البلاد. وأخذ يعدد الكتب التي درسها أو قرأها على مشايخه في المذهب ابتداء من متونه الصغيرة كـ(مختصر القدوري)، إلى (حاشية ابن عابدين).
ومرة ذكر لي أنه درس شرح المحلي على (جمع الجوامع) في أصول الفقه مرتين، إحداها على والده، وغير ذلك من فنون متعددة درسها على مشايخه وذكر في (ثَبَته) بعضها.
ومِن فضل الله على شيخنا أنَّه درس علومًا كثيرة ساعدت في بنائه العلمي، وكان لها أثر ظاهر عند التصدي لشرح كتب السنة.
وقد ضعُف الاعتناء بهذا الأمر في المناهج العلمية المعاصرة نوعّا لا كمًّا، فتجد الطالب يدرس عددًا من علوم الشريعة والعلوم المكملة لها، ولكنها في الغالب دراسة ضعيفة، لا تحقق عند الطالب مسائل العلم في ذهنه؛ فمَن أراد أن يحقق في العلم فعليه أن يسعى إلى بناء نفسه من الناحية العلمية تنوُّعًا وتحقيقًا.
سادسًا: جمعه بين التأليف والتدريس.
وفق اللهُ شيخنا -رحمه الله- أن جمع بين التدريس والتصنيف، وكلاهما كان له أثر في بروزه وإتقانه للعلم، وكلما كان العالم جامعًا بين الجانبين تكاملت ملكته العلمية.
أما التدريس وبث العلم؛ فمعلوم أهميتُه في إتقان العلم ورسوخه، لذا كان الإمام إبراهيم النخعي -رحمه الله- يقول: «من سرَّه أن يحفظَ الحديث فليُحَدِّث به، ولو أن يُحَدِّث به مَن لا يشتهيه» ([10]).
وقد كان شيخنا حريصًا على التدريس الدائم، حتى في أيام مرضه وتعبه، فإنه قد استمرَّ في تدريسه ولم يتوقّف عنه إلا قُبَيْل دخوله المستشفى بأيام معدودات.
وقد استمرَّ شيخنا في تدريسه العلمَ في مكة المكرمة لمدة أربعةٍ وثلاثينَ عامًا، ولم يكن تدريسُه مقتصرًا على أوقاتٍ معينةٍ في اليوم، أو أوقاتٍ معينةٍ من السنة، بل كان تدريسه مستمرًا طيلة السنة، صباح مساء؛ فقد كان يُدَرِّس في دار الحديث صباحًا، وفي المساء في المسجد الحرام، وقبلها في مسجد دار الحديث ومسجد الأبرار بمكة المكرمة، ومرَّ عليه زمانٌ وهو يدرّس بعد المغرب والعشاء.
ومِن المواقف التي تدلُّ على حرصه على التدريس وعدم الانقطاع عنه؛ ما حصل له في عام 1439هـ عندما نقص دمُه نقصًا شديدًا، حيث أظهر التحليلُ الطبيُّ أنَّ الدمَ قد وصل لسبع أو ست درجاتٍ فقط، وهو ما يشير إلى أنه كان قد فقد قرابة النصفِ من دمِه بحسب كلام الطبيب، وشكَّ طبيبُه بوجود نزيفٍ داخليٍّ، فأرادوا أن يُجْروا له منظارًا صباح اليوم التالي، على أن يكون ممسكًا عن الطعام والشراب منذ العاشرة ليلًا، ثم إنَّ عَمل المنظار قد تأخر لقرابة العصر، وخُدِّر لإجراء المنظارِ له، وما إن فرغَ الطبيب من إجراء المنظار حتى طلب شيخنا من الطبيبِ أن يعطيه دواءً يطرد أثر البنج، حتى يُدْرِكَ درسَ المغرب في الحرم.
فاندهشَ الطبيبُ الذي اعتاد أن يأتيه المدرسون وغيرُهم مِمَّن يطلب الإجازات الطبيةَ الكاذبةَ أو المبالغَ فيها، وسمعته يلوم طلبته ويطلب أن يعتبروا بحال هذا الشيخ وحرصه.
ثم إنَّنا خرجنا من المشفى وقد بقي على المغرب ساعةٌ ونصفُ الساعة، فطلب مِنّا شيخنا أن نأخذه إلى الحرم مباشرة ليدرك الدرس، دون المرور بالبيت، فحاولنا أن نقعنه بأن يرتاح ذلك اليوم، وأن يتجه للبيت ليأكل، خاصَّةً أنَّه لم يأكل منذ ما يقارب العشرين ساعةً، وهو مُصابٌ بالسكر والضغطِ، فأبى، وقال: «نأكل في الطريق أي شيء».
وكنتُ وقتَها مستأجرًا لغرفةٍ بجانب الحرم المكي، فرضي بعد محاولاتٍ كثيرةٍ أن يأتي معي إليها لينام فيها قليلًا قبيل المغرب، ففعل، ثم اتجه إلى الحرم وصلى المغرب وأعطى درسَه.
لقد كان شيخنا -رحمه الله- محبًّا للتدريس، بل إنَّه ينشط فيه ما لا ينشط في غيره، حتى إنه ليتَعَجَّبُ من النشاطِ الذي يُصاحِبُهُ في أثناء التدريس، وقد قال لي ذات مرَّةً: «إذا كنت في دروسي أو منشغلًا بالتأليف؛ فكأني في روضة من رياض الجنة».
وأمّا التأليف وفائدته في تثبيت العلم وضبطه فأمرٌ لا يُنكر، وقد نقل الخطيبُ -رحمه الله- عن بعض شيوخه قوله: «من أراد الفائدة فليكسر قلمَ النَّسْخ، وليأخذ قلم التخريج» ([11]).
وقد كان مِن وصية أهل العلم للمتأهِّل أن يؤلف، ومن ذلك قول الإمام ابن الصلاح رحمه الله: «وليشتغل بالتخريج، والتأليف، والتصنيف إذا استعدَّ لذلك، وتأهل له، فإنه -كما قال الخطيب الحافظ- يُثَبِّت الحفظ، ويُذْكِي القلب، ويَشْحَذ الطبع، ويُجِيد البيان، ويكشف الملتبِس، ويُكْسِب جميلَ الذكر، ويُخَلِّده إلى آخر الدهر، وقل ما يمهَرُ في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستبين الخفي من فوائده إلا من فعل ذلك» ([12]).
وقد كان لشيخنا نصيب وافر من التأليف، فقد خطت يدُه أكثر من خمسة وعشرين ومئةِ (125) مجلدٍ، ومؤلفاته معروفه مشهورة.
ومما يُذْكَر في هذا المقام من اهتمام شيخنا بالتأليف ومؤلفاته: أنَّه حرَصَ على استغلال التقنية المعاصرة في مساعدته على التأليف، ولم يكتفِ بالنَّمَطِ القديم الذي اعتاده وشبَّ عليه؛ وقد اشترى جهازين من أجهزة الحاسب الآلي، لَـمّا عرف فائدته في الحفاظ على الوقت.
كما أنَّه كان يستعين في تآليفه بالبرامج الحاسوبية؛ التي تختصر الوقت، وتدلُّه على مكان المعلومات، وقد قال مرة وهو يذكر فائدة هذه البرامج: «كنت أُقدِّر أن انتهي من شرح سنن النسائي في ثلاثين سنة، فأنهيتها في خمس عشر سنة، فوفّرت لي هذه البرامج خمس عشر سنة من عمري».
كما أنَّه كان إذا انتهى من تأليف كتابٍ ودفعه إلى مطبعةٍ لطبعه فإنه يتابعه، ويهتمُّ به، ولا يترك الأمر للطابع فقط، ومن إعجاب مسؤول طباعة كتب الشيخ أن سمّى ابنه: محمد آدم، على اسم شيخنا-رحمه الله-.
وكان إذا بدأ بكتابٍ فإنه يدعو الله سبحانه كثيرًا ألّا يميته إلا بعد إنهائه، ويطلب ممن يعرف أن يدعو له أن يوفقه لذلك، سمعتها منه مرارًا عند شرحه للنسائي، ومسلم، والترمذي.
ومِمّا يُذْكَر في هذا السياق أنَّ بعض تآليف شيخنا-رحمه الله- كانت بطلبٍ من مشايخ آخرين أو من طلبته؛ كشرحه لمسلم، والترمذي، ونظم المتممة الآجرومية وشرحها، وكذلك ألفية التوحيد.
سابعًا: توفيق الله له بزوجة صالحة:
لا شكّ أن للزوجة أثرًا مهمًّا في تهيئة الجو المناسب لطالب العلم ليتفرغ لتحصيل العلم ونشره، ولذا جاءت الشريعة في الحض على الزواج من الزوجة الصالحة التي تكون خير معين للشخص على أمور دينه ودنياه، وتحتسب الأجر في قِلَّة مخالطة زوجها، ولسان حالها يقول كما قالت عائشة للنبي ﷺ: «واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ ما سَرَّكَ»([13]).
وهذا الأمر قد وقع لشيخنا، فقد رزقه الله الزوجة الصالحة أم عبد الجليل-حفظها الله ومتعها بالصحة والعافية-، التي أنجبت له تسعة من الأبناء، وحملت العبء الكبير في تربيتهم؛ فقد كان شيخنا جل وقته في العلم، فصباحًا يدرس في دار الحديث، والعصر يقضيه في التأليف، والمغرب وبعد العشاء منشغل بالتدريس، وآخر الأسبوع يخصصه شيخنا للتأليف صباح مساء، فمَن مِن نساء اليوم تصبر على هذا؟ مع العلم أنَّ للشيخ نزهة سنوية معتادة في شهر شوال، يقضي أسبوعًا في المدينة المنورة، ورحم الله الإمام الشافعي لَمّا قال: «لو كُلِّفتُ شراءَ بَصَلَةٍ ما فَهمتُ مسألةً» ([14])، وأم عبد الجليل تقدم كل ذلك صابرة محتسبة متنعمة بما هي فيه.
ويحكي لي أحد أبناء شيخنا أن الشيخ مرة في مرضه قال لها: «سامحيني أتعبتكِ؛ صبرتِ على فقري وانشغالي». فقالت له: «ما هذا الكلام الذي تقوله؟! أنت أدخلتنا الجنة في هذه الدنيا قبل أن ندخلها! ». فجزاها الله خيرًا على كل ما قدمت، وجعله في موازين حسناتها.
الشيخ واتباع السنَّة:
مهما حصل اختلاف في النظر إلى قيمة ما ألَّفه الشيخ([15])، فلن تخطئ عين الناظر في مؤلفاته والمطلع على أحواله أن اتباع السنة والحرص عليها كان أمرًا جليًا عنده، فقد قال شيخنا -رحمه الله-: «السُنَّة حيثما ثبتت أُخِذ بها، ولا التفات إلى مَن أنكرها لجهله بسنِّيتها، وإن كان مِن أكابر العلماء» ([16]).
ولم يكن حرصه على اتباع السنة قاصرًا على المسائل العلمية -وهي أكثر مِن أن يُمثَّل لها- بل تعداه إلى الاتباع في السلوك والعمل، وكان يقول: «نحن نريد تطبيق السنة على أنفسنا، ثم ندعو إليها».
وكان يُعنى كثيرًا بالحرص على بيان أهمية الاقتداء والاتباع في جانب السلوك، والتنبيه على القصور في ذلك ، ومنه ما ذكر في ترجمة راوٍ من رواة الإسناد أنه صلّى في سبعة عشر يومًا سبعة عشر ألف ركعة، قال شيخنا -رحمه الله- تعليقًا: «لا أزال أتعجب من أصحاب التراجم، يذكرون مثل هذا من مناقب الشخص، وهو في الحقيقة ضده؛ لأنَّ خير الهدي هدي محمد ﷺ وما صلى النبي ﷺ عمره كله في يوم واحد ألف ركعة ولا نصفها ،{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، [الأحزاب:21]، وقال ﷺ: «فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور … الحديث»، وهو حديث صحيح» ([17]).
ومِن المواقف التي لا أنساها في اتباعه وحرصه على السنة في جانب العمل: أننا بعد درس من دروسه في الحرم المكي وكان شيخنا متعبًا -في نفس اليوم الذي عمل له المنظار في المستشفى، وبعد انتهاء الدرس – قام أحد الطلبة -وشيخنا جالس على كرسيه المتحرك- بإلباسه نعله وبدأ برجله اليسرى، فنفض شيخنا الحذاء من رجله نفضًا سريعًا وأخرج الحذاء، فانتبه الطالب وألبسه الحذاء أولًا في رجله اليمنى، فاستغربُ من حرصه على سنة التيامن وهو في هذا المرض والانشغال، وعرفت أنَّ مَن يتتبع هدي النبي ﷺ في أدق التفاصيل وخفيها حريٌّ به أن يتتبعها فيما هو ظاهر، رحمه الله.
يقول -رحمه الله- في ألفية العلل([18]):
فَمَنْ أَرادَ فَتْحَ بابِ العِلْمِ |
|
وَأَن يَكونَ بارِعًا فِي الفَهْمِ |
فَلْيَتَّقِ اللهَ وَيَلْزَمِ السُّنَنْ |
|
وَيَتَجانَبْ أَهْلَ سُوءٍ وَفِتَنْ |
وَلْيَسْلُكَن في هَدْيِهِ نَهْجَ السَّلَفْ |
|
وَلْيَبْتَعِدْ عَنِ ابْتِداعاتِ الْخَلَفْ |
«فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّباعِ مَن سَلَفْ |
|
وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِداعِ مَنْ خَلَفْ» |
مرض شيخنا ووفاته:
ابتلي شيخنا -رحمه الله-آخر خمس سنوات من حياته بعدة أمراض، جعَلَتْه ينقطع عن التأليف، لا سيما في الأربع سنوات الأخيرة من عمره، واقتصر فيها على التدريس، وكان يتحسَّر على هذا الانقطاع، ولكنه كان صابرًا محتسبًا، وقد قال لي مرة: «إنَّ وجود المرض الذي لا يقعد الإنسان هذا طيب وفيه أجر».
ودخلت عليه غرفة العناية المركزة – لعملية أجراها- صباح يوم الخميس الخامس من شهر شعبان عام 1437هـ، فتحدَّث عن القدوم على الله، وقال: «أخشى من الذنوب، والقدوم على علّام الغيوب». ثم أتيته يوم السبت، فحاولت أن أسليه فقلت له:«هنيئًا لكم شيخنا، تأتي يوم القيامة وقد شرحتَ ثلاثة من أصول الإسلام، وأرجو أن يشفيكم الله وتكملون الترمذي». فقال: «أرجو أن يغفر الله لي بحبي للقرآن، لا بدروسي ولا بمؤلفاتي؛ فكل هذه قد يدخلها الرياء والسمعة!» ثم استعبر -رحمه الله- ثم قال لي: «إنه دعا الله أن يؤنس وحشته بالقرآن في المستشفى»، وقال: «من العجيب أنني أعددت جهاز جوّال بداخله مصحف لأقرأ فيه هذه الأيام؛ لأن مراجعتي ليست بتلك، ولكني أقرأ هذه الأيام غيبًا، ولا يقف شيء في أثناء تلاوتي له، وهذا عجيب، وما هو إلا من توفيق الله». ثم بكى -رحمه الله-.
ولمَّا كانت سنة الله ماضية مع البَرِّ والفاجر، والعالم والجاهل، والنشيط والكسول، والعَلَمِ والمغمور؛ فقد أصاب شيخَنا ما أصابه من الأمراض التي استدعت دخوله المشفى، ورغم تطمين الطبيب لأهله ومحبيه بأنَّه قد تماثَل للشفاء، والسماح له بالخروج إلى بيته، إلّا أن قضاء الله قد عاجله قبل الخروج، وفُجع الجميع بوفاته وخروج روحه إلى بارئها، وذلك صباح الخميس الموافق للحادي والعشرين من شهر صفر، من عام اثنتين وأربعين وأربعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام (21/2/1442هـ)؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
وفي الختام أقول: اللهم اغفر لشيخنا محمد آدم، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّعْ مُدخَلهُ، واغسله بالماء والثلج والبرَد، وَنَقِّهِ من الخطايا كما نَقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وَأَعِذْهُ من عذاب القبر.
اللهم إنه في ذمتك وحبل جوارك، فأعِذْه من فتنة القبر وعذاب النار، أنت أهل الوفاء والحق، اللهم فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم.
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ارفع درجته في المهتدين، واخلفه في تَرِكته في الغابرين، ونحتسبه عندك يا رب العالمين، اللهم ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. واجْعَلْهُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحقٌ
مؤلفاته التي لم تكتمل([19])
أشهر ما لم يتمه شيخنا هو شرحه (جامع الترمذي)، وقد طبع منه واحدًا وعشرين مجلدًا، وما لم يطبع أربع مجلدات هي عند الطابع، وستطبع -بإذن الله-، وبقي قرابة ثلث الكتاب لم يتمه، وقد حاولنا جاهدين في حياة الشيخ لما تعب أن يساعده أحد في إتمامها من خلال جمعه كلام الشيخ من شروحه الأخرى وما سبق شرحه من الترمذي مما يتعلق بالرجال، وما بقي يتم من مصادر الشيخ، فما تحمَّس لذلك، وكان يأمل أن يستعيد نشاطه ليتمه.
وكانت من عادة شيخنا -رحمه الله- أنَّ مؤلفاته يكتبها بنفسه على جهاز الحاسب، وهي موزعة بين جهازين: الأول جهازه الذي في المنزل، والثاني جهاز محمول يضعه في دار الحديث.
وكان شيخنا من عادته أنه إن شرع في تأليف كتاب فتح له صحفة، وكتب فيها اسم المؤلَّف الذي سيؤلفه وتاريخ بدء التأليف. ومما وُجِد حتى الآن في أجهزته هو الآتي:
- شرحه الكبير على ألفية السيوطي في الحديث.
وقد كان ينوي أن يجعله مطولًا كفتح المغيث للسخاوي، وقديمًا قبل أكثر من عشرين عامًا أعطاني قطعة مِن أوله، وكان اسمه: (فتح المعطي البرّ في شرح نظم الدرر في علم الأثر)، وقد عدَل عن هذه التسمية وسماه: (البحر المحيط الأزخر في شرح نظم الدّرر في علم الأَثَر)، كما في الملفات الموجودة من الشرح. وهذا من الكتب التي كان يعمل عليها بأخَرة في أثناء فراغه في دار الحديث.
وآخر ما وُجِد كلامه عن أنواع التدليس، عند شرح قول السيوطي:
172- وَشَرُّهُ: التَّجْوِيدُ، والتَّسْوِيَةُ … إِسْقاطُ غَيْرِ شَيْخِهِ وَيُثْبِتُ
- شرح ألفية السيوطي في علم البلاغة المسماة: عقود الجمان.
وهذا من الكتب التي كان يعمل عليها في أثناء فراغه في دار الحديث أيضًا، ولم ينته من الفن الأول.
- شرح قطعه من كتاب الطهارة من سنن ابن ماجه.
وقد بدأ قديمًا في شرح سنن الإمام ابن ماجه في كتاب سماه: (مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه)، طبع منه شرحه للمقدمة في أربع مجلدات، وعثر على شرحه لكتاب الطهارة وصل فيه لباب رقم: (50) باب ما جاء في تخليل اللحية، الحديث رقم (432): «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذا تَوَضَّأَ عَرَكَ عارِضَيْهِ بَعْضَ الْعَرْكِ، ثُمَّ شَبَكَ لِحْيَتَهُ بِأَصابِعِهِ مِن تَحْتِها».
ومجموعها (165) حديثًا. لو طبعت تكون في مجلد.
وكان شرحه لهذا الكتاب متزامنًا مع شرحه لمسلم، ولكن بنصيحة من سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله- تفرَّغ شيخنا لصحيح مسلم، ولـمّا أتمه أوصاه أيضًا بشرح الترمذي، كما أخبرني الشيخ.
- نظم خاتمة كتاب (المصباح المنير) للفيومي.
يلاحظ أن شيخنا -رحمه الله- كان مهتمًّا بهذا الكتاب، كثير النقل عنه في مؤلفاته، ولأهمية ما تضمنته خاتمة الكتاب من مباحث بدا للشيخ أن ينظمه، حيث قال في أوله:
حَمْدًا لِمَن سَهَّلَ لِي أَنْ أَنظِما |
|
قَواعِدَ التَّصْرِيفِ حَتَّى تُفْهَما |
ثُمَّ الصَّلاةُ والسَّلامُ الْعالِي |
|
عَلَى النَّبِيِّ جامِعِ الْمَعالِي |
وَآلِهِ الْبَرَرَةِ الأَطْهارِ |
|
وَصَحْبِهِ الْكَمَلَةِ الْأَخْيارِ |
وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ قَواعِدُ |
|
صَرْفِيَّةٌ فِي ضِمْنِها فَوائِدُ |
نَظَمْتُها مِمّا بِهِ الْفَيُّومِيْ |
|
قَدْ خَتَمَ (الْمِصْباحَ) لِلْمَنْهُومِ |
سَمَّيْتُها بِغُرَّةِ الصَّباحِ |
|
حاوِيَةً خاتِمَةَ (الْمِصْباحِ) |
فَصْلٌ
|
||
فِعْلٌ ثُلاَثِيٌّ عَلَى فَعَلَ إِنْ |
|
أَتاكَ مَهْمُوزًا فَهَمْزَهُ أَبِنْ |
فَقُلْ: قَرَأْتُ وَنَشَأْتُ وَلَدَى |
|
بَعْضِهِمُ التَّخْفِيفُ أَيْضًا وَرَدا |
فَقُلْ قَرَيْتُ وَنَشَيْتُ وَكَذا |
|
تَقُولُ أَقْرا فِي الْمُضارِعِ لِذا |
وَقُلْ وَمَيْتُ فِي وَمَأْتُ وَأَمِي |
|
تَقُولُ فِي أَوْمَأُ بِالْحَذْفِ نُمِي |
وَ{الصّابِئُونَ} قَرَءُوا “الصّابُونا” |
|
كَقَوْلِهِمْ: قَدْ حَكَمَ الْقاضُونا |
وقد ابتدأه شيخنا في 29/شعبان/1427هـ، ولم يتمه، فما وجد منه: (48) بيتًا.
- تفسير للقرآن الكريم.
شرع فيه في 7 رجب 1426هـ، وسماه: (فتح الرحمن الرحيم في تفسير القرآن العظيم)، ثم غيَّر هذه التسمية كما في مقدمته التي قال فيها: «قال العبد الفقير إلى مولاه القدير محمد بن الشيخ العلامة عليّ بن آدم: ابتدأت في كتابة التفسير المسمّى (فتح الرحمن الرحيم في تقريب معاني القرآن الكريم إلى كلّ من يتلقّاه بقلب سليم) بعد صلاة العشاء في الليلة الثالثة والعشرين من شهر ذي الحجة من سنة (1433هـ) أسأل الله، أن يمنّ عليّ ببلوغ الأمل من هذا الكتاب المبجّل دون كسل، أو فتور، أو ملل، إنه جواد كريم، وبعباده رؤوف رحيم».
- الطُّرْفَة مُخْتَصَرُ التُّحْفة.
وهو نظم اختصر فيه منظومته في أصول الفقه المسماة: (التحفة المرضيّة في نظم المسائل الأصوليّة على طريقة أهل السُّنَّة السّنيّة)، وهي في (3072) بيتًا، وشرحها في شرح مطبوع في ثلاث مجلدات، ولو لم يكن في هذا الشرح إلا تحقيقه لمسألة أفعال الرسولﷺ لكفاه([20]).
فرغب شيخنا في اختصارها، وشرع فيه بتاريخ: 14/12/1426هـ، يقول في أولها:
حَمْدًا لِمَنْ عَلَّمَنا بِالْقَلَمِ |
|
وَعَلَّمَ الإِنسانَ ما لَمْ يَعْلَمِ |
ثُمَّ الصَّلاةُ والسَّلامُ دائِما |
|
عَلَى النَّبِيِّ الْمُرْتَقِي مَكارِما |
وَآلِهِ والصَّحْبِ والأَتْباعِ |
|
سُنَّتَهَ الْغَرّا بِلا ابْتِداعِ |
وَبَعْدُ هَذِهِ اخْتِصارُ (التُّحْفَهْ) |
|
لِقاصِرٍ سَمَّيْتُها بِـ”الطُّرْفَهْ” |
أَخْذْتُ جُلَّ لُبِّها لا سِيَّما |
|
قَواعِدُ الْأُصُولِ فاقْبَلْ مَغْنَما |
أَسْأَلُهُ سُبْحانَهُ الْقَبُولا |
|
فَهْوَ الَّذِي يُولِي الْعِبادَ سُولا |
ولم يتم اختصارها، ووصل لمبحث بيان قواعد الحكم الشرعي.
- نظم العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
والذي وُجِد منه أحد عشر بيتًا، في أثناء نظم آيات الصفات، وفيها يقول:
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما |
|
يَخْرُجُ مِنْها وَكَذاكَ فِي السَّما |
يَنزِلُ مِنْها أَوْ إِلَيْها يَعْرُجُ |
|
فَكُلُّها عَنْ عِلْمِهِ لاَ تَخْرُجُ |
وَعِندَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ وَلا |
|
يَعْلَمُها سِواهُ جَلَّ وَعَلا |
يَعْلَمُ ما فِي الَبَرِّ والْبَحْرِ وَما |
|
تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ فَلْتَعْلَما |
ولم يُعثر -إلى وقت كتابته-على أوله بعد، ولا يُدرى هل أتمه أو لا؟
- إعراب الآجرومية.
ويظهر أن شيخنا كان ينوي تأليفه؛ لأنه سمّى ملفًّا في الجهاز بهذا الاسم، ثم كتب تاريخًا في أوله كما هي عادته في تآليفه، وهو مؤرخ بتاريخ: 13/5/1427هـ. ولكن لم نعثر على ملفات فيها شيء من هذا الكتاب، والله أعلم.
وكان يقول: «كنا في البلاد نُحفَّظ إعراب الآجرومية حفظًا ونحن صغارًا».
ومما ذكره شيخنا في مؤلفاته ولم يُوقف عليه بعد:
- مجمع الفوائد ومنبع العوائد في الأسانيد والأثبات، وهو ثبته الكبير الذي اختصر منه (مواهب الصمد).
- نظم مختصر في علم الفرائض، وذَكر -رحمه الله- أنه مفقود.
- نظم مقدمة التفسير لابن تيمية.
- نظم شافية ابن الحاجب.
- نظم الأحاديث المتواترة.
- رجز في علمي العروض والقوافي.
- إتحاف ذوي الهمة بمسائل مهمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) من تقدمة الإمام أحمد -رحمه الله-لكتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) (ص170).
([2]) ومما يدل على عدم التفاته إلى ثناء الناس وزهده في ذلك: أنَّه ما كان يرضى أن تكتب له سيرة شخصية، ويغضب من طلابه ومحبيه الذين يطالبونه بذلك، بل إنَّك إن رجعت إلى موقعه الشخصي في الشبكة في نسخته الأولى: http://www.alsonah.org، الذي أنشأه له بعضُ محبيه؛ ستجد أن خانة السيرة الذاتية في موقعه فارغة! لأنهم لم يجدوا وقتها سيرة مكتوبة له، ولا يجرؤ أحد أن يطلب منه معلومات عن سيرته، وكان ينتقد أن يكتب أحدٌ من العلماء المعاصرين سيرته، ويقول: سيرة العالم عِلمه.
([3]) قد أثنى على شيخنا عدد من علماء عصرنا، ولم أتتبع ما قيل في الثناء على الشيخ حديثًا، وكنت قد لخصت في شهر الله المحرم من عام 1431هـ بعضًا من ثناء أهل العلم والفضل على الشيخ، نقلتها من أوراق خاصة عند الشيخ، ومما جاء فيها:
- قول معالي الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيّل إمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء
رحمه الله، فقد وصفه بأنه: «عالم جليل، ومحدّث كبير»، وقال: «وقد عرفنا فضيلته، فلمسنا فيه سعة العلم والصلاح والتقوى، والبعد عما لا يعني، والاشتغال بالعلوم الشرعية تدريسًا وتأليفًا؛ على منهج سليم، ومعتقد صحيح، وله مؤلفات كثيرة مهمة ونافعة في فنون متنوعة». - ومعالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الرحمن الحصين، رئيس شؤون الحرمين رحمه الله، حيث وصفه بأنه: «شُهر بالعلم الغزير في العلوم الشرعية والعربية، ولا سيما في علم الحديث الذي يعتبر عَلَمًا فيه، وله مؤلفات نافعة ميسرة للطلبة، كما عرف بالخلق الكريم والزهد والورع والعفة، وسلامة التوجه وقبوله ومحبته ممن يلتقي به ويعرفه».
- وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى رحمه الله، وقد أثنى عليه بأنه: «غني عن التعريف؛ لما منحه الله من شخصية مرموقة، وما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وما أعطاه من العلوم الشرعية؛ من التفسير والحديث والفقه وغيرها، وله المؤلفات العديدة، في الفنون المفيدة».
- وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبيد، رئيس محكمة التمييز بمكة المكرمة رحمه الله، وقد نعته بالعالم الفاضل «حسن السيرة والسلوك، باذلًا للعلم تدريسًا وتأليفًا، مستقيم الحال، مشهورًا بين طلاب العلم وأهله، يقيم بمكة المكرمة منذ أكثر من اثنين وعشرين عامًا، وخلال هذه الفترة لم يعرف عنه إلا كل خير».
- وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله العجلان، المدرس بالمسجد الحرام بمكة المكرمة رحمه الله، وقال عنه: «أحد العلماء المحققين في مكة المكرمة، على منهج أهل السنة والجماعة، خدم الكتاب العزيز والسنة المطهرة من خلال تدريسه ومؤلفاته العديدة في علوم شتى: الحديث وأصوله ورجاله، والذبّ عنه، والتوحيد، والفقه وأصوله، والنحو والعروض والقافية نظمًا ونثرًا. نفع الله به في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة … وقد أثنى عليه عدد من علماء الشريعة في مكة وغيرها لما ظهر من نفعه والاستفادة منه، كما عرف عنه الأخلاق الفاضلة، والحياء، والسمت الحسن، ومحبة إيصال النفع لكل أحد».
([4]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/357).
([6]) ألفية العلل، المسماة: شافية الغُلل بمهمات علم العلل:(ص62، 63).
([7]) المسمى: مواهب الصمد لعبده محمَّد في أسانيد كتب العلم الممجَّد (ص10).
([8]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للصَّيْمَري (22).
([9]) سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 106).
([10]) أخرجه البيهقي في المدخل إلى علم السنن (2/709) .
([11]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (2/428).
([12]) معرفة أنواع علم الحديث، لابن الصلاح (ص252).
([13]) أخرجه ابن حبان في صحيحه (620).
([14]) تذكرة السامع والمتكلم، لابن جماعة (87).
([15]) قد تختلف وجهاتُ النَّظر في الحرص على اقتناء كتب العالم، والرجوع إليها للإفادة منها؛ تبعًا لغرض الشخص من اقتناء الكتب أو درجته في العلم والتحصيل والاطلاع..، وتقويم المؤلفات بابه واسع .
([16]) إتحاف الطالب الأحوذي بشرح جامع الترمذي (8/25). وينظر: البحر لمحيط الثجاج:(26/707).
([17]) المصدر السابق (11/444).
([18]) ألفية العلل:(ص7)، والأبيات وضعها في كتابه:(الفوائد السميَّة):(ص:28) مع تغيير يسير.
([19]) لم أذكر في هذا الملحق مؤلفات الشيخ المطبوعة، وإنما ذكرت المؤلفات التي لم يتمها أو شرع فيها وما أتمها، وقد شرفني أبناء شيخنا -شرّفهم الله- بالنظر في أجهزة الشيخ لمعرفة ما يمكن أن يُستفاد منه ويُعمل على طباعته ونشره لاحقًا.