الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم
لا يخفى على مسلم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة عند ربه، فهو “سيد ولد آدم، وهو أول من ينشق عنه القبر، وهو أول من يشفع في المحشر”([1])، “وأول من يفتح باب الجنة يوم القيامة”([2])، وغير ذلك من الفضائل الجمّة التي حباه الله بها أو اختصّه بها.
فتعظيمه وتوقيره وتعزيره ومحبّته أكثر من أموالنا وأنفسنا وافتداؤه بأرواحنا حق وواجب، بلا انحراف عن القصد والشرع وبلا إفراط أو التفريط.
وقد كثر الإفراط في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم عند طوائف من الناس إما جهلا بالطريقة الشرعية أو ظنًّا أنه لا يناقضها، كادّعاء أنه أول من خُلق، أو أنه خُلق من نور، أو أنه يدبّر الأمر، و”أن من علومه علم اللوح والقلم”([3]). وغير ذلك.
ومن نتاج الغلو في المحبة أو التعظيم: تجويز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأنها سبب شرعي للطلب من الله عز وجل. ([4])
ولتحرير المسألة، وتفصيل أنواع الاستغاثة نقول:
الاستغاثة هي: نداء من يخلِّص من شدّة أو يعين على دفع بليَّة، فهي نوع من الدعاء([5]).
والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم على نوعين:
الأول: في حال حياته، وهي جائزة إذا كان حاضرًا وفيما يقدر عليه([6])
وهذا النوع من جنس طلب فعل الغير فيما يقدر عليه وهو أمر مباح، فهو من الأخذ بالأسباب، ومنه قوله تعالى عن صاحب موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[ القصص: 15]، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه “أنه كان يضرب غلامًا فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ برسول الله”([7]).
النوع الثاني: بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
فهي من الاستغاثة بالغائب، والاستغاثة بالغائب لا تجوز سواء أكان حيًّا قادرًا على إجابة ما يُطلب منه لو كان حاضرًا، أو كان غير قادر، أو كان ميتًا، وذلك بأن يقول: يا رسول الله اغثني، أو أنا أستجير بك، أو استغيث بك، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.([8])
وذلك لأنه صرفٌ للعبادة لغير الله تعالى؛ إذ الدعاء عبادة، وهو من جنس أفعال المشركين، كما أخبر الله عنهم، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
فإن اعتقد أن بيده صلى الله عليه وسلم النفعَ والضرَّ، أو أنه الخالق الرازق، فهذا شرك أيضًا في الربوبية.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف: 5].
وقوله تعالى في شأن الموتى والغائبين: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر: 14].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار»([9])، وذكر الحجّاوي في صفة المرتد: الإجماع على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم.([10])
أما شبهات من قال بالجواز فهي:
الشبهة الأولى: أن الاستغاثة ليست من الدعاء بل هي من التوسل، وهو جائز، ([11]) ومنهم من يقرر أن الاستغاثة من الدعاء لكن ليس كل دعاء يكون عبادة. ([12])
والجواب: أن الاستغاثة غير التوسل في اللغة، والقول بأنها من التوسل يقتضي أن يكون سؤالُ رسول الله سؤالٌ لله. ([13])
لأن المتوسَّل به غير المستغاث به، فالذي يقول: أستغيث بفلان قد جعل فلان مستغاثًا به، أما الذي يقول أتوسل بفلان: فلابد أن يتوسل به إلى شخص آخر.
أما الدليل على أن الدعاء عبادة فهو قول النبي ﷺ : «الدعاء هو العبادة»([14])
الشبهة الثانية: حديث الأعمى، ففيه التوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء.
والجواب: أن الذي علمه النبي للأعمى هو التوسل إلى الله بدعائه له، وهو غير الاستغاثة به بعد مماته، والحديث أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: «أو أَدَعُكْ» قال: يا رسول الله إنه قد شق عليَّ ذهاب بصري ـ وفي رواية: «بل ادعه» ـ قال: «فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي، أن يكشف لي عن بصري، اللهم شفعه فيّ، وشفعني فيه» فرجع وقد كشف الله عن بصره.([15])
فقوله «اللهم شفعه فيّ» معناه: اللهم اقبل دعاءه لي، وقوله: «وشفعني فيه» أي: اقبل دعائي في أن تكون دعوته لي مستجابة.
الشبهة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره يسمع من يخاطبه([16])، فيجوز مخاطبته والطلب منه كالأحياء، لأن الحياة تكون في الروح، والدليل على ذلك مخاطبة نبي الله هود لقومه بعدما هلكوا، ومخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى قريش في بدر([17]).
والجواب: أن الأصل أن الميت لا يسمع، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر: 22]، إلا ما خصه الدليل.
والذي ثبت بالدليل هو أن الله يردّ على النبي صلى الله عليه وسلم روحه ليرد السلام عليه، وما عدا ذلك فهو على الأصل، ولم يرد دليل يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه غير السلام ([18]).
وما ذكروه من خطاب هود لقومه ورسول الله لقتلى بدر هو مما استثني بالدليل.
الشبهة الرابعة: أحاديث وردت تدل على جواز الاستغاثة بالأموات، مثل حديث: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور». ([19])
والجواب: أنه حديث مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من علماء الحديث.([20])
والذي ورد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله» لكنه ضعيف.([21])
وقد قال ابن تيمية: «لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بنبي ولا بملك ولا بصالح ولا غير ذلك. بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه».([22])
وخلاصة القول أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته لا تجوز، بل هي من الشرك الأكبر.
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم، والحديث في مسلم (2278).
([2]) رواه ابن ماجه (3408) وصححه الألباني.
([3]) انظر: بردة البوصيري (الفصل العاشر، ص:22).
([4]) انظر: الفجر الصادق على منكر الكرامات والخوارق (ص:40).
([5]) الاستغاثة في اللغة: هي طلب الغوث وهو التخليص من شدة أو دفع بلية، ينظر: تاج العروس (5/314)، والرد على البكري (2/452).
([8]) مجموع الفتاوى (1/350-351).
([11]) انظر: الرد على البكري (1/244).
([12]) انظر: الفجر الصادق (ص:39).
([13]) انظر: الرد على البكري (1/245).
([14]) رواه أبو داود (1426) والترمذي (3372)، وابن ماجه (3828) وصححه الأالباني.
([15]) أصل الحديث رواه الترمذي (3578)، وابن ماجه (1385)، وصححه الألباني، وبعض روايات الحديث عند الحاكم في المستدرك (1180)، وصحيح ابن خزيمة (1219) وصححها الألباني، انظر: التوسل (ص:73).
([16]) انظر: الرد على البكري (1/151).
([17]) انظر: التوسل للسبحاني (ص:36)، وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر، وقف على القليب، فجعل يقول: «يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا». فقال له عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون».[ البخاري (3976)، مسلم (2874)].
([18]) انظر: الاستغاثة (1/154).
([19]) ذكر استدلالهم به ابن تيمية مجموع الفتاوى (1/356)، وابن القيم في إغاثة اللهفان (1/512).
([20]) مجموع الفتاوى (1/356)، وقال :«ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة» (قاعدة جليلة ص:152).
([21]) أخرجه الطبراني وحسنه الهيثمي ي مجمع الزوائد (10/159) وضعفه الألباني لأن في إسناده ابن لهيعة.