الإمام أبو إسحاق الشاطبي في مرمى نيران من أصابته دعوة سعد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يتمنى العاقلُ ألا يصدرَ تجهيلُ الشاطبي من ذي شيبةٍ في الإسلام، بله راسخ في العلم؛ لما في ذلك من إذلال النفس، وهو أمر لا نرضى به لأحدٍ من أهل القبلة، لكن قُدرة الله غالبة، وهي سابقة لمشاعر البشر؛ لقول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [القصص: 56]. وقد قرأتُ في كتب الأدب كلمةً لم تفارق ذهني، جعلتها نَصبَ عينيَّ في كثير من المعارك التي يُلقي الإنسان بنفسه فيها، ألا وهي قولهم: “إن من الناسِ مَن يرزق حجّة أو عدة أو قوة، فتكون عدته هي التي تقتُله، وقوتُه التي تصرعه وحجته التي تخصمه”([1]).
وهذا عين ما وقع لمن رضي لنفسه أن يزدريها بالتنقّص من إمام الفنون وشيخ العلوم الإمام أبي إسحاق الشاطبي، ولكل منتسب للعلم أن يعجب من استسهال تجهيل الشاطبي وهو من هو عند أهل الشريعة، فالجاني عليه جانٍ على المالكية بجرح لا يقاد أبدَ الدهر، وَسقط سقطة لَا لَعًا لَهَا، وَزلَّ مَزَلَّة لَا تَمَاسكَ فِيْهَا، وليت من أراد اغتيال الشاطبي علميّا يتروّى حتى يجد شيخا نجديّا فيخبره بأن الشاطبيّ له دم ورحم في جميع العلوم، فمن أراد أن يغتاله فعليه أن يعدّ العدة ليفرّق دمه بين أرحام علوم الشريعة، فما كان ليسلِمه أهل الأصول وهو منهم بمنزلة بني عبد المطلب من قريش، وما كان ليسلِمه أهل الفقه وهو منهم بمنزلة قريش من سائر العرب، وما كان ليسلمه أهل النحو والصرف وهم أخواله وأعمامه وحلفاؤه وله عليهم أياد لم يجزوه بها، ناهيك عن أهل الحديث فقد شيّد بنيانهم ووطّد أركانهم بشرحه النفيس لصحيح البخاريّ، والذي ما زالوا يتحسّرون على ضياعه تحسُّر الأم على واحدها.
وإن تعجب فعجب أن المنتقّص للشاطبي رفع من شأن التمذهب والعلم بأصول الفقه، ومسائلُ هذا الفن كان الشاطبي هو المجلّي فيها والمصلّي، وجُذَيلها المحكَّك، وعُذَيقها المرجّب([2]). فمن لأهل هذه الفنون بمثل الشاطبي حتى يُزايَد عليه بغيره؟!
إن هذا الاستغراب وإن عدّ مدهشا عند أهل الفنون، فإنه يزول بمعرفة أمرين:
الأول: قدر الشاطبي في العلوم.
والثاني: الأسباب والدوافع لهذا الهجوم.
وهذا ما سنتناوله في هذه الورقة، ونعتذر للقارئ عن توضيح الواضح، وليعتبر كلامنا من باب علاج الوسوسة، لا من باب التقعيد والتعليم؛ لأن الأصل أن لا إشكال في الشاطبي، لا في علمه ولا في دينه.
وقد بنى منتقِد الشاطبيّ كلامه على أمرين:
الأول: أن الشاطبي ليس براسخ في العلم.
الثاني: تعليل للأول، وهو أن كتبه لم تعتمَد في التدريس كما اعتمدت كتب غيره.
وإذا أردنا أن نناقش هذه الشبهة فإننا سنتناول مفهوم الرسوخ في العلم، ومدى انطباقه على الشاطبي.
والشبهة الثانية هي مكمن الغلط في تقويم كتب الشاطبي.
المبحث الأول: مفهوم الرسوخ في العلم:
من العجب أن يُنفَى عن الشاطبي صفة الرسوخ في العلم وهو من أكثر العلماء كلامًا حول الرسوخ في العلم ومفهومه، وإذا أردنا تتبّع مفهوم الراسخين في العلم في القرآن وجدناه يدور حول معنيين: تصديق الرسول فيما أخبر به، والإيمان بجميع الوحي وعدم ردّ شيء منه.
فمن الأول قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162].
قال أبو جعفر: “يعني بالراسخين في العلم العلماءَ الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه، فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس، وأصل ذلك من رسوخ الشيء في الشيء، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه: رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا”([3]).
ومن الثاني: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7]. عن ابن عباس قال: (الراسخون: الذين يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا})، وعن السدي: (والراسخون في العلم هم المؤمنون، فإنهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ} -بناسخه ومنسوخه- {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا})([4]).
وقد بين الشاطبي رحمه الله طريقة الراسخين في العلم في التعامل مع الشريعة، فقال: “فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها… إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام؛ فذلك الذي نظمت به حين استنبطت. وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السويّ، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق؛ لا باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنسانا. كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أيّ دليل كان، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل؛ فإنما هو توهمي لا حقيقي؛ كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة؛ من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان؛ لأنه محال. فشأن الراسخين تصوّر الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة”([5]).
وحين بين الشاطبي رحمه الله مفهوم الراسخين بأنهم هم الذين يتصوّرون الشريعة على صورة واحدة أخرج من جملة أولئك أهل الأهواء، ومن لا يتبعون المحكم، وبيَّن أن هذا الوصف إذا ثبت لصاحبه فإنه يتصرّف بمقتضاه عادة، وإن خالفه فلأحد ثلاثة أوجه:
الْأَوَّلُ: مجرد العناد، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبِلي، فغيره أولى، وعلى ذلك دل قوله تعالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا} الْآيَةَ [النَّمْلِ: 14]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [الْبَقَرَةِ: 109] وأشباه ذلك. والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى؛ من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} الآية [النساء: 17]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 102].
ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة، كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية؛ فقد لا تبصر العين، ولا تسمع الأذن؛ لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما؛ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب، ومع ذلك لا يقال: إنه غير مجبول على السمع والإبصار؛ فما نحن فيه كذلك.
والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عدِّه من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [الْقَصَصِ: 50].
ثم ختم بإخراج أهل الأهواء فقال: “فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظنّ الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم”([6]).
وخلَص إلى مسألة في غاية الأهمية وهي التفريق بين مقام الحفظ والرواية وبين العمل بمقتضى العلم، فالحفظ للمسائل والمواظبة على ذلك لا يكفي في عدّ الإنسان من الراسخين في العلم، فقال: “فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة -والفقه فيما رووا أمر آخر- أو ممن غلب عليهم هوى غطّى على القلوب، والعياذ بالله”([7]).
فالراسخون في العلم هم أهله الحافظون له، المؤمنون العالمون بالمحكم، المصدقون بالمتشابه، الواقفون عند حدود الله، فحفظ المسائل والتأليف ليس رسوخا ما لم يُضَف إليه العمل بمقتضى العلم وتحقّق الخشية، ويكون الراسخون تعيينا هم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم ولم يخالفهم قصدًا، ولا رضي بالتخلّف عنهم عمدا، وهذا يعرف بمعرفة الآثار وإدراك السنن والابتعاد عن الصوارف عن الحقّ التي هي الهوى والتقليد الأعمى واختيار غير المعصوم متَّبعًا والرضا بكل ما قال والتكلّف في الاعتذار عنه.
المبحث الثاني: قدر الشاطبي في العلوم الشرعية:
يَعرف قدرَ الإمام الشاطبي في العلوم الشرعية كلُّ منِ ارتفع عن مرتبة التقليد ورام الاجتهاد والتحقيق، فإنه يجد الشاطبيَّ في منزلة في كل فن من فنون الشرع لم يبلغها إلا القلة، فهو في معرفة الأصول آيةٌ من آيات الله، ومعجزة من معجزات النبيّ الأميّ الذي كان في أهل ملّته علماء مثل الشاطبي، وقد شهد بإمامته في علوم الشرع خلائق لا يحصَون من المتقدمين والمتأخرين، ونقتصر على من نصّ على إمامته في العلوم الشرعية فقط، فضلا عن الذين مدحوه مدحا مجملا، قال عنه أبو العباس التنبكتي: “الإمام العلامة المحقّق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا مفسرًا فقيهًا محدثًا لغويًّا بيانيًّا نظّارًا ثبتًا ورعًا صالحًا زاهدًا سنيًّا إمامًا مطلقًا بحاثًا مدقّقًا جدليًّا، بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحقّقين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفنّنين الثقات، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهًا وأصولًا وتفسيرًا وحديثًا وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق”([8]).
وقال عنه محمد بن مخلوف: “العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف، أحد العلماء الأثبات وأكابر الأئمة الثقات، الفقيه الأصولي المفسر المحدّث، له استنباطات جليلة وفوائد لطيفة وأبحاث شريفة، مع الصلاح والعفّة والورع واتّباع السنة واجتناب البدع”([9]).
وعلماء المالكية يرونه إمامًا من أئمّتهم في الفتيا، إليه يفزعون في النوازل، وعليه يعوِّلون في الاجتهاد، فهذا الونشريسي في كتابه “المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب” كان جلّ اعتماده على فتاوى الشاطبي وتحريراته، والمعيار أحد الكتب المعتَمَدة عند أهل المذهب المالكي، وفيه يقول النابغة القلاوي:
واعتمدوا المعيار لكن فيه أجوبة ضعَّفها بفيه([10])
والونشريسي هذا قال عنه ابن غازي: “لو أن رجلًا حلف بطلاق زوجته أن أبا العباس الونشريسي أحاط بمذهب مالك أصوله وفروعه، لكان بارّا في يمينه، ولا تطلّق عليه زوجته؛ لتبحّر أبي العباس وكثرة اطلاعه وحفظه وإتقانه”([11]).
وحسبك باستشهاد أئمة المذهب المالكي به واعتمادهم على فتاواه وتحريراته، مع أن نظرة في كتب الرجل تكفي للحكم برسوخه في العلم، فعلمه من المحسوس المشاهد الذي لا يستطيع أحد دفعه ولا رده، وهو معلوم ضرورة بالحس والتواتر المستند إليه.
المبحث الثالث: هل كتب الشاطبي معتَمَدة؟
المعترض على الشاطبي قدّم دليلا على اعتراضه بأن كتب الشاطبي لم تعتمَد، وهنا يجدر التنبيه على أمر مهمّ، وهو أن الكتب المؤلّفة في العلوم نوعان:
1- كتب للتدريس: وهي المتون المختصرة الجامعة لأكثر من كتاب، يراد منه جمع المادة في عبارة مختصرة، يستطيع الطالب حفظَها واستحضارها في أي وقت.
2- وكتبُ مباحث: وهي الكتب التي تعدّ مراجع في الفنون التي ألِّفت فيها، وقد قصد أصحابها الاستقصاء للأقوال وتحريرها ومناقشتها.
فإن قصد الأولى فالشاطبيّ لم يؤلف على ذلك النمط ولا قصَده، وإن قصد أن كتب الشاطبي لا تعدّ مراجع في الفنون، فهي مكابرة مردودة بشهادة أهل الفنّ ممن سبق المتكلِّمَ ولحقه، فحين ألّف الشاطبي كتابه “الموافقات” وقصد به الراسخين في العلم وحرَّمه على غيرهم، أقبل عليه أهل العلم وعدّوه مرجعا وأصلا في فني المقاصد وأصول الفقه، ولم يقصد عالم للتحرير في هذا الفن إلا ومرّ بـ”الموافقات” واستفاد منها.
كما عدّ كتابه المعروف بـ”المقاصد الشافية” الذي شرح فيه ألفية ابن مالك مرجعا لأهل النحو وللمهتمّين بألفية ابن مالك خصوصا.
وكتابه “الاعتصام” -الذي هو مربط الفرس وسبب العداوة- يعدّ مرجعا في مفهوم البدعة والآثار المنقولة فيها، فلا يستطيع أحد تجاوزه دون نقاش ما طرحه موافقة أو مخالفة، ولعل الشيخ المزدري للإمام الشاطبي -وهو يتبجَّح بالأزهر الشريف وبالكتب المعتمدة فيه- قد طال عهده بمراجعه، فالموافقات على قائمة المراجع المعتمدة في مادة المقاصد([12]).
وقد قدَّم الدكتور علي جمعة بحثًا بعنوان: “ترتيب المقاصد الشرعية”، اعتمد في تعريفه للضروريات والحاجيات والتحسينات ما قرر الشاطبي، وأتى بكلامه بلفظه، واختاره دون غيره([13]).
فليت شعري، أين هو من تقريره واختياره؟! وقد رأيت بعض المعجَبين بهذا الشيخ يعتذر عنه بقوله عن الشاطبي: “إنه صحفيّ” بأن معنى ذلك أن عبارته لم تجرِ على لغة الأصول فكانت سهلة([14])، وهذا عذر يدرك به العاقل فضلَ الصمت على الكلام بغير علم.
فمتى كانت عبارة الشاطبي أجنبيةً على علم أصول الفقه وهو من جوَّد العبارة وحرَّر المصطلح وعرضَه على الأدلة، وتكلم عنه وعن كلياته، وعن العوارض التي تعرض لها، وعن المصالح ومفهومها، كلاما محكمًا جامعا مانعا، لم يأت أصولي بمثله؟! وهذه السهولة التي يعيبها على الشاطبي، هل يجعل معه الشافعي فيها؟! فقد كانت عبارته أوضحَ وهو واضع حدود الفنّ واصطلاحاته، ولم يأت بعده المؤلفون بشيء يذكر، بل كلّ ما جاؤوا به مجرد عُقَد وألغاز، ليس لها من فائدة إلا تعقيد الفنّ، وقد أحسن لسان الدين بن الخطيب حين وصفها بقوله:
تركتُ فيه حُجج الخلاف * إلا القليل منه فهو كافي
ولُذت بالطريقة القديمه * إذ غيرها من فضلها عديمه
وحرمةِ المبعوث من آل لؤي * ما ترك الأول للآخر شي
إلا رموزا ولغوزا وعقد * وشبها أكثرها لا يعتقد([15])
المبحث الرابع: أسباب الهجوم على الشاطبي:
لم يجن الشاطبي على أحد حتى يستحقَّ كل هذا الظلم والتمالؤ؛ لكنه قوَّض أركان البدعة ورفع سورَ الشريعة في وجهها، وأحكم إغلاق الحصون دونها، فوجد مناصروها أنفسَهم بسبب الشاطبي أجانبَ على الشريعة، وشُبَهَهم متهافتةً أمام تقرير الشاطبي وبيّناته الشرعية، فطلبوا منه ثأرهم، وتعاهدوا على التمثيل بجثته لو مات، فحملوا عليه حملة رجل واحد، مشككين في علمه وفي تحريره، مقدمين عليه من هو دونه، وما ذاك إلا لسبب وحيد، وهو موقف الشاطبي الممانع ضدّ البدعة المنسجِم مع أصول مذهبه المالكي وتقريرات الأئمة المتقدّمين منهم. وقد اشتكى الشاطبي في زمنه من هذه الحملة ضدَّه فقال: “فتردَّد النظر بين أن أتّبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس; فلا بد من حصول نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد، ولا سيما إذا ادّعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضُّلّال عائذا بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأُعَدّ من المؤالفين لا من المخالفين. فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يُغنوا عني من الله شيئا، فأخذتُ في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة، وفوَّق إليّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة.
وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت، غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبًا وضيق عليّ مجالا رحبا، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقة العادات أولى من اتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة:
فتارة نسبتُ إلى القول بأن الدعاء لا ينفَع ولا فائدة فيه كما يعزَى إلى بعض الناس؛ بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالَة الإمامة…
وتارة نسبتُ إلى الرفض وبُغض الصحابة رضي الله عنهم؛ بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب”([16]).
ذلك هو ذنب الشاطبيّ الذي لا يُغتفر، وجريمته التي لا يجار عليها، وحَدَثه الذي لا يؤوَى بسببه عند أرباب البدع وشيوخ الطوائف، فهو عدوّ السادات؛ لأنه ردّ عاداتهم واستبدل بها الوحي المنزّل، ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ولم يتّخذ من دونهما أولياء، وجعل طاعتهما نصب عينيه، فحفظ على الأمة أمر دينها بما قرر في كتابه “الاعتصام”، ولم يُبق لمبتدع حجة ولا لصاحب شبهة وليجَةً، فرحمه الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) قال الأصمعي: الجُذيل: تصغير الجذل، وهو عود ينصب للإبل الجرباء لتحتكّ به من الجرب، فأراد أنه يشفى برأيه. والعُذيق: تصغير عذق، والعَذق بالفتح: النخلة نفسها، فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، وصغرهما للمدح. ينظر: العقد الفريد (3/ 29).
([4]) ينظر: المرجع السابق (6/ 208).
([8]) نيل الابتهاج بتطريز الديباج (48/ 17).
([9]) شجرة النور الزكية (1/ 332).
([12]) هذا رابط مقررات الجامعة:
https://azharegypt.edu.eg/?p=1187
([13]) ينظر بحثه المعنون: ترتيب المقاصد (ص: 7) وما بعدها، وهذا رابط النشر:
https://iefpedia.com/arab/wp-content/uploads/2010/03/%D8%AA%D8%B1%D8%AA%D9%8A%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A9.pdf
([14]) ينظر هذا الرابط: https://www.elbalad.news/4876273
([15]) نظم الحلل المرقومة (ص: 1). مخطوط يعكف عليه أخونا المحقق خبيب الواضح.