(إخوانُكم خَوَلُكُم) كيف ارتقى الإسلامُ بحقوق الأرقَّاء؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
أوجد الله هذا الكون، وخلق فيه خلقًا كثيرًا متنوعًا، وهو الذي يقول تبارك وتعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8]، إلا أنَّه سبحانه وتعالى قد اختار الإنسان فأكرمه، ورفع من شأنه، وأعلى منزلته، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، وتتعدَّد مظاهر هذا التكريم، وكان من أهمِّها: حفظ حقوقه الإنسانية بما يحقِّق العدل الذي جاء الإسلام به، بل الله سبحانه يأمر عباده أن يكون العدل بينهم، وأن لا يدخل في ذلك أي عصبية عرقية أو قوميَّة، يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، وقد حفظ الإسلامُ للإنسان حقَّه في الحياة فجعل نفسه معصومة بقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، وجعل العقوبة شديدة على من أخذ هذا الحق في الحياة فقال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]، كما أنَّ الإسلام حمى مال الإنسان، وعرضه، بل حمى حقوقه المعنوية؛ فمنع من الغيبة، والنميمة، والهمز، واللمز، إلى غير ذلك من الدستور الحقوقي العظيم الذي جاءت به الشريعة الإسلامية.
ولم يكن إرساء تلك الحقوق مقتصرًا على فئة من الناس دون أخرى، بل هناك حقوق أساسية لا يتنازل عنها الإسلام، وإنَّما يرعاها لكل الناس، ولذلك كان ملفُّ الحقوق من أهم الملفات التي قدم لها الإسلام مجموعة كبيرة من التشريعات، وعالج كثيرًا من القضايا المتأزمة المتعلقة بهذا الملف، ومن أهمها وأبرزها: ملف الأرقاء على مرِّ التاريخ!
لم يبتدع الإسلامُ الرِّقّ:
جاء الإسلام والرِّقّ والاستعباد شائعٌ منتشر في الأمم كلها، فهو نظامٌ اجتماعي موجود، بل متجذِّر في المجتمعات، فلم يكن الإسلام مسؤولًا عن ابتداع الرِّقّ، ولم يكن هو الباعثُ على إحيائه، بل كان نظامًا شائعًا موجودًا حين بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقوله الحقائق التاريخية التي دوَّنها المؤرخون، فقد عرفت الحضارات القديمة الرِّقّ منذ عصور متقدمة جدَّا، خاصَّةً مع بداية العصر الزراعي، وحاجة الناس إلى بعضهم البعض، يقول ديورانت: “بينما كانت الزراعة تنشئ المدنية إنشاءً، فإنَّها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية انتهت كذلك إلى نظام الرِّقّ الذي لم يكن معروفًا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصَّيد الخالص؛ لأنَّ زوجة الصائد وأبناءَه كانوا يقومون بالأعمال الدَّنيَّة، وكان فيهم الكفاية لذلك، وأمَّا الرجال فقد كانت تتعاقب في حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصَّيد أو القتال، يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدَّعة بعد الإجهاد والعناء؛ ولعلَّ ما تنطبع به الشعوب البدائية من كسل قد بدأ- فيما نظن- من هذه العادة، عادة الاستجمام البطيء بعد عناء القتال والصيد؛ ولو أنها لم تكن عندئذ كسلًا بمقدار ما كانت راحة واستجمامًا؛ فلكي تحول هذا النشاط المتقطع إلى عمل مطرد لا بد لك من شيئين: العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وتنظيم العمل.
وأمَّا تنظيم العمل فيظل مُنحَلَّ العرى لَدني النشاط ما دام الناس يعملون لأنفسهم، لكنهم إذا كانوا يعملون لغيرهم فإنَّ تنظيم العمل لا بد أن يعتمد في النهاية على القوة والإرغام؛ وذلك أن نشأة الزراعة وحدوث التفاوت بين الناس انتهيا إلى استخدام الضعفاء اجتماعياً بواسطة الأقوياء اجتماعياً“([1]).
ولا شكَّ أن الرِّقّ والاستعباد صحبه أنواعٌ من الذلِّ والإهانة والاستعباد بطرقٍ غير مقبولة؛ كالنهب، والسرقة، وقطع الطريق، وكلّ ذلك من أجل استعباد الأحرار وبيعهم، ولم تكن هذه الممارسات مقتصرةً على الزمن المتقدم، بل رأينا ألوانًا منه في العصور الحديثة!
ومع تعدُّد طرق الرقِّ وتنوُّعه وكثرته إلا أنه لم يكن من مصارف الرِّقّ شيء متاح إلا أن يريد السيد ذلك، وقد عرف التاريخ أنواعًا قاسية من التعذيب والإهانة والمعاملة القاسية للأرقاء، فكان للسادة حق الحياة، والموت لأرقائه؛ يقتل منهم من شاء متى شاء! وكان هو المتحكم الكامل في الزواج الذي مُنع منه الأرقَّاء إلا ما أراده السيِّد ولأغراضه الخاصة كتكاثر العبيد الذين يخدمونه، إلا أنه لم يخل التاريخ من معاملة حسنةٍ للأرقَّاء، فالأمر يختلف من زمان لآخر، ومكان لآخر ([2])، لكن في المجمل كانوا يُمنعون من حقوق كثيرة، وهي حقوق أصيلة للإنسان مثل حق الزواج، وتكوين أسرة، وحق الحياة.
ولسنا نريد هنا فتح صفحة الخزي التي كتبها بعض الحضارات في التعامل مع الأرقاء، أو حتى كتبها بعض الحضارات المعاصرة ممن أقامت سوق حضارتها على أكتاف الأرقاء الذين استعبدوهم بالقوة والقهر! وأذاقوهم ألونًا من القتل والتشريد والتجويع كما لا يخفى على كلِّ مطَّلع، ولكننا فقط نؤكِّد القول بأنَّ الإسلام قد جاء والرِّقّ نظامٌ موجود مقبولٌ بين الشعوب.
ومع ذلك فإنَّه يحلو لكثير من المستشرقين وأتباعهم وتلامذتهم من الحداثيين، وبعض أصحاب الأقلام الرديئة، يحلو لهم الطَّعن في الإسلام من خلال موقفه من الرِّقّ والاستعباد، وغالبًا ما يشوِّهون تقريرات الإسلام حول الرِّقّ، ويحرفون الكلم عن مواضعه، أو يجعلون التصرفات حجة على التنظيرات! أو يتغاضونَ عن كل الإصلاحات التي قدَّمها الإسلام في حلِّ هذه القضيَّة الموجودة، وفي هذه الورقة نريد أن نعرف: هل أقرَّ الإسلام الرِّقّ كما وجده؟ أم أنَّه أجرى عليه تعديلات كبرى تخلصه من الشوائب؟ وهل لقي الأرقاء في الجملة حقوقهم الأساسية أم قد هضم حقهم؟ هذا ما نروم بيانه في هذه الورقة، فنقول وبالله التوفيق:
ما الذي فعله الإسلام في موضوع الرِّقّ؟
حين أشرقت شمس الإسلام في الوجود، وأتى بتشريعاتٍ أنقذت البشرية من وحل الشرك والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى، ووجد موضوع الرق والاستعباد منتشرًا؛ قدَّم حزمة إصلاحيَّة عظمى فيما يخص الرِّقّ، فقد عالج موضوع حقوق الرَّقّيق، وانتشله من كثير من المظالم التي كان غارقًا فيها، فردَّ له حقوقه، وعاقب كل من اعتدى عليها، وصحَّح العلاقة بين السيد ورقيقه، بل وأعطاه الحق في حريَّته بأن يكاتب سيده ويخلص نفسه من الرق، إضافة إلى تشريعاتٍ أخرى؛ كلها تسعى إلى رفع القيمة الإنسانية للرقيق، ورفع المظالم عنه.
أمَّا فيما يخص الرِّقّ نفسه فإنَّ الإسلام قد قلَّل منابعه جدا، فألغى معظم تلك الطرق التي كان يسترق بها الرِّقّيق ظلمًا وعدوانًا، وأبقى باب الأسر في الحرب وما يتبعه من الرِّقّ، أو البيع بعد تملكه من هذه الطريق، ولذلك جاء التحذير الشَّديد في الشَّريعة لمن استرقَّ الناس وهم ليسوا كذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره))([3])، وقولنا: إنَّ من منابع الرِّقّ استرقاقه في الحرب لا يعني أنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة للتَّعامل مع الأسرى، بل هي طريقة من طرق عديدة يتخير منها القائد والإمام حسب المصلحة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: 4].
وبالمقابل وسع الإسلامُ جدًّا مصارف العتق، فأدخل الإعتاق في الكفَّارات، ككفارة قتل الخطأ، وكفارة الحنث باليمين، وكفارة الظهار، كما جعل من مصارفه التَّطوع لله سبحانه وتعالى بإعتاق الرِّقّيق، وليس هدفنا ذكرها هنا فقد كُتب فيها كثيرًا([4])، إلا أنَّنا نؤكد على أنَّ الإسلام قدَّم نقلة عظيمة في التَّعامل مع الرِّقّيق، وأرجع له حقوقه، ودعَمَها؛ بمنع الاعتداء عليها بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل ارتقى في التعامل مع الرَّقيق بما لم تقدِّمه حضارةٌ أخرى.
مظاهر ارتقاء الإسلام في التعامل بالرِّقّيق:
لا شكَّ أنَّ الإسلام قد غير المعادلة في التعامل مع الأرقاء، ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة، من أهمها:
أولا: الوصايا التي وضعها الإسلام للإحسان إلى الرِّقّيق وتكريمه: فالإسلام قد حثَّ كثيرًا على معاملة الرِّقّيق معاملةً حسنة، فقد خفض له جناح الرحمة، وأوجب على من يعولهم معاملتهم بإحسان، يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36] وتأمل كيف قرن الله هنا هذه العبادات الجليلة بعبادته وحده، وما ذاك إلا لأهميتها وعظمتها، ومنها الإحسان إلى ملك اليمين.
ومن تلك الوصايا الربانية للإحسان إلى الرِّقّيق؛ أن يهتموا بطعامهم، وشرابهم، ولباسهم، وأن لا ينقص ذلك عليهم، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل، وليلبسه مما يلبس))([5])، فجعلتهم الشريعةُ بمنزلة الإخوان، وساوى بينهم في هذه الحقوق، فلا ينبغي أن يحرم الرِّقّيق شيئًا ممَّا يَنْعم به السيد، ولا يجوز إنقاص ما يكون لهم من طعام وشراب ولباس، بل المندوب أن يكرمهم غاية الإكرام، وهو ما كان يتمثَّل به الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حتى أنَّه إن لبس أحدهم حلَّة ألبس رقيقه حلَّة([6])!
ومن تلك الوصايا: أن لا يحملوهم فوق طاقتهم، وأن يعين الإنسانُ رقيقه على ما كلَّفه من أعمال، وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم))([7]).
بل انظر إلى آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يودِّع أمته كيف كانت منصبَّة إلى حسن التعامل مع الرِّقّيق، والإحسان إليه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت عامَّة وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: ((الصلاة، وما ملكت أيمانكم))([8]) فأي عناية واهتمام بهذا الملف أكثر من هذا؟!([9]).
ثانيًا: إعادة الكرامة البشريَّة إليه، وذلك بمساواته بالأحرار في الخطاب الديني، والأخوة الدينية، وفي الحقيقة فإنَّ هذ المظهر يعدُّ خصيصة من خصائص الإسلام، بحيث تبدو هنا القيمة العليا للأخلاق التي أتى بها الإسلام، وذلك بمساواة الرِّقّيق بالسيِّد في الخطاب الديني، والجزاء الأخروي، فهو مخاطب بكل شرائع الإسلام إلا ما استثني من الوجوب وليس بالمنع وذلك تخفيفًا له، كما أنهم مساوون لكل شرائح المجتمع في معيار الأفضليَّة عند الله سبحانه وتعالى، وهو ما قطع الله الحكم فيه بقوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق هذه الآية ومعانيها طيلة حياته.
فلا شكَّ أنَّ في هذه الرفعة إعادة للإنسانية المهدرة عن الرقيق في كثير من الحضارات، بل أين تجد حضارةً يعطي الموالي قيمة لدرجة أن يعلو فوق جميع الأحرار بل وشرفاء القوم والأنساب، بل ويعلو بيت الله أمام مشهد مهيب ليرفع الأذان؟ وهو مافعله بلال رضي الله عنه يوم فتح مكة حتى تكلم من تكلم([10]).
ومن صور إعادة تلك الكرامة البشرية الإنسانية له أن جعل موضوع الحرية بين يديه بأن يكاتب سيده، بل ويُدفع له من الزكاة! فبعد أن كان حق تحرير الأرقاء محصورًا في إرادة السيد فقط، جاء الإسلام ليحث على المكاتبة وقبولها في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، فالمكاتبة إحدى الطرق التي يمكن للرقيق من خلالها أن يتحرَّر من الرق، وقد حثَّ الشرع على قبولها، بل قد اختلف العلماء في وجوبها، وهو اختيار عددٍ من العلماء([11]) .
ثالثًا: الاهتمام بنفسيات الأرقاء، والاهتمام بالألفاظ الموجَّهة إليهم، وحفظه من كلِّ ما يُشعره بالنَّقص بين المسلمين:
من أهمِّ وأعظم ما جاء به الإسلام أنَّه اهتم بنفسية الرِّقّيق! فهو بعد أن أمر بإطعامهم مما يطعمه السيد، وأمر بكسوتهم ، أمر بأن لا ينادى بما يُشعره بنقص، وهو أن يقول له عبدي، وإنَّما يقول له: فتاي، أو فتاتي، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي))([12])، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه عند إيراد هذا الحديث فقال: “باب كراهية التطاول على الرِّقّيق، وقوله: عبدي أو أمتي”، فانظر إلى هذا اللفظ الذي قد يُشعر بالتعالي عليه جاء الإسلام بالنَّهي عن إطلاقه، وإنَّما جاء بعبارات لطيفة أقرب ما تكون إلى العبارات التي تطلق داخل الأسرة الواحدة، يقول ابن حجر رحمه الله: “قال الخطابي: المعنى في ذلك كله راجعٌ إلى البراءة من الكبر، والتزام الذل والخضوع لله عز وجل، وهو الذي يليق بالمربوب. قوله: وليقل فتاي وفتاتي وغلامي، زاد مسلم في الرواية المذكورة: وجاريتي، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يؤدي المعنى مع السلامة من التعاظم”([13]).
رابعًا: حفظ حقوقهم من الاعتداء:
فليس الأمر أنَّه جعل لهم حقوقًا فحسب؛ بل صانها، وحفظها من التعدِّي، فقد حفظ حق المملوك في أن لا يُهان، ولا يعتدى عليه، بل جعلت الشريعة من كفارات ضرب الرَّقيق أن يُعتق، فعن زاذان أبي عمر، قال: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكًا، قال: فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لطم مملوكه، أو ضربه، فكفارته أن يعتقه))([14])، ويظهر ذلك أيضًا في حديث الجارية التي ضربه سيدها، فعظم ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه، حتى عرض على النبي صلى الله أن يعتقها فرضي ونفذ، فعن معاوية بن الحكم السلمي، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: “ائتني بها” فأتيته بها، فقال لها: “أين الله؟” قالت: في السماء، قال: “من أنا؟” قالت: أنت رسول الله، قال: “أعتقها، فإنها مؤمنة”([15]).
خامسًا: ذوبان الفوارق الاجتماعية:
وهذه جوهرة العقد في المظاهر، ومن أعظم خصائص الدين الحنيف في موضوع الرِّقّ، فإنَّه استطاع أن يجعل الأرقاء أمة واحدة مع مالكيهم، حتى تبوؤوا مناصب عليا على مر التاريخ الإسلامي، من كونه إمام، أو مفتيًا، أو مدرسًا، أو صاحب ولاية، أو حتى ملكًا!
وإن شئت فافتح كتاب الموالي في الإسلام وانظر في كثرتهم، وتنوعهم، ورقي معيشتهم، ومساواتهم في الحقوق والواجبات، وكثرتهم إنَّما يدل على شيء واحد، وهو: كثرة العتق بين المسلمين، فإنَّ المولى هو من كان عبدًا ثم أُعتق، فسيده السابق مولاه، وترتبط بينهما رابطة قوية حتى بعد الإعتاق، وهي تمثل ميزة من جانب آخر، وهي أنَّ الأرقاء ممن اعتادوا على نظام اجتماعي معين، ونمط عيش معين، كثيرٌ منهم بعد أن يعتق لا يجد مأوى ولا ملاذًا ولا سكنًا ولا تكسبًا؛ فحل الإسلام هذه القضية، حتى لا تكون حجر عثرة أمام الإعتاق بقضية الموالي، فسعى إلى إدماج هؤلاء في القبائل والعشائر، فأكسبهم ذلك عزةً ومنعة، فالإسلام بهذا أنجز إنجازًا عظيما بحيث تجاوز مجرَّد التحرير إلى إقامة رابطة بين المحرَّرين وبين المحرِّرين، وكانت تلك الرابطة قوية حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الولاء لحمة كلحمة النسب))([16])، وبهذا شكل الإسلام إحياءً حقيقيًّا للتَّحرير والإعتاق.
وأول لبنة في حقوق الموالي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين آخى بين المهاجرين والأنصار وفيهم موالي، آخاهم مع سادات من الأنصار، وكانت تلك رابطة عظيمة متينة تصل إلى حد التوارث، حتى نُسخ ذلك.
كان نتيجة هذا الأمر أن ذابت الفوارق الاجتماعية، وجعل المعيار ليس كونه مولى أو قبليا، وإنَّما المعيار هو ما يحمله من علمٍ وتقى وورع، فهو مثله مثل أي مسلم آخر، ويُقدم على كل من سواه مادام أنَّه مستحق لهذا التقديم، فلا يؤخَّر لكونه مولى، ويقدم غيره لكونه عربيًّا فحسب، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمَّر أسامة بن زيد – ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه كبار الصحابة الكرام، بل يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا، وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده))([17]).
فهذا التصرف والتعامل رفعٌ لمستوى الموالي والأرقاء، واجتثاث للنظرة الدونية لهم، والتفاخر عليهم، ولهذا نبغ الموالي والأرقاء في الأقطار الإسلامية، وكان منهم علماء وكتاب وحرفيون وقادة مشهورون، ومن يقرأ التاريخ لا تخطئ عينه تلك الكثرة الكاثرة من الموالي ممن تسنَّموا مناصب عليا، وكان لكثيرٍ منهم إسهامات كبيرة في شتى العلوم الإسلامية، وخاصَّة في علم الرواية والحديث، وتضمُّ كتب الرواة العديد من الأسماء البارزة من الموالي ممَّن أسهموا إسهامات بارزة في علم الرواية، وقد بوب ابن كثير في “الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث” بابًا فقال: “معرفة الموالي من الرواة والعلماء”([18])، وفعل مثله السيوطي في كتابه “تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي” فبوب وقال: “النوع الرابع والستون: معرفة الموالي”([19])، والسخاوي في “فتتح المغيث بشرح ألفية الحديث” بوَّب فقال: “الموالي من العلماء والرواة”([20])، وقد ذكر ابن الصلاح في باب: “معرفة الموالي من الرواة والعلماء” في مقدمته عددًا كبيرًا من الأسماء ممن كان لهم أثر بليغٌ في علم الرواية والحديث خصوصًا، وفي المسيرة العلمية عمومًا، من أشهرهم: محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو البختري، وأبو العالية، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعطاء ابن أبي رباح، وطاووس بن كيسان، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.([21])
والشاهد أنَّ الموالي لم يكونوا نائين عن المشاركة في الحضارة الإسلامية، ولم يكونوا منبوذين مكروهين؛ كما تصوره بعض الكتابات المجحفة التي لم تطلع على حقيقة تعامل المسلمين مع الموالي، والذين تبوؤا مناصب عليا في ميدان الإدارة والحرب، والكتابة، والعلم والعلماء.
وخلاصة هذه المظاهر أن الإسلام أسهم بشكلٍ فعَّال في رفع الأغلال التي كانت موجودة على الأرقاء على مرِّ العصور، فأرجع الإسلامُ لهم حقوقهم، وحفظها وصانها، وجفَّف منابع الرقِّ الظالمة الكثيرة، ثم فتح الباب على مصراعيه في عتق الرقاب، ولذلك نجدُ أن الصحابة الكرام ومن تبعهم مكثرون من الرق، ومن ثَّم العتق، فلم يحمل الإسلام في تعاليمه وتشريعاته ظلمًا للأرقاء، بل كان على العكس من ذلك؛ كان هو الرَّاد والمرجع لحقوقهم، وللموضوع تفصيلات أخرى ربَّما تفرد في موضوع مستقل.
شهادات منصفة
عاش الرِّقّيق في ظلِّ النظام الإسلامي حياة مختلفة عما كانت عليه حياة الأرقاء في عدد من الحضارات غير الإسلام، ونتيجة لذلك رأينا كيف أن منهم علماء ومفتين وقضاة وأئمة ورواة ومحدثين ممَّن كان لهم أثر كبير في العلوم الإسلامية خصوصا، وفي الحضارة الإسلامية بشكل عام.
ولئن كان بعض فتات الأقلام يشنون حملة على الإسلام في موضوع الرِّقّ فإن هذه الصفحة المشرقة شهدت لها أقلام أخرى من مفكرين ومؤرخين، ولم يكن الإسلام أو الدفاع عنه هو دافعهم في إبداء تلك الشهادات، وإنما – كما نظن- مجرد رؤية حيادية رأوها فحكوها، وننقل هنا طرفًا منها:
يقول غوستاف لوبون وهو ينقل شهادات عدَّة حول الرِّقّ في الإسلام: “تثير كلمة “الرِّقّ” في نفس الأوربي القارئ للقصص الأمريكية منذ ثلاثين سنة، صورة أناس يائسين مُقرَّنين في الأصفاد، مَقُودين بالسياط، رديئي الغذاء، مقيمين بمظلم المحابس.
ولا أبحث هنا في صحة صورة الرِّقّ هذه عند الأنغلو أمريكيين منذ بضع سنين، ولا في صحة تفكير صاحب رقيقٍ في إيذاء مالٍ غالٍ كالزنجي والقضاء عليه، وإنما الذي أراه صدقا هو أن الرِّقّ عند المسلمين غيرُه عند النصارى فيما مضى، وأن حال الأرقاء، في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربة، فالأرقَّاء في الشرق يؤلفون جزءاً من الأسُر، ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانًا كما رأينا ذلك سابقًا، ويقدِرون أن يَتَسَنَّموا أعلى الرُّتب، وفي الشرق لا يرون في الرِّقّ عارًا، والرِّقّيق فيه أكثر صلةً بسيده من صلة الأجير في بلادنا.
قال مسيو أبُو: “لا يكاد المسلمون ينظرون إلى الرِّقّ بعين الاحتقار، فأمَّهات سلاطين آل عثمان -وهم زعماء الإسلام المحترمون- من الإماء، ولا يرون في ذلك ما يَحُطُّ من قَدْرهم، وكانت أسُر المماليك الذين ملكوا مصر زمنًا طويلًا تلجأ لِتَدُوم إلى اشتراء صغار الموالي من القفقاس وتتبنَّاهم في سن البلوغ، وليس من القليل أن يُرَبِّي أمير مصري أحد صغار الأرقاء، ويعلمه ويدربه، ويزوجه ابنته، ويفوض إليه إدارة شؤونه، وترى في القاهرة أكابر من الوزراء والقادة والقضاة اشتُري الواحد منهم في شبابه بما لا يزيد على ألف وخمسمائة فرنك“
واعترف جميع السياح الذين درسوا الرِّقّ في الشرق درسًا جِدِّيًّا بأن الضجة المغْرِضَة التي أحدثها حوله بعض الأوربيين لا تقوم على أساسٍ صحيح، وأحسن دليل يقال تأييدًا لهذا هو: أنَّ الموالي الذين يرغبون في التحرر بمصر ينالونه بإبداء رغبتهم فيه أمام أحد القضاة، وأنَّهم لا يلجأون إلى حقِّهم هذا، قال مسيو إيبِر مشيراً إلى ذلك: “يجب عَدُّ الرِّقّيق في بلاد الإسلام مَبْخُوتاً على قدر الإمكان”.
ومن السهل أنْ أُكثر من اقتباس الشواهد على صحة ذلك، ولكنني أكتفي بذكر الأثر الذي أوجبه الرِّقّ في الشرق في نفوس المؤلفين الذين أتُيح لهم درسه في مصر حديثاً، قال مسيو شارم: “يَبدو الرِّقّ في مصر أمراً ليِّنًا هينًا نافعًا منتجًا، ويُعد إلغاؤُه فيها مصيبة حقيقية، ففي اليوم الذي لا يستطيع وحوش إفريقية الوسطى أن يبيعوا فيه أَسْرَى الحرب، ولا يَرَون فيه إطعامهم، لا يُحجِمون عن أكلهم، فالرِّقّ وإن كان لطخةَ عارٍ في جبين الإنسانية، أفضلُ من قتل الأسَرى وأكل لحومهم إذا ما نُظِر إليه من وجهة نظر هؤلاء الأسرى، وذلك على الرغم من رأي مُحبي الإنسانية من الإنكليز الذين يقولون: إنه أجدر بكرامة الزنوج أن يأكلهم أمثالهم من أن يسودهم أجنبي!”
وقال مدير مدرسة اللغات في القاهرة مسيو دو فوجانى: “ترى الأرقاء الذين يستفيدون من الحرية الممنوحة لهم قليلين إلى الغاية مع أنَّ هذه الحرية تسمح لهم بأن يعيشوا كما يشاءون من غير إزعاج، فالأرقاء يُفَضلون حال الرِّقّ السالم من الجَور على حال القلق الذي يكون مصدرَ آلامٍ ومتاعب لهم في الغالب”
وترى الأرقاء في مصر أحسن حالاً مما كانوا عليه قبل استرقاقهم بدلاً من أن يكونوا من البائسين المناكيد، وبلغ الكثيرون منهم -ولا سيما البيض- أرقى المناصب في مصر، ويُعد ابن الأمَة في مصر مساويًا لابن الزوجة في الحقوق، وإذا كان ابن الأمَةِ هذا بِكْرَ أبيه تمتع بكل ما تمنحه البِكْرِية من الامتيازات، ولم تكن من غير الأرقاء زُمرة المماليك التي مَلَكَتْ مصر زمناً طويلاً. وفي أسواق النِّخاسة اشتُري علي بك وإبراهيم بك ومراد بك الجَبَّار الذي هُزم في معركة الأهرام، وليس من النادر أن ترى اليوم قائداً أو موظفاً كبيراً في مصر لم يكن في شبابه غير رقيق، وليس من النادر أن ترى رجلاً في مصر كان سيده المصري قد تبناه وأحسن تعليمه وزوَّجه ابنته.
وليست مصر القطرَ الوحيد الذي يُعَامَل فيه الأرقاء برفق عظيم، أي أن ما تراه في مصر تَرَى مثلَه في كل بلد خاضع للإسلام“([22]).
فهذه ليست شهادةٌ واحدة، إنّما هي شهاداتٌ عدَّة كلها تبين أن الرقَّ في الإسلام مختلفٌ عن غيره، وتلك شهادات من شهود عيانٍ رأوا ذلك بالفعل وعايشوه.
ومن الكتابات الطريفة في هذا الباب أنَّ المستشرق البريطاني “توماس أرنولد” قد عقد فصولًا عن دخول المسيحيين إلى الإسلام، والتسامح الذي كانوا يلقونه من المسلمين، وكان يتساءل عن تحول المسيحيين إلى الإسلام مع كونهم أرقاء في كثيرٍ من الأحيان، بل عنون له فقال: “تحول الأرقاء المسيحيين إلى الإسلام” ذكر فيه أنَّه قد يكون من أسباب هذا التَّحول أنَّ الرقيق يجد معاملةً حسنةً فيسلم جرَّاء ذلك، يقول: “كان للرقيق كما كان لسائر المواطنين حقوقهم، بل قيل: إنَّه كان للعبد أن يقاضي سيده إذا أساء معاملتهن وأنه إذا تحقق القاضي من اختلاف طباعهما اختلافًا بينا إلى حد تعذر الاتفاق بينهما؛ فله أن يرغم السيد على بيعه”([23]).
وذكر البريطاني “ديكسون” والذي قضى حوالي ربع قرن في شمال الجزيرة العربية وشرقها في كتابه “عرب الصحراء” عن الأرقاء في هذه المنطقة فقال([24]) : “فإنَّ الشريعة الإسلامية تحثُّ على تحرير العبيد، وتقضي الشريعة أيضًا أن لكل عبدٍ أن يطلب من سيده متى شاء أن يعتقه لوجه الله دون أن يقدم أسبابا لهذا الطلب، وعلى السيد أن يحقق هذه الرغبة…وتجدر الإشارة هنا بأن الغالبية من الناس يعاملون عبيدهم من العاملين في خدمتهم بالأعمال المنزلية معاملة حسنة، ولا أبالغ إذا قلت: إن بعضهم يعاملهم كأطفالهم تمامًا، فلهم حرية التزاوج بالطريقة المناسبة وبمساعدة أسيادهم، ولهم الحق بالتناسل بمقدار ما يشاؤون، ويعامل أطفالهم كما يعامل أطفال أسيادهم، يلعبون معا، ويعيشون معا. ولا أبالغ إذا قلت: إن سيدات البيت يعامِلن هؤلاء معاملة أفضل، وحتى بعض الأحيان لا تختلف عن معاملة أخت لأختها”([25]).
ويقول فان دنبرغ: “لقد وضعت للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل، ففيها نجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تسير في طليعة الحضارة”([26]).
فهذه جملٌ يسيرة من كتابات بعض المنصفين، جلُّهم عاشوا ورأوا ما يحدث للأرقاء في البلاد الإسلامية، وقارنوه بما يحدث في حضارات ودول أخرى حتى وقت قريب! فكانت هذه النتيجة التي توصلوا إليها، وهي أنَّ الإسلام قد أكرم الرقيق، وشرع تشريعات مقتضاها الإحسان إلى الرقيق والرفع من شأن حقوقه وحفظها.
تنبيه مهم: لا يعني هذا أنَّ الصفحة بيضاء لم تشبها شائبة على مرِّ التاريخ الإسلامي، بل لا شك -وهو لا يخفى عل كل مطلع- أنَّ هناك ممارساتٌ خاطئة قد مورست ضد الأرقاء، وهي وإن كانت أقلَّ مما تصوره بعض الأقلام إلا أنها موجودة، ولا يمكن القول بأن المسلمين كلهم بقوا على التشريعات الإسلامية الصحيحة فيما يخص الرقيق، بل وقعت تجاوزات وأخطاء، ومن الخطأ العلمي أن ننسب ذلك إلى التشريعات نفسها، ولذلك كلما اقتربنا من المنطقة الزمنية القريبة من التشريعات – حيث كانت متغلغلة في المجتمع كله تقريبًا – نرى أنَّ الفوارق تكاد تذوب بالفعل، وأنَّ التعامل كان مختلفًا عمن جاء بعدهم، فالحديث هنا عن أمرين:
1/ عن التشرعيات الإسلامية وكيف حافظت وارتقت بالرقيق وحقوقه.
2/ عن الحالة العامة عند المسلمين بمجملهم، فإن كثيرًا من التجاوزات التي تحصل إنما تحصل في دور الملوك والأمراء وما يتعلق بهم، ولا ينحصر الأرقاء والتعامل معهم فيهم فحسب، بل من نظر نظرةً عامة إلى الأمة الإسلامية بمجموعها وجد أن التعامل الحسن، والسير على التشريعات الإسلامية كانت السمة الأبرز، وما صاحب ذلك من تجاوزات على مرِّ التاريخ هي أخطاء بلا ريب.
وصلى الله وسلم على نبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) انظر: الرِّقّ ماضيه وحاضره لعبدالسلام الترمانيني (53- 57).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2227).
([4]) انظر مقالا في مركز سلف بعنوان: فلسفة الإسلام حول الرِّقّ، على الرابط التالي: https://salafcenter.org/2367/
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (30).
([6]) وهذا ما كان يصنعه أبو ذر، كما في البخاري في الحديث السابق.
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (30).
([8]) أخرجه ابن ماجه في سننه برقم (2697)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه بنفس الرِّقّم.
([9]) للاستزادة انظر: نظام الرِّقّ في الإسلام لعبد الله علوان (34- 36).
([10]) انظر: الرحيق المختوم للمباركفوري (372- 373).
([11]) يقول الطبري: “واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده، الذي قد علم فيه خيرا، وهل قوله: ﴿فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا﴾ على وجه الفرض، أم هو على وجه الندب؟ فقال بعضهم: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا، إذا سأله العبد ذلك… وقال آخرون: ذلك غير واجب على السيد”. انظر: تفسير الطبري (19/ 167).
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2552).
([13]) فتح الباري لابن حجر (5/ 180)
([14]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1657).
([15]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (537).
([16]) أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (4950)، والحاكم في مستدركه برقم (7990) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (7157).
([17]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3730).
([18]) الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث (ص: 246).
([19]) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 910).
([20]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (4/ 393).
([21]) انظر: مقدمة ابن الصلاح، معرفة أنواع علوم الحديث (501- 505).
([22]) حضارة العرب لغوستاف لوبون (386- 389).
([23]) الدعوة إلى الإسلام لسير توماس آرنولد (ص: 200).
([24]) مع التحفُّظ على كثيرٍ من أفكار الكتاب!
([25]) عرب الصحراء لديكسون (455- 456).
([26]) نقلا عن: الإسلام في قفص الاتهام لشوقي أبو خليل (198- 199).