الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

هل التصوُّرُ السلفيُّ في قضايا المعتقَد فاسدٌ؟..الأسماء والصفات نموذجًا

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدِّمة:

في عصرِ القلَق والحزن يحدُث أن تَرى عنوانًا فحواه: فسادُ التصوُّر السلفيِّ لقضايا المعتقد، وبينا أنت في عجبٍ من العنوان واستغرابٍ من إثارته قد لا يكون من الغريب أن ترى المتحدِّث تحت هذا العنوان يَظهر بقدرٍ من الخفَّة ينزل به عن مستوى الرُّشد، ويجعل عقلَه دون مرحلةِ التكليف فتعذره؛ لأنه يستهلُّ بالكلام استهلال من لا يدري حقيقةَ ما يقول، فمنتقدو السلفيةِ في عصر الأنوار هم بعدَد رمل عالج، وهذا العدَدُ مَن يراه من بعيدٍ ويرى تنوُّعه قد يرى ألوانا مختلِفة تبهرُه وتغُرُّه، في حين إنه إذا اقترب منها يجد لونا واحدًا إليه ترجع هذه الألوان على كثرتها وتعدُّدها هو لون الخصومة بعيدا عن الشرف ومنطق العلم، وإن تسأل عن دوافع النقد فهي قريبة، فكثيرٌ من هؤلاء لا ينقم على السلفية إلا تسهيل العقيدة على الناس تسهيلا يجعل العامي المؤمن شريك المتخصص بل أحسن منه؛ وخصوم السلفية يريدون من العقيدة أن تكونَ موضوعًا من موضوعات العلم محتكَرًا على أهل الاختصاص فيه، ويتكلمون فيه بالذي يريدون، وحظُّ غيرهم منه هو الاستهلاك، فبات تسهيل السلفية للعقيدة مقلِقًا لهؤلاء، فرموها عن قوس واحدة، وجعلوا الجهلَ بكلامهم أو إنكارَه جهلًا بقضايا المعتقد. وقد ترى أحدَ هؤلاء يشبِّه ويكيِّف، ثم يسأل سؤالا لنفسه ويقول: لا يستطيع السلفيّون الجوابَ على هذا السؤال، أو: الجوابُ على هذا السؤال كشَف لي فسادَ التصور السلفي. وإذا عنَّ في ذهنك من المجيب عن السؤال الذي كشف هذه الحقيقة فجوابك: ما المسؤول بأعلم من السائل!

هي مسرحيَّة أو مقامةٌ من المقامات، يحكيها أحدُهم في درسٍ له عن مجهولٍ سلفيٍّ وضع أمامَه ورقةً، وأخرج منها فروعا بعضُها إلى الأسفل، فسأله: هذا الذي في الأسفل ماذا تسمّيه؟ فقال: رِجل، فقال: فهذا الذي في جوانِبها؟ قال: ذراع، قال: إذًا هذا القدر المشترك أنفيه عن الله، فبُهِت السلفيُّ.

فكان هذا السؤال فاتحةَ خيرٍ على سلمان عصرِه وغزاليِّ زمانه في المعتقد.

ومع أن السؤال هزيلٌ علميًّا، وما بُني عليه أوهى من بيت العنكبوت؛ لأنه بُني على مسلَّمة تعلَّق صاحبها بالجواب الافتراضي على سؤاله، كما تعلَّق أهل الجاهلية بقول الله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون} [الأنبياء: 98]، فادعوا أن عيسى تتناوله الآية لأنه عبد من دون الله.

وهنا تكمن خطورةُ المسلَّمات الباطلة التي ينطلِق أصحابها من ذهنيَّة مسبقة عن الحقّ، فيسارعون بالمحاججَة واللّدد.

وقبل الجواب على سؤال هذا المتكلِّم لا بأس أن ننبِّه إلى أنَّ انقطاع المحاور وعدم جوابه عن الاعتراض لا يبطل المذهبَ بكامله؛ إذ قد يكون المحاوِر جاهلًا أو ناسيًا للدليل، فمِنَ المجازفةِ التندُّر بمثل هذا، خصوصًا في أمور مستقرَّةٍ، وتكلَّم فيها الكبار.

وللجواب على سؤال السائل في هذا الباب ينبغي أن نبيِّن أن السؤال بُني على مقدِّمة ومِثال، وكلاهما باطل:

فالمقدمة تقول: إنه لا يُعقل من صفة اليد إلا ما نَعرفُه من معناها، وهي أنها بعضٌ من الشيء وجزء منه، وهكذا القدم وغيرها من الصفات.

والمثال بالورقة الذي مثَّل به المتكلم، وسواء مثَّل بغيره وبنى عليه أنَّ كل شيء قام على جزء منه وكان هذا الجزء سفلا فهو قدم، وإذا كان جانبا فهو يد، ثم تكلِّم عن الصفات على هذا النحو، فهذا المثال غايةٌ في السوء، وهو تشبيه جرَّ إلى تعطيلٍ، وقد قال الله سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. “فقد بيَّن الله تعالى غايةَ البيان، فقال: {فَلَا تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ}، وقد أخبر الله تعالى بأن له المثل الأعلى، فصحَّ ضرورةً أنه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط، ولا يحلُّ أن يزادَ على ذلك شيء أصلا”([1]).

والسؤال مفرَّع على وجوب العلم بالله تفصيلًا، وهو ما نفاه الشرع، فقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. فنحن نعلم صفات الله عز وجل جملة، ونعقِل المعاني التي خاطبنا بها، لكن حقيقة ذلك وما هو عليه في الواقع لا نعلمه؛ لأنه لا يتأتَّى علمه إلا بأحد أمرين:

الأمر الأول: رؤية الباري جل وعلا، وذلك ما لم يقَع أصلا.

الأمر الثاني: رؤيةُ شبيهٍ، وذلك ممتنع عقلًا وشرعًا، فالشبَه لا يصحُّ فيمن لا يُرى.

فإذا تبيَّن هذا فإننا نناقش صاحبَ الاعتراض في هذه القضية في المباحث التالية:

المبحث الأول: ما الظاهر؟ وما ظاهر آيات الصفات وأحاديث الصفات؟

لا شكَّ أننا في تحريرِ هذه المسألةِ نتحاكم مع غيرنا إلى لسان الشرع الذي تكلَّم به، وهو اللسان العربي، ثم فهم المخاطبين به ابتداء وهم الصحابة أهل السليقة ممن تلقَّوا الدين بسليقتهم السليمة، ووعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلَّغوه كما أخبر به، وغيرهم لا يُذكر إلا عند موافقَتِهم واتِّباعهم فهم حجَّة على من جاء بعدهم، والعبرة في كلامهم ومذهبهم بما يقرِّره العدول من العارفين بمذاهبهم، بعيدًا عن الوهم ومحاولة حمل الاصطلاح المتقدِّم على الاصطلاح الحادث.

معنى الظاهر لغة واصطلاحا:

يرجع معنى الظاهر في اللغة إلى الوضوح والانكشاف([2]).

أما في الاصطلاح فهو: ما احتمَل معنيين أحدهما أرجح من الآخر([3]).

قال الأستاذ أبو إسحاق: “الظاهر: لفظ معقول يبتدر إلى فهم البصير بجهة الفهم منه معنى، وله عنده وجه في التأويل مسوغ لا يبتدره الظن والفهم، ويخرج على هذا ما يظهر في جهة الحقيقة ويؤول في جهة المجاز، وما يجري على الضد منه”([4]).

والظاهر بالمعنى الذي تكلمنا عنه يعرض للكلام من جهتين:

الجهة الأولى: جهة اللفظ كالأسد في الحيوان المفترس.

والجهة الثانية: جهة السياق، فقد يكون للفظة ظاهر، لكن هذا الظاهر يمحى لقوة السياق، وهنا تكون العبرة بظاهر السياق لا بظاهر اللفظ. ومن أمثلة التمسك بظاهر السياق بدل ظاهر اللفظ ما ورد في الحديث القدسي: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعدني! قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدتَه لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟! أما علمتَ أنك لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي؟! يا ابن آدم، استسقيتُك فلم تسقني! قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»([5]). فإن اللفظةَ في هذا السياق لا عبرةَ بها، وإنما العبرةُ بظاهر السياق، ولا نحتاج أن نقول: إن الوارد في الحديث تأويلٌ، وإلا لكان الاستثناء من العدد تأويلًا مثل قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُون} [العنكبوت: 14].

وقد أجمع أهل اللسان العربي أن العبرة في كلام المتكلم بظاهره وأن الاعتراض على الظاهر بمجرد الاحتمال غير مسموع كما أن قصد غير الظاهر من المتكلم دون قرينة تبين ذلك أو ترشد إليه يعد تعمية على المخاطب وتضليلا ولو اعتبر الاحتمال الوارد على الظاهر ولو كان ضعيفا للزم من ذلك ألا يستقر شرع ولا عادة إذ كل هذه الأمور مبنية على الغلبة إما في الاستعمال أو التجربة ولا لزم التوقف في الأدوية والأغذية والصناعات؛ لأن نفع الجميع غالب لا مقطوع به([6])

فإذا اتَّضح معنى الظاهر والفرق بين ظاهر اللفظة وظاهر السياق بقي لنا أن نبحث الظاهر في الصفات، وقد شاع في المتكلمين أن ظاهر الصفات يوهم المحالَ، والمقصود بالوهم في عرفهم هنا أنه يُفهَم منه المحال، وليس مرادهم الوهم بمعناه اللغوي، وهذا مفصَّل عندهم في تعارض الظواهر السمعية والقواطع العقلية([7]). والمحال عندهم هو التشبيه، فظاهر اللفظ القرآني في باب الصفات هو تشبيه الباري سبحانه، ومن ثم لزم تأويله أو تفويضه، وبناء على ذلك فإن النزاع هو في دعوى أن الظاهر يوهم التشبيه أو لا يفهم منه إلا ذلك، وها هنا مسلكان:

المسلك الأول: أن يدَّعِي الشخص أن ظاهرَ النصوص هو التشبيه، ثم ينفيه، فإنه مصيب في النّفي، مخطئ في الاعتقاد؛ فإن السلفَ لم يكونوا يطلقون الظاهر على آيات الصفات ويريدون المعنى الباطل.

المسلك الثاني: أن يريد بنفي الظاهر نفي ما أثبت الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ مدَّعيًا أن هذا هو التنزيهُ، فهذا خطأ شنيع ومنكرٌ من القول وزور، وهو استدراك على الله سبحانه وتعالى([8]).

والأولى في مثل هذه الأمور هو الاستفسار كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد؛ فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.

ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمّون هذا ظاهرا، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال.

والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:

تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.

وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل”([9]).

ولا يخفى عليك أن الإجمالَ الذي تكلَّم عنه شيخ الإسلام في لفظ الظاهر ليس من ناحية اللغة، وإنما من جهة الاستعمال، فحاصل الأمر أنه إن قصد بالظاهر المعاني الصحيحة فإن ظاهر النصوص مراد، وإن قصد بظاهر النصوص التشبيه الذي يليق بالمخلوقات وما إلى ذلك فإن هذا المعنى ليس مرادًا، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: إنه هو ظاهر النصوص, وهذا من طرق الرد على المخالفين الذين سمَّوه بظاهر النصوص, أي: فهموا فهمًا من التشبيه وسموه: ظاهر النصوص، ونقول: إنه يلزم على ذلك أن يقال: إن ظاهر القرآن كفر؛ لأن التشبيه نقص, والله منزه عن النقص، ومن نقص الله فقد كفر([10]).

وإذا تبين أن الظاهر لا يفهم منه التشبيه فإنَّ بقية الاستدلال في نفيه تكون محضَ تشنيع من القائلين بها؛ لأنهم قالوا بها بناءً على فهمهم لا على فهم صحيح مستقيم.

ومما يدل على أن الظاهر لا يفهم منه المحال أن جميع ما يردُّه هؤلاء من نصوص الصفات إنما ورد في مقام المدح والتنزيه، فمحال أن يرد في هذا المقام والسياق ثم يراد منه خلاف ظاهره، ومن ذلك قوله سبحانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 50]، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقةٌ، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض -أو: القبض- يرفع ويخفض»([11])، وقوله عليه الصلاة وسلام: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم، أنفِقْ أُنفِقْ عليك»، وقال: «يمين الله ملأى سحاء، لا يغيضها شيء الليل والنهار»([12]) .

فكل هذه الآيات وهذه الأحاديث مع توافرها وتواترها فإن القول بأن النصوص تتوارد على معنى باطل بحجم التشبيه ولا يعيِّن الشارع لها معنى صحيحًا تُصرَف إليه؛ فإن هذا من أشنع الباطل وأشدِّه، ولازمُه نفي الهداية عن القرآن، ونفي كونه بيانًا لما يختلف فيه الخلق؛ وهذه اللوازم كلُّها تُدين القائل بها قبل غيره.

وفي البحث عن مخارج منها دليل على أن القائل به لم تثبت له قدم في الاعتقاد، فلم يقل أحد من السلف: إنَّ ظاهر الصفات هو المعهود من نعوت الآدميِّين، بل أثبتوا لله ما أثبت لنفسه، قَالَ نعيم بن حَمَّاد شيخ البُخَارِيّ: “من شبَّه الله بخلقه فقد كفر، وَمن أنكر مَا وصف بِهِ نَفسه فقد كفر، وَلَيْسَ مَا وصف الله بِهِ نَفسه وَلَا رَسُوله تَشْبِيها”([13]).

وهذا من نعيم بن حماد ليس قولا عقديًّا فحسب، بل هو قاعدةٌ مجمع عليها في باب الصفات عند السلف، لا ينازع فيها إلا أهل الأهواء ومن يكيِّفون ثم يمثِّلون ثم يعطلون.

المبحث الثاني: الإثبات عند السلف هو عين ما يتلكم عليه السلفيون:

كثيرًا ما يتحدَّث بعضهم بمصطلحاتٍ أكبرَ من حجمه العلميِّ؛ فيقول: “مذهب السلف غير ما يقرِّره السلفيّون، والسلفيون شيء ومذهب السلف شيء آخر”، وهذا قد يكون حقًّا في حقِّ بعض السلفيِّين الذين يتكلمون دون رسوخٍ، لكن هذه الغيريَّة يشترك معهم فيها المتكلِّم ويفوقهم بعدم محاولَة معرفة مذهب السلف، فهو حين يَنفي عنِ السلفيِّين اتِّباع السلف فإنَّه ينسب للسلف أهل التأويل والتعطيل بحجَّة تحرير المذهب العقديّ، مع أنَّ المصطلح العقديَّ في الباب الذي يتكلَّم فيه يختلف فيه من يزكيهم عن السلف اختلافًا كليًّا باعترافهم، والحقيقة أن مذهبَ السلف لا يؤخَذ من صغار الطلبة ولا أتباع المتكلِّمين؛ وإنما العمدةُ في أخذه نقلُ العارفين بمذاهب السلف، وهذا النقل نوعان:

النوع الأول: نقل كلامهم في المسألة وتنصيصهم عليها، وهذا أحسنُه وأوثقُه.

النقل الثاني: النظرُ في كلامهم واستقراؤه، ونسبة المذهب بناء على ما فُهم من كلامهم وما تقتضيه قواعدهم؛ وهذا إن كان من عالم بكلامهم مطَّلعٍ عليه ولم يخالفه في ذلك أحد ممن نقَل عنهم فهذا النوع من النقل يمكن معرفة مذهب السلف من خلاله.

وعليه فإن من يدَّعى انبتات قومٍ من مذهب السلف واتصال آخرين به؛ فإنه قبل أن يضرب لله الأمثال ويهيم بكلّ واد عليه أن يعلم أنَّ النقل عنهم واتباعه في مظانه أولى من التخرّص والظنِّ، ومن نظر في نقل المعتنين بكلام السلف يجدهم يتواترون على معنى معيَّن وهو إثبات الصفات لله عز وجل كما أخبر، ونفيُ التشبيه عنه، ونفي التفسير القائم على اعتقاد التشبيه. ومن العارفين بمذهب السلف الإمام ابن عبد البر رحمه الله، فقد نقل اعتقادهم في الصفات فقال: “أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة”([14]).

وقال الترمذي بعد روايته لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره» الحديث: “وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهَّم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذا الحديث: أمرّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة…

وقال إسحاق بن إبراهيم([15]): إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو: مثل يد، أو: سمع كسمع، أو: مثل سمع. فإذا قال: سمع كسمع أو: مثل سمع فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تبارك في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]”([16]).

وقال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: “اتَّفق الفقهاء كلُّهم من الشرقِ إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الربِّ عز وجل، من غير تفسير ولا تشبيهٍ، فمن فسَّر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم لم يفسِّروا، ولكن أفتَوا بما في الكتاب والسنة ثم سكَتوا، فمن قال بقول جهمٍ فقد فارق الجماعةَ؛ لأنه وصفه بصفة لا شيء”([17]).

وقال عباد بن العوام: قدم علينا شريك بن عبد الله فقلنا: إنَّ قومًا ينكرون هذه الأحاديث: «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا» والرؤية وما أشبه هذه الأحاديث! فقال: “إنما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن في الصلاة والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله بهذه الأحاديث”([18]).

فهذه جملةٌ من النقل عنهم، تبيِّن مذهبهم، وكيف يفهمون الصفات، وكيف يتعاملون معها، ولن تجدَ في كلامهم صرفَها عن ظاهرها، أو اعتقاد التشبيهِ لله سبحانه، ولا أن في إثباتها تشبيهًا لله بخلقه، وهذا بالنسبة لاعتقادهم إجمالا في عموم الصفات والأخبار الواردة عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يردُّ دعوى المعترض. وفي المبحث الآتي نبين -بإذن الله- كلامهم فيها بالتفصيل، وأن عدم الجواب عن الكيف هو مسلك السلف، والسكوت عنه وقوف عند حدِّ العلم، وليس جهلا كما يدَّعي المعترض.

المبحث الثالث: جملة من كلام السلف في الصفات:

في هذا المبحث نردُّ على تقريرٍ طالما تبجَّح به أهل الأهواء، فيسأل أحدهم سؤالا مبناه على الكيف الذي هو غير معقول، فإذا توقَّف السنِّي في جوابه رفع عقيرتَه بأن مذهبَه قد انتصر، وأحيانًا يدَّعي أن سؤاله يقرِّر مذهب السلف، ونحن نبين أن هذه الأسئلةَ ليست من منهج السلف، ولا جاريةً على طريقهم، وهي أيضًا غير موضوعيَّة، فلو افترضنا أنَّ إنسانا علم بالقطع وجودَ الأسد، وأخبر عنه، لكنه لم يره، ولم ير له شبيها، فسأله سائل: هذا الأسد الذي تتكلَّم عنه هل يشبه الحمار أم يشبه الفيل أم الزرافة؟ فتوقف لأن علمه بالأسد علم نظريٌّ، والآخر يريد أن يبني على سؤاله إنكار وجود الأسد مطلقًا؛ لأن المخبر لا يعرف من حاله إلا أوصافَه النظرية، فهل ترون هذا موضوعيًّا؟! ولله المثل الأعلى.

هذا هو حال من يريدون طرحَ أسئلة الكيف وربطه بالمعنى من أهل الأهواء، وقد أثبت السلف رحمهم الله الصفاتِ للباري جل وعلا على الوجه اللائق به، ورأوا أن تفسيرها تفسيرًا يخالف مقتضى اللغة تحريفٌ، وأن التعمُّق في البحث والسؤال عنها بدعة، وقد نقل الإجماع على الإثبات عن السلف كثير ممن ألهى المتكلمين بهم التكاثر، ومنهم الإمام أبو الحسن الأشعريُّ، فقد قال في رسالة إلى أهل الثغر: “وأجمعوا على أنه عز وجل يسمَع ويرى، وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، من غير أن يكون جوارحًا، وأن يديه تعالى غير نعمته”([19]).

وَقَالَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين بن مُحَمَّد بن عابدين -صَاحب حَاشِيَة ابْن عابدين على الدّرّ الْمُخْتَار رحمهمَا الله تَعَالَى- فِي بحث المتشابهات: “ومن هذا القبيل الإيمان بحقائق معاني ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات؛ كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] و{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا» الحديث، ما ظاهره يفهم أن الله تعالى له مكان وجارحة، فإن السلف كانوا يؤمنون بجميع ذلك على المعنى الذي أراد الله تعالى وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن تطالبهم أنفسهم بفهم حقيقة شيء من ذلك، حتى يطلعهم الله تعالى عليه”([20]).

هذا، ناهيك عما في كتب الآثار كالشريعة للآجري والتوحيد لابن خزيمة وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ودونك أقوال الأئمة في الصفات بالتفصيل:

قال أبو حنيفة رحمه الله: “وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات، بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفات الله تعالى بلا كيف”([21]).

وقال ابن خزيمة: “فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما أثبت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله، ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله مبينا عنه عز وجل، في قَوله: {وَأَنزَلنَا إلَيكَ الذكرَ لتُبَينَ للناس مَا نُزلَ إلَيهم} [النحل: 44]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقا لبيان محكم التنزيل الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب”([22]).

وقال أيضا رحمه الله: “باب ذكر إثبات ضحك ربنا عز وجل بلا صفة تصف ضحكه جل ثناؤه، لا ولا يشبه ضحكه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جل وعلا؛ إذ الله عز وجل استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، مصدقون بذلك بقلوبنا، منصتون عما لم يبين لنا مما استأثر الله بعلمه”([23]).

وقال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي رحمه الله، فسمع رجلا من الجهمية يقول: {الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى} [طه: 5]! فقال القعنبي: “من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي”([24]). والمراد بالعامة: عامة أهل العلم.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الحافظ في كتاب “الرد على الجهمية”: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، سمعت حماد بن زيد يقول: إنما يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء إله -يعني الجهمية-، قلت: مقالة السلف وأئمة السنة بل والصحابة والله ورسوله والمؤمنون أن الله عز وجل في السماء، وأن الله على العرش، وأن الله فوق سماواته، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وحجتهم على ذلك النصوص والآثار. ومقالة الجهمية: أن الله تبارك وتعالى في جميع الأمكنة، تعالى الله عن قولهم، بل هو معنا أينما كنا بعلمه، ومقالة متأخري المتكلمين: أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش، ولا على السماوات، ولا في الأرض، ولا داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه، ولا متصل بهم. وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام، والله تعالى منزَّه عن الجسم، قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك، ونقول ما ذكرناه اتِّباعا للنصوص، وإن زعمتم.. ولا نقول بقولكم، فإن هذه السلوب نعوتُ المعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم، بل هو موجود متميِّز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه من أنه فوق العرش بلا كيف”([25]).

ويجلِّي ابن عبد البر -وهو العارف بمذهب السلف- قضيَّةَ نفي التكييف عند السلف فيقول: “وليس رفع التكييف يوجب رفعَ الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييفُ في الأزل؛ لأنه لا يكون كائن في لا مكان إلا مقرونا بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحًا في أبداننا، ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفيةِ الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفية على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه”([26]).

وقال أيضا: “الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه”([27]).

ويقول: “وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» عندهم مثل قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين} [الأعراف: 143]، كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجيء، بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء؟ ولا من أين تجلى؟ ولا من أين ينزل؟ لأنه ليس كشيء من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له، وفي قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين} دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليًا للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث التنزيل”([28]).

فهذا حاصل مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، واعتمادٌ على نصوص الوحي، فلا يحدّون الله بعقولهم، ولا يضربون له الأمثال، وقد نشأ الضلال عند كثير من الطوائف من جهة معارضة الوحي بالعقل، واعتقاد حاكمية الأخير على الوحي، وهذه المعارضة كما قال ابن القيم رحمه الله: “نتيجة جهلين عظيمين: جهل بالوحي، وجهل بالعقل.

أما الجهل بالوحي فإن المعارض لم يفهم مضمونه وما دل عليه، بل فهم منه خلاف الحق الذي دل عليه وأريد به، ثم عارض ما دل عليه بالرأي والمعقول، ونحن ننزل معه درجة، ونبين أن المعقول الذي ذكره لا يصلح لمعارضة المعنى الباطل الذي فهمه من الوحي، فضلا عن المعنى الصحيح الذي دل عليه الوحي، فإنه يستحيل أن يعارض معارضة صحيحة البتة، بل هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، والله تعالى هو الحق، وكلامه حق، ورسوله حق، ودينه حق، ووحيه حق، وما خالف ذلك فهو الباطل المحض الذي لا يقوم على صحته دليل، بل الأدلة الصحيحة التي تنتهي مقدماتها إلى الضروريات تدل على بطلانه.

وأما الجهل بالعقل فإنه لا يتصوَّر أن يعارض العقل الصحيح الوحي أبدا، ولكن الجاهل يظن أن تلك الشبهة عقلية، وهي جهلية خيالية من جنس شبه السوفسطائية، فالحاصل أنه إن عارض ما فهمه من النص بما هو الباطل كان جاهلا بالوحي ومدلوله، وإن عارض مدلوله وحقيقته التي دل عليها فهو جاهل بالعقل، فلا يتصور أن يجتمع لهذا المعارض علم بالوحي والعقل أصلا، بل إما أن يكون جاهلا بهما، وهو الأغلب على هؤلاء، أو بأحدهما، ولسنا ندفع معرفتهم ببعض العقليات المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وعباد الأصنام، بل ولا ندفع تبريزهم فيها وحذقهم بها، وإنما نبين بالبراهين الواضحة أنهم من أجهل الناس بالعقليات المتعلقة بأسماء الرب وصفاته وأفعاله، كما هم جهال بوحيه وبما جاءت به رسله، وقد نفى الله سبحانه السمع والعقل عمن أعرض عن رسله، فكيف بمن عارض ما جاؤوا به، وأخبر سبحانه أنه لا بد أن يظهر لهم في معادهم أنهم لم يكونوا من أهل السمع ولا من أهل العقل”([29]).

فغاية الأمر أن الإثباتَ لا يلزم منه التشبيه، والظاهر لا يحيل إلى المحال، ولا يمكن أن يفهم منه ذلك عند من سلم ذوقه وصحَّت قريحته وابتعد عن الشبهة، فإن الله يهديه لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، والمؤمن الحقّ من يفرح بالوحي ويطمئن إليه، قال سبحانه: {وَالذينَ آتَينَاهُمُ الكتَابَ يَفرَحُونَ بمَا أُنزلَ إلَيكَ وَمنَ الأَحزَاب مَن يُنكرُ بَعضَهُ قُل إنمَا أُمرتُ أَن أَعبُدَ اللهَ وَلا أُشركَ به إلَيه أَدعُو وَإلَيه مَآب} [الرعد: 36].

ولو كان ظاهر القرآن كما يدَّعي هؤلاء يوهم المحال لكان لقريش متمسَّك بذلك، وهم أهل اللسان العربي الذين يعرفونه ويتكلمون به، فحين صمتوا عن هذه الآيات ولم يعترضوا عليها ولا ادَّعوا أن ظاهرها ليس تنزيها ولا تعظيما؛ فإن ذلك يبين بجلاء أن لا مدخل للسان في فهم الظاهر على النحو الذي يدَّعي هؤلاء، والذي يدَّعي أنه لا يعقل من الصفات الخبرية إلا التشبيه، فإنه يجاب بأن هذا الحدَّ لا يختصَّ بالصفات الخبرية، بل هو في جميع الصفات، فماذا تعقل من الحياة؟ وماذا تعقل من السمع والبصر والعلم والقدرة؟ وكل جواب تخرج به من هذه الصفات يخرج به غيرك من باب ما تنكر؛ لأن الباب واحد، ومتعلَّقُه الباري، فالكلام فيه لا ينضبط إلا إذا سار على نهج واحدٍ، لا اختلالَ فيه، وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، والوقوف عند الحد الذي وقف عنده صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم عن علم وقوفوا، وببصر نافذ كفُّوا، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الفصل بين أهل الملل والنحل لابن حزم (2/ 132).

([2]) لسان العرب (4/ 105).

([3]) الإحكام للآمدي (3/ 52).

([4]) البرهان في أصول الفقه (1/ 152).

([5]) أخرجه مسلم (2599).

([6]) ينظر: المستصفى للغزالي (ص: 158)، والموافقات للشاطبي (2/ 150).

([7]) ينظر: أساس التقديس (ص: 104).

([8]) ينظر: خلاصة الوحيين في نقض منصة الحسين لفخر الدين أبي العالية المحسي (ص: 145)، مطبوع بهامش تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر.

([9]) التدمرية (ص: 69).

([10]) ينظر: شرح القواعد السبع ليوسف الغفيص (2/ 16).

([11]) أخرجه البخاري (6983).

([12]) أخرجه مسلم (993).

([13]) ينظر: العلو للذهبي (ص: 122).

([14]) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 221، 264، 5/ 87، 198).

([15]) وهو الإمام ابن راهويه.

([16]) سنن الترمذي (3/ 50).

([17]) ينظر: الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص: 219).

([18]) ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (8/ 185).

([19]) رسالة إلى أهل الثغر (ص: 128).

([20]) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص: 41).

([21]) الفقه الأكبر (ص: 24).

([22]) التوحيد (1/ 29).

([23]) المرجع السابق (1/ 563).

([24]) ينظر: العلو للعلي الغفار (ص: 166).

([25]) ينظر: المرجع السابق (ص: 143).

([26]) التمهيد (7/ 137).

([27]) المرجع السابق (7/ 120).

([28]) المرجع السابق (7/ 130).

([29]) الصواعق المرسلة (4/ 1208).

 

 

 

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017