الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

وقفاتٌ مع ليلة النصف من شعبان وما ورد في فضلها

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

الله سبحانه وتعالى يفَضِّلُ من الأشخاص والزَّمان والمكان ما يشاء، فهو {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، ويجبُ على العباد أن يفضِّلوا ما فضَّله الله واختصَّه، وأن يعطوه حقَّه، وأن يقوموا بما طُلب منهم تجاهَه، كما يجب عليهم أن لا يتجاوزوا الحدَّ الشَّرعي فيغلوا فيما فضَّله الله بما لم يأذَن به الله، كما أنَّ تفضيلَ الشارع لأمرٍ تفضيلًا عامًّا لا يعني تخصيص شيءٍ منه بعبادة خاصَّة دون دليلٍ شرعي، فتَفضيل الشيء يجب أن يكون من الشَّارع الحكيم؛ سواء في أصله، أو فيما يتعلَّق بهذا التَّفضيل من أعمالٍ أو أقوالٍ مخصوصة.

ويكثر خطأ الناس في هذا الباب، أعني: تفضيل ما لم يفضِّله الله ورسوله، وتخصيص ما لم يخصِّصه الله ورسوله، ومن ذلك ما يقع من كثيرٍ من الناس في شعبان عامَّة، وفي ليلة النصف منه خاصة، فقد انتشرت أحاديثُ عدَّة على ألسنة النَّاس ينبني عليها عدَّة أعمال تعبُّديَّة، ولا بدَّ للمسلم أن يعرف حكم تلك الأحاديث حتى لا يبني دينَه على نصوصٍ غير صحيحة، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فهل أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان صحيحة؟ وهل تُخصّ تلك الليلة بشيءٍ من العبادات لأجل تلك الأحاديث؟ هذا ما سنعرّج عليه سريعًا في هذا المقال، وذلك من خلال النقاط الآتية:

أولًا: ما صحَّ في شعبان:

جاءت نصوصٌ عديدةٌ تبيِّن صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان والحثّ عليه، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم يصوم حتَّى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان، وما رأيتُه أكثر صيامًا منه في شعبان([1]). وتقول: كان يصوم شعبان كلَّه، كان يصوم شعبان إلا قليلًا([2]).

كما أنَّ شهر شعبان شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ذلك شهرٌ يغفل النَّاس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم»([3]).

ثانيًا: النِّصف من شعبان وغفران الذُّنوب:

الأحاديث التي سبق ذكرها هي في شعبان عامَّة، وقد ورد حديثٌ في ليلة النِّصف من شعبان بالخصوص، وهو ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله ليطَّلع في ليلة النِّصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن»([4]). وهذا الحديث له روايات عديدة لا تخلو كلُّها من ضعف، وقد ضعَّف الحديثَ الدارقطنيُّ وقال عنه: “غير ثابت”([5])، وضعَّفه كذلك ابن الجوزي([6])، وحسَّنه آخرون بمجموع طرقه كالألباني رحمه الله([7]).

ثالثًا: ثبوت غفران الذنوب لا يقتضي عملًا خاصًّا:

الحديث السابق ضعَّفه عددٌ من العلماء بخصوصه، وضعَّفه آخرون بعموم قولهم: ليس في فضل ليلة النِّصف من شعبان حديثٌ صحيح، ومع هذا فإنَّنا إن قلنا بتحسينه كما يذهب إلى ذلك بعض أهل العلم فإنَّ الحديث يُثبت فضلًا خاصًّا لا ينبني عليه عملٌ خاص، فالحديثُ يدلُّ على أهمِّيَّة التَّوحيد وصفاء النُّفوس مع المسلمين حتى لا يكون بين اثنين شحناء وبغضاء، ولا يدلُّ على الأمر بعملٍ أو عبادة خاصَّة بليلة النِّصف من شعبان.

رابعًا: أقوال جملة من العلماء في أحاديث ليلة النصف من شعبان:

مرَّ فيما سبق أنَّ حديث غفران الذنوب في ليلة النصف من شعبان اختلف فيه أهل العلم، أمَّا ما عدا ذلك فقد نصَّ عددٌ من العلماء على أنَّه لم يصحَّ حديثٌ في تخصيص ليلة النّصف من شعبان بعبادة، ولا في فضلها.

يقول أبو بكر الطرطوشي (ت: 520هـ): “روى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال: ما أدركنا أحدًا من مشيختنا ولا فقهائِنا يلتفتون إلى النِّصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلًا على ما سواها. وقيل لابن أبي مليكة: إنَّ زيادا النميري يقول: إنَّ أجر ليلة النِّصف من شعبان كأجر ليلة القدر! فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته”([8]).

وقال ابن العربي (ت: 543هـ): “وليس في ليلة النِّصف من شعبان حديثٌ يعوَّل عليه؛ لا في فضلها، ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها”([9]).

وقال ابن دحية (ت: 633هـ): “وقد روى الناس الأغفال في صلاة ليلة النِّصف من شعبان أحاديث موضوعة وواحدا مقطوعًا، وكلّفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم… قال أهل التَّعديل والتَّجريح: ليس في حديث ليلة النِّصف من شعبان حديثٌ يصحّ، فتحفَّظوا -عباد الله- من مفترٍ يروي لكم حديثًا موضوعًا يسوقه في معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم”([10]).

خامسًا: مبدأ الأمر:

هذه النُّصوص التي مرَّت نصوصٌ عامَّة في عدم صحَّة شيءٍ من الأحاديث في تخصيص ليلة النِّصف من شعبان بشيء، وقد بيَّن ابن رجب رحمه الله أنَّ الاهتمام بليلة النصف من شعبان وبإحيائِها لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فقال: “وليلة النصف من شعبان كان التَّابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظِّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذَ النَّاس فضلَها وتعظيمَها، وقد قيل: إنَّه بلغهم في ذلك آثارٌ إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبِلَه منهم وافقهم على تعظيمها؛ منهم طائفة من عبَّاد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز؛ منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كلُّه بدعة”([11]).

ولاحظ قوله: “بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية”، ومهما يكن التَّحقيق في انتشار اعتقاد فضل ليلة النصف من شعبان من خلال آثار إسرائيلية إلا أنه يمكنا أن نُثبت أمرين:

1- أنَّ إحياء الليلة واعتقاد خصوصيتها هو بشيءٍ لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.

2- أنَّ عددًا من الأحاديث التي تنتشر على ألسنة الناس وضعَّفها العلماء فيها شبهٌ بالإسرائيليَّات.

سادسًا: النتيجة الأولى:

يظهر ممَّا سبق أنَّه لا يوجد حديثٌ صحيحٌ عن فضل ليلة النصف من شعبان إلا ما ورد عن غفران الذنوب فيها عند من حسَّن الحديث، ولا يوجد حديثٌ في إحياء الليلة، بل لم يكن معهودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وكل ما ورد في إحياء الليلة فهي ضعيفة، وسنورد طرفًا منها فيما يأتي، لكن قبل ذلك أودُّ التَّنبيه إلى أنَّ البحث هو في صحة الأحاديث في تخصيص ليلة النِّصف من شعبان بشيءٍ من العبادات، لا في فعل بعض التابعين، فالبحث ليس تاريخيًّا في إثبات الإحياء من بعض التَّابعين لها، ولكن في بيان صحة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من ضعفها.

سابعًا: ما لا يصح في شعبان:

تتناول الألسن والكتب أحاديث وآثارًا وفضائل كثيرة عن شهر شعبان لا تصح، ومن أكثرها تداولًا:

1- ما يروى أنَّ ليلة النصف من شعبان هي ليلة تقديرِ الله لكلِّ شيء، فيبدأ فيها الاستنساخ من اللوح المحفوظ، وينتهي الفراغ منه في ليلة القدر في رمضان، وتسلَّم نسخةُ الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب والزلازل لجبريل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل خازن السماء الدنيا، ونسخة المصايب لملك الموت([12]).

وحسبك في إنكار هذه الفضيلة لشهر شعبان أنَّهم لم يسندوها إلى أيّ نصٍّ شرعي من قرآن أو سنَّة، ولا حتى إلى قول صحابيٍّ أو تابعي، وإنَّما انتشر هذا في بعض التَّفاسير وكتب الوعظ، فلا قيمة لمثل هذه الروايات في الميزان العلمي، وهذه تشبه قول من يقول: إنَّ ليلة القدر هي ليلة النِّصف من شعبان، أو أنها هي المراد بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4]، يقول ابن العربي: “جمهور العلماء على أنَّها ليلة القدر، ومنهم من قال: إنَّها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} [البقرة: 185]، فنصَّ على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عبَّر عن زمانيَّة الليل هاهنا بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها، ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها”([13]).

2- الأحاديث الواردة عن قيامِ ليلتها وصيام يومِها، فهي ضعيفةٌ لا تصح، وذلك مثل حديث: «إذا كانت ليلة النِّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها»، أخرجه ابن ماجه([14])، وفيه ابن أبي سبرة، قال عنه الإمام أحمد: “كان يضعُ الحديث”([15]). وقال ابن الجوزي: “هذا حديثٌ لا يصح”([16])، وقال العراقي: “إسناده ضعيف”([17])، وكذا قال العيني([18])، فهو حديثٌ ضعيف جدًّا، بل ذكره بعضهم في الموضوعات([19])، وقال الألباني: “موضوعُ السند”([20]).

ومثل حديث: «من أحيا ليلتَيِ العيد وليلةَ النِّصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»، أخرجه ابن الأعرابي([21])، قال ابن الجوزي: “هذا حديثٌ لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه آفات، أمَّا مروان بن سالم فقال أحمد: ليس بثقة، وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك. وأمَّا سلمة بن سليمان فقال الأزدي: هو ضعيف. وأما عيسى فقال يحيى: ليس بشيء”([22])، وقال ابن حجر: “هذا حديثٌ منكرٌ مرسل”([23]).

3- الأحاديثُ الواردة في نزول الله ليلة النصف من شعبان أيضًا ضعيفة، مثل حديث: «إذا كان ليلة النِّصف من شعبان ينزلُ الربُّ تبارك وتعالى إلى السَّماء الدنيا، فيغفر من الذُّنوب أكثر من عدد شعر غنم كلب» أخرجه إسحاق بن راهويه([24]). قال ابن الجوزي: “قال الترمذي: لا يُعرف هذا الحديث، وقال: يحيى لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى، قال الدارقطني: قد روي من وجوهٍ وإسناده مضطربٌ غير ثابت”([25])، وقال الزَّيلعي: “قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحجاج، وسمعت محمدا -يعني البخاري- يضعف هذا الحديث، وقال: إن يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير”([26]).

ومثل حديث: «إذا كان ليلة النِّصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، فيغفر لعباده إلا ما كان من مشركٍ أو مشاحن لأخيه» أخرجه البزار([27]) وقال: “وهذه الأحاديث التي ذكرت عن محمد بن أبي بكر عن أبيه؛في بعض أسانيدها ضعفٌ، وهي عندي -والله أعلم- ممَّا لم يسمعها محمَّد بن أبي بكر من أبيه لصغره”.

ومثل حديث: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإنَّ الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدُّنيا، فيقول: ألا من مستغفرٍ لي فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه. ألا كذا؟ ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر» أخرجه ابن ماجه([28]). وقد تقدّم بيان وهائه.

وعلى كلِّ حال فإنَّ الأحاديث لا عمَل فيها، فحتَّى إذا قال أحدٌ بثبوتها أو العمل بها فإنَّ فيها خبرًا محضًا بنزول الله تعالى في ليلتها، والله سبحانه وتعالى ينزل كلَّ ليلة إلى السَّماء الدُّنيافي الثلث الأخير من الليل كما قال عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟([29]). ففي الأحاديث الصحيحة غنية عن العمل بالأحاديث الضَّعيفة بل الموضوعة، واعتقاد مزية لليلة النصف من شعبان من أجلها، يقول العقيلي: “وفى النُّزول في ليلة النِّصف من شعبان أحاديث فيها لين، والرِّواية في النُّزول في كل ليلة أحاديث ثابتة صحاح، فليلة النصف من شعبان داخلة فيها إن شاء الله”([30]).

4- الأحاديث التي فيها أنَّ شعبان شهرُ النَّبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: «شعبان شهري، ورمضان شهر الله، وشعبان المطهِّر، ورمضان المكفِّر» قال العجلوني: قال الألباني: “ضعيف جدًّا، رواه الديلمي عن هشام بن خالد: حدثنا الحسن بن يحيى الخشني، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة مرفوعًا. قلت: وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ الخشني هذا متروك كما مضى مرارًا، وتقدَّمت له بعض الأحاديث الموضوعة التي يستدلُّ بها على حاله… ويبدو لي أن هذا من موضوعاته”([31]).

ومثل حديث: «رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي» حكم عليه ابن الجوزي بالوضع([32]).

ومثل حديث: «وشعبان شهري، فمن عظَّم شعبان فقد عظم أمري، ومن عظم أمري كنت له فرطًا وذخرًا يوم القيامة» قال الألباني: “موضوع”([33]).

5- حديث: «خمس ليال لا تردُّ فيهنَّ الدعوة: أوَّل ليلة من رجب، وليلة النِّصف من شعبان، وليلة الجمعة، وليلة الفطر، وليلة النحر» أخرجه عبد الرزاق([34])، وفي إسناده ابن البيلماني لينه أبو حاتم وضعفه الدارقطني([35])، وفي السند جهالة فقد قال عبد الرزاق: “أخبرني من سمع البيلماني”. وحكم عليه الألباني: بالوضع([36]).

ثامنًا: النتيجة الثانية:

ما بني على باطل فهو باطل، وقد مرَّ بنا معظم الأحاديث التي يستدلُّ بها من يرى تخصيص ليلة النِّصف من شعبان بعبادة من العبادات المشروعة أصلًا؛ كالصلاة المعتادة والقيام المعتاد، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولا يمكن الاعتماد على تلك الأحاديث الضعيفة في اعتقاد مزيَّة للعبادة في تلك الليلة، فكيف بتشريع هيئةٍ خاصة لعبادة في ليلة النِّصف من شعبان؟! فإن هذا أكثر بُعدًا عن الشرع، وذلك مثل: تخصيص صلاة في ليلة النصف من شعبان بمائة ركعة، فإنَّها هيئة مبتدعة، يقول النووي: “الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة؛ وهاتان الصَّلاتان بدعتان ومنكران قبيحان، ولا يغترُّ بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما؛ فإنَّ كل ذلك باطل، ولا يغترُّ ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمَّة فصنف ورقات في استحبابهما فإنَّه غالطٌ في ذلك، وقد صنَّف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابًا نفيسًا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد رحمه الله”([37]).

كما ورد في هيئة تلك الصلاة عند البعض أنها تُقرأ في كل ركعة منها سورة الإخلاص عشر مرات، وكل هذا منكرٌ لا أصل له، يقول أبو شامة: “فأمَّا الألفيَّة فصلاة ليلة النصف من شعبان؛ سميت بذلك لأنها يقرأ فيها {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ألف مرة؛ لأنها مائة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة، وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأت فيها خبرٌ ولا أثرٌ إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتانٌ عظيم… وأصلها ما حكاه الطرطوشي في كتابه -وأخبرني به أبو محمد المقدسي- قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا في بيت المقدس رجلٌ من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام يصلي في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع، فما ختمها إلا وهم جماعة كثيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا”([38]). فهي صلاة مبتدعة محدثة حدثت في القرن الخامس ثم انتشرت.

وأخيرًا:

ما في الشريعة من فضائل صحيحة ثابتة فيها الغنية عن تتبع الأحاديث الضعيفة والفضائل المنحولة لأي زمان أو مكان، فإن الله قد أكرم هذه الأمة بفضائل كثيرة، والمطلوب من الإنسان أن يكون متبعًا للكتاب والسنة، وأن يعبد الله بما شرع، ففيه كل الخير والأجر العظيم، ولا يحتاج الإنسان مع كل الفضائل الموجودة في السنة الصحيحة إلى تتبع مثل هذه الأحاديث الباطلة وترويجها ونشرها والاعتماد عليها في عمله، والبدع تبدأ صغيرة ثم تنتشر وتكبر وتعظم حتى يُظن أنها السنة! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

([2]) أخرجه مسلم (1156).

([3]) أخرجه النسائي (2357)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1583).

([4]) أخرجه ابن ماجه (1390).

([5]) العلل الواردة في الأحاديث النبوية (6/ 51).

([6]) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 68).

([7]) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1653).

([8]) الحوادث والبدع (ص: 130).

([9]) أحكام القرآن (4/ 117).

([10]) ينظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة (ص: 35).

([11]) لطائف المعارف (ص: 137).

([12]) ينظر: تفسير الألوسي (13/ 112).

([13]) أحكام القرآن (4/ 117).

([14]) سنن ابن ماجه (1388).

([15]) ينظر: موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله (4/ 190).

([16]) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 71).

([17]) تخريج أحاديث الإحياء (ص: 240).

([18]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 82).

([19]) ينظر: الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، للكنوي (ص: 81).

([20]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (2132).

([21]) المعجم (2252).

([22]) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 72).

([23]) لسان الميزان (6/ 258).

([24]) مسند إسحاق (850).

([25]) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 66).

([26]) تخريج أحاديث الكشاف (3/ 262).

([27]) مسند البزار (80).

([28]) سنن ابن ماجه (1388).

([29]) أخرجه البخاري (1145).

([30]) الضعفاء الكبير (3/ 29).

([31]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (8/ 222).

([32]) الموضوعات (2/ 206).

([33]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (6188).

([34]) المصنف (7927).

([35]) ينظر: ميزان الاعتدال (2/ 551).

([36]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (3/ 649).

([37]) المجموع شرح المهذب (4/ 56).

([38]) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 34-35).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017