السلف وعشر ذي الحجة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
من أجلّ نعم الله تعالى على المسلم.. أن شرع له دينًا متنوع العبادات؛ فهو يتنقل بين العبادات البدنية كالصلاة، والعبادات المالية كالصدقة والزكاة، والعبادات الروحية كالخشوع والتوكل والخشية والإنابة، ثم شرع له مواسم للطاعات، وخصص له أوقاتًا للقربات، يزداد فيها المؤمن إيمانًا، ويتزود فيها من العبادات، ويجتنب فيها المعاصي والموبقات، ويبتعد عن الظلم والمفسِّقات، فجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل صوم الست من شوال كصوم الدهر، وعمل عرفة مباهًى به من الملائكة، وعظَّم أجر العمل في عشر ذي الحجة.
ومن تلك المواسم؛ عشر ذي الحجة التي دخلناها هذه الأيام، وفي هذه الورقة، سنبرز حال السلف في هذه العشر؛ فيقتدي بهم الفطن اللبيب والطالب لسيرهم وسنتهم.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
ما هي عشر ذي الحجة؟
عشر ذي الحجة: هي الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة، وقد خصَّها الله سبحانه وتعالى بالفضل، وأعظم فيها الأجر؛ ولذا كان السلف رضوان الله عليهم، يعظمون هذه الأيام، ويعمرونها بالصالحات، ويشمرون فيها عن ساعد الجد، ويستعيدون نشاطهم في أنواع العبادات ويوقظون هممهم في سبل الخيرات.
وهذا ما حكاه الإمام محمد بن نصر المروزي (249) رحمه الله، عنهم، رضوان الله عليهم، فذكر أن السلف “كانوا يعظّمون ثلاث عشرات:
-العشر الأول من المحرم.
-والعشر الأول من ذي الحجة.
-والعشر الأواخر من رمضان”([1]).
وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول عن حال السلف فيها: “كان يقال: في أيام العشر بكل يوم ألف، ويوم عرفة عشرة آلاف يوم -يعني في الفضل-“([2]).
وكان من السلف، من يتفرغ للعبادة في هذه الأيام، حتى إن منهم من ترك التحديث، ففي سؤالات الأثرم للإمام أحمد بن حنبل قال: “أتينا أبا عبد الله في عشر الأضحى، فقال أبو عوانة: كنا نأتي الجريري في العشر، فيقول: هذه أيام شغل، وللناس حاجات، وابن آدم إلى الملال ما هو”([3]).
وقد ترك لنا أئمة المحدثين من السلف رضوان الله عليهم، أجمل الصور في تعظيمهم لهذه الأيام الفاضلة، فكان منهم: من يتورع عن أبواب الجرح والتعديل؛ خشية الغلط فيها في أيام العشر خاصة، ويؤجل الحديث فيها إلى ما بعد انتهائها، يقول أبو حاتم الرازي: “أتيت يحيى بن معين، أيام العشر عشر ذي الحجة، وكان معي شيء مكتوب -يعني: تسمية ناقلي الآثار- وكنت أسأله خفيا، فيجيبني، فلما أكثرت عليه، قال: عندك مكتوب؟ قلت: نعم، فأخذه فنظر فيه، فقال: أياما مثل هذا!”([4]).
ولا غرو ولا عجب أن يعظموها والله سبحانه وتعالى، قد أقسم بها فقال عز من قائل: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 2]، والله سبحانه وتعالى إنما يقسم بالشيء؛ لعظمته وفضله، فأقسم هنا “بعشر الأضحى”([5]) وذلك يدل على فضلها وعظيم منزلتها عند الله سبحانه وتعالى.
وكيف لا يعظم السلف عشر ذي الحجة، وهم الوقَّافون عند قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن العمل فيها، أفضل من الجهاد في سبيله حتى تعجَّب منه الصحابة، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»([6]).
ورواية السنن، أكثر اشتهارًا بين الألسنة من هذه الرواية، وهي بلفظ: “ما مِن أيَّامٍ العَمَلُ الصالحُ فيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيَّامِ العَشْرِ، فقالُوا: يا رسولَ اللهِ: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلمْ يَرجِعْ من ذلكَ بشيْءٍ”([7]).
أم كيف لا يعظمه السلف، وفيه أفضل أيام الدنيا، وهو يوم عرفة؛ حيث يباهي الله بعباده ملائكته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟”([8]).
ومن أفضل أيام الدنيا: فيه أيضًا يوم النحر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أعظم الأيام عند الله، يوم النحر، ثم يوم القر”([9]).
ثم كيف لا يعظمه السلف، وقد امتلأت قلوبهم حبًّا وتعظيمًا وشوقًا إلى العبادة، وهذه الأيام قد حوت عامة العبادات المتنوعة؛ ففي هذه الأيام تجتمع أمهات العبادات، يقول الحافظ ابن حجر: ” والذي يظهر: أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”([10])
الجوانب العملية لتعظيم السلف لعشر ذي الحجة:
لم يكن الجانب النظري العلمي في انفكاك عن الجانب التطبيقي العملي في الفكر الإسلامي منذ عهوده الأولى، بل كان التطبيق والعمل، هو أول ما يبادرون إليه إذا تعلموا شيئًا، وعن حالهم هذا، يحكي أبو عبد الرحمن السلمي (74) رحمه الله، فيقول: “حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميعًا”([11]).
هكذا كان السلف رضوان الله عليهم، فلم يكونوا يخوضون في عوالم خيالية، ولم يكونوا يعمهون في الضلالات ويعملون بلا علم، بل كانوا يجمعون بين العلم والعمل، وفي ذلك بوب الإمام البخاري (256) رحمه الله: “باب: العلم قبل القول والعمل”([12])، وهكذا ما أن علم السلف رضوان الله عليهم، فضل عشر ذي الحجة وعظيم ثوابه، حتى بادروا فيها بما شرعه الله من أنواع الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة، يمكن تقسيمها إلى نوعين:
النوع الأول: الأعمال الصالحة التي ورد تخصيصها في هذه الأيام، ومنها:
- أداء فريضة الحج، فالحرص على أداء الحج؛ من أعظم الأعمال في هذه الأيام، فقد جاء في المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”([13])، وقد كان السلف، من أحرص الناس عليه، وعلى تصحيح النية فيه، وكان يحث بعضهم بعضًا على الظفر بهذا الفضل العظيم، ومن ذلك: حثُّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة بقوله: “شدّوا الرحال في الحج، فإنه أحد الجهادين”([14]) ، وخرج رضي الله عنه، ذات مرة، فرأى ركبا، فقال: من الركب؟ فقال: قالوا: حاجين، قال: ما أنهزكم غيره؟ ثلاث مرات، قالوا: لا، قال: “لو يعلم الركب بمن أناخوا، لقرّت أعينهم بالفضل بعد المغفرة، والذي نفس عمر بيده، ما رفعت ناقة خفها، ولا وضعته، إلا رفع الله له درجة، وحط عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة”([15])، وكان السلف: يعتبرون الحجاج والعمار، وفد الله، كما روي عن ذلك عن كعب رضي الله عنه قال: “وفد الله ثلاثة: الحاج، والعمار، والمجاهدون، دعاهم الله، فأجابوه، وسألوا الله، فأعطاهم”([16]).
- ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلاحظ هذه العبادة العظيمة في عامة العبادات، فالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج يلاحظ فيها هذا الأمر العظيم، ومن أعظم العبادات التي يلاحظ فيها التركيز على هذه العبادة؛ فريضة الحج التي تعتبر عشر ذي الحجة من أيامها وفي شهرها، فإذا تأمل المتأمل الآيات الواردة فيها وجد أن ذكر الله ملازم لها، يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27، 28]، فبين أن من أهم ما في أيام عشر ذي الحجة؛ ذكر الله سبحانه وتعالى -كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما([17])؛ وأنه من أهم ما في الحج([18])، وكذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]، فالله سبحانه وتعالى، يأمر الحاج هنا، بعد أن خرج من أعظم ساعات الذكر والدعاء، وهو يوم عرفة، أن يديم ذكره سبحانه وتعالى، يقول الإمام الطبري (310) رحمه الله: “واذكروا الله -أيها المؤمنون- عند المشعر الحرام= بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له، والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة= كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها”([19])، ثم أمر الله سبحانه وتعالى، بعد الفراغ من الحج كذلك، بالمداومة على ذكره سبحانه وتعالى([20]) فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 200، 201]، يقول ابن عبد البر (463) رحمه الله: “وفضائل الذكر كثيرة جدا، لا يحيط بها كتاب، وحسبك أنه أكبر من الصلاة”([21]) ، وهكذا كان السلف رضوان الله عليهم: يقيمون في هذه الأيام، ذكر الله سبحانه وتعالى بدءًا من أول شهر ذي الحجة، ويظهر ذلك في التكبير الآتي ذكره.
- التكبير، فقد كان السلف رضوان الله عليهم، تعجُّ أصواتهم بالتكبير، أيام عشر ذي الحجة حتى شبهها من عاينها بالأمواج البحرية الهائجة في الأسواق والطرقات من ارتفاع أصواتهم بالتكبير ولهجهم به، يقول الإمام البخاري (256) رحمه الله: “وكان ابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهما: يخرجان إلى السوق، في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما”([22])، “وكان عمر رضي الله عنه: يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا، وكان ابن عمر رضي الله عنهما: يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعا، وكانت ميمونة رضي الله عنها: تكبر يوم النحر، وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد”([23])، يقول ابن رجب (795) رحمه الله فيما ينقله: “عن ميمون بن مهران، قال: أدركت الناس، وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير”([24]).
- التهليل والتحميد، فقد ورد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيامٍ أعظمُ عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهنَّ، من هذه الأيام العَشْر، فأكْثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد”([25]).
- كثرة الدعاء، يقول ابن القيم (751) رحمه الله: “وكان صلى الله عليه وسلم، يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد، ويذكر عنه «أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد» ) وهذا وإن كان لا يصح إسناده، فالعمل عليه”([26]).
- الإمساك عن الأخذ من الشعر والأظافر لمن نوى أن يضحي، فقد ورد عند مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضّحي، فليمسك عن شعره وأظفاره”([27])، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن الحكمة من ذلك، هو التشبه بالمُحرم في الهدي؛ حيث يحظر عليه أخذ شيء من شعره وظفره([28]).
- الأضحية، وهي سنة ثبتت من قصة ذبح إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ثم أمره الله بأن يفديه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102 – 107]، وقد جاء في المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: “ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما”([29])، وعلى هديه، كان السلف رضوان الله عليهم، يسيرون وبسنته يستنون، يقول أنس رضي الله عنه: “وأنا أضحي بكبشين”([30])، بل إنهم كانوا يسمنون الأضاحي استنانًا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول يحيى بن سعيد “سمعت أبا أمامة بن سهل، قال: “كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون”([31]).
القسم الثاني: الأعمال الصالحة عمومًا، وهي كثيرة، ويدل لعموم فضل العمل فيها، الحديث الآنف الذكر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»([32])، فإن المقصود بهذا الحديث: أن “استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا، أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله”([33]) كما يقول ابن تيمية (728) رحمه الله، وينبه ابن رجب (795) رحمه الله، على ما هو أعظم من ذلك، حيث يقول: “إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة، كلها صار العمل فيه وإن كان مفضولًا أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلًا”([34]).
ومن أهم الأعمال الصالحة:
- إقامة الصلوات المفروضة والنافلة، والصلاة من أفضل العبادات وأجل القربات، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ فقال: “الصلاة على وقتها”([35])، وكان السلف رضوان الله عليهم: يحرصون على الإكثار من الصلوات في هذه الأيام، فكان سعيد بن جبير رحمه الله يقول: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر”([36]).
- الصيام، وهو من أفضل الأعمال الصالحة التي ثبت فضلها وعظيم منزلتها عند الله سبحانه، حيث جاء في المتفق عليه: “قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة”([37])، وقد ورد في فضل صوم يوم عرفة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده”([38])، وقد ورد عن السلف، الحرص على صيامها، وكان سعيد بن جبير يقول: “أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة”([39]).
- الصدقة، وفي فضلها، وردت الأحاديث والنصوص الكثيرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار”([40])، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول”([41])، وقد نص العلماء.. على استحباب الإكثار من الصدقة في هذه الأيام الفاضلة، يقول النووي (676) رحمه الله: “يستحب الإكثار من الصدقة عند الأمور المهمة، وعند الكسوف، والسفر، وبمكة، والمدينة، وفي الغزو، والحج، والأوقات الفاضلة كعشر ذي الحجة”([42])، وكان السلف رضوان الله عليهم.. من أحرص الناس على هذا الباب من أبواب الخير، كما ورد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أنه “حضر يوم عرفة، ومعه مائة رقبة، ومائة بدنة، ومائة بقرة، ومائة شاة، فقال: الكل لله”([43])
- قراءة القرآن، وفضائله عظيمة جمة، ومن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، والحسنات العظيمة التي ينالها القرآن، يصعب حصرها، ويكفيه أن له بكل حرف حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: “من قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”([44]).
- التوبة والاستغفار، يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ويقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]، والتوبة من أفضل الأعمال، وهذه الأيام الفاضلة محطة من محطات التوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
الخاتمة:
إذا تبين لك -أخي المسلم- فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة على غيره من الأيام، وأنها فرصة عظيمة يجب اغتنامها، فما أجمل أن تبادر فيها بالصالحات، وما ذكرناه من الصالحات في هذه العجالة إنما هي نبذ ونماذج، والأعمال الصالحة لا حصر لها، وكل عبد يتعبد الله بما يمكنه منها سواء إفشاء السلام، أو إطعام الطعام، أو بر الوالدين، أو صلة الأرحام والأقارب، أو الإحسان إلى الجيران، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو حفظ اللسان والفرج، أو كفالة الأيتام، أو زيارة المرضى، أو قضاء الحوائج، أو غض البصر عن محارم الله، أو خدمة الحجيج وضيوف الرحمن، فكلها من الأعمال الصالحة ولا يستثنى شيء من العمل الصالح، بل المبادرة إليه أولى، يقول ابن رجب (795) رحمه الله: “وقد دل حديث ابن عباس، على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها”([45]).
اللهم ما عبدناك حق عبادتك، ولا شكرناك حق شكرك، سبحانك اجعلنا من المقبولين المعظمين لشعائرك الوقافين عند حدودك الأوابين إليك.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، أحمد المقريزي (ص247).
([2]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 316).
([3]) سؤالات الأثرم لأحمد بن حنبل (ص: 35).
([4]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 317).
([5]) جامع البيان، الطبري (24/ 397)، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (8/ 390).
([7]) أخرجه أبو داود (2438) والترمذي (767) وابن ماجه (1727)، وأصله في البخاري كما سبق.
([9]) أخرجه أبو داود (1765) والنسائي في الكبرى (4083) وصححه الألباني.
([10]) فتح الباري لابن حجر (2/ 460).
([11]) جامع البيان ت شاكر (1/ 80).
([13]) متفق عليه، أخرجه البخاري (1773) ومسلم (1349).
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 133).
([15]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8802).
([16]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8803).
([17]) ينظر: صحيح البخاري (2/ 20).
([18]) ينظر: جامع البيان ت شاكر (18/ 610).
([19]) جامع البيان ت شاكر (4/ 183).
([20]) ينظر: جامع البيان ت شاكر (4/ 195).
([24]) فتح الباري لابن رجب (9/ 9).
([25]) أخرجه أحمد في المسند (5446) البيهقي في شعب الإيمان (5/ 312)، وصححه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (3/ 170)، وأحمد شاكر في المسند (5/ 68).
([28]) ينظر: حاشية السيوطي على سنن النسائي (7/ 212).
([29]) متفق عليه، أخرجه البخاري (5553) ومسلم (1966).
([30]) أخرجه البخاري (7/ 100).
([31]) أخرجه البخاري (7/ 100).
([33]) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 104).
([34]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 261).
([35]) متفق عليه، أخرجه البخاري (527) ومسلم (85).
([36]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 326).
([37]) متفق عليه، أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151).
([39]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 326).
([40]) أخرجه الترمذي (2804)، والنسائي في الكبرى (11335)، وابن ماجه (5/ 117)، وأحمد في المسند (22016)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (614).
([42]) المجموع شرح المهذب (6/ 237).
([43]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/ 50).