دفع شبهات الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه الجزء (1) أسباب قلة الرواية عند المقلين من الصحابة رضي الله عنهم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
إن حقيقة هذه الشبهة الطعن في السنة النبوية بالطعن في أكثر الرواة حديثًا في أجلّ طبقات الرواة وهم الصحابة، وهو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، وذلك بإبداء التعجب غير البريء من كثرة روايته للحديث مع تأخّر إسلامه وقصر مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وحقيقة ما قصده الطاعنون في أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يتعمَّد الكذب، لا مجرد كونه يقع في ما هو مظنّة الخطأ، وهو الإكثار.
يقول ابن الوزير: (وينبغي من كل مسلم صحيح الإسلام أن يعتبر عن سماع هذه الأكاذيب بأمور:
أحدها: أن ينظر هل هو يجترئ على تعمد الكذب على الله ورسوله، ثم يظن فيمن غاب عنه مثل ما يجد من نفسه.
وثانيها: أن ينظر لو يفترى عليه مثل ذلك وهو منه بريء كيف يكون ذلك العدوان عنده، فيحذر من مثله.
وثالثها: ينظر كيف قال تعالى في شأن أهل الإفك حين قالوا، وفي مصدقيهم حين صدقوه مع أنهم قالوا ذلك وهم يظنون صدقهم وحذقهم وفطانتهم فيما اختصوا بفهمه دون البلداء، والرمي بالزنى أهون من الرمي بتعمد الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العافية والسلامة)([1]).
ولا احتمال آخر عند الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه في جواب سؤال: كيف يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الأحاديث الكثيرة مع قصر مدة صحبته؟ إلا أن يكون قَدِرَ على ما لم يقدر عليه أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما من طلب العلم، فيكون أفضل الصحابة وأعلمهم، وهذا معلوم البطلان، فثبت -بزعمهم- بناءً على ذلك الطعن فيه.
يقول الفخر الرازي في تقرير ذلك: (وهو -أي: أبو هريرة رضي الله عنه- في نفسه ما كان زائدًا في الذكاء والفطنة على أبي بكر وعلي، ثم إنه روى ألفي خبر وأكثر، وهو نصف الصحاح، وهذا يدل على الطعن الشديد؛ لأنه لو قَدِر في تلك المدة القليلة على تحصيل هذه العلوم الكثيرة مع أن أبا بكر وعليًّا ما قدرا على عشر تحصيل تلك العلوم في المدة الطويلة، لوجب القطع بأن أبا هريرة كان أفضل منهما وأكثر علمًا منهما، ومعلوم أن ذلك باطل)([2]).
ولعل الرازي تلقَّف هذا من كتب الجهمية الذين ناقشهم الإمام الدارمي في النقض على بشر المريسي وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث كما سيأتي.
ونفي الملازمه بين الإكثار والأفضلية يبينه قول التابعي أبو صالح: (كان أبو هريرة رضي الله عنه من أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بأفضلهم)([3]).
وقد أتى أبو رية بنفس هذه الشبهة التي ذكرها الرازي في كتابه سيئ الذكر (أضواء على السنة المحمدية) لكن بصياغة جديدة فقال: (لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثَر من بعده لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلاهم درجة في الدين، وأثبتهم قدما في الإيمان، وأسناهم مرتبة في العلم، ولكان المقلون منهم في الرواية دون المكثرين في رتبة الدين، ووراءهم في درجة العلم والفضل، وخلفهم في منزلة الاعتبار، ولكنا نجد الأمر -على ما بدا في كتب الحديث المعروفة- قد جرى على خلاف ذلك! فإن أفضل الصحابة في المرتبة وأرفعهم في المنزلة وأوسعهم علما بالدين وأشدهم عناية به وأقواهم حياطة له الذين نيط بهم حمل أحكام الدين بما تلقَّوه عن أستاذهم الأكبر؛ كالخلفاء الراشدين والعشرة الذين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم قد مات وهو راض عنهم أو بشرهم بالجنة، وكبار المهاجرين والأنصار وغيرهم، كل أولئك كانوا أقل الصحابة تحديثًا عنه، وأنزرهم رواية، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أنه لم يرو عن الرسول حديثًا واحدًا)([4]).
وقد بين الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله بواعث الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه وأصناف الطاعنين فقال: (وإنما يتكلَّم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار:
إما مُعَطِّلٌ جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمُونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويهًا على الرّعَاع والسفل أن أخبارَه لا تثبت بها الحجة.
وإما خارجيٌّ يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام؛ إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافَ مذهبِهِم الذي هو ضلال، لم يجد حيلَةً في دفع أخبارِه بحُجَّةٍ وبرهان، كان مفزَعُهُ الوقيعة في أبي هريرة.
أو قدريٌّ اعتزَل الإسلام وأهلَه، وكَفَّر أهلَ الإسلام الذين يُثبِتون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها؛ إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر لم يجد حجة يؤيد صحة مقالته التي هي كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها.
أو جاهلٌ يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مَظانِّه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبَه وأخبارَه تقليدًا بلا حجة ولا برهان؛ تكلم في أبي هريرة، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه.
وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخبارًا لم يفهموا معناها، أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز وجل)([5]).
وكثير من الأحاديث التي يطعن فيها المبتدعة والمشككون لها شواهد من حديث غير أبي هريرة رضي الله عنه من الصحابة؛ فإنك إذا نظرت في عدد من الأحاديث التي طعنوا فيها، ستجد أنهم يردونها بتكذيب أبي هريرة رضي الله عنه، ثم إذا تتبعت وجدت أن الحديث لم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه، فيكون في ذلك إبطال لدعواهم.
وستكون مناقشة الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بسبب إكثاره من الرواية في هذه المحاور الثلاثة:
أولًا: أسباب الإقلال في الرواية عند المقلين من الصحابة رضي الله عنهم.
ثانيًا: أسباب إكثار أبي هريرة رضي الله عنه من الحديث.
ثالثًا: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إكثار أبي هريرة من الرواية.
وقد ثبت عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «اللهم حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ»، قال أبو هريرة: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أحبني([6]).
قال ابن كثير: (وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره من إيراد هذا الخبر عنه)([7]).
وأنا أرجو في ما كتبته في هذه الأوراق ما رجاه ابن الوزير حيث قال في دفاعه عن أبي هريرة بعد أن أورد هذا الحديث: (أرجو أن يكون حبي له وللذب عنه من ذلك إن شاء الله تعالى)([8]).
الجزء الأول
أسباب الإقلال في الرواية عند المقلين من الصحابة رضي الله عنهم
لا يخفى أن العبرة في حفظ السنة بحصول التحري والتوقي والتثبُّتِ من رُواتِها، وليس بإكثار الواحد منهم أو إقلاله، فالإكثار من رواية الحديث لا يلازم الكذب، ولا يلازم قلة التحري والتثبت، ولا يلازم السهو والخطأ، والإقلال منها لا يلازم الصدق ولا الضبط ولا العدالة.
ونحن نرى عادة العلماء في التصنيف مثلا في الأزمنة التي تلت القرون المفضلة متفاوتة، فمنهم المقل والمستكثر، ولم يكن الإقلال بمجرده دليلًا على الإتقان في التصنيف، ولا الإكثار بمجرده دليلا على العجلة والرداءة في التصنيف.
فالإكثار من الرواية لا يُذَمُّ لذاته، والدليل على ذلك يبينه الإمام أبو محمد ابن حزم بقوله: (وقولهم هذا داحض بالبرهان الظاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وهو أنه يقال لمن ذَمَّ الإكثار من الرواية: أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخير هي أم شر؟ ولا سبيل إلى وجه ثالث. فإن قال: هي خير، فالإكثار من الخير خير، وإن قال: هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قد أخذوا منه بنصيب، فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعملون به. أما نحن فلسنا نقر بذلك، بل نقول: إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كُلُّه.
وأيضًا فنقول لهم: عرّفونا حدَّ الإكثار من الرواية المذمومة عندكم لنعرف ما تكرهون، وحد غير الإكثار المستحب عندكم.
فإن حدّوا في ذلك حَدًّا كانوا قد قالوا بالباطل: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وقالوا بلا برهان وبغير علم.
وإن لم يجدوا في ذلك حدًّا كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة، إذ لا يدرون ما ينكرون، ولا يحسنون، وهذا هو الضلال، ونعوذ بالله منه)([9]).
ويقول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في شرحه لوجه نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الإكثار من التحديث: (ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون خيرًا أو شرًا: فإن كان خيرًا -ولا شك أنه خير- فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شرًا فلا يجوز أن يُتوَهَّم أنَّ عمر رضي الله عنه يُوصِيهِم بالإقلال من الشر. وهذا يَدُلُّك أنه إنما أمرهم بذلك خوفَ مُواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفَ الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه)([10]).
هذا، والطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بمجرد كونه مُكثرًا من الحديث يَلزَمُ منه الطعن في كل من أكثر من الحديث من الصحابة كأنس وابن عمر وعائشة وابن عباس وجابر رضي الله عنهم جميعًا.
فقد تفاوت الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عنه بين مقل ومكثر، مع توقيهم جميعًا في التحديث عنه حال الإكثار أو حال الإقلال.
والإقلال من التحديث له اعتبارات عديدة، منها أن يكون الصحابي يخشى من الوقوع في الكذب، أو لا يرى جواز رواية الحديث بالمعنى، أو يرى غيره قد كَفَاهُ، أو يكون قد نسي، أو أن يكون من عادته ألا يحدث بالحديث إلا إذا سئل، إلى غير ذلك مما يُعَدُّ بعضه اجتهادًا من الصحابي واختيارًا شخصيًّا، لا يُنكرُ على المخالف فيه.
فمن أسباب إقلال من أَقَلَّ من الصحابة رضي الله عنهم من الرواية:
السبب الأول: الإقلال من الرواية خشية الوقوع في الزلل والخطأ:
وقد ذكر هذا السبب عن جمعٍ من الصحابة في بيان امتناعهم عن الإكثار من التحديث.
فعن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ أَوْعَى أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَلَكِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([11]).
وجاء عن ابن الزبير رضي الله عنه قال: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ رضي الله عنه: إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ! قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([12]).
قال الحافظ ابن حجر: (الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر؛ لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار، إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببًا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من الإكثار الوقوعَ في الخطأ لا يُؤمَن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيرُه من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم، فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله عنهم)([13]).
وعن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: لَوْلَا أَنْ أَخْشَى أَنْ أُخْطِئَ لَحَدَّثْتُكُمْ بِأَشْيَاءَ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([14]).
وقد ذكر ابن عدي في الكامل هذا الخبر وخبر عثمان رضي الله عنه المتقدم في باب (من أقلل الرواية عنه مخافة الزلة)([15])، ويشكل عليه أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين، وقد يحمل ذلك على أن الإكثار والإقلال أمر نسبي. وبَوَّبَ ابن عدي أيضًا بابًا آخر بقوله: (من اختار قلة الحديث وذَمَّ طلبَه وكثرتَه طلبَ السلامة من الكذب)([16]).
كما بيَّنَ أبو الحسين البصري المعتزلي أن إنكار الصحابة رضي الله عنهم على أبي هريرة رضي الله عنه الإكثار من الحديث يرجع إلى هذا السبب، وهو الخوف من الزلل والخطأ، فقال: (إن قيل: أليس قد أنكرت الصحابة رضي الله عنها على أبي هريرة رحمه الله كثرة الرواية، ثم قَبِلَت أخباره؟ قيل: إنها لم تنكر عليه لقِلَّةِ ضبطه، لكن لأنَّ الكثرة يعرض فيها الاختلال والسهو، فاحتاطت بالإنكار عليه، وإن كان أهلًا لقبول أخباره)([17]).
وأخذ ذلك منه السيف الآمدي فقال: (وأما إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية فلم يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه، بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته وإن كان ذلك بعيدًا)([18]).
ومن إفلاس أبي رية أنه لجأ إلى بتر كلام الآمدي لدى الاحتجاج به فنقله هكذا: (وفي الإحكام للآمدي: أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته، وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط (كذا) الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته)([19]). فحذف منه ما لا يوافق مسلكه في جرح أبي هريرة بتعمد الكذب، وهو قوله: (فلم يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه) فقد قرر الآمدي براءته مما هو دون تعمد الكذب، وهو اختلال الضبط وغلبة النسيان، فبراءته رضي الله عنه مما رماه به أبو رية من تعمّد الكذب أحرى.
هذا، ومما يرجع إلى هذا السبب: أن يكون الصحابي لا يرى جواز رواية الحديث بالمعنى؛ كما جاء عن عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا إِذَا جِئْنَاهُ قُلْنَا: حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّا قَدْ كَبُرْنَا وَنَسِينَا، وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ)([20]).
وهذا الحديث ذكره ابن عدي في (باب من شدد من الصحابة الرواية عنه فرقًا من الكذب فيه، وقال: كبرنا ونسينا)([21])، وذكره الخطيب البغدادي في (الكفاية) في (باب ما جاء في رواية الحديث على اللفظ، ومن رأى ذلك واجبًا)([22])، وفي (الجامع) في (باب قطع التحديث عند كبر السن مخافة اختلال الحفظ ونقصان الذهن)([23]).
وهذا السبب في الحقيقة يعود إلى الخوف من الكذب؛ لأن من منع الرواية بالمعنى خشي من الوقوع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن قتيبة: (أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتَوَقِّي مَن أمسك؛ كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو النقصان؛ لأنهم سمعوه صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»)([24]).
والرواية بالمعنى واختلاف العلماء فيها مسألة معروفة في كُتُب المصطلح وكُتُب أصول الفقه، والقصد بيان صلتها بما نحن فيه من أسباب إقلال المقلين من الصحابة رضي الله عنهم، وقد استند بعض فقهاء الحنفية إلى هذا السبب في رد روايات أبي هريرة رضي الله عنه التي خالفت القياس ولم تعمل الأمة بها، يقول السرخسي: (ولعل ظانًّا يظن أن في مقالتنا ازدراء بأبي هريرة رضي الله عنه، ومعاذ الله من ذلك، فهو مُقدَّم في العدالة والحفظ والضبط، ولكن نقل الخبر بالمعنى كان مستفيضًا فيهم، والوقوف على كل معنى أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه أمر عظيم، فقد أوتي جوامع الكلم على ما قال: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي اختصارًا»، ومعلوم أن الناقل بالمعنى لا ينقل إلا بقدر ما فهمه من العبارة، وعند قصور فهم السامع ربما يذهب عليه بعض المراد)([25]).
وسيأتي مزيد بيان في رد استناد الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه إلى موقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله من مروياته.
السبب الثاني: أن يكون الصحابي لم يُحتَج إليه، وغيرهُ قد كفاه:
يقول إمام المغازي محمد بن عمر الواقدي: (إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يُحتَاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس.
وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يُقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها.
فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ حديثًا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم.
فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم.
وكل هؤلاء كان يعدّ من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم، مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني حارثة الأسلميين، وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه.
فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء، ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)([26]).
وجاء عن العلاء بن سعد بن مسعود قال: قيل لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: (ما بي ألا أكون سمعت مثل ما سمعوا، أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يُدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفيني، وأكره التزيد والنقصان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)([27]).
وهذا الحديث ذكِر فيه سببان:
الأول: أنه يرى منع الرواية بالمعنى، وهو ما ذكره بقوله: (وأكره التزيد والنقصان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولذلك أخرجه الخطيب في (باب ما جاء في رواية الحديث على اللفظ، ومن رأى ذلك واجبًا)([28]). وقد تقدم الكلام فيه.
الثاني: أنه يرى غيره من الصحابة قد كفاه، وقد بينه بقوله: (ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفيني).
وهذا السبب هو سبب قلة روايات كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين ماتوا قبل أن يُحتَاج إلى مروياتهم، كما تقدّم في كلام الواقدي.
فأبو بكر رضي الله عنه هو أفضل الصحابة وأعلمهم بإجماع أهل السنة، وهو أشدهم ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بهديه وسنته، وأذكاهم وأعقلهم، ومع ذلك فجميع من تقدم ذكرهم من الصحابة -ومنهم أبو هريرة- أكثر رواية منه.
ولم تكن قلة الأحاديث المسندة عن أبي بكر رضي الله عنه دليلا على أفضلية المكثرين من الصحابة عليه؛ لأن لإقلاله أسبابًا وملابسات واقعية.
يقول السيوطي في تقرير أعلمية أبي بكر رضي الله عنه بالسنة: (وكان -مع أعلميته بالقرآن- أعلمَهم بالسنة، كما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو، ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام من أول البعثة إلى الوفاة؟! وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم.
وإنما لم يرو عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل لقصر مُدَّتِه، وسرعة وفاتِه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو طالت مُدَّتُه لكثر ذلك عنه جدًّا، ولم يترك الناقلون عنه حديثًا إلا نقلوه عنه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحد منهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته، فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم)([29]).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فقد احتاج الناس إليه لامتداد عمره؛ حيث عاش إلى ما بعد سنة خمسين من الهجرة، وتوفي في عهد معاوية رضي الله عنه.
ولذلك فإن القول بأن إكثار أبي هريرة من التحديث يدل على أفضليته على أبي بكر رضي الله عنه، وأنه كان أعلم بالسنة منه يدلُّ على الجهل بتاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وإهمال الملابسات والظروف الواقعية لنقلهم للدين.
وقد تقدم قول الحافظ ابن حجر: (وأما من أكَثَر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله عنهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (2/ 58-59).
([2]) المطالب العالية من العلم الإلهي (9/ 206).
([3]) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 133)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (67/ 339).
([4]) أضواء على السنة المحمدية (ص: 167).
([5]) نقله الحاكم في المستدرك (7/ 400-401). ط. دار المنهاج القويم.
([7]) البداية والنهاية (11/ 366).
([8]) العواصم والقواصم (2/ 41).
([9]) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 135).
([10]) جامع بيان العلم وفضله (2/ 184).
([11]) أخرجه أحمد (469)، والطيالسي (80)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 354).
([14]) أخرجه أحمد (12763)، والطيالسي (2085) والدارمي (235، 236).
([15]) الكامل في الضعفاء (1/ 86).
([16]) الكامل في الضعفاء (1/ 128).
([17]) المعتمد في أصول الفقه (2/ 136). وانظر في نفي نسبة جرح المعتزلة لأبي هريرة رضي الله عنه بالكذب: الفصول في الأصول للجصاص المعتزلي (3/ 130)، والعواصم والقواصم لابن الوزير (2/ 53-55، 3/ 149).
([18]) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 76).
([19]) أضواء على السنة المحمدية (ص: 179).
([20]) أخرجه أحمد (19304، 19305، 19324)، وابن أبي شيبة (26628) -وعنه ابن ماجه (25)- والطيالسي (676)، والطبراني في الكبير (4978)، وابن عدي في الكامل (44، 45)، والخطيب في الكفاية (519) والجامع (2/ 305).
([21]) الكامل في الضعفاء (1/ 112).
([22]) الكفاية في معرفة أصول علم الرواية (1/ 391).
([23]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 305).
([24]) تأويل مختلف الحديث (ص: 92).
([26]) ينظر: الطبقات الكبرى (2/ 376-377).
([27]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (60)، والخطيب في الكفاية (520).