الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (3) نصيحة لطلاب العلم، ولمن لا يعرف جناية علم الكلام

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

الذي بعثنا أن نتحدث عن الأشاعرة ومخالفتهم لأهل السنة والجماعة، أن بعضهم أراد أن يجعل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، وأن يُقلل من الخلاف الذي بين أهل السنة وبينهم، وأنه خلاف صوري ليس حقيقيًّا، ولا يلزم منه تبديعهم.

وهذا ما زعمه أحدهم مع أنه ممن يشتغل بعلم الحديث، وهذه مشكلة؛ فهو لا يدري عن خطورة علم الكلام!

وعلم الكلام هو الذي حذّرَ منه أهل العلم، فقال الإمام الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.

فهذه عقوبتهم عند الإمام الشافعي.

وقال الإمام أحمد: لا يُفلح صاحب كلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل([1]).

وإمام الحرمين الجويني كان من علماء الكلام، إلا أنه تراجع في آخر حياته، وقال: قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألف، وخضت في الذي نهى أهلُ الإسلام عنه، وحذّر من علم الكلام: ” إياكم وعلم الكلام”، وقد تمنى أن يموت على عقيدة عجائز نيسابور.

وجناية علم الكلام على أصحابه: أنه يبث الشكوك، ولذلك تمنى أن يموت على عقيدة العجائز، كما ورد عنه في سيرته.

وكذلك ما كان من الفخر الرازي: “قال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطّوغاني مرّتين، أنه سمع فخر الدّين الرّازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى”([2]

وإذا كان هؤلاء المتكلمون تراجعوا عن مذهبهم، فهذا الجويني في (رسالته النظامية) يمنع من التأويل، وقد كان قد أوجبه في (الإرشاد).

وكذلك أبو الحسن الأشعري الذي ينتسبون إليه يُقرر إثبات الصفات كما في كتابيه (الإبانة ومقالات الإسلاميين)، ويبين صحة مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث بعد أن ذكر أقوال الناس وموقفهم من الصفات.

وبعد هذا تتعجب من بعض المنتسبين إلى الحديث، كيف يقلل من الخلاف بين أهل السنة وبين الأشاعرة، وهذا أمر جد عجيب وغريب!!

والمقصود: أن نربي الناس على تعظيم الكتاب والسنة وأخبار الله تعالى.

فأنت الآن بين مذاهب متعددة؛ فيما يجب لله وما يجوز وما يمتنع، فلاسفة ومتكلمون من معتزلة وأشاعرة، وبين كلام ربنا سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يتخيل إنسان مؤمن أن الله تعالى وهو الذي ينزه نفسه عن صفات النقص والعيوب، ويشتد نكيره تعالى على النصارى الذين نسبوا إليه الولد، واليهود الذين قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء)، والذين قالوا:(يد الله مغلولة) فرد عليهم في القرآن، وبين ضلالهم فساد عقيدتهم.

وبهذا يتبين لنا أن القرآن لا يمكن أن يسكت عن صفات النقص، فلو كان وصف الله تعالى بما جاء في القرآن من الصفات التي لا يثبتها المتكلمون لا تليق بجلال الله تعالى وتستحيل في حقه لما ذكرها القرآن، والله تعالى أعلم بنفسه منا، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم بالله تعالى من الأشاعرة والمعتزلة.

وهذا الذي يجب أن يُربى الناس عليه، أن نقبل ما وصَفَ الله تعالى به نفسَه أو وصفَه به رسولُه؛ لأنه لا يمكن أن يصف الله تعالى نفسَه بصفات النقص والعيوب، قال تعالى:(سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) فأوصاف الآخرين نزَّه الله تعالى نفسه عنها، وأثبت لنفسِه صفاته وأسماءه، وذكر صحة مذهب الأنبياء والرسل.

فهذا الذي ينبغي أن ندعو إليه ونربي الناس عليه، بأن نقبل أخبار الله تعالى، وقد تعبدنا الله تعالى بالقرآن وتدبره، فليس تدبره أن نؤوّله أو نردّه.

وخلاصة موقف المتكلمين من النصوص التي تتعلق بذات الله تعالى وصفاته التي لا يثبتونها: أنها إن جاءت في القرآن أوّلوها، وإن جاءت في السنة ردّوها، بحجة أنها من أخبار الآحاد، وهذا شيء مشهور عنهم. وهذا منهج باطل غير مقبول.

 

ولذلك تراجع طائفة من المتكلمين كالجويني حيث نص على هذا، ودعوا الناس إلى قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإذا اشتبه على الإنسان أمر، فليَكِل أمره إلى الله تعالى لكن لا يرده، ولا يدّعي أن ذلك مستحيلا في حقه تعالى. 

وعليه: فإنك لتعجب ممن ينتسب إلى أهل الحديث، ثم هو يهوّن من علم الكلام، ويهوّن من الخلاف الذي بين أهل السنة والحديث وبين الأشاعرة. وهذا إن كان عالمًا بذلك فهو يغشّ الناس، ويعطيهم عقائد فاسدة مُهلكة، وإلا فواجب طالب العلم أن يدعو الناس إلى ما ينجيهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق:(كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

فعلى طالب العلم أن يبين للناس هذه الحقيقة، ومن خرج عن الكتاب والسنة وردّهما لا يكون من الفرقة الناجية، ولكن لا بأس بالتلطف واللين في البيان والنصح (وقولا له قولا لينا) هذا لا بأس به، لكن لا يقلل من هذا الخلاف ويجعله خلافًا صوريًّا أو اجتهادًا مقبولا؛ لأن الاجتهاد في مقابل النص غير مقبول أبدا، فإذا قال الله تعالى:(وكلم الله موسى تكليما) فيأتي متكلم ويقول: لا، الله لا يتكلم، وهذه صفة مستحيلة في حقه، فهذا كلامه ساقط وباطل.

وعندما يقول: (وجاء ربك والملك صفا صفا) ثم يأتي متكلم ويقول: لا، المجيء على الله مستحيل، فكيف صفة على الله تعالى مستحيلة يطلقها على نفسه.

فالمقصود: أنه يجب أن نربي الناس على أن معرفة الله تكون بالكتاب والسنة (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) أي شيء يأتينا به الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، ونقابله بالقبول والتسليم، هذا الذي يجب أن نربي الناس عليه، ولا نقلل من شأن الكتاب والسنة. فالمتكلمون لهم جناية عندما قللوا من قيمة الكتاب والسنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) جامع بيان العلم وفضله (2/942).

([2]) شذرات الذهب (7/41).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017