السبت - 18 شوّال 1445 هـ - 27 ابريل 2024 م

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (2)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

فقد ذكرنا في المقال السابق، أن المتكلمين يُوجبون النظر، ويُوجبون نظرا محددا، وليس مطلق النظر وفي مطلق الأوقات، كما هو الواقع في دعوة القرآن، الذي يدعو إلى النظر والتأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض في كل وقت وحين.

فدعوة القرآن إلى التفكر والنظر واضحة بيّنة، وهي من أجل العبادات؛ لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه، وزاد يقينه، يقول العلامة ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة (1/183):” قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة. فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والاخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الانابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور. وبالجملة، فأصل كل طاعة إنما هي الفكر.”[1].

 فهذا هو النظر الصحيح الموصل إلى الله تعالى، بخلاف النظر عند المتكلمين، الذي يحدّونه بوقت معلوم، وطريق مرسوم، يرونه الطريق الموصل إلى إثبات وجود الله تعالى. وسبق أن بيّنا أن المتكلمين يُوجبون النظر، ويقولون: إنه أول واجب على المكلف، وهم بهذا لا يقبلون ما عليه الناس من الإيمان بالله تعالى؛ لأنه ليس هو الإيمان المطلوب، ويعدونه تقليدا. وقد بيّنا خطأهم في هذه المسألة.

والمتكلمون حين أوجبوا النظر، أرادوا نظرا معينا في إثبات وجود الله تعالى، وذكروا فيه دليل الحدوث، وأنه يقوم على ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: أن العالم حادث.

والمقدمة الثانية: أن الحادث لا بد له من مُحدِث.

والمقدمة الثالثة: أن العالم لا بد له من محدِث أحدثه، وهو الله تعالى، فالمحدِث فاعل مختار، لا علة ولا طبيعة.

وهذه المقدمات صحيحة في ذاتها، فإذا كان كذلك، فأين الإشكال في كلام المتكلمين؟ الجواب: أن الإشكال يكمن في طريقتهم في إثبات حدوث العالم؛ وذلك أنهم يُثبتون حدوث العالم بطريق الجواهر والأعراض.

وبيانه: أن الأجسام في هذا العالم مكونة من الجواهر الفردة، والجوهر لا يخلو عن الأعراض من الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، فهذه أعراض والجوهر لا يخلو عنها، فكل جوهر لا بد له من حركة أو سكون، واجتماع أو افتراق. وهذه الأعراض حادثة ولا يخلو عنها الجوهر، والجوهر هو المكوّن للأجسام، فصارت الأجسام حادثة؛ لأن الجوهر المكون للأجسام لا يخلو عن الأعراض الحادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

إذن: قال المتكلمون في دليل حدوث العالم:

العالم يتركب من أجسام وأعراض، وهذه الجواهر إما كانت مجتمعة فتفرقت، أو متفرقة فاجتمعت، وهذه الحركة أعراض تقوم بالجسم، والأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا يخلو من الأعراض فهو حادث. ومعنى حدوثها: أنها ليست قديمة، بمعنى: أن الحركة لم تكن موجودة ثم طرأت، فالعرض هو التغير من سكون لحركة، ومن حركة لسكون؛ لأنه لو كان قديما لم يلحقه عدم، ولكن الأعراض تُرى حادثة، والجسم لا يخلو منها؛ لأنه يستحيل عندهم أن يخلو جسم من عرض.

وبمجموع هذه الأدلة توصلوا إلى أن العالم حادث، وأن الحادث لا بُد له من مُحدِث لا مثيل له، ليس من جنس هذه الحوادث، واستحدثوا القانون الذي نفوا به كثيرًا من الصفات الخبرية، والاختيارية التي تتعلق بمشيئة الله تعالى؛ كالمجيء، والنزول، والكلام بحرف وصوت، وهو: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فأردوا تطبيق هذا القانون، فجعلوه حاكما على النصوص، ونفوا الصفات، وتأولوا كثيرا منها.

وجهد المتكلمون لإثبات حدوث العالم ردا على الفلاسفة القائلين بقدمه. ومعلوم أن الفلاسفة يرون أن هناك أشياء قديمة مع الله تعالى، فيرون أن المادة قديمة، وأن العالم قديم، ومع ذلك فهو ممكن حسب كلام ابن سينا، وهو تناقض منه.

وحين أراد المتكلمون إثبات وجود الله تعالى، رأوا أنه لا يُمكن إثباته إلا بعد إثبات حدوث العالم؛ ردا على الفلاسفة الذين قالوا بقدمه، فإذا ثبت حدوث العالم، قالوا: احتاج الحادث إلى مُحدِث، فيثبتون وجود الله تعالى بعد ذلك.

ويزيد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر وضوحا، فيقول في مجموع الفتاوى (16/267):” والطريق المشهورة عند المتكلمين هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام. وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع وأنها مخالفة للشرع والعقل. وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع لكن لا يعلم فسادها في العقل. وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع وأنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد بين فساد هذا في غير موضع. والمقصود هنا أن طائفة من النظار مثبتة الصفات أرادوا سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق. فاستدلوا بخلق الإنسان لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية؛ بل جعلوه مستدلا عليه. وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة. وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها ليس هو إحداث عين. فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق. ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا: إن له خالقا. واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة. إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى فلا تخلو عن اجتماع وافتراق وهما حادثان. فلم يخل الإنسان عن الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعري في اللمع في الرد على أهل البدع وشرحه أصحابه شروحا كثيرة. وكذلك في رسالته إلى أهل الثغر.”.

والإشكال أن هؤلاء المتكلمين الذين استدلوا بخلق الإنسان، ظنوا أن طريقتهم موافقة لطريقة القرآن، يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (16/269):” لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنا أن هذه طريقة القرآن. وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض لا حدوث جواهر. وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزرع والثمر والإنسان والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها. وزعموا أن أحدا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا. فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض. ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا بنوه على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض. وجمهور العقلاء من السلف وأنواع العلماء وأكثر النظار يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان كما دل على ذلك القرآن. ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشرعا وهي مكابرة للعقل. فإن كون الإنسان مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس. وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن وأن عينه حدثت.”. وهذا يُبيّن مدى المفارقة بين طريقة القرآن وطريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى.

ولقائل أن يقول: قلتم: إن مقدمات دليل الحدوث عند المتكلمين صحيحة، وأنها تُوصل إلى إثبات وجود الله تعالى، فما الفرق بين طريقتهم وطريقة السلف في إثبات وجود الله تعالى؟ والجواب: أن علماء السلف يرون أن حدوث العالم أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل الجواهر والأعراض، الذي كان من جنايته رد النصوص المحكمة، فالسلف أثبتوا وجود الله تعالى بالمشاهدة. فالعالم فيه حوادث كثيرة، فنحن نشاهد نزول الأمطار، وإنبات الأشجار، وولادة الحيوانات وموتها، كل هذه الأمور حادثة ممكنة ليست واجبة، فإذا نظر العقل لهذه الأمور الحادثة الممكنة، قرر أن لها مُحدِثا فاعلا مختارا، وهو الله تعالى.

ومما يرد كلام القائلين بقدم العالم، ما يُعرف بنظرية الانفجار العظيم الذي يُثبته بعض العلماء، فهي تُؤكد أن العالم حادث وليس قديما كما يزعم الفلاسفة وينصر هذه المقالة، وهي حدوث العالم، كيف لا، ونحن نشاهد حدوثه وإمكانه، فهو ليس واجبا، بل حادث ليس بقديم، وهو محتاج إلى خالق يُوجده، وهو الله تعالى.

فهذا هو الدليل الذي يذكره علماء السلف يمتاز باليسر والسهولة، بخلاف دليل المتكلمين الذي يتسم بالتعقيد والصعوبة، ومما يُبيّن ذلك ويدل عليه: أن المتكلمين استندوا لإثبات المقدمة الأولى، وهي (أن العالم حادث) إلى خمسة أمور ذكرها الجويني في كتابه الإرشاد (23) وذكرها غيره، وهذه الأمور التي تحتاج لإثبات هي: (إثبات الأعراض – إثبات حدثها – إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض- إثبات استحالة حوادث لا أول لها – إثبات أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث)، وكل واحد من هذه الأمور بحاجة إلى دليل لإثباته، ثم بعد ذلك يقيمون الدليل على إثبات صحة المقدمة الثانية، وهي ( كل حادث لا بد له من محدث) وبعد ذلك تكون المقدمة الثالثة: إذا تبين افتقار المحدَث إلى محدِثٍ رجح وجوده على عدمه، فهذا المحدِث لا بد أن يكون فاعلا مختارا، ليس بعلة ولا طبيعة. فهذا هو الدليل الذي يُثبتون به وجود الله تعالى، ويُوجبون على المكلف إثبات الله تعالى عن طريقه.

فهذا الدليل صعب التصور؛ فإن المستدَل عليه وهو إثبات وجود الله تعالى أوضح وأبين من ذات الدليل، فضلا عن جناية هذا الدليل على النصوص بالرد والتأويل.

ومما يعيب هذه الطريقة:

1- أنها مباينة لطريقة السلف، وفي هذا يقول الإمام السمعاني في كتابه الانتصار لأهل الحديث (60):” وعلى أننا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين وثلج الصدر وسكون القلب وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها لا منقولا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الصحابة وكذلك من التابعين بعدهم.” وقال أيضا في الكتاب ذاته (71) ” وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا في طريق تواتر ولا آحاد فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم.”.

2- أن أصل هذه الطريقة مأخوذة عن المعتزلة، وفي ذلك يقول أبو جعفر السمناني نقله الحافظ ابن حجر عنه في فتح الباري (13/349):” وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا وقال إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه وأنه لا يكفي التقليد في ذلك.”.

3- أن فيها اضطرابا عند المتكلمين، ولذلك لم يسقها بعضهم، بل نازعهم فيها غيرهم. وقد ذكر شيخ الإسلام سبب عدم سوق الأصبهاني دليل الحدوث عند المتكلمين، فقال في شرحه لعقيدته (1/366):” وها المصنف لم يذكر حدوث العالم في هذه العقيدة؛ وكأن ذلك لما رأى فيها من الاضطراب، لا سيما فيما عنده من طريقة الرازي وأمثاله؛ فإن كلامهم فيها يوجب الحيرة والشك. أو لاعتقاده أن ما ذكره من الطريق إلى إثبات الصانع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم؛ فيمكن مع ذلك العلم به من جهة السمع، كما يقول ذلك طوائف من النظار، كما هو قول الرازي وغيره.”.

4- ما ترتب عليها من لوازم باطلة، وقد ذكر شيخ الإسلام شيئا منها، فقال في شرح العقيدة الأصبهانية (1/370):” وهؤلاء أخطؤوا من وجوه: منها: دعواهم أن الرب تعالى لا يعرف إلا بهذه الطريقة. ومنها: دعواهم أنها أول واجب على العباد. ومنها: التزامهم للوازمها؛ كنفي الصفات والأفعال، أو رؤية الله، أو غير ذلك من اللوازم المبسوطة في غير هذا الموضع.”.

وأما المقدمة الثالثة: وهي أن العالم لا بد له من محدِث أحدثه، وهو الله تعالى، فالمحدِث فاعل مختار، لا علة ولا طبيعة، فهذا مما لا خلاف فيه، ويردون به على الفلاسفة الذين يقولون بأنه علة أو طبيعة.

ومعلوم أن العلة يجب تقارن معلولها، والعلة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة لزم قدم المعلول وهو العالم، والشأن أن العالم حادث ليس بقديم، وإن كانت حادثة افتقرت إلى محدِث، وهذا يُؤدي إلى التسلسل الممتنع.

وأما الطبيعة فلا اختيار لها، فهي تفعل بطبيعة فيها، ولذلك لا تُميز بين شيء وآخر؛ كالنار، من طبعها الإحراق، فإحراقها طبيعة؛ لأنها تحرق كل شيء يلامسها ولا تُميز بين أن يكون الملامس قرآنا أو كتاب كفر، ولا تُميز بين صغير وكبير، ولا بين ثمين وغير ثمين، بل تحرق الجميع؛ لأن طبعها الإحراق، وهكذا الماء، فإن طبعه الإرواء، ولا يُميز بين شخص وآخر.

ولكن حين تنظر إلى الكون تجد فيه التمييز والتخصيص؛ ليل ونهار، شمس وقمر، ذكر وأنثى، صغير وكبير، وهذا التمييز والتخصيص لا يمكن أن ينتج عن طبيعة، بل عن فاعل مختار، هو الله تعالى.

والمقصود: أن طريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى مع صعوبتها، أنتجت قانونا ظنوا أنه بديهي، وجعلوه حاكما على النصوص، فردوا كثيرا منها؛ زعما أنها تتعارض مع هذا القانون.

فالقانون ينص: على أن الجسم لا يخلو من الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا يخلو من الأعراض فهو حادث، فالأجسام حادثة ليست قديمة.

ونقصد بالقانون: هو قولهم: (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) فجعلوه مسألة يقينة مقطوع بها، وبها حكموا على نصوص الوحي من القرآن والسنة، فمنعوا كثيرا من الصفات الفعلية والاختيارية، وأنها تقوم بالله تعالى.

وتطبيق القانون على وجه الإجمال: كان هذا القانون مسلطا على نصوص الصفات الاختيارية والخبرية؛ فجعلوا أي صفة يلزم منها الجسمية، كاليد، والعين، والمجيء، والنزول، والكلام بحرف وصوت، مردودة حتى لا يُقال: إن الله تعالى حادث، وهذا كلام باطل لا دليل عليه.

إذن: فمنعوا اتصاف الله تعالى بأي صفة فيها حدوث؛ كالاستواء كان بعد خلق السموات والأرض فيمنعونه؛ لأنه حدوث عندهم يُخالف قاعدتهم ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وكذا في بقية الصفات التي تدل على الحدوث؛ كصفة المجيء والنزول والكلام بحرف وصوت، نفوها عن الله تعالى، ومنعوا قيامها به تعالى؛ لأنها تخالف قانونهم العقلي وهو: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

وهذا الدليل العقلي، هو مقصودهم في القانون الكلي المُستحدث في تعارض العقل والنقل، فيقصدون هذا العقل لا مطلق العقل، وهذا الدليل لا مطلق دليل، وهو دليل حدوث العالم الذي أثبتوا به حدوث العالم، فأساس الرسالة عندهم هو هذا الدليل، فأرادوا بالعقل: دليل حدوث العالم الموصل لإثبات وجود الله تعالى، وأرادوا بالنقل: النصوص الواردة في الصفات، من النزول، والمجيء، والإتيان، والكلام بحرف وصوت، وغيرها، فهي بحاجة إلى تأويل حسب زعمهم.

أما منهج السلف، منهج أهل السنة والجماعة، فأثبتوا حدوث العالم بالمشاهدة، فصارت النتيجة التي توصلوا إليها المتكلمون في دليلهم، وهي: أن الحادث لا بد له من محدِث، هي قضية ضرورية بدهية من مقتضيات العقل عند أهل السنة والجماعة.

وهذا هو الفارق الجوهري بين منهج السلف ومنهج المتكلمين في هذا الباب: أن السلف يُثبتون وجود الله تعالى بالحدوث والمشاهدة؛ بنزول الأمطار، وإنبات الأشجار، ومشاهدة الحياة والموت، كلها ممكنات حادثة، بحاجة إلى مدبر حكيم عليم، والقرآن كثيرا ما يُشير إلى دليل الخلق والعناية، وهو من أقوى الأدلة الجالبة لمعرفة الله تعالى.

والخلاصة: أن أهل السنة يرون بساطة الاستدلال على وجود الله تعالى، في حين أن المتكلمين جعلوها مسألة معقدة، سلكوا في إثباته طرقا طويلة صعبة عَسِرة، تحوي مقدمات كثيرة. فضلا عن كونها طريقة مبتدعة لم تُعرف عن سلف هذه الأمة، ولذلك جرى نكير السلف على ذم هذا الكلام، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لعقيدة الأصبهاني (1/371):” وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول لم يدع أحدا بهذه الطريق، فضلا عن أن يوجبها على كل مكلف، ولا سلك هذه أحد من الصحابة، بل لما أحدثها من أحدثها من أهل الكلام، تطابقت أئمة الإسلام على ذم هذا الكلام.”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1] – ولذلك وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل بقول القائل: (إذ المرء كانت له فكرة… ففي كل شيء له عبرة)، وورد عن ابن عباس قوله:” تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله” قال الحافظ الذهبي في كتابه العرش (2/171) بعد أن ساق هذا الأثر:” رواه البيهقي في الصفات، وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة وغيرهما بإسناد حسن عنه”، وأورده ابن حجر في فتح الباري (13/383) وقال: “موقوف وإسناده جيد”. ” فالحازم لا يترك مسارح النظر ترقد ولا تكرى إلا وهو يقظان الفكر، نهار يحول، وليل يزول، وشمس تجري، وقمر يسري، وسحاب مكفهر، وبحر مستطر، وخلق تمور، ووالد يتلف، وولد يخلف، ما خلق الله هذا باطلا، وأن بعد ذلك أثوابا وأحقابا، وحشرا ونشرا، وثوابا وعقابا.” فيض القدير (3/263).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017