تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من مُصلح البشر وأفضل النبيين والرسل صلى الله عليه وسلم)([1]).
ويقول شيخه محمد عبده رحمه الله: (أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. فقال الأميركي: حتى زينب زوجة زيد بن حارثة. يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة، ويُعرِّضُ بعشقه صلَّى الله عليه وسلّم لزينب على ما زعموا. فقال له صاحبي: سبحان الله! إنكم تشتغلون بعلوم السموات والأرض، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم، مع أنكم في المشهور عنكم من أشدّ الناس ولعًا بالبحث في الأديان!
إن الله أمر نبيَّه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له؛ ليبيّن للناس بالفعل أنه ليس كل من لقّب بالابن يكون على الحقيقة ابنا، فإن كان المسيح قد دُعي في لسان الإنجيل بـ(الابن) فليس هذا على الحقيقة، وإنما (الابن) الحقيقي من ولد من أبيه ولادةً صحيحة، إن في ذلك لذكرى للعالمين. والله أعلم)([2]).
فرأينا في مركز سلف للبحوث والدراسات أن نذكر القصة، وأقوال المفسرين في تأويلها والرد على المستشرقين وغيرهم فيما انتحوه من الطعن.
مركز سلف للبحوث والدراسات
قصّة طلاق زينب من زيد رضي الله عنهما ثم زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها ذكرها الله تعالى في كتابه في سورة الأحزاب، وقد اختلف المفسّرون من المتقدِّمين والمتأخرين في تأويل قوله تعالى: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ} على قولين:
القول الأول: أن الذي أخفاه في نفسه أنّ الله أعلمه أنها ستكون مِن أزواجه صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن الذي أخفاه في نفسه ميلُه إليها، وحبُّه لفراق زيد لها؛ ليتزوجها إن طلقها.
وسوف نتناول في هذه الورقة كلا القولين على جهة التفصيل، ثم نُبيّن الراجح منهما.
القول الأول في تفسير قوله تعالى: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}:
أن الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه أنّ الله أعلمه أنها ستكون مِن أزواجه صلى الله عليه وسلم.
1- القائلون بهذا القول:
جاء هذا القول عن اثنين من مفسّري السلف، هما علي بن الحسين رضي الله عنهما وإسماعيل السدي.
جاء عن إسماعيل السُّدِّيّ في قوله: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآية، قال: بلغنا أن هذه الآية أُنزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يزوِّجها زيد بن حارثة، فكرهتْ ذلك، ثم إنها رضيتْ بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوَّجها إياه، ثم أعلم الله نبيه بعد أنها مِن أزواجه، فكان يستحي أن يأمر زيد بن حارثة بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب بعض ما يكون بين الناس، فيأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنّى زيدًا([3]).
وعن علي بن زيد بن جدعان قال: قال لي علي بن الحسين زين العابدين: ما يقول الحسن في قوله: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}؟ فقلت له. فقال: لا، ولكن الله أعلم نبيَّه أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلمّا أتاه زيد يشكو إليه قال: «اتق الله، وأمسك عليك زوجك». فقال: قد أخبرتك أني مزوِّجكها، {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}([4]).
وهذا التأويل استحسنه جمعٌ من المتقدّمين والمتأخرين، منهم الحكيم الترمذي، وأبو المظفر السمعاني، والبغوي، وأبو بكر ابن العربي، والقاضي عياض، والقرطبي، وأبو حيان، والجلال البلقيني، والتقي المقريزي، والقسطلاني، واللقاني، والبيجوري، وغيرهم.
يقول البغوي بعد أن أورد رواية علي بن الحسين: (وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء، وهو مطابق للتلاوة؛ لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه، ولم يُظهِر غير تزويجها منه، فقال: {زَوَّجْنَاكَهَا}، فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره. فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي، وهذا قول حَسَنٌ مُرضٍ)([5]).
وقال ابن العربي: (وإنما الجائز في ذلك ما رواه علي بن الحسين على ما تقدَّم، بدليل قوله: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}، والذي أبدى الله زواجها خاصَّة هو الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم)([6]).
وقال القاضي عياض: (وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن الحسين أن الله تعالى كان أعلمَ نبيَّهُ أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به من أنه يتزوجها بما الله مُبدِيه ومُظهِرُه بتمامِ التزويجِ، وطلاق زيد لها. وروى نحوه عمرو بن فائد عن الزهري قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِمُه أن الله يُزوِّجُه زينبَ بنت جحش، فذلك الذي أخفى في نفسه)([7]).
ثم قال بعد أن أورد القول الأول في تفسير الآية: (والتعويلُ والأولى ما ذكرناه عن علي بن الحسين، وحكاه السمرقندي، وهو قول ابن عطاء، واستحسنه القاضي القشيري، وعليه عَوَّلَ أبُو بكر بن فورك، وقال: إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير)([8]).
وقال القرطبي وتبعه أبو حيان والبلقيني والقسطلاني: (وهذا المروي عن علي بن الحسين هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين؛ كالزهري، والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم)([9]).
وقال اللقاني والبيجوري: (اعلم أن أصح محامله ما نقله من يعول عليه في التفسير عن علي بن الحسين..) ثم ذكرا هذه الرواية([10]).
ومع ذلك فقد قال الحافظ ابن حجر: (وقد أطنب الترمذيُّ الحكيم في تحسين هذه الرواية، وقال: إنها من جواهر العلم المكنون، وكأنه لم يقف على تفسير السُّدِّي الذي أوردتُه، وهو أوضح سياقًا، وأصح إسنادًا إليه، لضعف علي بن زيد بن جدعان)([11]).
ورواية السُّدِّي كافية في المقصود، وهو ثبوت هذا القول عن مُفسِّري السلف.
2- دليل هذا القول:
من أقوى الدلائل على صحة هذا التأويل: السياقُ العامُّ الذي جاءت فيه هذه الآيات، وهو ما شرَعَه الله تعالى في سورة الأحزاب من إبطال التبنّي، حيث قال في مطلع السورة: {مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِۦ وَمَا جَعَلَ أَزْوَٰجَكُمُ ٱلَّٰـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ}.
يقول القاضي بكر بن العلاء القشيري المالكي: (أخبر الله عزَّ وجل بالعلَّة التي كان من أمر زينب ما كان ليكون ذلك أوكد في قطع الشيء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، وأعلمهم أن أدعياءهم لا يكونون أبناءهم، وأنه إنما هو شيء يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له حقيقة، ثم قال: {وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ (٤) ٱدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ} [الأحزاب: 4، 5])([12]).
وقد بين الله تعالى الحكمة من طلاق زيد من زينب وزواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا * مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 37-40].
يقول ابن خمير السبتي: (والقصة -بحمد الله- أشهرُ وأظهرُ من أن يُتقَوَّل فيها بزور أو يُدلَى بغرور. والذي صح منها أن المرأة هي زينب بنت جحش بن أميمة بنت عبد المطلب، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا بعلُهَا فهو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعتَقَه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربَّاهُ وتبنَّاهُ، وكان يُسمَّى ابن رسول الله، حتى أنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ}، فنفى البُنُوَّة بالدعوى وقال: {ٱدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ} الآية، فلما أدرك زوَّجَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ المذكورة، وبقي معها حتى أمر الله تعالى نبيَّه عليه السلام أن يتزوَّجَها، أو أخبره به…
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا}.
واعلم -رحمك الله- أن في هذه الآية فوائد جَمَّة: منها أن الله تعالى سن لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه السنة على رغم أنفِ المُتكبِّرين، فمن لامَ بعد هذه السُّنَّةِ أحدًا في أن يُزوِّجَ مثلًا بنتَه لعبدِه، أو يتزوَّج امرأةَ عبده من بعده فليُفغر فُوه بفِهْر يكسر قواضمه وخواضمه، ويطرح في أمِّه الهاوية، إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شارعٌ، ولا فوقَ شرفِه شرف…
ثم قال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا}.
علَّلَ الله عز وجل هذا التزويج ليعلَمَ الناس أنَّ من تبنى أحدًا ثم تزوج امرأته من بعده فلا حرج عليه، فإن من تبنَّاه ليس كابنه الذي لصُلبِه، قال تعالى في تحريم أزواج الأبناء للصلب: {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ} [النساء: 23]، وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} فرفع الحرج بهاتين الآيتين في التَّبَنِّي)([13]).
ويقول ابن القيّم: (فإنَّ زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه، وكان يُدعى ابن محمد، وكانت زينب فيها شَمَمٌ وترفُّعٌ عليه، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلاقها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، وأخفى في نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد([14]). وكان يخشى من قالة النَّاس أنَّه تزوَّج امرأة ابنه؛ لأنَّ زيدًا كان يدعى ابنَه. فهذا هو الذي أخفاه في نفسه، وهذه هي الخشية من النَّاس الَّتي وقعت له.
ولهذا ذكر الله سبحانه هذه الآية يعدِّد فيها نعمَه عليه، لا يعاتبه فيها. وأعلمه أنَّه لا ينبغي له أن يخشى النَّاسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ الله أحقُّ أن يخشاه فلا يتحرَّج ما أحلَّه له لأجل قول النَّاس. ثمَّ أخبره أنَّه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٍ وطرَه منها، لتقتدي أمَّته به في ذلك، ويتزوَّج الرَّجلُ بامرأة ابنه من التَّبنِّي، لا امرأة ابنه لصلبه.
ولهذا قال في آية التَّحريم: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، وقال في هذه السُّورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، وقال في أوَّلها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]. فتأمَّل هذا الذَّبَّ عن رسوله، ودفعَ طعن الطَّاعنين عنه. وباللَّه التَّوفيق)([15]).
ويقول التقيُّ السبكي: (وقصة زيد إنما جعلها الله تعالى -كما صرّح به في سورة الأحزاب من أولها إلى آخر القصة- قطعًا لقول الناس: إن زيدًا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبطالًا للتَّبَنِّي في الإسلام.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِۦ} [الأحزاب: 4]: أي: من أبوين في الإسلام، إلى قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ} إلى أن قال: {ٱدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ} [الأحزاب: 5].
ثم ساق الله تعالى السورة إلى أن قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، تحريضٌ على امتثالِ أمرِه تعالى في طلاق امرأة زيد.
ثم قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} يعني: من أمر زيد في طلاقِ امرأتِه، وتزويجِكَ إيَّاهَا، لا من محبتها معاذَ الله! ثم معاذ الله!
ثم بَيَّن الله تعالى بالقول الصريح بعد التعريض الطويل أنَّ السِّرَّ في ذلك إبطالُ التبني، ونسخُه، ورَفعُه بالقول والفعل، ليَعلَم الناس أنه لو كان ولدًا له لما تزوّج امرأته، فقال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، ثم قال تعالى بعده: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}.
فمن تأَمَّلَ هذه السورةَ وعرَفَ شيئًا من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم تيَقَّنَ بالعلم القاطع أنَّ تزوُّجَ امرأة زيدٍ إنما كان لذلك لا لغيره، وأنه صلى الله عليه وسلم كان أكرهَ الناس بالطباع البشرية لزواجها، عكس ما توهمه الغزالي، وكان يشق عليه ذلك.
وما كان ليمكنه أن يخفي شيئًا مما أنزل الله، وإليه الإشارة بقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ}.
فنزلت الآية آمرةً له بالإظهار ما أمر الله تعالى من زواجها لإبطال التبني، وإن كان زواجها أشق شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن السبكي بعد نقله كلام والده: (وينبغي لكل مسلم أن يعرف هذا)([16]).
ويقول ابن حجر: (والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوَّجَ امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبنِّي بأمر لا أبلغَ في الإبطال منه، وهو تزوُّجُ امرأة الذي يُدعَى ابنا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكُونَ أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية، والله أعلم)([17]).
ويقول السنوسي: (وأما قصة نبيِّنا وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم مع زيدٍ مولاه وزينبَ رضي الله عنهما فليس يصحُّ فيها إلا ما ذكرَ مولانا جلَّ وعزَّ في كتابه العزيز؛ من كونه سبحانه وتعالى زوَّج لنبينا عليه الصلاة والسلام زينب بعد فِراق زيدٍ لها، وشرع بذلك إباحة تزويج حلائل الأدعياء، وأنهنَّ لا يُلحقن في التحريم بحلائل أبناء النسب، فقال -جلَّ من قائل-: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}.
وقد أوحى الله سبحانه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بما أراد من تزويج زينبَ له قبل أن يطلِّقها زيدٌ، فلما أُلقي في قلب زيدٍ حبُّ فراقِها، ومنع من المتعة بها لمَّا قرُبَ أوان حرمة أُمومتها لجميع المؤمنين، وهيبة قربِها من سيّد ولد آدم، وأشرف خلق الله أجمعين.. جاء يشكو تعاظُمَها عليه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يريد فِراقها، فأمره عليه الصلاة والسلام بإمساكها، وتقوى الله في شأنها؛ عملاً بالظاهر الذي أُمرَ أن يحكم به، وأخفى عليه الصلاة والسلام عن زيدٍ وعن غيره ما في نفسه الطاهرة المطهَّرة من وحي الله تعالى له بأنَّ زيدًا يفارقها، وهي زوجةٌ له بعده؛ حياءً منه عليه الصلاة والسلام أن يُظهر ذلك وزينب بعد في عصمة زيدٍ، ولأن ذلك أيضًا من العلمِ الذي لم يُؤمر بإظهاره للناس في ذلك الوقت.
فلمّا فارقها زيدٌ رضي الله عنه وزوَّجها المولى تبارك وتعالى منهُ عليه الصلاة والسلام… قَبِلَ وانقاد، ودخل عليه بلا إذنٍ ولا مؤامرة؛ مبالغةً منه عليه الصلاة والسلام في إظهار الرضا بعطيَّة المولى جلّ وعلا، وأنساه حينئذٍ التعظيم لجناب المولى تبارك وتعالى والحياء منه الالتفات إلى مقالةِ الناس، والحياء من زيدٍ أو غيره، واتَّصف في ذلك بما وصف الله تعالى به إخوانه من الرُّسل في قوله جلَّ وعز: {ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا}، وحينئذٍ باح عليه الصلاة والسلام بما أوحى الله تعالى في شأن زيدٍ وزينبَ، ولم يخشَ أحدًا من الخلق.
ومن هذا التقرير تفهم معنى قوله تعالى: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي: تخفي في نفسك ما أوحى الله تعالى إليك به من مفارقة زيدٍ لها، وتزويجِك إيَّاها بعده، وهذا هو الذي أبداه سبحانه؛ أي: أظهره بعد ذلك)([18]).
القول الثاني في تفسير قوله تعالى: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}:
أن الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه ميلُه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها، وحبه لفراق زيد لها؛ ليتزوجها إن طلقها.
وسيكون البحث في هذا القول في عدَّة نقاط:
1- القائلون بهذا القول:
روي هذا القول عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقال بهذا القول جمعٌ من أئمة التفسير، منهم قتادة، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل، وابن جرير الطبري.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}: حُبّها([19]).
وعن قتادة بن دعامة -من طريق معمر- في قوله: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ}، قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا نبيَّ الله، إنّ زينب قد اشتد عَلَيَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله، وأمسك عليك زوجك». قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أن يُطَلِّقها، ويخشى قالَةَ الناس إن أمره بطلاقها؛ فأنزل الله: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}([20]).
وعن ابن جريج في قوله: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}: في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيها مِن حُبِّه طلاقه إيّاها، ونكاحه إيّاها، فأبى الله إلا أن يخبر بالذي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه([21]).
وقال مقاتل بن سليمان: ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيدًا، فأبصر زينب قائمة، وكانت حسناء بيضاء مِن أتم نساء قريش، فهوِيَهَا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «سبحان الله مقلب القلوب!». ففطِن زيد، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها؛ فإن فيها كِبرًا، تعظَّمُ عليَّ، وتؤذيني بلسانها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك زوجك، واتق الله». ثم إن زيدًا طلَّقها بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}([22]).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوَّج زيد بن حارثة زينبَ بنت جحش ابنة عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يريده، وعلى الباب سِتر من شعر، فرفعت الريح السِّتر، فانكشف وهي في حُجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم([23])؛ فلمّا وقع ذلك كُرِّهتْ إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: «ما لكَ؟! أرابكَ منها شيء؟» قال: لا واللهِ، ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيتُ إلا خيرًا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ». فذلك قول الله تعالى: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ}([24]).
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: (يقول -تعالى ذكره- لنبيِّه صلى الله عليه وسلم عتابًا من الله له: واذكر يا محمد {إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ} بالهداية {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ}.
وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فألقى في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، وهو صلى الله عليه وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها. {وَٱتَّقِ ٱللَّهَ} وخفِ الله في الواجب له عليك في زوجَتِك.
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبدٍ ما تُخفي في نفسك من ذلك.
{وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ} يقول تعالى ذكره: وتخافُ أن يقول الناس: أمر رجلًا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس)([25]).
وقال الواحدي: ({وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} سرًّا، وتضمر في قلبك من إرادة تزوجها، {مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} مُظهِرُه لأصحابك.
والمعنى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كتَمَ حُبَّها، وأراد تزوُّجَها، وأمر زيدًا بإمساكها، وفي قلبه خلاف ذلك، فأظهر الله عليه ما أخفاه بأن قضى طلاقها وزوجها منه، وأنزل في ذلك القرآن)([26]).
وقدّم الزمخشري هذا القول في تفسيره، حيث قال: (فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلُّق قلبِه بها)([27]).
ومن أعلام القائلين بهذا القول جمع من فقهاء الشافعية، منهم القاضي حُسَين، وأبو المعالي الجويني، وتلميذه الغزالي، والحافظ العراقي، وابن المُلقِّن، وسيأتي كلامهم.
ومن أبرز من انتصر له من المعاصرين المعتنين بالدراسات القرآنية: الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ في كتابها (نساء النبي صلى الله عليه وسلم).
2- دليلُ هذا القول:
استند القائلون بهذا القول إلى القصّة المذكورة في سبب نزول الآية، كما ذكرها قتادة وابن زيد ومقاتل وابن جرير، وقد ذكرها غيرهم أيضًا من أهل السير كابن إسحاق والواقدي.
تقول عائشة بنت الشاطئ: (قصة إعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب قد حكاها سلف لنا صالح، غير متَّهَمين بالكيد للإسلام، من قبل أن تسمع الدنيا بالحروب الصليبية والتبشير والاستشراق)([28]).
جاء في سيرة ابن إسحاق عن الشعبيِّ قال: مرض زيد بن حارثة، فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وزينب ابنةُ جحش امرأتُه جالسة عند رأس زيد، فقامت زينب لبعض شأنها، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طأطأ رأسه، فقال: «سبحان الله مقلب القلوب والأبصار!». فقال زيد: أُطَلِّقها لك يا رسول الله؟ فقال: «لا». فأنزل الله عز وجل: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا}([29]).
وأخرج الواقدي عن محمد بن يحيى بن حبان قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له: زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة، فيقول: «أين زيد؟» فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وتقوم إليه زينب بنت جحش فُضُلًا، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله، فادخل. فأبى أن يدخل، فأعجبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فولّى وهو يُهَمْهِم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن: «سبحان الله العظيم! سبحان مصرِّف القلوب!» فجاء زيد إلى منزله، فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله، فقال زيد: ألا قلتِ له أن يدخل؟! قالت: قد عرضتُ ذلك عليه فأبى. قال: فسمعتِ شيئًا؟ قالت: سمعتُه حين ولّى تكلَّم بكلام ولا أفهمه، وسمعتُه يقول: «سبحان الله العظيم! سبحان مصرِّف القلوب!» فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بلغني أنك جئت منزلي، فهلّا دخلتَ يا رسول الله، لعل زينب أعجبتكَ، فأفارقها؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ذلك اليوم، فيأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، فيقول: «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». ففارقها زيد واعتزلها، وانقضت عدتها، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ أخذته غَشْيَة، فسُرِّي عنه وهو يبتسم، ويقول: «مَن يذهب إلى زينب يبشرها أنّ الله زوَّجَنِيها مِن السماء؟» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} القصة كلها. قالت عائشة: فأخذني ما قَرُب وما بَعُد لِما يبلغنا مِن جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها: زوّجها الله من السماء. وقلتُ: هي تفخر علينا بهذا([30]).
غير أن هذه الروايات جميعها لم ترِد في شيء من كتب السنة بإسنادٍ صحيحٍ مُتَّصِل، وهذا الاعتراض من أقوى الاعتراضات التي اعتُرِضَ بها على هذا القول، كما سيأتي.
وقولنا بعدم صحتها لا يلزم منه القول بأن تلك الروايات: (لم يذكرها إلا المفسرون والإخباريون المولعون بنقل كل ما وقع تحت أيديهم من غث أو سمين)([31])، فإن الذين ذكروها -كما ترى- هم من أئمة التفسير والمغازي، كابن جرير وابن إسحاق وغيرهما، ومثل هؤلاء لا تقال فِيهِم هذه المقالة.
وقولنا بعدم صحتها لا يلزم منه أيضًا القول بأن تلك الروايات (من أقوال اليهود ومن دسائسهم)، (وإن لمما يستغرب منه أن بعض المفسرين -رحمهم الله وغفر لهم- دخلت عليهم بعض تلك الدسائس)([32])، فهؤلاء المفسرون القائلون بهذا القول هم من أئمة التفسير، ولا تروج عليهم دسائس اليهود.
فميزان الاعتدال في التعامل مع تلك الروايات: عدم اعتمادها لعدم اجتماع شروط الصحّة فيها، دون الطعن في نقلَتِها كقتادة وابن جريج وغيرهما، أو من أوردها من أئمة المفسّرين كابن جرير برميهم بالوضع، أو الغفلة.
3- التوفيق بين هذا القول وبين عصمة الأنبياء:
أولًا: لم يغب عن القائلين بأن الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه ميلُه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها وحُبُّه لفراق زيد لها أن هذا القول قد يُعتَرَض عليه بمخالفته لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد أجابوا بالتفريق بين نوعين من الاستحسان للمرأة الأجنبية: الاستحسان الاختياري وغير الاختياري، وقَرَّرُوا أن ما وقع في قصة زينب رضي الله عنها هو من النوع الثاني([33]).
يقول أبو القاسم الأنصاري: (وأما قصة زينب فلم يصدُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نظرةٌ إلى بنت عمه، وكان قبل آية الحجاب، فلما زيّنها الشيطان في نفسه وضع يده على عينه، وقال: «يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي»، فعلمت زينب أنه مال إليها، فنشزت على زوجها، فجاء شاكيًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاوره في تطليقها، فقال له صىلى الله عليه وسلم: «اتق الله ولا تطلقها»، وكان قلبُه مائلًا إليها ميل طبيعةٍ لا ميل إرادة، فقيل له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ}: أي: تستحي منهم أن يقولوا: إنه مال إلى امرأة مولاه ومن تبنّاه)([34]).
ويقول بَحْرَق الحضرمي في سيرته: (وليس في استحسانه لها ورغبته في نكاحها لو طلّقها زيدٌ قدحٌ في منصبه الجليل، حتَّى يوجب الطَّعن في الرِّوايات الثّابتة المنقولة في هذه القصّة([35]).
بل قد جعلها العلماء من أصحابنا أصلًا استدلُّوا به على أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب طلاق من رغب في نكاحها على زوجها، ووجوب إجابتها، فجوّزوا رغبته في نكاح منكوحة غيره([36]).
وأنّ في هذه القصّة ما لا يخفى من التّنويه بقدر المصطفى صلى الله عليه وسلم، والإعلام بعظيم مكانته عند ربّه سبحانه وتعالى، وأنّه سبحانه يحبّ ما يحبّه، ويكره ما يكرهه، وينوب عنه في إظهار ما استحيا من إظهاره، علمًا منه سبحانه بأنّه إنّما يفعل ذلك قمعًا لشهوته، وردّا لنفسه عن هواها، كما قال سبحانه في الآية الآخرى: {إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53].
فما نقله القاضي عياض عن ابن القشيريّ وقرّره من أنّ ما سبق من تجويز رغبته في نكاحها لو طلَّقها زيدٌ إقدامٌ عظيم من قائله وقلَّة معرفة بحقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مردود بحثًا ودليلًا. والله أعلم.
واعلم أنَّ نظرَه إليها كان قبل نزول آية الحجاب؛ لأنّها نزلت في حال دخوله عليها، مع أنّ الرّاجح أيضا عند المحقّقين أنّ النّساء ما كنّ يحتجبن عنه صلى الله عليه وسلم)([37]).
وقالت عائشة عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطِئ: (إن آية العظمة في شخصية نبيّنا أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وما نعرف في تاريخ الأبطال -ولا أقوال الأنبياء- من أصر على تقرير بشريته إصرار محمد بن عبد الله، ولا عرفت الإنسانية كتاب دين كالقرآن، جعل من بشرية المبعوث به آيةً تُتْلى وقرآنًا يتعبد به المؤمنون، وأصلًا من أصول العقيدة الإسلامية:
أفيُنكَرُ على بشرٍ رسُولٍ أن يرى مثل زينبَ فيُعجَب بها؟!
وماذا يُطلَب من مثله في سمو خُلُقه وعِفَّةِ ضميره أكثرَ من أن يشيح بوجهه عمن أعجبته، وهو يسبح باسم الله العظيم مُقلِّب القلوب؟!
وأيُّ ضبط للنفس يُنتظَر من بشر رسول أكثرَ من أن يجيئه زيدٌ فيستأذنه من جديد في طلاقها، فيأبى عليه إلا أن يمسكها ويتقي الله؟!
إن القصة -وقد نقلها إلينا رواة غير متهمين- لترتفِعُ بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إلى أقصى ما تُطيقه بشرية من عفَّةٍ وضبط للنفس واعتقالٍ للهوى، وإنها لجديرة بأن تُعدَّ مفخرة لمحمد والإسلام، فما ادَّعى قط أن قلبَه بيده يُصرفه حيث شاء، ولا زعم مرة أنه مُبرَّأٌ من عواطف البشر مُنزَّهٌ عن أهوائهم، وقد كان يقول في إيثاره عائشة على غيرها من أزواجه مع ما تحرى من العدل بينهن: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».
فكيف نخاف عليه لومًا إن مال قلبه إلى زينب، ثم أبى مع هذا الميل إلا أن يأمر زوجها بإمساكها، على ما يَعرِفُ من شقائهما بهذا الإمساك؟!)([38]).
ثانيًا: لم يقتصر بيان عدم معارضة هذا القول للعصمة على العلماء القائلين به في تفسير الآية، بل من العلماء القائلين بالقول الأول، بل ممن انتصر له غاية الانتصار من لم ير في هذا القول معارضةً للعصمة، وإن كانوا يرونه قولًا مرجوحًا روايةً ودرايةً، كما ذكره السمعاني والثعلبي والبغوي والقاضي عياض وابن خمير السبتي والعضد الإيجي والطاهر بن عاشور.
قال السمعاني بعد أن رجّح القول الأوَّل في تفسير الآية أيضًا: (وليس عليه إثمٌ فيما يقع في قلبِه من غير اختياره)([39]).
وقال الثعلبي: (وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العبد غيرُ ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذِه الأشياء، ما لم يقصد فيها المأثم)([40]).
وتبعه البغوي في مختصره لتفسيره فقال بعد أن رجّح القول الأوَّل في تفسير الآية أيضًا: (وإن كان القول الآخر -وهو أنه أخفى محبَّتَها أو نكاحَهَا لو طَلَّقَها- لا يقدَحُ في حال الأنبياء؛ لأنَّ العبدَ غيرُ ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء، ما لم يقصد فيه المآثم؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر)([41]).
وقال القاضي عياض: (وقد قيل: كان أمرُهُ لزيدٍ بإمساكها قمعًا للشهوة، وردًّا للنفس عن هواها، وهذا القول إذا جوَّزْنا عليه صلى الله عليه وسلم أنه رآها فجأة واستحسنها، فمثل هذا لا نُكْرَة فيه؛ لما طُبِع عليه ابن آدم من استحسانه الحَسَن، ونظرةُ الفجأة معفوٌّ عنها، ثم قمعَ نفسَه عنها، وأمر زيدًا بإمساكها، وإنما تُنكَر تلك الزيادات التي في القصة)([42]).
وقال ابن خمير السبتي -وهو أيضًا ممن يرجح القول الأوَّل في تفسير الآية-: (على أنه لو أحبها -كما اختلقوه- لم يدركه في ذلك لوم؛ فإن الحب أمرٌ ضروري، لا يدخل تحت الكسب.
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم إني عدلت فيما أملك، فاغفر لي ما لا أملك» يعني: عدلت فيما أكسب، فاغفر لي ما لا أكسب.
فلم يَكرَه العُقلاء الحبَّ إلا لما يكون معه للمحبين من الطيش والميل والذكر بما لا ينبغي، وطلب الظفر بالمحبوب على الوجوه الفاسدة.
وهذه الأمور كُلُّها لا تليقُ بصُلحاء المسلمين، فكيف بسادات المرسلين المعصومين مما دون ذلك كما تقدم؟!). ثم ذكر بعض ما يُقال في الحبِّ العفيف، مما يذكر في كتب الأدب أو الأخبار الضعيفة، ثم قال: (ومع هذا فالرسول عليه السلام أشرف وأسنى من أن يُمتَحَن بمثل هذه النقيصة)([43]).
وقال العضد الإيجي: (وما يقال: إنه أحبها فمِمَّا يجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله، وإن صح فميلُ القلبِ غيرُ مقدُور)([44]).
وقال الطاهر ابن عاشور مبينًا وجه الجمع بين الروايات المتقدّمة على تقدير صحَّتها وبين القول بالعصمة: (والآن نُرِيد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليمِ بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد).
فذكر حاصل تلك الروايات ثم قال: (ولو كان كلُّه واقعًا لما كان فيه مغمز في مقام النبوءة:
فأما رؤيتُه زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلِكَ أنَّهُ استأذن في بيت زيد، فإن الاستئذان واجب، فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته، ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكن يسترن وجوههن، قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] (أي: الوجه والكفين)، وزيد كان من أشدِّ الناسِ اتصالًا بالنبيء، وزينبُ كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومُتبنَّاه، فكانَت مُختلِطَةً بأهله، وهو الذي زوَّجَها زيدًا، فلا يصح أن يكُون ما رآها إلا حين جاءَ بيتَ زيد.
وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل فكذلك لا عجبَ فيه؛ لأن رؤيةَ الفجأة لا مؤاخذة عليها، وحصولُ الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمرٌ قهريٌّ، لا يملك الإنسان صرفَه عن نفسه، وهل استحسانُ ذاتِ المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يُتبِعْهُ النظار نظرة؟!
وأمَّا ما خطر في نفس النبيء صلى الله عليه وسلم من مودَّةِ تزوجها فإن وقَع فما هو بخطب جليل؛ لأنه خاطر لا يملك المرءُ صرفَه عن نفسه، وقد علمتَ أن قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} ليس بلوم، وأن قوله: {وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله، ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس.
وإنما تظهرُ مجالاتُ النفوس في ميادِين الفتوَّة بمقدار مُصابَرَتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس وخور العزائم، وكفاك دليلًا على تمَكُّنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام -وهو أفضلُ من ترسَخ قدَمُه في أمثاله- أنه لم يزَل يُراجِعُ زيدًا في إمساك زوجِهِ مُشيرًا عليه بما فيه خير له، وزيدٌ يرى ذلك إشارةً ونصحًا، لا أمرًا وشرعًا.
ولو صح أن زيدًا علم مودة النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبيء عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجبا؛ فإنهم كانوا يؤثرون النبيء صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وقد تنازل له دحية الكلبي عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها؛ للمؤاخاة التي آخى النبيء صلى الله عليه وسلم بينهما)([45]).
ثالثًا: فرقٌ بين ما جاء في تلك الروايات في كتب التفسير كرواية قتادة وابن جريج ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم المتقدّمة، وبين ما زاده الوضّاعون مما لم يرد فيها مما يقدح في منصب النبوّة، فإننا إذا أنكرنا تلك الزيادات لقدحها في العصمة، فلا يلزم من ذلك أن تكون تلك الروايات قادحةً في العصمة.
ومن أمثلة تلك الزيادات ما ذكره ابن خمير السبتي بقوله: (وما تقوَّله المنافقون والجهلة المجازفون من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها وأحبها، وشغف بحبها، حتى كان يضع يده على قلبه، ويقول: «يا مقلب القلوب، ثبت قلب نبيك»، ويدخل عليه زيد المسجد ويقول: «ادن مني يا زيد» شوقًا إليها، إلى غير ذلك من هذيانات لا يرضاها صلحاء المسلمين لأنفسهم، فكيف سيِّدُ المرسلين؟! فكلُّ ذلك باطلٌ مُتقوَّل)([46]).
فقارن بين المذكور هنا وبين الروايات المتقدمة، فلن تجد شيئًا منه واردًا فيها، فأين فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم شغف بحبِّها؟!([47]) وأين فيها أنه كان يقول لزيد رضي الله عنه إذا دخل المسجد: ادن مني يا زيد! شوقًا إليها؟!
ومثل ذلك ما ذكره القرطبي المفسّر بقوله: (فأمَّا ما رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد، ورُبَّمَا أطلق بعضُ المُجَّانِ لفظَ “عَشِقَ”، فهذا إنما يصدُر عن جاهل بعصمةِ النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مُستخفٍّ بحرمته)([48]).
هذا مع أن القرطبي ذكر قول قتادة وابن زيد والطبري ضمن الأقوال الواردة في تفسير الآية، لكن لم ينكره ولم يسوِّ بينه وبين هذه الزيادات.
ومن تلك الزيادات أيضًا ما ذكره ابن القيم بقوله: (وصنَّف بعضهم كتابًا في العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة، وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسول، وتحميلهِ كلامَ الله ما لا يحتمله، ونسبتهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برَّأه الله منه)([49]).
ولذلك فإن القاضي عياض بعد أن بين أن هذا القول في تفسير الآية الوارد عن جماعة من السلف لا يقدح في العصمة، بَيَّنَ أن مَحلَّ الإنكار هو في الزيادات الواردة في القصة فقال: (وإنما تُنكَر تلك الزيادات التي في القصة)([50]).
وكل ما يقوله المستشرقون والمنصّرون في الاعتراض على قصة زينب رضي الله عنها إنما هو اعتراض على قصة نسجتها خيالاتهم وأوهامهم، لا على تلك القصّة الواردة في كتب التفسير كما هي.
يقول محمد حسين هيكل: (ويُطلِقُ المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان حين يتحدّثون من تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع، حتى ليصوّر بعضهم زينب ساعة رآها النبيّ وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها الناطق بما يكنّه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب، وكانت ممدّدة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه وإن لم يطق الصبر على ذلك طويلا! وأمثال هذه الصورة التي أبدعها الخيال كثير، تراه في موير وفي در منجم وفي واشنطن إرفنج وفي لامنس وغيرهم من المستشرقين والمبشرين)([51]).
4- الاستدلال لهذا القول بما ذكروه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب طلاق مَرغُوبَتِه صلى الله عليه وسلم:
ذكر بعض فقهاء الشافعية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رغب في نكاح امرأة متزوِّجة وجب عليها الإجابة، ووجب على الزوج طَلاقُهَا.
وذِكرُ الشافعية لهذه الخصيصة مما اعتمد عليه من قال بهذا القول في تفسير الآية، كما تقدَّم في كلام بحرق الحضرمي، حيثُ قال: (بل قد جعَلَها العُلماء من أصحابنا أصلًا).
وهذه الخصيصة ذكرها القاضي حسين وتبعه تلميذه البغوي، وأبو المعالي الجويني وتبعه تلميذه الغزالي والرافعي والنووي من الشافعية، وخليل بن إسحاق من المالكية([52]).
قال القاضي حسين في ذكره خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه إذا أعجبته امرأة ورغب فيها وجب عليها أن تجيب إلى نفسها، ولو كانت منكوحةً وجب على زوجها أن يفارقها)([53]).
وقال البغوي في ذكره للخصائص: (ومنها: أنه كان إذا رغب في نكاح امرأة يجب عليها الإجابة، ويحرم على غيره خطبتها، وإذا رغب في ذات زوج يحرم على زوجها إمساكها)([54]).
وقال الجويني: (ومن خصائصه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمق امرأة ووقعت منه موقعا وجب على زوجها أن يطلقها)([55]).
وقال الغزالي: (إذا وقع بصرُه على امرأة فرغب فيها وجب على الزوج طلاقها لينكِحَها)([56]).
وقال الرافعي: (إذا رغب النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة، فإن كانت خَلِيَّةً فعليها الإجابة، ويحرم على غيره خطبتها، وفيه وجه نقله القاضي ابن كج. وإن كانت ذات زوج وجب على الزوج طلاقها؛ لينكحها، وفي شرح الجويني وجه: أنه لا يجب، وهو كوجه القاضي ابن كج في الخَلِيَّة)([57]).
وقال النووي: (ومنه أنه صلى الله عليه وسلم لو رغب في نكاح امرأة، فإن كانت خلية لزمها الإجابة على الصحيح، ويحرم على غيره خطبتها. وإن كانت مزوجة وجب على زوجها طلاقها لينكِحَها على الصحيح)([58]).
قال المقريزي تبعًا للجلال البلقيني: (لم يذكر هذه الخصوصية ابن القاصّ، ولا الشيخ أبو حامد([59])، ولا البيهقي)([60])، وقد ذكر ابن الرفعة أن إمام الحرمين حكاه عن ابن القاصّ([61]).
وقد بحث الفقهاء هنا في مسألتين:
المسألة الأولى: هل في قصّة زيد دلالة على هذه الخصيصة؟
أولًا: استدلَّ أبو المعالي الجويني بقصّة زيد لهذه الخصيصة، وإن كان الرافعي في “شرح الوجيز” قد عزا هذا الاستدلال لتلميذه الغزالي، وشاع عنه، فليس هو أول مستدلٍّ به.
قال الجويني: (ومن خصائصه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمق امرأة، ووقعت منه موقعاً، وجب على زوجها أن يطلقها، وقصة زينب مشهورة تشهد بذلك، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37])([62]).
وقال أبو حامد الغزالي: (وقالوا: إذا وقع بصره على امرأة فوقعت منه مَوقِعًا وجب على الزوج تطليقها، لقِصَّةِ زيدٍ)([63]).
وقال ابن الملقن: (وكانت المرأة تحل له بتزويج الله عز وجل من غير تلفظ بعقد، كما في قضية زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة، ومن قضيَّتها استُنبِط إيجاب طلاق مرغوبته على الزوج، وإيجاب جواب مخطوبته، وتحريم خطبة غيره بمجرّد خطبته)([64]).
وقال الحافظ العراقي في نظمه في السيرة النبوية عند كلامه عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن لها زوجٌ فحقٌّ وَجَبَا .. طَلاقهَا كَمَا جَرَى لزَيْنَبَا([65])
ثانيًا: عارض القاضي حسين الاستدلال بقصَّة زيد بقوله: (فأما قصة زيد فهو ما أظهر الرغبة فيها، الله تعالى أظهر رغبته فيها حيث قال: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ})([66]).
ويؤخذ من كلام القاضي حسين أنه لا يخالف في تفسير الآية بما قاله أصحاب هذا القول من أن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو رغبته في نكاح زينب رضي الله عنها، وإنما يخالف في الاستدلال بها على الخصيصة المذكورة، لذلك صح أن نعدَّه من القائلين بهذا القول في تفسير الآية.
وما ذكره القاضي حسين من عدم دلالة قصّة زيد على هذه الخصيصة المدّعاة ظاهرٌ جدًّا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ}، فلو كان طلاقها واجبًا عليه لما أمره بذلك، ولذلك قال ابن الرفعة معلقًا على هذه الخصيصة: (وقضية زيد لا تدل على ذلك، بل فيها ما يدلُّ على عكسِه)([67]).
وعارض الأردبيلي هذا الاستدلال أيضًا بقوله: (وعلى الخلية إذا رغب في نكاحها ووجوب التطليق على المتزوج إذا رغب صلى الله عليه وسلم في زوجته، ولم يقع قطُّ، وكان ذلك من زيد اتِّفاقيًّا، كذا اتفق بإلقاء الله تعالى، لا اضطراريًّا بحكم الوجوب)([68]). وقول الأردبيلي لا يمنع أيضًا من كون النبي صلى الله عليه وسلم رغب بها.
وقال البُلقيني: (ليس في قصة زيد ما يقتضي إيجاب التطليق عليه، لا من القرآن ولا من السنة، أما القرآن فقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا}.
فليس في الآية ما يدل على أنه وجب الطلاق على زيد، بل ظاهر الآية أن زيدًا طلقها باختياره، لقوله: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا})([69]).
ثم أورد عددًا من الروايات الواردة في تفسير الآية، منها رواية الواقدي المتقدِّمة، ثم قال عقبها: (وليس فيه دليلٌ على إيجاب الطلاق؛ لأنه لو كان واجبًا لقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: نعم، رغبتُ فيها ويجب عليك طلاقها، ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يترك بيان الواجب على أمَّته، ولو تعلَّق به)([70]).
وقال المقريزي: (وليس في قصة زيد هذه ما يدل على وجوب الطلاق على المتزوج، ومن تأمَّل ذلك تبيَّنَ لهُ ما ذكرتُ، واللَّه تعالى أعلم)([71]).
وقد تتابع شراح “مختصر خليل” على أنَّ هذا لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكره الزرقاني والدردير([72])، قال محمد الأمير: (ولم يقع في زينب ولا في غيرها)([73]).
ونظم ذلك الشيخ ولد عدود في نظمه لمختصر خليل بقوله في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم:
وأن تُطَلَّقَ لَهُ مَنْ رَغِبَا .. فيها ولم يَقَع وأمرُ زينَبَا
لم يكُ مِن ذَا البَابِ بل قد أنْبَأَهْ .. من اجتبَاهُ أنها لَهُ امرأَه
من بعد أن يقضي زيدٌ وطَرَه .. فخَشِي الناسَ يقولون: (مرَه
كانَت حَليلةَ ابنِهِ) فأمرَا .. زيدًا بأن يُمسِكَها وأضمَرا
ما الله مُبديه فعوتِبَ عَلَى .. خشيتِهم وتمَّ حُكمُهُ علا([74])
وفي كلام ولد عدُّود نفي الاستدلال بتلك القصّة، وكذلك نفي وقوع الرغبة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير الآية بالقول الأوَّل.
وإذا بطل الاستدلال بقصَّة زيد لم يبقَ لمن أثبت هذه الخصيصة ركنٌ شديدٌ يأوي إليه، فإن (الخصائص يجب أن يُقتَصر فيها على المنقول)، كما قال الجويني نفسُه([75])، ولذلك فإن من محققي الشافعية كالسبكي من رفض عدّ وجوب طلاق مرغوبة النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه رأسًا، وقد تقدَّم بعض كلامه، وسيأتي تتمته.
المسألة الثانية: هل هذه الخصيصة من التشديدات أم من التخفيفات في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم؟
هذه المسألة اعتنى الغزالي ببحثها، وقد أثار بحثه لها أخذًا وردًّا بين علماء الشافعية، ولذا حَسُن عرض ما أوردوه في هذا المقام، إذ لا تجد من المعاصرين من نبّه لهذه المباحث لدى تصدِّيه لرفع الإشكال في قصَّة زينب وزيد رضي الله عنهما.
ولذلك سنورد كلام الغزالي بنصِّه، ثم نذكر ما استشكله العلماء فيه، كالإمام أبي عمرو ابن الصلاح، والإمام جلال الدين البُلقيني.
يقول الغزالي بعد أن ذكر هذه الخصيصة -وهي أنه إذا وقع بصره على امرأة فوقعت منه مَوقِعًا وجبَ على الزَّوجِ تطليقُها-: (ولعل السر فيه من جانب الزوج: امتحان إيمانه بتكليفه النزول عن أهله.
ومن جانبه صلى الله عليه وسلم: ابتلاؤه ببلية البشرية، ومنعُه من خائنة الأعين، ومن إضمار ما يخالف الإظهار، ولذلك قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ}.
ولا شيء أدعى إلى غض البصر وحفظه عن لمحاته الاتفاقية من هذا التكليف.
وهذا مما يُورِدُه الفقهاء في صنف التخفيف، وعندي أن ذلك في حَقِّه غايةُ التَّشديد، إذ لو كُلِّف بذلك آحاد الناس لما فتحوا أعيُنَهم في الشوارع والطرقات خوفًا من ذلك.
ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله يخفي آية لأخفى هذه الآية)([76]).
وكلام الغزالي نقله الرافعي وأقرّه([77])، واستفاده الفخر الرازي -وتبعه العضد الإيجي في (المواقف)([78])– دون نسبَتِه للغزالي، وذلك في كلامه على تقدير صحة تفسير الآية بهذا القول([79])، وكذلك نقله التتائي وأقره في شرحه على “مختصر خليل”([80])، والمناوي وأقره في شرحه على ألفية العراقي([81]).
ومما يجدر التنبيه إليه أنَّ ثمةَ فرقًا بين لفظ الجويني وتلميذه الغزالي وغيرهما، فإنهما صورا المسألة في من أحبها بالمشاهدة، والذي ذكره غيرهما كالقاضي حسين والبغوي والرافعي والنووي وخليل هو فيما إذا رغب في التزويج بامرأة، وهذا أعم، فيشمل ما إذا رغب بالتزويج منها إما لدينها أو لحسبها أو لجمالها، مما بلغه ذلك، أو اشتهر عنها، وبين الصورتين تباينٌ كبير([82]).
وقد ورد على كلام الغزالي إشكالان:
الإشكال الأول: في الحكمة التي ذكرها الغزالي من هذا التكليف:
اعتَرَض أبو عمرو ابن الصلاح على ما ذكره الغزالي من حكمة في هذا التكليف فقال: (ولم يُوفَّق المصنف رحمه الله في شذوذه عن الأصحاب، ومخالفته الأصحاب فيما ذكره في خصيصة إيجاب الطلاق على زوج مَنْ وقع عليها بصره صلى الله عليه وسلم من النساء، ووقعتْ في نفسه؛ لأن حاصل ما ذكره أنه لم يكتف في حقه صلى الله عليه وسلم بالنهي والتحريم زاجرًا عن مُسارقة النظر، وحاملًا له على غض البصر عن نساء غيره، حتى شُدِّد عليه بتكليفٍ لو كُلِّف به غيره، لما فتحوا أعينهم حتى في الطرقات!
ومن تأمل هذا لم يخفَ عليه أنه غير لائق بمنزلته الرفيعة صلى الله عليه وسلم.
وزعم أن هذا الحكم في حقه في غاية التشديد، والله سبحانه وتعالى يقول في ذلك: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}.
وأما ما حكاه عن عائشة رضي الله عنها فإنما ذلك لأمرٍ آخرَ خارجٍ عن هذا الحكم، وهو إظهار ما دار بينه، وبين زيد مولاه، وعتابه عليه، إذ الواردُ في الرواية الصحيحة عن عائشة، أنها قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآية، والله أعلم)([83]).
لكن أجيب عن كلام ابن الصلاح (بأن الغزالي لم يقل: إن النهي في حقه ليس كافيًا في الانتهاء، وإنما جعل ذلك كفًّا وحافِظًا عن وقوع النظرِ الاتفاقي الذي لا يتعلَّقُ به نهيٌ.
فإذا علم أنه إذا وقع ذلك، ووقعت منه المرأة موقعًا وجب على زوجها مفارقتها احتاج إلى زيادة التحفظ في ذلك.
والذي كلف إخفاء ما في النفس مع إبداء الله له، فإن كثيرًا من المباحات الشرعية يستحيي الإنسان من فعلها، ويمتنع منها.
وقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} الآية فيه رفع الإثم، لا نفي الحياء من الشيء)([84]).
الإشكال الثاني: ما التكليف الموصوف بالمشقة في كلام الغزالي؟
من تأمَّلَ في كلام الغزالي وجد أنه انتقل من الكلام عن الحكمة في إيجاب الطلاق على الزوج إلى الكلام عن الحكمة من إيجاب غض البصر على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإشكال هو الذي دار عليه أكثر كلام الجلال البلقيني في تعقُّبه للغزالي، حيث قال بعد أن أورد كلام الغزالي: (وهو كلامٌ عجيبٌ، لا يليق بمثل الغزالي.
قوله: (إن السرّ في إيجاب طلاقها على الزوج امتحان الزوج) هذا صحيحٌ، لكن حتى يثبتَ أنه أُمر بطلاقها، وقد تقدم ما فيه.
قوله: (ومن جانبه صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه ببليَّة البشرية) كلام في غير موضعه؛ لأن هذا ليس سرَّ إيجاب الطلاق على الزوج، إنما هذا سرُّ وقوع هذه النظرة الاتفاقية.
وقوله: (ومنعه من خائنة الأعين)، يقال عليه: تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم يحرُمُ عليه خائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباحٍ من ضربٍ وقتلٍ ونحو ذلك، على خلاف مقتضى الظاهر، كما تقدم في قضية عبدالله بن سعد بن أبي سرحٍ.
وهنا ليس الأمر كذلك، فإن مقتضى الظاهر إبقاؤها في عصمة زيدٍ، ولم تظهر رغبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ حين أشار عليه بإمساكها، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على منع خائنة الأعين، فليست اللمحة من خائنة الأعين أصلًا، ولا يدخل تحت التكليف.
وفي صحيح مسلم عن جرير قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك».
وروى أبو داود والترمذي عن بُريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «يا عليُّ، لا تُتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية»، والمعنى أنه معفوٌّ عنك في الأولى.
ونظرة الفجأة لا تدخل في المُكتسبات فلا يُنهى عنها؛ لأنها تجيء معارضةً، وإنما الذي يُنهى عنه القصد إلى النظرة، وهو المراد بالثانية.
وقوله: (ومن الإضمار الذي يُخالف الإظهار)، يُقال عليه: ليس في الآية المنعُ من ذلك، إنما فيه الإعلام بذلك، وكان ذلك في أمرٍ يُباح إظهارُه وكتمانه.
وقولُه: (ولا شيء أدعى إلى غض البصر وحفظه عن لمحاته الإتفاقية من هذا التكليف)، يقال عليه: وأين التكليف بغضِّ البصر وحفظِه عن لمحاته الإتفاقية في هذه الآية؟!
وقوله: (وهذا مما يوردُه الفقهاء في صٍنف التخفيف، وعندي أنَّ ذلك في حقّه غاية الشدّة…) إلى آخره، يُقال عليه: الذي يوردُه الفقهاء في صنف التخفيف هو أن المرأة تحلُّ له بتزويج الله تعالى، والذي ادّعى أنه في غاية الشدة هو غض البصر، وحفظه عن لمحاتها الاتفاقية، فأنّى يجتمعان ؟!)([85]).
وقد سعى ابن الرفعة في توجيه كلام الغزالي، وإظهار المراد بالتكليف الذي فيه المشقة فقال: (ما ذكره المصنّف من التكليف أشار به إلى مجموع شيئين:
أحدهما: وجوب الطلاق على زوج من وقع بصر النبي صلى الله عليه وسلم عليها، إما تعمُّدًا إن قلنا: إنه كان يباح له، أو عن غير قصد إن قلنا: إنه لا يباح له التعمّد، فوقعت منه موقعًا.
فإن ذلك لا يوصف بالتحريم في حقِّ غيره فضلا عنه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعضهم: إن (من) في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ} للتبعيض، فإن بعض النظر غير حرام أو مباح.
ومن قال: إنها زائدة كما في قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَٰجِزِينَ} [الحاقة: 47] قال: غض البصر مقتضيه أن نقول: تترك إدامة النظر إذا وقع فجأة؛ لأن الغض: النقص، يقال: غض فلان من فلان، أي: وضع من قدره.
الثاني: وجوب إظهار ذلك الموقع للزوج حتى يفعل ما يجب عليه، بتبيينه بالقول الصريح، لا بخائنة الأعين، وذلك مما يشقُّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وينافي حاله، فإن في ذلك تعنتًا لأمته، وتنفيرًا لهم، وهو بهم رحيم، عزيز عليهم عنتهم، وقد أمر بما يميلهم إليه ويجمعهم عليه، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وإذا كان كذلك كان أدعى من كل شيء إلى ما ذكره المصنِّف؛ لأنه قد يفضي إلى ما ذكرناه، والله أعلم)([86]).
وفي ما ذكره ابن الرفعة أمران:
الأول: أن الحكمة التي ذكرها الغزالي لا تناسب هذا التكليف الذي ذكره ابن الرفعة، فإن الابتلاء ببلية البشرية الوارد في كلام الغزالي لا يناسب أن يكون حكمةً إلا لوقوع اللمحات الاتفاقية، لا لوجوب الطلاق، ولا لوجوب إظهار ذلك الموقع للزوج.
الثاني: أنَّ ما ذكره من وجوب إظهار ذلك للزوج وما يلزم منه من تنفيرٍ هو منافٍ لحكمة الشريعة، وفيه نسبة القبيح إلى الله تعالى، فكيف يُقال بأن الله تعالى شرَعَه لنبيه صلى الله عليه وسلم؟! فلا يصحُّ أن يقال به.
ولا يخفى الفرقُ بين أن يقال بجواز وقوع الاستحسان والميل القلبي غير الاختياري للأجنبية الناتج عن اللمحة الاتفاقية على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن يُقالَ بوجوب إظهار ذلك الاستحسان، بله إخبار الزوج به ليطلق زوجته، فإن الثاني مُنفِّر بخلاف الأول، وإن كان الأول أيضًا مما ينبغي تنزيه مقام النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما سيأتي.
ولذلك فإن التقي السبكي أنكر هذه الخصيصة أصلًا، وقال: (وبالجملة: فهذا الموضع من منكرات كلامهم في الخصائص، وقد بالَغُوا في هذا الباب([87]) في مواضع، واقتحموا فيها عظائم لقد كانوا في غنية عنها)([88]).
الموازنة والترجيح بين القولين في تفسير الآية:
قدّمنا أن المفسرين اختلفوا في قوله تعالى: {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ} على قولين:
القول الأول: أن الذي أخفاه في نفسه أنّ الله أعلمه أنها ستكون مِن أزواجه صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها، وحبه لفراق زيد لها؛ ليتزوجها إن طلقها.
وبعد هذا العرض لأدلة كل من القولين، والتفاصيل المتعلقة بكلٍّ منهما، فإن المتأمّل في ذلك كله يظهر له ترجيح القول الأول، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: قوة دليل القول الأول، حيث دلت دلالة السياق من أول سورة الأحزاب حتى الموضع الذي جاء فيه الكلام عن قصة زيد وزينب، دلَّت دلالةً ظاهرةً على أن الله تعالى إنما جعل طلاق زيد من زينب لإبطال التبنّي، كما قدّمناه مفصَّلًا، قال الله تعالى في بيان علة ذلك: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}، ولم يقل: إني فعلت ذلك من أجل استحسانِك لزَينب، ولا لعشقك لها([89]).
يقول الشيخ الشنقيطي في ترجيحه لهذا القول: (إن الله جلَّ وعلا صرح بأنه هو الذي زوَّجَه إياها، وأن الحكمة الإِلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الآية، فقوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا.
وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سببًا في طلاق زيد لها كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} الآية؛ لأنه يدل على أن زيدًا قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فطلقها باختياره([90]). والعلم عند الله تعالى)([91]).
الوجه الثاني: أن الذي أبداه الله جلَّ وعلا هو زواجه إياها في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ولم يبد جلَّ وعلا شيئًا مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى([92]).
يقول القاضي عياض في ترجيح هذا القول: (ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا: {وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا} أي: لا بد لك أن تتزوجها.
ويوضِحُ هذا أن الله لم يُبدِ من أمره معها غيرَ زواجه لها، فدل أنه الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أعلمه به تعالى)([93]).
الوجه الثالث: أن جميع الروايات التي اعتمد عليها أصحاب القول الثاني هي منقطعات ومراسيل، كتلك التي جاءت عن قتادة وابن جريج ومقاتل، ولم يأت شيء منها عن الصحابة رضي الله عنهم بسندٍ صحيح، ولذلك فإن الحجة لا تقوم بها.
وكل ما عوَّلَ عليه من انتصر للقول الثاني من قوّة أسانيد تلك الروايات كما قاله بحرق الحضرمي وعائشة بنت الشاطئ لا وزن له عند المحققين.
قال ابن كثير: (ذكر ابنُ جرير وابنُ أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نُضرِب عنها صفحًا لعدم صِحَّتِها، فلا نوردها)([94]).
وقال ابن حجر بعد ذكره لرواية السُّدي: (ووردت آثار أخرى أخرجها ابنُ أبي حاتمٍ والطبريُّ، ونقلَها كثيرٌ من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردتُه منها هو المعتمد)([95]).
ولو قيل: إن تلك الروايات صحيحة إلى قائليها من السلف، فقد قابَلَها من تفاسير السلف ما جاء عن علي بن الحسين وعن السدُّي، فليس اعتماد تلك بأولى من اعتماد هذه.
الوجه الرابع: لا يخفى أن القول الأول لا يُحتَاجُ معه إلى التماس المخارج والتأويلات للتوفيق بينه وبين القول بالعصمة، كما احتجنا إلى ذلك في القول الثاني، بما قدمناه من التفريق بين الاستحسان الاختياري وغير الاختياري للمرأة الأجنيبة، إذ الأولى بمقام نبينا وشفيعنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن ذلك كلّه، وإن لم يكن ذلك معدودًا من الذنوب صغائرها أو كبائرها.
فالقول الأوَّل -كما يقول أبو المظفر السمعاني-: (هو الأولى وأليق بعصمة الأنبياء)([96])، ويقول البغوي: (وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء)([97]).
ويقول القاضي عياض: (فاعلم -أكرمك الله- ولا تَستَرِب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدًا بإمساكِهَا، وهو يُحِبُّ تطليقه إياها، كما ذكر عن جماعة من المفسرين)([98]). قال الخفاجي: (كما نقل بعضهم عن قتادة وابن عبّاس، وهو غير لائق بمقامه صلى الله عليه وسلم)([99]).
ويقول التاج السبكي نقلًا عن والده: (سمعتُ شيخي رحمه الله يُنكِرُ قول الغزالي..). ثم أورد كلام الغزالي المتقدّم في الخصائص ثم قال: (قال لنا الشيخ الإمام مَرَّاتٍ: هذا مُنكَرٌ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتُعجِبَه امرأة أحدٍ من الناس)([100]).
ويقول الخيضري -وهو من تلاميذ الحافظ ابن حجر-: (وما زعمه هؤلاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي امرأة زيد، وأحب طلاقها، وأنه أخفى ذلك عن زيد حين استشاره في طلاقها، عندي أنه غير صحيح، وإن صح عن قائله، فهو منكر من القول، أحاشي جانب النبوة عنه([101]).
إذ كيف يتصوَّر أن سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين وأعظم الزاهدين ينظر إلى امرأة رجل من أصحابه الخصيصين به الملازمين له، الذي ادّعاه ولدًا له، وأنها تقع في خاطرة، وأنه يقصد فراق زوجه لها ليتزوَّجها؟! معاذ الله أن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو نسب ذلك لآحاد الناس لم يرضه لنفسه، ولا يرضاه أحدٌ لغيره.
وقائل هذه المقالة قد اقتحم أمرًا عظيمًا في جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصًا في زينب، فإنها ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة..)([102]).
ويقول البيجوري: (وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم تعلَّقَ قلبُه بها وأَخفَاه فلا يلتفت إليه، وإن جلَّ ناقلوه، فإن أدنى الأولياء لا يصدر عنه مثل هذا الأمر، فما بالك به صلى الله عليه وسلم؟! وهذا هو الذي نعتقده، وندين الله به، كما نقله السنوسي في كتبه)([103]).
الوجه الخامس: استبعاد حصول التعلُّق المُفاجِئ من النبي صلى الله عليه وسلم بابنة عمته رضي الله عنها مع حصول المعرفة المسبقة، وهذا الوجه ذكره عددٌ من علماء المالكية في إبطال القول الثاني، واستفاده منهم بعض المعاصرين([104]).
قال القاضي بكر بن العلاء القشيري: (وكيف يُقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم، وهو زَوَّجَها لزيدٍ؟!)([105]).
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: (فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه؛ فباطل، فإنه كان معها في كل وقتٍ وموضع، ولم يكُن حينئذ حجاب، فكيف تنشأُ معه، وينشأُ معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقعُ في قلبِه إلا إذا كان لها زوج؟! وقد وهبته نفسها، وكرهت غيره، فلم تخطر بباله، فكيف يتجدد له هوىً لم يكن؟! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة)([106]).
وقال ابن خمير السبتي: (وكذلك قولهم: إنه عليه السلام رآها فأحَبَّها تخرُّصٌ وزور، وكيف وقد تربَّت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى زوَّجَها لزيد؟!)([107]).
وأجابت بنت الشاطئ عن هذا الوجه بقولها: (أما كونه رآها طفلة وصبية وشابة، وزفها بيده إلى زيد، فـسبحان مقلب القلوب!)([108]). يقول الخفاجي: (وكان لم يمل لتزوّجها حين أرادته، فلذا قال: «مقلب القلوب» أي: مُغيِّر أحوالها ودواعِيها)([109]).
ويقال هنا: إننا نُسلِّم أنه لا برهان على استحالة التقلب في أحوال القلب ودواعيه، بل ذلك التقلب ممكن ذهنيًّا، ومجرد الاستبعاد ليس دليلًا كافيًا، غير أن هذا الجواب ليس فيه إثبات للإمكان الخارجي لذلك التقلب، حيث لم يذكر أصحاب هذا القول ما يدل على أنه كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعْرِضَ عن امرأة ثم تقَعُ في نفسه، بل أخباره مع النساء اللواتي عقد عليهن ولم يدخل بهن تدل على عكس ذلك.
وقد قدمنا أنه لم تصح رواية فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى زينب: «سبحان مقلب القلوب!».
الوجه السادس: الكراهة الطبعية للزواج من زوجة من هو في مقام ابنه صلى الله عليه وسلم، فإن زينب رضي الله عنها كانت في مقام زوجة الابن، والطباع تنفر من هذا النكاح، فكيف يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان محبًّا لطلاق زيد لها كي يتزوجها؟!
وقد أحسن التقي السبكي حين قال في ردّه على الغزالي في إبطال هذا القول: (فمن تأَمَّلَ هذه السورةَ، وعرَفَ شيئًا من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم تيَقَّنَ بالعلم القاطع أنه صلى الله عليه وسلم كان أكرهَ الناس بالطباع البشرية لزواجها، عكس ما توهمه الغزالي، وكان يشق عليه ذلك)([110]).
ويقول رشيد رضا: (فإن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب لمولاه وحِبِّه وربيبِه ومُتبَنَّاه يكون بحسب الطباع الكريمة مانعًا من الميل إلى التزوج بها، وناهيك بما اجتهد به من إقناعها، وهو يعرفها من صغرها)([111]).
الوجه السابع: أن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه: 131].
يقول القاضي أبو بكر ابن العربي مُستَدِلًّا بهذه الآية: (والنساءُ أفتنُ الزهرات، وأنشر الرياحين، فلم يُخالِفْ صلى الله عليه وسلم هذا في المُطلَقات، فكيف في المنكوحَات المحبُوسات؟!)([112]).
ويقول في موضع آخر: (وأول ما في تلك الروايات: استحسانُه لامرأة زيد، ومدُّ أمله إليها، وتعلُّقُ قلبِه وعينِه بها، والله تعالى يقول: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ}، وأعظم ما تُمتع به النساء)([113]).
ويقول القاضي عياض: (ولو كان على ما رُوي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عندَما أعجبَتْهُ، ومَحبَّتِه طلاقَ زيدٍ لها لكان فيه أعظمُ الحرج، وما لا يَلِيقُ به من مَدِّ عينيه لما نُهي عنه من زهرةِ الحياة الدنيا)([114]).
ويقول السنوسي: (وكيف يَشْغَف أشرف الخلق بحبِّ شيء من متعة الدنيا، لا سيَّما بعد أن حَصَلت في حوزِ غيره، ومولانا جل وعزّ يقول له: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ} [الحجر: 87، 88]، وقال عليه الصلاة وسلام: «لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الرحمن»، وقال عليه السلام: «ما لي وللدنيا؟!» الحديث)([115]).
الوجه الثامن: أن محبة الرجل للزواج من زوجة غيره من الحسد المذموم الذي يجب تنزيه مقام النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
يقول ابن العربي: (والحسد المذموم هو إرادة زوال النعمة من العبد إليك، وهي معصية عظيمة وخطيئة كبيرة، فكيف يستجيز مُسلمٌ ظنَّ ذلك بكبار الصحابة؟! فكيف بسيِّد المرسلين؟!)([116]).
ويقول القاضي عياض في بيان اللوازم الفاسدة لهذا القول: (ولكان هذا نفسَ الحسد المذموم الذي لا يرضَاهُ ولا يَتَّسِمُ به الأتقياء، فكيفَ سيِّدُ الأنبياء؟!)([117]).
قال الخفاجي في شرحه: (لأن الزوجة الحسناء نعمة مَنَّ الله تعالى بها، فهو بذلك يريد زوالها عنه. وقُيِّدَ بالمذموم لأن الغبطة حسدٌ غير مذموم؛ لأن معناها أن يتمنى أن يكون له نعمة كنعمة غيره من غير تمنِّي زوالها، وهذا في أمور الدنيا لا في الدين، وأقبح الحسد يتمنى زوال نعمة غيره، لا يحصل له)([118]).
غير أن الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي أجاب عن هذا الوجه بقوله: (وليس المرادُ بهِ -أي: القول الثاني- أنَّه حسَدَه عليها حتى يكون حسَدًا مذمومًا، بل مُجرَّد خطوره بباله بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، فلا محذورَ فيه، فتأمّل)([119]).
الوجه التاسع: أن في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بإمساك زوجه مع رغبته بها ما لا يجوز نسبته له من المنافقة وإظهار خلاف ما يُبطِن.
يقول أبو بكر ابن فورك: (والنبي صلى الله عليه وسلم مُنزَّهٌ عن استعمال النفاق في ذلك وإظهار خلاف ما في نفسه، وقد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، ومن ظَنَّ ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ)([120]).
ويقول ابن العربي في ذكره المؤاخذات على تلك الروايات: (فيها النفاق على زيد بأن يكون مائلًا إليها، مُريدًا لطلاقها، فيظهر خلاف ما يضمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن نفسه وعن حسبه الكرام: «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» هذا في الأمر بالحقِّ المكشوف، فكيف يكون له خائنة قلبٍ في تعلُّق أملٍ بزوجة أحدٍ؟!)([121]).
غير أن هذا الوجه ناقشه ابن عاشور بقوله: (قول النبيء عليه الصلاة والسلام لزيد: «أمسك عليك زوجك واتق الله» لا يناقض رغبته في تزوجها، وإنما يناقضه لو قال: إني أُحِبُّ أن تمسك زوجك، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار.
ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه، فضلًا على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالُفٌ بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نُصحَه لا يؤثر)([122]).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) «حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام» (ص101).
([2]) ينظر: «تفسير القاسمي» (8/ 87-88).
([3]) عزاه ابن حجر في «فتح الباري» (14/ 159) لابن أبي حاتم.
([4]) أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/ 186)، وابن جرير في «تفسيره» (19/ 116-117)، وابن أبي حاتم -كما في «تفسير ابن كثير»-، والثعلبي في «تفسيره» (2279)، والبيهقي في «الدلائل» (3/ 466)، من طرق عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان -وهو ضعيف- عن زين العابدين.
([5]) «تفسير البغوي» (6/ 356).
([6]) «تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم» (ص114).
([7]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص727).
([8]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص731).
([9]) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (14/ 191)، و«البحر المحيط» لأبي حيان (8/ 482)، و«الإبريز الخالص من الفضة» للجلال البلقيني (ص272-273)، و«المواهب اللدنية في المنح المحمدية» للقسطلاني (3/ 619).
([10]) «عمدة المريد» (2/ 868)، «شرح البيجوري على الجوهرة» (ص203).
([11]) «فتح الباري» (14/ 159).
([12]) «أحكام القرآن» للقشيري برواية أبي بكر الأدفوي (2/ 310)، وانظر أيضًا ما نقله عنه القاضي عياض في «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص730).
([13]) «تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء» (ص50، 60-61).
([14]) قال السمعاني في «تفسيره» (4/ 287): (ومنهم من قال: الذي أخفى في نفسه هو أنه لو طلقها زيد تزوج بها، وهذا أيضًا قول حسن). وهذا القول قريب من القول الأول، ولذلك لم أُفَرِّق بينهما، ومن العلماء من جعله قولًا مُستَقِلًّا كما رأيتَه عن السمعاني، ومثله عند الماوردي في «النكت والعيون» (4/ 406)، وابن الجوزي في «زاد المسير» (3/ 467).
([15]) «زاد المعاد» (4/ 385-386).
([16]) «ترشيح التوشيح» (لوحة 114)، واستفاده الخيضري بلا عزو في «اللفظ المكرم بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم» (ص478-479). وأشار الرملي الكبير إلى كلام السبكي في حاشيته على «أسنى المطالب شرح روض الطالب» للشيخ زكريا (3/ 101).
([17]) «فتح الباري» (14/ 159).
([18]) «شرح صغرى الصغرى» (ص220-222)، واستفاده العدوي في حاشيته على «شرح الخرشي على مختصر خليل» (3/ 158)، وعليش في «منح الجليل» (3/ 254).
([19]) «تفسير الثعلبي» (8/ 48)، ونقله عنه البغوي (6/ 355)، وعزاه ابن الجوزي لابن عبّاس في «زاد المسير» (3/ 467)، وابن الجوزي والماوردي يجعلان هذا قولًا وإيثار طلاقها قولًا آخر، كما جاء في رواية قتادة وابن جريج في ما يأتي. انظر «النكت والعيون» (4/ 406).
([20]) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2346)، والطبراني في «الكبير» (113، 114، 115)، وابن جرير في «تفسيره» (19/ 115 – 116) بنحوه من طريق سعيد، وزاد السيوطي عزوه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
([21]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (117) من طريق محمد بن ثور، وابن جريج من أئمة التفسير وله كتاب في التفسير من رواية حجاج بن محمد المصيصي، طبع مؤخرًا.
([22]) «تفسير مقاتل بن سليمان» (3/ 493-494).
([23]) عبر الزمخشري والبيضاوي بقولهما: (فوقعت في نفسه)، قال الشهاب الخفاجي: (أي: وقعت محبتها، وهي كناية عن الميل الاضطراري). (عناية القاضي وكفاية الراضي) (7/ 172) وسيأتي توجيه هذه الروايات بما لا يخالف العصمة.
([24]) أخرجه ابن جرير (19/ 116)، ونسب له ابن الجوزي في «زاد المسير» (3/ 467) القول الثاني في تفسير الآية، وقد اعتمد الشيخ أبو شهبة في «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» (ص323) على جرح عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في رد تلك الروايات، وجرحه ليس بمسقط لورودها عن السلف، لأنها جاءت عن غيره.
([25]) «تفسير الطبري» (19/ 114-115)، ولا يصح الاعتذار عن ابن جرير بأن (من أبرز سندَه تبِعَتُه أخف) كما ذكره الشيخ أبو شهبة في «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» (ص323)؛ لأن ابن جرير اعتمد تلك الروايات وفسّر بها الآية، ولم يكن محض ناقلٍ لها.
([26]) «التفسير الوسيط» (6/ 472)، ونحوه في «التفسير البسيط» (18/ 252).
([28]) «نساء النبي صلى الله عليه وسلم» (ص161). وإن كان يؤخذ عليها أنها تعاملت مع تلك الروايات على أنها مما يحتج به في إثبات تلك القصة.
([29]) أخرجه ابن إسحاق في «سيرته» (ص262).
([30]) أخرجه من طريق الواقدي ابن سعد في «الطبقات» (8/ 101-102)، والطبري في «تاريخه» (2/ 231)، والحاكم (6937). وقال البلقيني في «الإبريز الخالص من الفضة» (ص268): (وهذا مرسل، ومحمد بن عمر الواقدي فيه مقال).
([31]) «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» (ص323-324). وانظر أيضًا في دعوى وضعها: «حقوق النساء في الإسلام وحظُّهن من الإصلاح المحمدي العام» (ص100-101).
([32]) «التفسير الواضح» للشيخ محمد نسيب الرفاعي (ص424).
([33]) للشريف المرتضى من الإمامية كلام في الاعتراض على هذا الجواب، ولا يخفى غلو الرافضة في باب العصمة، وبنائهم ذلك على ما يذكرونه من التنفير. ينظر كلامه في كتابه «تنزيه الأنبياء» (ص157).
([34]) «شرح الإرشاد» (3/ 270-271).
([35]) إن سلم ثبوتها عن قائليها فلا يسلم أنها صحيحة، لعلة الإرسال والانقطاع.
([36]) يعني ما ذكره الشافعية في هذه الخصيصة، وسيأتي كلامهم في ذلك مفصلًا.
([37]) «حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار» (ص319-321).
([38]) «نساء النبي صلى الله عليه وسلم» (ص161-162).
([39]) «تفسير السمعاني» (4/ 287).
([40]) «الكشف والبيان» (21/ 460).
([41]) «تفسير البغوي» (6/ 256).
([42]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (ص731)، واستفاده اللقاني بلا عزو في «عمدة المريد» (2/ 869).
([43]) «تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء» (ص51-53).
([44]) «شرح المواقف» (8/ 278).
([45]) «التحرير والتنوير» (22/ 35-36).
([46]) «تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء» (ص51). وقد أحال ابن خمير لهذا الكتاب في كتابه «مقدمات المراشد إلى علم العقائد» (ص318) بعد أن نقد ما ورد في تلك الروايات نقدًا مجملًا وقال: (وما عسى أن تنقطع القلوب بسمع تلك القوارع!).
([47]) ولعل إنكار السنوسي الشديد في «شرح صغرى الصغرى» (ص222) يتنزل على مثل هذه الزيادة: “الشغف بحب زينب”، فإنه قال: (وليس معنى الآية ما يعتقده بعض الجهلة أن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو الشغف بحب زينب.. وهذا الفهم الركيك لا يرضى به عاقل، ولا يرتكبه إلا غبي سيئ الأدب، سخيف العقل جاهل).
([48]) «الجامع لأحكام القرآن» (14/ 191).
([49]) «زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم» (4/ 385).
([50]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص731).
([51]) «حياة محمد صلى الله عليه وسلم» (ص204).
([52]) قال المواق في «التاج والإكليل» (5/ 5-6) عند قول خليل في الخصائص: “(وطلاق مَرغُوبَتِه): عزا ابنُ العربي هذا لأبي المعالي، قال: وقد بينا الأمر في قضية زيد بن حارثة”. وكلام ابن العربي في «أحكام القرآن» (3/ 599) وصرح فيه أنه استفاد باب الخصائص من أبي المعالي، وقد نقل ابن شاس كلامَ ابن العربي في هذا الموضع في أول كتاب النكاح من كتابه «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 6)، وتبعه في ذلك خليل في مختصره كما نصّ على ذلك تلميذه بهرام في «شرحه» (2/ 868)، وهذا يدلُّ أن خليلًا تبع للجويني في ما ذكره. وقد ذكر بهرام أيضًا هذه الخصيصة في كتابه «الشامل» (1/ 318).
([53]) «تعليقة القاضي حسين» نسخة خطية (لوحة 165 – ب).
([55]) «نهاية المطلب في دراية المذهب» (12/ 18).
([57]) «العزيز في شرح الوجيز» (13/ 41). والخَلِيَّة: غير المزوجة، وليس هذا اللفظ اسمًا لكتاب، كما توهمه المحقق، وجعلها (الحلية) -بين قوسين هكذا- وبالحاء!
([58]) «روضة الطالبين» (7/ 9).
([59]) المقصود: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخ الطريقة العراقية، لا الغزالي.
([60]) «إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع» (10/ 210)، وانظر «الإبريز الخالص من الفضة» (ص261).
([61]) «المطلب العالي شرح وسيط الغزالي» -رسالة جامعية محققة من بداية النكاح إلى نهاية الركن الثالث من أركانه- (ص171).
([62]) «نهاية المطلب في دراية المذهب» (12/ 18).
([65]) «نظم الدرر السنية في السير الزكية» (ص106)، وانظر: «العجالة السنية» للمناوي (ص150).
([66]) «تعليقة القاضي حسين» نسخة خطية (لوحة 165 – ب).
([67]) «المطلب العالي شرح وسيط الغزالي» -رسالة جامعية محققة من بداية النكاح إلى نهاية الركن الثالث من أركانه- (ص172). وقد حكى ابن الرفعة القولين في تفسير الآية دون ترجيح.
([68]) «الأنوار لأعمال الأبرار» (2/ 353). وانظر: حاشية الرملي الكبير على «أسنى المطالب شرح روض الطالب» للشيخ زكريا (3/ 101).
([69]) «الإبريز الخالص من الفضة» (ص265).
([70]) «الإبريز الخالص من الفضة» (ص268).
([71]) «إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع» (10/ 210).
([72]) «شرح الزرقاني» (3/ 278)، «شرح الدردير» (2/ 211).
([73]) «شرح مختصر خليل» (ص171).
([74]) «التسهيل والتكميل» (2/ 204).
([75]) «نهاية المطلب» (12/ 12).
([77]) انظر: «الإبريز الخالص من الفضة» للبلقيني (ص269).
([78]) «شرح المواقف» (8/ 278).
([79]) «عصمة الأنبياء» للرازي (ص148).
([80]) «جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر» (3/ 533).
([81]) «الفتوحات السبحانية» (2/ 92).
([82]) انظر: «اللفظ المكرم بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم» (ص471).
([83]) «التنقيح شرح مشكل الوسيط» (3/ 516-518).
([84]) «غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم» لابن الملقن (ص199). وأورد كلامه المقريزي في «إمتاع الأسماع» (10/ 212-213)، والخيضري في «اللفظ المكرم» (ص483).
([85]) «الإبريز الخالص من الفضة» (ص270-272)، واستفاده المقريزي في «إمتاع الأسماع» (10/ 213).
([86]) «المطلب العالي شرح وسيط الغزالي» -رسالة جامعية محققة من بداية النكاح إلى نهاية الركن الثالث من أركانه- (ص181).
([87]) أي: باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
([88]) نقله عنه الزرقاني في «شرح المواهب اللدنية» (7/ 170)، وهو في «اللفظ المكرم» للخضيري (ص479) بلا عزو.
([89]) «عصمة الأنبياء» للفخر الرازي (ص145).
([90]) قال البيضاوي في «تفسيره» (2/ 247): ({فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}: حاجةً بحيثُ مَلَّهَا، ولَم يبقَ لَهُ فيها حاجة، وطَلَّقَها، وانقضت عِدَّتُها). قال الخفاجي في «حاشيته» (7/ 173): (ولعل مَلَلَهُ منها كان لتفَرُّسِه في أنها لا تدُوم على زوجِيَّتِه). وفي هذا كله ردٌّ على من استدل بهذه القصة على وجوب طلاق مرغوبة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن ذلك من خصائصه، كما قدّمناه مفصلًا.
([91]) «أضواء البيان» (6/ 641-642).
([92]) «أضواء البيان» (6/ 641).
([93]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص729).
([94]) «تفسير القرآن العظيم» (6/ 424-425).
([95]) «فتح الباري» (14/ 159).
([96]) «تفسير السمعاني» (4/ 287).
([97]) «تفسير البغوي» (6/ 356).
([98]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص729-730).
([99]) «نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض» (4/ 307).
([100]) «ترشيح التوشيح» (لوحة 114).
([101]) ووصفه ابن الأمير في حاشيته على «شرح عبد السلام للجوهرة» (ص214) بأنه (قولٌ سامج)!
([102]) «ترشيح التوشيح» (اللوحة 114).
([103]) «شرح جوهرة التوحيد» (ص204)، وكلام السنوسي سبق بنصه في أكثر من موضع من هذا البحث، وانظره بتمامه في «شرح صغرى الصغرى» (ص220-223).
([104]) «حياة محمد صلى الله عليه وسلم» لهيكل (ص207).
([105]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص730).
([106]) «أحكام القرآن» (3/ 577).
([107]) «تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء» (ص51).
([108]) «نساء النبي صلى الله عليه وسلم» (ص161).
([109]) «عناية القاضي وكفاية الراضي» (7/ 172).
([110]) «ترشيح التوشيح» (لوحة 114).
([111]) «حقوق النساء في الإسلام وحظُّهن من الإصلاح المحمدي العام» (ص100).
([112]) «أحكام القرآن» (3/ 578).
([113]) «تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم» (ص113).
([114]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص730).
([115]) «شرح صغرى الصغرى» (ص222-223).
([116]) «تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم» (ص113-114).
([117]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص730).
([118]) «نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض» (4/ 309).
([119]) «عناية القاضي وكفاية الراضي» (7/ 172).
([120]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (ص731).
([121]) «تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم» (ص113).