الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله سبحانه وتعالى. ثم إذا انتهى وقت تلك الفريضة والشعيرة خرج عن دائرة العبودية لله سبحانه وتعالى!
والواقع أن الأمر ليس كذلك؛ فالعبودية أعظمُ مقاصد الدين؛ وهي سمة شريفة ملازمة للمسلم في سكناته وحركاته وخلواته وذهابه وإيابه وقيامه وقعوده ونومه وراحته وعمله وفي كل حاله؛ فهو عبد لله سبحانه وتعالى في كل حين؛ وينبغي أن تكون كذلك وتهيمن على المسلم في كل شؤونه؛ ويستحضر هذه النية في قلبه على كل حال؛ فهو عند راحته ينوي التقوِّي للعبادة، وعند تمتُّعه بالمباح ينوي التوقّي مما ينافي العبودية من المنهيات، وعند طلبه للرزق ينوي الاستعانة على العبادة؛ وهذا أعلى مقاصد الدين وأشرفها وأهمّها، وهو ما دلَّت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهو ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، وفي هذه الورقة تجلية هذا المقصد العظيم. فاللهم أرنا الحقَّ حقًّا وازرقنا اتباعَه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه([1]).
مركز سلف للبحوث والدراسات
تمهيد:
مقصد مقاصد العقيدة هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بل هو مقصد مقاصد الدين كله؛ ومن جلالة هذا المقصد أن أرسل الله من أجله الرسل وأنزل من أجله الكتب، فلا تخلو أمّة من البشر إلا وقد بلَّغهم الله تعالى البلاغ المبين؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ومن ينقّب في آيات العقيدة في كتاب الله تعالى وأحاديثها في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوصهما تصرِّح وتبدئ وتعيد بأن مقصد المقاصد العقدية هو إخلاص العبودية الله سبحانه وتعالى، والنصوص كثيرة، فقد فصَلَ سبحانه وتعالى وفصَّلَ القول في هذه القضية، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
بل لبالغ أهميتها احتوتها أول ألفاظ القرآن ودلّت عليها، فـفاتحةُ فاتحةِ القرآن اشتملت على جميع أنواع توحيد الله سبحانه وتعالى، وأولها إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبودية، وذلك في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3].
فـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ} دليل على توحيد الألوهية، و{رَبِّ الْعَالَمِينَ} دليل على توحيد الربوبية، و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} دليل على توحيد الأسماء والصفات.
وكذلك أول أمرٍ في القرآن أمرٌ بإفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وأول نهيٍ فيه نهيٌ عن الشرك: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
فمن هذه الغاية يبدأ دين الإسلام كما بدأ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم»([2])، وبنطقها يبدأ الإنسان إسلامه، وعلى أساسها ينشأ بنيانه؛ «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله…» الحديث([3])، وبالبدء به في الدعوة أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين أرسله فقال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله»([4]).
حقيقة العبودية:
وإلى هذه المكانة والأهمية أشار جمع من علماء الإسلام، سواء بعد بيان حقيقتها اللغوية أو الشرعية، ومن المعلوم أن على تحرير مفهوم العبادة مدار الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم؛ وليس من مقاصد هذ الورقة مناقشتها، ولكن لا بد أن نؤكد هنا أن المعنى اللغوي لا يكاد يخرج كثيرا عن المعنى الشرعي، بل هو أصله وأساسه.
ذلك أن المعنى اللغوي للعبادة يدور حول خمسة معان هي: الخضوع، والذلّ، والطاعة، والتَّمليك، والتنسُّك([5]).
قال ابن فارس (395هـ) رحمه الله: “العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصلين يدلّ على لين وذل، والآخر على شدة وغلظ. فالأول العبد، وهو المملوك… فالمتعبد: المتفرد بالعبادة. واستعبدت فلانا: اتخذته عبدا. وأما عبد في معنى خدم مولاه فلا يقال: عبده، ولا يقال: يعبد مولاه. وتعبد فلان فلانا، إذا صيره كالعبد له وإن كان حرا”([6]).
ومن أشهر تعريفات العبودية الاصطلاحية الشرعية وأدقها ما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) رحمه الله حيث عرَّف العبادة بأنها: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”([7]).
ثم ضرب لها أمثلةً تدل على شمول هذا المقصد لحياة الإنسان وتنوّعه، فذكر الصلاة والزكاة وصدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين والدعاء والذكر وحبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة([8]).
فالعبودية إذن اسم جامع يشمل جميع أنشطة الإنسان وحياته، وكثير من الناس انحرف عن هذا المعنى الحقّ للعبودية أو غفل عنه؛ فهناك من أغفل الجانب القلبيّ من العبودية وغلا في الجانب الظاهر وعمل الجوارح، وفي الطرف المقابل نجد من الناس من غلا في الجوانب الروحانية وزعم أنها تكفيه عن أعمال الجوارح، والحق أن يجمع الإنسان بين أنواع العبودية كلها ويتزن في ذلك.
أهمية مقصد العبودية:
يعتبر مقصد العبودية لله سبحانه وتعالى أصلَ المقاصد العقدية، بل مقصد مقاصد الدين؛ وليس هذا من باب المبالغة، وإنما هو الحقيقة والواقع؛ فمقصد العبودية لله تعالى مقصود لنفسه؛ والمقاصد العقدية الأخرى تابعة لهذا المقصد وخادمة له؛ فمثلا: مقصد حفظ النفس إنما يُقصد من أجل مقصد العبودية لله تعالى، ومقصد حفظ العرض ينتج عنه حفظ النسل وبقاء الإنسان؛ وإنما المقصد النهائي من وجود الإنسان هو العبودية لله سبحانه وتعالى؛ ومن فهم هذا وأدركه وأيقنَ به نعِم بالطمأنينة والسعادة في حياته الدنيا قبل الآخرة؛ ولذا فإن هذا هو أصل الدين، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وإنما نبّهنا هنا على رؤوس المسائل وجنس الدلائل، والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وما سدَّته من الذريعة إلى الشرك دقّه وجله، فإن هذا هو أصل الدين، وحقيقة دين المرسلين وتوحيد رب العالمين“([9]).
ولأهمية هذا المقصد نجد المولى سبحانه أكثير ما يوصي نبيه صلى الله عليه وسلم بالالتزام به، ويكرر أمره به مع أنه أرفع الخلق درجةً عنده وأكثر البشرية عبادةً له، “فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله واقتَبِسْه بنور الإيمان، فقد قال الله تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 7، 8]، وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 25، 26]، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وقال سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40]… وقال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]”([10]).
ولئن كان سبيل العلاقة بين الإنسان وخالقه الذي خلقه هي العبودية فلا شكّ أنها أشرف العلاقات وأعلى المقاصد وأكملها؛ ولذا نعت المولى سبحانه وتعالى نبينا محمدًا بهذه السمة كما في قصة الإسراء، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، ومثله في قصة المعراج فقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، وبمثله نعته أيضا في مواجهة أول تحدٍّ مع ألد أعدائه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23]، وحين امتنَّ عليه بإنزال القرآن الكريم نعته أيضا بالعبودية فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9].
وبمثلها وصف المولى سبحانه أولياءَه وأصفياءَه وأخبر عنهم، يقول الغزالي (505هـ) رحمه الله: “ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا وصفهم، فقال تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، وقال عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]، وقال عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وقال تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]”([11]).
إذن عبادة الله هي “أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية”([12]). ثم إن الإنسان هو صاحب الحاجة في هذه العلاقة؛ فهو محتاج إلى خالقه الذي خلقَه وأنعم عليه وربّاه وأحاطه بالنعم من كل جانب، وهو من موجبات إخلاص العبادة له، كما أن من موجبات إخلاص العبادة أنه سبحانه له الكمال والجلال المطلق في ذاته وصفاته والله سبحانه؛ يقول ابن القيم (751هـ) رحمه الله: “ولمَّا كانت عبادته تعالى تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبَّة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكرًا وعبوديَّة بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكمالِه فتوجب عبوديَّة وطاعة أكمل من الأولى؛ كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين”([13])، ولذا كان لهذا المقصد هذه المنزلة السامقة؛ فكلما كانت حاجة الإنسان أشدَّ كان أكبر أهمية وأشرف وأعلى من غيره منزلة وأكثر بيانا ودلائلَ؛ والعبودية بالنسبة للإنسان أهمّ الحاجات وأعلاها وأشرفها؛ ولذا نعت المولى نبيه صلى الله عليه وسلم بها في أشرف الأماكن.
ثم إن العبودية هي المنجيةُ للعبد يوم القيامة، وهي سبب دخول الجنة كما يقول الغزالي رحمه الله: “من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته، فإن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فأمره مخطر، ولكن الرجاء غير منقطع، والعفو من كرم الله منتظر، فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه”([14]).
كما أن المولى سبحانه وتعالى جعلها أهمَّ المقاصد وأعلى المطالب بالنسبة للإنسان؛ وهو ما نجد نبينا عليه الصلاة والسلام يصرِّح به بين صحابته الكرام؛ فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يُظهر نفسه على أنه أكمل الناس علمًا أو أعلاهم جاهًا أو أكثرهم مالا، بينما نجد منه أنه يظهر نفسه بين الملأ بهذه العلاقة ويتشرَّف بها، سواء في سنته القولية أو الفعلية أو التقريرية، ومن ذلك على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم لمن لم يفهم معنى العبودية الحقَّة وجنح إلى الغلو وزعم تركَ مُتَع الدنيا من نكاح وأكل ونوم: «أما والله إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأفطر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس مني»([15]).
ولا يتنافى هذا مع الندب إلى إسرار العبادة وإخفائها، بل قد يكون إظهار العبودية لله في بعض الحالات أفضل من الإسرار، كما علق الحافظ ابن حجر على حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة: “وفي الحديث ملازمته صلى الله عليه وسلم للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك”([16]).
وما أحسنَ ما قال ابن تيمية رحمه الله في بيان عظم حاجة الإنسان إلى العبودية حين قال: “الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله رأس الأمر”([17]).
أضف إلى كل ذلك أن هذا المقصد -وهو العبودية لله سبحانه وتعالى- هو مقصود بعثةِ الرسل عليهم السلام؛ ولذا كرر المولى سبحانه وتعالى هذا الأمر كلما ورد ذكر رسول من الرسل قائلا: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 32]، بل نص سبحانه وتعالى مبيِّنا أنه مقصد الرسالات كلها قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ولئن كان القرآنُ الكريم بإعجازه وآياته ودلائله وألفاظه ومعانيه العظيمة أنزله الله من فوق سبع سماوات وجعله المعجزة الخالدة، فإن المقصد من هذا الكتاب هو العبودية لله سبحانه وتعالى([18]).
شمولية مقصد العبودية لأحوال الإنسان:
من المعاني الإيمانية الأصيلة التي تكاد تغيب عن أذهان المسلم اليوم أنه في كل حاله يدور حول فلك الغاية العظمى والمقصد الأجلِّ الذي خُلِق له؛ فمقصد المقاصد هو إخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى؛ وقد كان السلف يمتثلون أمر الله سبحانه وتعالى ويحيون حياتهم على العبودية في كل أحوالهم كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]؛ فهنا بيَّن المولى سبحانه وتعالى أنهم يعتبرون بخلق السماوات والأرض ويتفكرون فيها، ويتعبدون الله بتأمل خلقه سبحانه وتعالى في “ارتفاعها واتساعها، وانخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص”([19])، وهذا التفكّر مقرونٌ بذكرهم لله سبحانه وتعالى في كل أحوالهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، والمقصود بكونهم يتفكرون في خلق السموات والأرض “أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة”([20]).
وحياة الإنسان دائرة حول هذا المحور؛ سواء فيما يفعله مِن فعلٍ أو يتركه مِن أمرٍ، وسواء كان في أمر من الواجبات كالفرائض أو في شيء من المندوبات كالسنن الرواتب أو انتهى عن المكروهات والمحرمات، بل وحتى لو كان في مباح من المباحات قَصد به التقوِّي للعبادة والتعفُّف عن المحرم فهو في عبادة؛ “فالنافع للعبد هو طاعة الله، ولا شيء أنفع له من ذلك، وكل ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح”([21]).
إذن العبودية حقيقة ملازمة للنفس المسلمة مهيمنة على حياته؛ ومن هنا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يستحضرون نية التعبُّد وهم يفعلون المباحات، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)([22]).
فكان يفعل المباحات مستذكرًا المقصد الأعظم والغاية العليا التي من أجلها خُلق، وهي العبودية لله سبحانه وتعالى، وإلى هذا أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم حين بيَّن أن حياة المسلم دائرة بين العبودية حتى وقتِ انشغاله بالمتع والمباحات إذا كان يستحضر نية التعبد فيها وتجنب المحرمات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم، قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»([23]).
وما أحسنَ ما أوضحَه الإمام النووي (676هـ) رحمه الله حين قال: “المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعةً ويثاب عليه، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك»([24])؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخصّ حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذّه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذّذ بالمباح، فهذه الحالة أبعدُ الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطا والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكفَّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام، وليقضيَ حقَّها، وليحصل ولدًا صالحا”([25]).
إذن مما يجلِّي لنا مكانةَ العبودية لله في الدين الإسلامي أنها تشمل جميع مناحي حياة الإنسان؛ فالإنسان في حياته همّام حارث، وهو بين فعل وترك؛ والمسلم في فعله وتركه دائر بين العبودية لله سبحانه وتعالى، فهو حين يبادر إلى الفعل يتوخّى ما أمره الله به أو لم يحرمه الله تعالى سواء المأمورات أو المندوبات أو المباحات، وحين يترك شيئا فهو يتركه إرضاء لله سبحانه وتعالى من المنهيات سواء المكروهات أو المحرمات؛ وليس للمسلم شيءٌ خارجًا عن هذه القسمة في حياته، ثم إن هو وقع في المعصية وفعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به فإنه يتوب ويؤوب إلى ربّه ويستغفره؛ فالمسلم في كل ذلك دائر بين العبودية كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، أي: إن صلاتي وذبحي وحياتي ووفاتي خالصا لله سبحانه وتعالى ولعبادته دون ما أشركتم به، لا شريك له في شيء من ذلك من خلقه، ولا لشيء منهم فيه نصيب؛ لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصا([26]).
وهكذا لا انفكاك للإنسان عن العبودية ما دام في الحياة الدنيا، فالدنيا دار عمل لا دار جزاء، كما أمر الله بذلك نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، واليقين هنا هو الموت كما ورد ذلك عن السلف، ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر([27])، ولا يصح تفسيرها بأنها مرتبة ينقطع فيها المرء عن طاعة الله وعبادته، بل إن “علامة قبول الطاعة أن توصَل بطاعة بعدها، وعلامة ردّها أن توصَل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة، ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور”([28]).
ومما اشتهر من الأبيات وهي تُروى عن القاضي عياض (544هـ) رحمه الله:
ومما زادني شرفًا وفخرًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولِك يا عبادي وأن صيَّرت أحمدَ لي نبيا([29])
ولا يقتصر الأمر في الدين الإسلامي هنا على مجرد شمول العبادة لجميع أنشطة الإنسان وأفعاله سواء الظاهرة أو الباطنة وسواء القول أو الفعل؛ بل إن أهل السنة يؤكِّدون التلازم بين الظاهر والباطن، وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان في باطنه عابدًا لله سبحانه وتعالى ثم لا يوجد منه أي فعل في الظاهر من مقتضيات ذلك الباطن من الانقياد لأمر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه إلا في حالة نادرة وهي الإكراه؛ ولذا عذره الله فقال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]؛ ولكن الإكراه إنما يكون على العبادات الظاهرة، وأما العبادات الباطنة فلا يتصوَّر الإكراه فيها.
والعكس أيضا صحيح؛ فلا يمكن أن يكون الإنسان عابدًا لله في ظاهره بالكلية ثم هو في باطنه غير عابد له ولا مطيع، إلا في حالة واحدة وهي حالة النفاق، أعاذنا الله منه.
فبين الظاهر والباطن تلازم مطّردٌ ومنعكسٌ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([30]).
وقبل أن نرفع القلم عن القرطاس أجد أنه لا بد من التنبيه إلى أنه ليس المقصد هنا أن يتنطّع العبد وينقطع في الشعائر التعبدّية من صلاة وصوم وذكر ويترك ما فطره الله عليه من بذل أسباب المعيشة والرزق والصلة والاختلاط، فإنه “ينبغي للإنسان أن لا يحتمل من العبادة إلا ما يطيق الدوام عليه ثم يحافظ عليه” كما ذكر الإمام النووي([31]) رحمه الله.
إذن التنطع والغلو في الشعائر مع التفريط في الأخذ بالأسباب مذموم، وهو يؤدي إلى الانقطاع عن العبادة وعن العمل كما قال ابنُ عبدِ البرِّ (463هـ) رحمه الله: “وأنتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون لحقكم الملل وأدرككم الضعف والسآمة، وانقطع عملكم، فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل”([32]).
وما أحسن ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: “لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلَب، قال ابن المنير: في هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطّع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلّي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة”([33]).
بين عبودية الأعلى وعبودية الأدنى:
العبودية بالنسبة للإنسان مكوَّن أساسي في طبيعته وجبلته؛ فالإنسان لا ينفك عن العبودية مهما زعم وادعى ذلك؛ لأنه مفطور ومجبول على العبودية؛ فيبقى الخيار إما أن يكون من عباد الإله الحق، أو يعبد آلهة باطلة حتى ولو اتخذ إلهه هواه.
ومن هنا نجد أن القرآن يؤكد أنهما أحد طريقين: إما العبودية لله وحده لا شريك له، أو العبودية للشيطان؛ ولذلك نادى إبراهيم أباه داعيا له أنه لا مفرَّ من عبادة الشيطان إن لم يعبد الله سبحانه وتعالى، فقال: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]؛ ذلك أن تركه عبادة الله وانصرافه إلى عبادة الأصنام إنما هي طاعة للشيطان؛ لأنه “هو الداعي إلى ذلك، والراضي به”([34])؛ ومن هنا عهد الله إلى بني آدم أن يعبدوه وألا يعبدوا الشيطان، فقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]، فهما خياران لا ثالث لهما([35]).
وعبادة الشيطان هنا لا تعني أن الإنسان يسجد له ويصلي له، ولكنه يطيعه فيما يحبه ويدعو إليه ويرضى دون أن تكون له أي سلطان على الإنسان؛ ولذا يقول يوم القيامة متبرئًا: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]؛ فعبادة الشيطان يمكن أن تكون عبادة للأصنام كما هو حال والد إبراهيم عليه السلام، ويمكن أن يكون عبادةً للهوى كما قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، فهو ليس متحرّرا من العبودية بقدر ما هو عابد لهواه ورغباته وشهواته؛ فما دعته إليه فعله وانتهجه، وما استقبحه تركه وأعرض عنه؛ فبدلا من أن يعبد مولاه وربَّه يعبد هواه، ويبين ابن كثير حقيقة هذه العبودية قائلًا: “مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]… قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول”([36]).
كما أن من عبادة الشيطان عبادة المال؛ فيكون المال هو الذي يشرعّ للإنسان ما يفعله وما ينتهي عنه؛ فما كان جالبًا للمال فعله، وما كان مانعًا له تركه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع»([37]).
وقد يدخل الشيطان على العبد من باب العُجب والاغترار بطاعته وعبادته لله سبحانه وتعالى ورضاه به وإعجابه؛ بما يصل إلى درجة حسن ظنه بنفسه وبعمله، فينقلب وبالا وخسرانا عليه، كما يقول ابن القيم رحمه الله: “كل طاعة رضيتها منك فهي عليك، وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك؛ رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنّه بنفسه وجهله بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به”([38]).
وخلاصة الأمر: أن الإنسان لا انفكاك له عن العبودية لله، بل عزه وكرامته أن يترقي إلى مرتبة العبودية، وذلّه وحيرته وضياعه أن يتهاوى في دركات المعاصي، يقول ابن قُتيبةَ (276هـ) رحمه الله: “من أراد عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذلّ معصية الله إلى عز طاعة”([39]).
ختاما:
إن العبودية لله سبحانه وتعالى مقصدُ مقاصدِ الدين الإسلامي، وهي في ذات الوقت مفتاح سعادة القلب وصلاحه وفلاحه؛ فبينهما تلازم واطراد؛ فمتى التزم العبد مقصد خالقه ومولاه من إيجاده سعِد ونعِم، ومتى أعرض عنه شقيَ ونَدم؛ فبذكر الله تطمئن القلوب وتأتلف وتسكن، وبعبادته تقرّ العيون؛ فالإنسان أحوج ما يكون إلى العبودية، ولذا كان مقصد المقاصد ومقصد الدين العظيم، ولم يكرم الله إنسانا بأشرف وأسمى من العبودية؛ فالكرامة كل “الكرامة لزوم الاستقامة، وإن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]”([40]).
يقول ابن رجب (795هـ) رحمه الله: “فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبدٍ وهدايته أعانه ووفَّقه لطاعته، فكان ذلك فضلًا منه، وإذا أراد خِذلانَ عبدٍ وكلَهُ إلى نفسه، وخلَّى بينَه وبينَها، فأغواهُ الشيطانُ لغفلته عن ذكرِ الله، واتَّبع هواه، وكان أمره فُرُطًا”([41]).
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أفدت في موضوع هذه الورقة العلمية من عدة مراجع، ومنها:
- العبودية لابن تيمية وشرحها للشيخ عبد الرحيم السلمي.
- المقاصد العقدية عند شيخ الإسلام ابن تيمية، حنان العنزي، وهي في الأصل رسالة دكتوراه بقسم العقيدة بجامعة أم القرى. ومنها استلهمت فكرة هذا المقال وتشجعت له.
- مقاصد العقيدة الإسلامية دراسة في التفسير الموضوعي، عبد الله محمد عبد الرحمن رزق.
- مقاصد العقيدة الإسلامية مفهومها وأهميتها ومظانها، حسني خيري طه.
- المقاصد العقدية في القرآن الكريم ملامح منهجية ومعرفية، مولاي المصطفى الهند.
- بيان مقاصد العقيدة، أحمد بن محمد النجار.
([2]) أخرجه البخاري (4777) ومسلم (8).
([3]) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).
([4]) أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
([5]) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 138)، لسان العرب (3/ 273).
([7]) العبودية (ص: 44)، وهناك تعريفات أخرى لغيره، ينظر: الكليات للكفوي (ص: 650).
([9]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 385).
([10]) إحياء علوم الدين (1/ 330).
([11]) إحياء علوم الدين (1/ 330).
([12]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 181).
([13]) مفتاح دار السعادة (2/ 89).
([14]) إحياء علوم الدين (1/ 330).
([17]) قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة (ص: 32).
([18]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (9/ 369).
([19]) تفسير ابن كثير -ت سلامة- (2/ 184).
([21]) مجموع الفتاوى (10/ 31) بتصرف يسير.
([24]) أخرجه البخاري (2742) ومسلم (1628).
([25]) شرح صحيح مسلم (11/ 77).
([26]) ينظر: جامع البيان (12/ 283).
([28]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 64).
([29]) ينظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 324) حاشية 2.
([34]) تفسير ابن كثير -ت سلامة- (5/ 235).
([35]) ينظر: تفسير الطبري -ت شاكر- (20/ 542)، تفسير ابن كثير -ت سلامة- (6/ 584).
([36]) تفسير ابن كثير -ت سلامة- (6/ 113).
([38]) مدارج السالكين (1/ 175).