
بيانُ مركزِ سلف في الردِّ على فتوى دار الإفتاء المصريَّة بجواز طَلَب المدَدِ من الأموات
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومنِ اهتدَى بهداه.
أما بعد: فقد أصدَرت دارُ الإفتاء المصريّة فتوى تجيزُ فيها طلَبَ المدَدِ منَ الأموات، وهو ما يُعدُّ من المسائل العظيمةِ التي تمُسُّ أصلَ الدين وتوحيدَ ربِّ العالمين؛ وصدورُ هذه الفتوى من جِهةٍ يُفتَرَضُ فيها أن تدعوَ الناسَ إلى الإقبال على الله والالتجاء إليه وإخلاص الدين والدعاء له سبحانه -لا أن تزيدهم بعدًا عن الله، وتحرّضَهم على التعلُّق بالأوهام والخرافات، وتأخذَ بأيديهم إلى هتك حرمات الشرع والوقوعِ في الذنب الأكبر- لأمرٌ يستحقُّ الاعتراضَ والإنكارَ من جميع المؤسَّسات الشرعية -الرسمية وغير الرسمية- ومن جميع الأفراد الداعين إلى توحيد الله وإفراده بجميع أنواع العبادات التي منها الدعاء وطلب الغوث والمدد، فنسأل الله جل وعلا أن يعيدَهم إلى الحقِّ ويُلهمَهم الرُّشدَ.
وأما هذه الفتوى فلا شكَّ في بُطلانها، وأنها دعوةٌ جاهلية، وضلالة عمياء، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنّ طلبَ المدَد منَ الأموات هو توجُّهٌ منَ العبد إلى ميّت -كوليٍّ أو نبيٍّ- فيطلب منه العطاء أو الشفاء أو الغوث أو الرزق أو النصر، كأن يقولَ: “مدَدك يا سيِّدي البدويّ”، أو “المدَد يا حسين”. وهذا الدعاء يدخل في باب دعاء غير الله عز وجل، وهو من الشرك الأكبر.
الوجه الثاني: أنّ الأدلةَ الشرعيةَ عن الله ورسوله جاءت دالّةً على بطلان ذلك القول، ومنها:
– قول الله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾ [غافر: ٦٠].
ووجهُ الاستدلال من الآية: أنه تعالى أمر العباد بدعائه هو، وسمى الدعاء عبادة، ووعد من فعل ذلك بدخول جهنم، ولا شكَّ أن طلَبَ المدَد من الميِّت دعاءٌ له.
– وقول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ووجهُ الاستدلال من الآية: أنه سبحانه نهى نهيًا قاطعا عن دعاء أحد مع الله، ومن طلب مددًا من صاحب قبر فلا شكَّ أنه داعٍ مع الله، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
فإن قالوا: إنما ندعو المدَد من صاحب القبر ليكونَ وسيطًا لنا إلى الله، فنحن نقصد دعاءَ الله لا دعاءَ غيره.
فيقال لهم: هذا من تلبيس إبليس -أجارنا الله والمسلمين-، وإلا فإن الله يقول: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ﴾ [البقرة: ١٨٦].
فالله تعالى يثبت هنا قربَه من الداعين، فلا يحتاج الداعي إلى واسطة، بل ادعاء احتياجه للواسطة هو قول المشركين، قال تعالى: ﴿أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَى اللَّهِ زُلفى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم في ما هُم فيهِ يَختَلِفونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ [الزمر: ٣]. وفي هذه الآية عدد من الفوائد في هذا الباب، منها:
أنَّ الله لا يقبلُ منَ الدين إلا ما كان خالصًا له، وسؤال صاحب القبر المددَ مناقضٌ للإخلاص في الدين.
ثم ذمَّ الله تعالى الذين اتَّخذوا من دونه أولياء، أيًّا كان نوعهم، فالأولياء لا يكونون في شيء مع الله أبدًا، لا في مددٍ ولا رزقٍ ولا ولَدٍ.
أنَّ عبادة غير الله تكون بدعائه، ومن ذلك سؤاله المدَد، وأن ذلك بدعوى تقريب عابديهم إلى الله، ولا شكَّ أن سؤال العبدِ المدَد بدعوى الوساطة والتقريب والشفاعة هو من أخصِّ صوَر العبادة، أعاذنا الله والمسلمين.
– وقول الله تعالى: {والذينَ تدعون من دونه ما يملكون من قِطْمِير إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13].
ووجه الاستدلال من الآية: أن الله تعالى بين عجز من يُدعَى من دون الله، سواء أكان صاحبَ قبر أو وثنًا أو غير ذلك، كلّ أولئك لا يملكون شيئًا من قطمير، فكيف يُدَّعَى قدرتُه على إمداد الناس على وجه الأرض، وفَهمِ لغاتهم وإحصاءِ أحوالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وغير ذلك من الآيات الكثيرات المصرِّحات بتحريم دعاء غير الله تعالى.
أما كلام رسول الله فكثير أيضا، ومنه:
– حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه أحمد والترمذي وقال: “حديث حسن صحيح”.
ووجه الاستدلال من الحديث: في قوله: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» والأمر بالشيء نهي عن ضده، أي: لا تسأل غير الله، ولا تستعِن بغير الله، ولا شكَّ أن سؤال المقبور المدَدَ هو سؤالٌ لغير الله واستعانة بميّت عاجز عن نفع أحد.
– وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. رواه البخاري.
والعباس كان حيًّا، فتوسَّل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بدعائه، والمعنى: أننا كنا نقصد نبيَّنَا صلى الله عليه وسلم ونطلب منه أن يدعوَ لنا، ونتقرّب إلى الله بدعائه، والآن وقدِ انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعوَ لنا، فإننا نتوجه إلى عمِّ نبيّنا العباس، ونطلب منه أن يدعوَ لنا، فإذا كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز بعد وفاته فغيره من باب أولى.
الوجه الثالث: قد بين بطلان أمثال هذه الفتوى جمعٌ غفير من العلماء، ومنهم علماء الأزهر الشريف وغيرهم، لكننا نكتفي بما أوردناه من كتاب الله وسنة رسوله، إذ هما قاطعان في تحريم دعاء غيره.
والخلاصة: أنَّ فتوى دار الإفتاء المصرية بجواز طلب المدَد من الأموات فتوى باطلةٌ مخالِفة لصريح الوحيَين ولما عليه إجماعُ العلماء، والواجب على الأمة أن تتمسَّك بعقيدة التوحيد الخالِص، وألا تقبل مثلَ هذه الفتاوى التي تروِّج للشركيات تحت مظلَّة التصوُّف أو حبِّ الأولياء.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.