ترجمة الشَّيخ محمد بن سليمان العُلَيِّط (1)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
اسمه ونسبه:
هو الشَّيخ أبو عمر محمد بن سليمان بن عبد الكريم بن حمد العُلَيِّط.
ويبدو أن اشتقاق اسم الأسرة (العُلَيِّط) من أعلاط الإبل، وهي من أعرق الأسر القصيمية الثريَّة وتحديدا في مدينة بريدة، والتي خرج من رَحِمها الشيخ العابد الزاهد الوَرِع التقيّ محمد العُلَيِّط([2]).
مولده:
كان مسقط رأسه في مدينة بُريدة كُبرى مدن منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية، وذلك عام 1351هـ.
نشأته العلمية:
نشأ الشيخ رحمه الله في مسقط رأسه مدينة بريدة، وعاش يتيما حيث ظَفر بعناية والدته به وتربيته -وما أكثر الأيتام الذين خلدوا أسمائهم في الأمة!-، ويبدو أنها هي من دَفَعته في بداية عمره إلى المحاضن العلمية والتربوية الموجودة هناك آنذاك، وكان مبتدؤها بالكتَّاب؛ حيث تعلم بها القراءة والكتابة، وانطلق مثابرًا في حفظ القرآن حتى أتمَّه في صباه وهو في الخامسة عشرة من عمره تقريبًا.
وامتاز رحمه الله منذ الصغر بهمة عالية وتعبُّد وتنسك وشغف علميّ وثني الركب عند أهل العلم، فعندما أتقن القراءة والكتابة ومزاولة طلب العلم لازم دروس أهل العلم والمشايخ في المساجد ولما تنشَأ المؤسّسات التعليمية من المعاهد العلمية والمدارس، وكان مجتهدًا باذلًا حازمًا في ذلك، وسيأتي سرد من حضر لهم من أهل العلم والمشايخ، ومن أهمها مجلس الشيخ عبد الله بن حميد الذي “كان به حفيًّا وله مقربًا”([3])، وكان أفضل طلبته وخليفته في كرسيه، يقول تلميذه الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد: “وقد عرفت الشيخ رحمه الله منذ كنت صغيرًا جدًّا في بريدة، وقبل أن ينتقل الوالد رحمه الله إلى مكة المكرمة، فكنت أراه في حلقات الوالد رحمه الله وفي غرفة خاصة في الجامع الكبير، واستمرت المعرفة والعلاقة، فكنت أقصده في مكة المكرمة للسلام عليه… كنت أزوره في بريدة من الفترة والفترة، وآخر زيارة له كانت قبل عام تقريبًا، وحضرت أحد دروسه في منزل شعبي وفيه مكتبة عامرة. والشيخ رحمه الله لم يتغير في سمته ولا سلوكه منذ عرفته قبل ستين عامًا أو تزيد إلى أن فارق الدنيا في ورعه، وعزلته، وزهده، وتعففه، ودأبه في العلم، وقراءته، وإقرائه، وتعليمه، وهو في كل ذلك قد أتعب من بعده”([4]).
ويقول تلميذه عبد الله بن علي الدبيان: “وسألت الشيخ العليط عن الكتب التي قرأها على الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله، فقال: قرأت عليه الروض المربع وزاد المعاد وغيرها، وكنت عن يمين الشيخ ابن حميد وأول من يقرأ على الشيخ”([5]).
هذا في مسقط رأسه بريدة، ويبدو أنه في الفترة التي سجل فيها للدراسة في كلية الشريعة بالرياض حضر الشيخ شيئا من درس الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ([6]).
وما إن افتتح المعهد العلمي ببريدة حتى كان من أوائل الملتحقين به وذلك عام 1373هـ وهو في الثاني والعشرين من عمره -على الرغم من دراسته على العلماء والمشايخ في المساجد قبل ذلك-، وهناك حَظيَ بأهم أقرانه فيها ورفيق دربه وصنوه الشيخ صالح الرشيد، ودرس بها على جلة من العلماء، من أبرزهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وقد أكمل دراسته حتى تخرج بها، ومن زملائه الذين تخرجوا معه في الدفعة الأولى من المعهد معالي الشيخ صالح الفوزان([7]).
ثم انطلق مع رفيقه والتحق بكلية الشريعة بالرياض، ولكنه رأى أن جلوسه للتدريس في بريدة وتفرّغه للتأليف والتعبُّد خير له وأنفع لغيره ممن يقصده للقراءة عليه؛ فتفرَّغ لذلك وصرف النظر عن الدراسة في كلية الشريعة، ولازم المسجد أيما ملازمة يتنقَّل بين التعبد لله والتعليم والاستماع لما يُقرأ عليه من كتب العلم، ونفع عامة الناس بالرقية والقراءة عليهم.
أبرز شيوخه:
لاح لنا من خلال نشأة الشيخ العلمية أن الشيخ درس على عدة مشايخ، ويمكننا تقسيم المشايخ الذين ثنى عندهم الركب إلى قسمين:
أولا: شيوخه في حلق المساجد، ومن أبرزهم:
- الشيخ عبد الله بن محمد بن حُمَيد قاضي منطقة القصيم الأسبق، ثم رئيس الإشراف الديني على الحرمين.
- الشيخ محمد بن صالح المطوع.
- الشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي.
- الشيخ صالح بن أحمد الخريصي.
- الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي.
- الشيخ علي السالم.
- العلامة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وحضر له شيئا من دروسه عليه في مدينة الرياض.
- الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، وهو كذلك حضر له شيئًا من دروسه.
ثانيا: شيوخه في المعهد العلمي ببريدة، ومن أبرزهم:
- الشيخ محمد المرشد.
- الشيخ عبد الرزاق عفيفي.
- الشيخ محمد السبيل.
- الشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
حياة البذل بين العلم والعبادة:
تبين مما سبق أن الشَّيخ رحمه الله قد بدأ حياة البذل والعطاء منذ أن وجد نفسه مهيَّأً لذلك، ونشأ نشأته العلمية بين التعبّد بالصلوات والعبادات وبالعلم وبنفع الناس عموما؛ ومن هنا نجده شَامةً في جبين أهل الزهد والورع، وغرَّةً بين أهل العبادة والملازمين للمساجد للتعليم؛ فقد نذر رحمه الله حياته للعبادة والتنسك والزهد والورع والصبر والبذل والتعليم والتأليف والرقية والاحتساب([8])، تكاد لا تخرج ساعات حياته عن هذه؛ حيث يمكن القول بأن الشيخ عاش حياته بين التعبُّد لله تعالى بالفروض والصلوات والصدقة والدعاء والذكر وبين التعبُّد لله بإفادة طلبة العلم بتعليمهم والجلوس للتدريس وقراءة الكتب، وبين التعبُّد لله بنفع عامة الناس بالصدقة وعلاج المرضى بالقرآن والرقى الشرعية، “فوقته كله لله؛ درسًا وتدريسًا ورقيةً وزيارة وعيادة”([9])، ولم يكن تفرغه للعبادة والعلم وليد لحظة متأخرة من سنوات عمره “ولا وليد العصر؛ بل هذا دَيدَنه ومنهجه”([10]) مذ ما يزيد على خمسين إلى ستين سنة.
يقول ابنه عبد الله: “كان الوالد ملازما للمسجد ولدروسه؛ ولذلك لا نعرف عن الوالد أنه سافر إلى غير مكة والمدينة، وهذه هي أسفاره؛ فلا نعرف أنه قصد بلدا غير مكة والمدينة، ويبدو أن دراسته على المشايخ خارج بلدته كانت فترة تسجيله بكلية الشريعة بالرياض”([11]).
وفيما يلي تفصيلٌ لشيء من جهوده البارزة رحمه الله:
أولا: التعبد لله بالفروض والنوافل:
من أهمّ الأبواب التي فتح الله فيها على الشيخ باب الزهد والإعراض عن الدنيا وملذاتها ومغرياتها وكثرة مخالطة أهلها إلى التعبّد لله سبحانه وتعالى على الرغم من انفتاح الدنيا على أهل عصره وانغماسهم في ملذاتها ومباحاتها من المطاعم والمشارب والمساكن؛ وكان الشيخ يمنع أن تُذكر عنده أحوال الدنيا إلا للعظة والعبرة، ولا قضايا البيع والشراء والسلع والغلاء، ولا قضايا الناس أغنياء أو فقراء إلا لنفع وفائدة كصدقة ونحوها، وهكذا كان الشيخ من أزهد الزهاد حتى صار يُضرب به المثل بذلك بين أهل منطقته؛ وكثيرا ما يقال: “لو أنت العُليِّط”([12]).
ويمكن القول بأن الشيخ كان ممن قلبُه معلق بالمساجد سواء في الأيام العادية أو مواسم العبادات:
فأما في الأيام العادية فيكاد يكون أكثر من نصف يومه في المسجد؛ حيث يجلس فيه من الفجر وحتى التاسعة، ومن العصر حتى نهاية درس العشاء.
كما أنه كان ملتزما ببرامجه العلمية والدروس والرقية، إلى جانب العبادة من صلاة وصدقة وصيام؛ فمما عُرف عنه أنه لا يكاد يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، وأما يوم الجمعة فكان يومًا مميزًا مختلفا في حياة الشيخ؛ حيث كان يتفرغ فيه للعبادة ما بين صلاة ودعاء وقراءة قرآن؛ وعُرف عنه أن كان يغتسل للجمعة قبل الفجر ويتهيأ للصلاة من حينها ثم بعد أن ينتهي من صلاة الفجر ومن ورده ينطلق إلى جامع الشيخ الخريصي مع طلوع الشمس؛ ويمكث في مكانه المعروف في المسجد متعبّدًا مصليًا وداعيًا حتى إذا أذّن المؤذن الأذان الأول جلس في مكانه في الصف الأول خلف الإمام؛ ثم يصلي ما شاء الله له ويطيل ركوعه وسجوده، وكان غالبا يصلي خلف شيخه صالح الخريصي رحمهما الله. وكان الشيخ إلى جانب تبكيره للجمعة يحرِّص طلبته على التبكير للصلاة ويضرب في تعليمه الأمثال؛ فكان يقول شارحا وموضحا للحديث: “من جاء يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما تصدق بأربعة آلاف، والساعة الثانية بثلاثة آلاف، والساعة الثالثة بألف ونصف، والساعة الرابعة بألف والساعة الخامسة بخمسمائة”([13]).
وقد عرف عن الشيخ جَلَده في قيام الليل وطول التهجد والإلحاح في الدعاء والإكثار من الاستغفار في الأسحار، وكان مكثرًا من الذكر في كل وقت، وكان يقول: “الذكر لا يحتاج إلى طهارة أو مكان أو زمان، بل يحتاج إلى حياة قلب”([14]).
وكما أن الشيخ فُتح له في الصلاة والتبتُّل فُتح له أيضا في باب الصدقة ومعاونة الفقراء والمحتاجين والمتعففين؛ وكثيرا ما كان يخرج من درسه بنفسه إلى بيوتاتهم ويوصل إليهم حاجاتهم من الأطعمة والأشربة وغيرها، ومن ذلك أنه خرج يوما بعد درسه الصباحي ومعه دجاجتان ولبنٌ إلى حي شعبي متواضع، وقصد بيت بعض الفقراء، وطرق الباب، وأعطاهم ما بيده، ومرة خرج ومعه مرافقوه، وكان الشيخ قد نوى التصدّق على أحد البيوتات المحتاجة، فأمر بالوقوف عند محلّ من المحلات ليشتري كيس قرصان صغير؛ فاشترى المرسول كيسًا كبيرًا اجتهادا منه؛ فلم ينهره الشيخ، بل أخذ الكيس وانطلق في طريقه وأوصله بنفسه إلى بيت الشخص المحتاج. والقصص والمواقف عن الشيخ في أبواب العبادة كثيرة؛ ذلك أن الشيخ كان لا يمر عليه يوم من الأيام إلا وقد تصدق كما كان يوصي بذلك، ولكن حسبنا بما سبق، وبعض الربيع ببعض العطر يختصر.
ومن أبواب الإحسان التي فُتح على الشيخ فيها باب الإقراض للمعسرين والمحتاجين؛ فكان يقضي حوائج المحتاجين بإقراضهم عشرات الألوف خاصة الشباب؛ ثم هو لا يكتب ولا يتعاهد من أقرضه.
وكان الشيخ يُعنى بزيارة المقابر والاتعاظ بها للآخرة والسلام على أهلها والدعاء لهم، خاصة فترة الضحى بعد الخروج من درسه؛ فيدعو لأهل القبور ويَعِظ نفسه بحالهم وما آلوا إليه.
وكان يقرأ القرآن ديمة؛ ولا يترك وردَه منه كل يوم، وكان يختم أسبوعا طوال العام غير رمضان.
وأما في مواسم العبادات فنجد أن قلبه معلق ببيت الله الحرام، يجلس فيه كل رمضان، فإن تعجب فعجبٌ أنه كان يقيم كل رمضاناته بجوار بيت الله الحرام بمكة، يدخلها من أول يوم من أيام رمضان ولا يخرج إلى صباح العيد، وكان يعمر أوقاته بالعبادة حيث يُذكر عنه التعبد في المسجد من الساعة العاشرة تقريبا، وكان لا يفتر عن العبادة حتى بين صلاتي التراويح والتهجد؛ فكان يطيل فيها الدعاء والركوع والسجود، كما أنه كان يداوم فيها على قراءة القرآن حتى يقال: إنه كان يختم كل يوم أو كل ثلاثة أيام، وكان يقرأ فيها بالحدر، فكان يسأله بعض تلاميذه عن التدبر، فيقول: التدبر في بريدة، وأما هنا فنحن نجمع الحسنات. وكان يحمل معه دائما مصحفه الخاص ويقرأ منه، وكان يرافقه في غالب أسفاره أحمد الحميضي رحمه الله.
وكان الشيخ أيضا يتابع بين الحج والعمرة، فكان يقصد بيت الله للعمرة كل سنة مرتين، ويأتيه للحج كل عام إلا إذا تعذَّر عليه، وقد حج بيت الله الحرام أكثر من سبعين حجة؛ وعرف فيها بحرصه على اتباع السنة قدر المستطاع؛ كاختيار نسك التمتع والتأخر لليوم الثالث عشر وغيرها، كما عرف بصبره وجلده؛ حيث كان يتحمل مشاق الحج ولا يتأفف ولا يتضجر مما يحصل فيه من الانتظار والزحام وإشكاليات المأكل والمشرب والمسكن.
وعرف عنه أنه كان سريع الدمعة، يبكي ويجهش بالبكاء إذا مر بآيات الخشية والتقوى وأحوال المتقين وغيرهم، كما أنه كان تُقرأ عليه نونية ابن القيم (751هـ) رحمه الله، فكانت تنهمر الدموع وتسمع له الأنين والبكاء ويسود الخشوع، ويقول تلميذه أيمن العنقري: “مجلسه العلمي في مسجد المطوع وجامع بريدة الكبير القديم تميز بالوعظ الصادق الذي يدخل القلب وبالبكاء من خشية الله، وتغليظ الكلام على المبتدعة أهل الضلال، وأذكر مرة أن أحد الطلاب كان يقرأ عليه تحريفات الجهمية لنصوص الصفات من مختصر الصواعق، فبكى شيخنا رحمه الله وقال: نعوذ بالله من تعطيلهم لكمال الله، هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره”([15]).
ثانيًا: التَّدرِيس:
عُنِي الشَّيخ رحمه الله عناية كبيرة بالتَّدرِيس، وسبق القول بأن حياته كانت دائرة بين العبادة والتعليم والتدريس، وقد جلس للتدريس قرابة ثلاث وستين سنة، درس عليه فيها كبار العلماء والأئمة والخطباء وصغارهم وأعيانهم، حتى إنه من العسير جدا حصر تلامذته ومن قرأ عليه لكثرتهم ولطريقته الفريدة في التدريس.
وقد كانت طريقته في التدريس أن يحضر الطالب ومعه كتابه الذي يريد أن يدرسه ويقرأه على الشيخ؛ فيبدأ بالقراءة ويتركه الشيخ يقرأ مقدارا معينا بحسب امتيازه ومستواه العلمي؛ فبعضهم يقرأ بضع صفحات وبعضهم يقرأ عشرات الصفحات، وكان الشيخ يعلق بكلمات معدودات إذا رأى للتعليق مناسبة، وكان يحضر له الكبار والصغار من الطلبة في المجلس الواحد، ويصبر عليهم جميعا، من يفهم منهم ومن هو قليل الفهم أو مبتدئ في القراءة أو في الطلب([16]).
وعن منهجه وطريقته في التدريس يقول تلميذه عبد الله بن علي الدبيان: “لستُ من الملازمين للشيخ، ولكن حضرتُ عنده قليلًا مع الأسف، وكان الشيخ على ما ظهر لي يرتاح لكتاب الجمع بين الصحيحين ويعيش أجواء الأحاديث، فأحيانًا يبكي ومرة يضحك وأخرى يتعجب، كان حاضر الذهن مركزًا جدًّا في القراءة، يتأثر بمواقف الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ويبكي. ولا تكاد تأتي كلمة غريبة في النصوص إلا ويفسرها لي بأوضح بيان، وأحيانًا يشرح ويوضح على الأرض بيده كأنه يكتب، وإذا سألته أتى بالعجائب والدرر، فهو واسع العلم، لكنه لا يُظهر ذلك”([17]).
وكان يجلس للتدريس بعد كل فرض من الفروض عدا المغرب والعصر؛ فكان يجلس أربع جلسات كل يوم عدا الجمعة؛ فدرس بعد الفجر ثم بعد الشروق ثم بعد الظهر ثم بعد العشاء؛ وأما العصر فقد خصصه للرقية ومعالجة عامة الناس بالقرآن.
ولم يكن الشيخ يترك التدريس إلا لعذر قاهر، بل إنه كان يدرس بمجرد رجوعه من السفر وقبل أن يرتاح، وبعد كبره ومرضه وهو مقعد على الكرسي كان يحضر للتدريس، وحينها كان يلازم المسجد من صلاة العصر حتى صلاة العشاء.
وهو قد بدأ التدريس منذ نبوغه في قريته حيث درَّس أولا في مسجد ناصر جنوب جامع بريدة الكبير؛ وكان يدرس فيها صغار الطلبة.
ثم درَّس نيابة عن شيخه؛ لِمَا عُرف بين أقرانه من حرص وجد ونبوغ ونباهة وإتقانه للعلم؛ فخلف شيخه الشيخ عبد الله بن حميد في كرسيه للتدريس في الجامع الكبير ببريدة والمعروف الآن بـ(جامع خادم الحرمين الشريفين)؛ ذلك أن شيخه انتقل إلى مكة لرئاسة الإشراف الديني على المسجد الحرام.
ثم انتقل بعد عمارة الجامع الجديد إلى مسجد شيخه محمد صالح المطوع شرق سوق الخضار، ودرس به قريبا من 47 سنة حتى توفي رحمه الله([18]).
وكان الشيخ لا يفارقه الكتاب أينما حل وارتحل؛ فإما أن يُقرأ وإمام أن يطالع، وربما جلس يقيد بعض الفوائد، وكان يعتني بالتقييد حتى لو سمع الفائدة من أحد طلبته الذين يقرؤون عليه([19]).
ويمكن القول بأن الشيخ لا يخرج غالب وقته عن هذين الأمرين، إما أن يتعبَّد، وإما أن يدرّس وتُقرأ عليه الكتب، حتى إنه إذا جلس في مناسبة أو وليمة لا يجلس ساكتا أو يخوض في أمور الدنيا، بل يأمر القارئ أن يقرأ حتى يحضر العشاء.
وكان الشيخ لا يختار الكتب التي تقرأ عليه؛ بل يترك الأمر للقارئ ومستواه في القراءة، وعامتها تدور حول كتب العقيدة والحديث والتاريخ؛ فمثلا قُرئ عليه: فتح الباري، وشرح صحيح مسلم، والبداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، وعامة كتب ابن تيمية (728هـ) ر وابن القيم (751هـ) وابن رجب (795هـ) وغيرهم رحمهم الله.
ثالثا: التأليف:
من يتفحَّص المؤلفات العلمية التي تركها الشيخ يعلم أنه كان يركز على جانب مهم؛ وهو الحاجة العلمية لعموم الناس والسواد الأعظم من طلبة العلم، وقد ألف الشيخ وعني بإخراج الكتب ونفع الناس بها، ومن أبرز مؤلفاته:
- التيسير في علم أصول التفسير.
- نصيحة المسلمين فيما جاء في الغش من العقوبة والتحريم، وطبع عام 1408هـ.
- توضيح المنهج إلى أحكام الحج، وطبع عام 1415هـ.
- مقتطفات من كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية.
- الفوائد البهية مِن كلام شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، وطبع عام 1425هـ.
- النصائح المفيدة في تحريم الغيبة والنميمة، وطبع عام 1426هـ.
- التحذير من المسكر والنرد والورَق، وطبع عام 1405 هـ.
- التِّبرُ المسبوك مِن فرائد الفوائد في علم السلوك، وطبع عام 1432هـ.
- رسالة إلى المفتونين بالربا، وطبع عام 1433هـ([20]).
ومن أهم الدروس والعبر التي يتعظ بها المرء وهو يقرأ للشيخ هذا الثبات والجلد والصبر الذي عاش عليه قريبا من سبعة عقود ما ذكره تلميذه الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد في قوله: “… استمرت المعرفة والعلاقة بيني وبينه؛ فكنت أقصده في مكة المكرمة للسلام عليه… كنت أزوره في بريدة من الفترة والفترة، وآخر زيارة له كانت قبل عام تقريبًا، وحضرت أحد دروسه في منزل شعبي وفيه مكتبة عامرة. والشيخ رحمه الله لم يتغير في سمته ولا سلوكه منذ عرفته قبل ستين عامًا أو تزيد إلى أن فارق الدنيا في ورعه، وعزلته، وزهده، وتعففه، ودأبه في العلم، وقراءته، وإقرائه، وتعليمه، وهو في كل ذلك قد أتعب من بعده”([21]).
وفاته ورثاؤه:
توفي الشَّيخ رحمه الله يوم الاثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام ألف وأربعمائة وست وأربعين للهجرة النبوية (13/ 3/ 1446هـ)، عن عمر يناهز الخامسة والتسعين (95) سنة، وصلي عليه عصر الأربعاء بجامع محمد بن عبد الوهاب في بريدة، ودفن بجوار رفيق دربه الشيخ صالح الرشيد وثالثهم أحمد الحميضي في المقبرة التي بجوار الجامع الآنف الذكر، وقد حضر جنازته جمع غفير، وازدحم المسجد والمقبرة عند موته، رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
وكتب أحد محبيه رثاء قائلا:
قالوا توفي شيخنا وحبيبنا *** ذاك التقي العابد الرباني
تسعون عاما في العبادة والتقى *** والذكر والتعليم والقرآن
شيخ المشايخ منهل عذب لمن *** رام التنسك والهدى ببيان
يمضي الزمان قصيره وطويله *** في طاعة الرحمن كل أوان
حلقاته فيها المواعظ جمة *** يعظ الحضور بحاله ولسان
قد جانب الدنيا وزايل أهلها *** طمعا بفضل إلهنا المنان
يا رب فارفع في الهداة مكانه *** واخلفه في عقبٍ وفي ولدان
يا رب أسكنه فسيح جنانك الـ *** ـعليا وجنبه لظى النيران
وافسح له في قبره يا ربنا *** ثبته عند تساؤل الملكان([22])
وقال الأديب عبد العزيز بن عبد الرحمن اليحيى:
دع التَّشَبُّب في سَلْمَى وَطَلْعَتِهَا *** أَوْ مَن تَعَلَّقَ فِي لَيْلَى وَمَا عَقَلَا
وَاذْكُرْ مُصَابًا بِشَيْخِ زَاهِدٍ علَمٍ *** شَيْخِ العَقِيدَةِ عَنَّا الْيَوْمَ قَدْ رَحَلَا
نَبْكِي العُلَيْطَ رَمْزَ الزُّهْدِ دُونَ مِرًا *** قَدْ خَلَّفَ الْحُزْنَ فِي الْأَحْشَاءِ مُتَّصِلَا
بُرَيدَةُ العِلْمِ تَرْثِيهِ وَتَنْدُبُهُ *** كُلّ يُعَنِّي بِهِ الطَّلَابُ وَالزَّمَلَا
جَالَسْتُهُ مَطْلَعَ التَّسْعِينَ فِي شَغَفٍ *** وَبَحْثِ عِلْمٍ يُوافِي نَهْجُهُ العَمَلَا
في مَسْجِدٍ لِلْحَمِيدِي طَابَ مَجْلِسُنَا *** أَنْعِمْ وَأَكْرِمْ بِهِ، قَدْ أَمَّهُ فُضَلَا
لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ فَتْرَةً سَلَفَتْ *** مُؤَلَّفَاتِ ذَوِي التَّحْقِيقِ وَالنُّبَلَا
مَضَى عَلَى نَهْجِ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي سَلَفٍ *** وَمِن مَوَارِدِ أَهْلِ العِلْمِ قَدْ نَهَلَا
وَرَوْضَةُ العِلْمِ تَرْثِيهِ لِقَاصِدِهَا *** عمَّ الأَسَى مَهْيَعَ الْأَخْيَارِ وَالنُّزَلَا
يَا قَاصِدِينَ رِيَاضَ العِلْمِ دُونَكُمُ *** فَبَدْرُهَا يَا دُعَاةَ الْخَيْرِ قَدْ أَفَلَا
يَرْحَمُكَ اللَّهُ مِنْ شَيْخِ مَضَى وَرِعًا *** حَبَاكَ مَوْلَاكَ فِي فِرْدَوْسِهِ نُزُلًا
ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى أَزْكَى الْوَرَى نَسَبًا *** مَنْ أَكْمَلَ اللَّهُ فِيهِ الدِّينَ فَاكْتَمَلَا([23])
رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أفدت هذه الترجمة من المراجع التالية:
- ترجمة الشيخ الزاهد محمد العليط، لابنه عبد الله بن محمد العليط، وقد أفادني بها بنفسه بعد التواصل معه عقب وفاة الشيخ.
- هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل، بدون دار طباعة، الطبعة الأولى 1446هـ-2024م، وعدد صفحاته (65 صفحة).
- فضيلة الشيخ محمد بن سليمان العليط – مقام الزهد ورداء الورع ووعاء العلم (1351-1446هـ)، للشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، وهو منشور في صحيفة الجزيرة بتاريخ 17-18/ 3/ 1446هـ، العدد (12747).
- التواصل مع ذويه والمقربين منه، ومنهم: ابنه عبد الله وسلمان وتلميذه خالد أبا الخيل.
([2]) ينظر: معجم أسر بريدة، محمد العبودي (15/ 474 وما بعدها).
([3]) مقال: فضيلة الشيخ محمد بن سليمان العليط – مقام الزهد ورداء الورع ووعاء العلم (1351-1446هـ)، للشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، وهو منشور في صحيفة الجزيرة بتاريخ 17-18/ 3/ 1446هـ، العدد (12747).
([4]) مقال: فضيلة الشيخ محمد بن سليمان العليط – مقام الزهد ورداء الورع ووعاء العلم (1351-1446هـ)، للشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، وهو منشور في صحيفة الجزيرة بتاريخ 17-18/ 3/ 1446هـ، العدد (12747).
([5]) نشره في وسائل التواصل الاجتماعي عقب وفاة الشيخ في حسابه.
([6]) أفادني بذلك ابنه الشيخ عبد الله في تواصل معه يوم الجمعة بتاريخ 24/ 3/ 1446ه.
([7]) أفادني بذلك ابنه الشيخ عبد الله في تواصل معه يوم الجمعة بتاريخ 24/ 3/ 1446ه.
([8]) ينظر: هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 5).
([9]) هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 6).
([10]) هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 6).
([11]) أفادني بذلك ابنه الشيخ عبد الله في تواصل معه يوم الجمعة بتاريخ 24/ 3/ 1446ه.
([12]) هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 31).
([13]) هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 42).
([14]) هكذا عرفته: شيخنا العالم الزاهد الورع العابد محمد بن سليمان العليط، لتلميذه خالد بن علي أبا الخيل (ص: 22).
([15]) نشره في وسائل التواصل الاجتماعي عقب وفاة الشيخ في حسابه.
([16]) ينظر: ترجمة الشيخ الزاهد محمد العليط، لابنه عبد الله بن محمد العليط.
([17]) نشره في وسائل التواصل الاجتماعي عقب وفاة الشيخ في حسابه.
([18]) ينظر: ترجمة الشيخ الزاهد محمد العليط، لابنه عبد الله بن محمد العليط.
([19]) ينظر: ترجمة الشيخ الزاهد محمد العليط، لابنه عبد الله بن محمد العليط.
([20]) ينظر: ترجمة الشيخ الزاهد محمد العليط، لابنه عبد الله بن محمد العليط.
([21]) مقال: فضيلة الشيخ محمد بن سليمان العليط – مقام الزهد ورداء الورع ووعاء العلم (1351-1446هـ)، للشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، وهو منشور في صحيفة الجزيرة بتاريخ 17-18/ 3/ 1446هـ، العدد (12747) بتصرف يسير.
([22]) نشره في وسائل التواصل الاجتماعي عقب وفاة الشيخ في حسابه.
([23]) نشره في وسائل التواصل الاجتماعي عقب وفاة الشيخ في حسابه.














