معنى الكرسي ورد الشبهات حوله
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وهي آية عظيمة تتضمن معاني التوحيد والقدرة الإلهية المطلقة، مما جعلها موضع تأمّل واستنباط عند أهل العلم.
وقد تباينت آراء العلماء في تحديد معنى الكرسي، وظهرت بعض الشبهات التي حاولت تحريف مفهوم الكرسي، سواء بالتأويل الباطني المفرط الذي يُفضي إلى نفي حقيقته، أو بالتفسير الماديّ الحسيّ الذي لا يليق بجلال الله.
ونظرًا لأهمية هذا الموضوع في علم العقيدة والتفسير يهدف هذا البحث من مركز سلف للبحوث والدراسات إلى بيان معنى الكرسي كما ورد في النصوص الشرعية، مع تحليل أقوال أهل السنة والجماعة في تفسيره، والرد على الشبهات المثارة حوله بأسلوب علميّ رصين، يستند إلى الأدلة النقلية والعقلية، مع بيان المنهج الصحيح في التعامل مع النصوص المتشابهة التي تتعلّق بذات الله وصفاته.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولا: تعريف الكرسي لغة وشرعا:
الكرسي لغةً: هو الشيء الذي يُعتمد ويُجلسُ عليه([1])، ويطلق على السرير([2]).
الكرسي شرعًا: هو بين يدَي العرش كالمرقاة إليه([3])، وهو موضع قدمي الله عز وجل، ولما كان الكرسي ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة([4]) بيَّن علماء السلف من الصحابة وغيرهم معنى الكرسي المضاف إلى الله عز وجل وأنه مخلوق عظيم بين يدي العرش، بمثابة المرقاة إليه وهو موضع القدمين لله تعالى([5])، كما هو ثابت عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري وغيرهم من علماء السلف([6])، وهو مقتضى الأحاديث واللغة وأقوال سلف الأمة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره أحد”([7])، وقال أبو موسى رضي الله عنه: “الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط([8]) الرحل”([9]).
وقال السدي: “{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه”([10]).
وذكر الطبري اختلاف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه وسع السماوات والأرض([11])، وبين أن تفسير ابن عباس هو أولى التفاسير في هذه الآية، وهو الذي تقتضيه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم([12]). وذكر ابن أبي زمنين أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة فقال: “ومن قول أهل السنة: أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين”([13])، وفي هذا يقول القرطبي: “والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه”([14]).
وقد تقدم أن علماء اللغة لا يفهمون من الكرسي إلا ما تقتضيه اللغة العربية، كما قال ثعلب: “الكرسي: ما تعرفه العرب من كراسي الملوك”([15]).
وهذا يدل أن الكرسي المذكور في الكتاب والسنة هو ذاته المعروف في لغة العرب، وإن كان الاشتراك في الاسم لا يعني التماثل في الحقيقة والصفات، فالكرسي المضاف إلى الله عز وجل يتّصف بصفات وعظمَةٍ تليق بجلال الخالق سبحانه، بينما الكرسي المضاف إلى المخلوق له خصائص وصفات تتناسب مع طبيعة المخلوق.
قال الزجاج عقب ذكره قول السلف في الكرسي: “وهذا القول بيّن؛ لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يعتمد ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السموات والأرض”([16])، هكذا قال وهو إمام من أئمة اللغة.
وبناءً على ذلك فإن من قال بغير هذا القول في الكرسي فقد خالف ظاهر القرآن والسنة، وابتعد عن المحفوظ المشهور عن الصحابة والتابعين، وناقض المعهود من لغة العرب، وسيأتي بيان تصحيح الأزهري لهذا القول، وتفنيده لما رُوي عن بعض السلف من تفسير الكرسي بالعلم.
ومن خلال ما سبق من أقوال أهل العلم يتَّضح أن الكرسي -في اصطلاح أهل السنة والجماعة- هو مخلوق عظيم يقع بين يدي العرش، أشبه بالسُّلَّم المؤدِّي إليه، وقد جعله الله موضعًا لقدميه، وهو دون العرش في العظمة والمقام.
ثانيا: الإيمان بالكرسي وبيان اعتقاد أهل السنة والجماعة فيه:
يجب الإيمان بأن الكرسي من أعظم المخلوقات، بين يدي العرش، وهو موضع القدمين لله تعالى([17]).
فقد ورد الكرسي في آية واحدة من كتاب الله تعالى، وهي قوله سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال g: «ما السَّماوات السّبع في الكُرسيِّ إلّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكُرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلقةِ»([18]).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: “الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره”([19]).
وعن أبي موسى الأشعري قال: “الكرسي موضع القدمين”([20]).
ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ ولذا فأهل السُّنَّة والجماعة عامتُهم على أن الكرسي موضع قدمي الله تعالى([21]).
ثالثا: بيان أن الكرسي مخلوق:
ولما كان الكرسي قائمًا بالكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة، فإن من مقتضيات قيامه أن يتصف بصفات تميزه عن غيره، فإنه لا شيء في الكون إلا وله صفة، فكل شيء موصوف لا محالة، ولا يوجد شيء إلا وله صفة([22]). وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه رب العالمين، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، والعالمون كل ما سوى الله، فإنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوق، والله هو الخالق، وكل ما سواه مخلوق، فإذا لم يكن في الوجود إلا خالق ومخلوق، وكان الكرسي ثابتًا وحاضرًا في النصوص الشرعية، اتّضح أنه من مخلوقات الله تعالى لأنه من العوالم، ولأن الله أضافه إلى نفسه؛ كما قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وإضافة الكرسي إلى نفسه كإضافة المخلوق إلى خالقه، وفي هذا تشريف للكرسي؛ كما أضاف الله تعالى العرش إلى نفسه([23]).
وقد أثبت علماء السنة أن الكرسي من مخلوقات الله، وأنه موجودٌ حقيقةً، وليس مجرد كناية أو تشبيه للملك والعلم ونحوهما. وغرضهم من بيان خلق الكرسي الرد على من أنكر وجوده، أو فسره بالعلم والملكوت؛ وفي هذا يقول ابن عطية: “الذي دلت عليه الأحاديث أن الكرسي خلقٌ عظيمٌ أمام العرش، والعرش أعظم منه”([24]). وقد دلت النصوص على أن الكرسي من مخلوقات الله من وجوهٍ عدة:
الوجه الأول: تشبيهه بسائر المخلوقات كالسموات والأرض، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما السَّماوات السّبع في الكُرسيِّ إلّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكُرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلقةِ»([25]). وهذا يدل على وجود العرش، وأنه من مخلوقات الله، وأنه أعظم من الكرسي، وأن الكرسي أعظم من السماوات، وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، الذي مخلوقاته بهذه العظمة الجليلة.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا لا إضافة صفة لموصوف، كما في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فهذه الآية صريحة في أن الكرسي من أعظم المخلوقات، وأنه قائم بذاته، وليس شيئًا معنويا. ولو كان معنويا لما صح تشبيهه بالسماوات والأرض؛ ولذلك بيّن علماء السلف أن الكرسي موضع القدمين، وأنه بين يدي العرش. كل هذا يدل على أنه مخلوق مستقل، ويدل أيضًا على بطلان قول من قال: إن الكرسي صفة لله تعالى، والمراد به العلم والقدرة والتدبير.
الوجه الثالث: أنه جاء في الأحاديث والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوضح أن الكرسي مخلوق، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يضع كرسيه يوم القيامة للفصل بين العباد، كما صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم قصة العجوز لما قالت لمن ظلمها: سوفَ تعلَمُ يا غُدَرُ إذا وضعَ اللَّهُ الكرسيَّ وجمعَ الأوَّلينَ والآخِرينَ وتَكَلَّمتِ الأيدي والأرجلُ بما كانوا يَكْسِبونَ، فسوفَ تعلَمُ كيفَ أمري وأمرُكَ عندَهُ غدًا، قالَ رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: «صدَقَتْ صدَقَتْ»([26]).
وأخبر أيضا أن الله ينزل من العرش إلى الكرسي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يجمَعُ اللهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ لميقاتِ يومٍ معلومٍ قيامًا أربعينَ سنةً شاخصةً أبصارُهم إلى السماءِ، ينتظِرونَ فَصْلَ القضاءِ، ويَنزِلُ اللهُ عزَّ وجلَّ في ظُلَلِ الغَمامِ مِنَ العرشِ إلى الكرسيِّ»([27]).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «فآتي ربِّي تبارَكَ وتعالى وهو على كرسيِّه»([28]).
ففي قوله في الحديث: (إذا وضع الله الكرسي) وقوله: «ينزل الله في ظل الغمام من العرش إلى الكرسي» وقوله: «فآتي ربي وهو على كرسيه» دلالة واضحة على وجود الكرسي وكونه مخلوقًا؛ لأنه لو لم يكن مخلوقًا قائمًا مستقلًا لم يصح أن يقال: إن الله ينزل من العرش إلى الكرسي، ولا معنى لوضعه للفصل بين الخلق. وهذا رد على من زعم أن العرش تعبير عن العلم أو الملك، فكيف يصح أن يقال: إن الله يضع علمه على عباده، أو أنه ينزل على علمه، أو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يراه وهو على علمه؟!
رابعا: بيان سعة الكرسي:
الكرسي مخلوق عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، وقد بلغنا أنه أعظم وأجل من السماوات والأرض. ولما كانت السماوات والأرض أعظم ما يشاهده البشر، فقد دلت النصوص الدالة على سعة الكرسي على ذلك بمقارنته بالسموات والأرض. فتارة تشير هذه المقارنة إلى سعة الكرسي وشموله للسماوات والأرض، وتارة تذكر حجم السماوات والأرض بالنسبة للكرسي، ومن خلال هذه المقارنة يتبين سعة الكرسي وعظمته، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والسنة النبوية وأقوال سلف هذه الأمة. وقد تحدث الله تعالى في كتابه عن سعة الكرسي وعظمته، وقد ورد ذلك في أعظم آية في القرآن الكريم وهي آية الكرسي، حيث قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
وقد بين المفسرون المراد من سعة الكرسي الواردة في هذه الآية، وأوضحوا أن السماوات السبع بعظمتها وسعتها في جوف الكرسي، والكرسي محيط بها من جميع الجوانب، كما قال السدي: “{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه”([29]). والوسع هنا الكبر والفضل والقوة والطاقة، لأن كل ما وسع شيئا فقد حمله وأطاقه([30]).
فقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي: كرسيه محيط بالسموات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها([31])، والمراد بكونه وسع السموات والأرض كما قال الشوكاني: أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطا واسعا([32]).
وصيرورة السموات والأرض في الكرسي تقتضي أنه محيط بهما من جميع الجوانب، لكونه قد وسعها، ومن تأمل في خلق الأرض تبين له ذلك، لأنه مما ثبت يقينا أن الأرض في السماء الدنيا، والسماء الدنيا محيطة بالأرض من كل الجوانب، وكل سماء محيطة بالتي تحتها، والكرسي محيط بالسموات كلها كما نطق بذلك كتاب ربنا([33])، ولهذا فإن الأرض التي نحن فيها نقطة صغيرة جدا بالنسبة إلى السماء، والأرض والسماوات مجتمعة في غاية الصغر بالنسبة للكرسي، والكرسي فوق ذلك محيط بجميعها([34]).
ومن خلال ما تقدم من تفاسير أهل العلم يتبين أن الكرسي مخلوق عظيم من مخلوقات الله تعالى، وصفه الله سبحانه بأنه وسع السماوات والأرض، وذلك لسعته وكبره وعظم خلقه، ونسبة السموات والأرض إليه تعد نسبة ضئيلة جدا([35]).
وأما الدليل من السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»([36])، ووجه دلالة الحديث على سعة الكرسي واضح؛ حيث بين صلى الله عليه وسلم نسبة السماوات والأرض إلى الكرسي، وأنها كحلقة موضوعة بأرض فلاة، فماذا تساوي الحلقة الصغيرة الملقاة في الفلاة إلى الفلاة؟! لا شك أنها نسبة ضئيلة جدا، فكذلك السماوات والأرض نسبتها إلى الكرسي كنسبة الحلقة إلى الفلاة([37]).
قال الشيخ الألباني: “والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه جرم قائم بنفسه وليس شيئا معنويا. ففيه رد على من يتأوله بمعنى الملك وسعة السلطان”([38]).
خامسًا: سعة الكرسي بالنسبة للعرش:
يُعد الكرسي من أعظم مخلوقات الله بعد العرش، إذ إنه محيط بجميع السماوات والأرض، ومع ذلك فإنها لا تُقارن به من حيث السعة والعظمة. ومع اتصاف الكرسي بهذه العظمة، إلا أنه نفسه ضئيل جدًّا مقارنةً بالعرش، فقد بيّنت النصوص أن نسبته إلى العرش كنسبة السماوات والأرض إليه، وهي نسبة ضئيلة جدًّا. وقد جاء في الحديث النبوي: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»([39]).
وهذا يدل على أن الكرسي على سعته متناهٍ في الصغر مقارنةً بالعرش العظيم، وأن الفارق بينهما شاسع، مما يبرز عظمة عرش الرحمن وسعته التي لا تُضاهى([40]).
قال الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة»: “إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التباين العظيم في أحجامها. ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا؟! لأن ما غاب عنا أعظم مما نشاهد، قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن جل وعلا”([41]).
وقد ورد عن السلف أن الكرسي هو موضع القدمين، مما يدل أيضًا على صِغَره مقارنةً بالعرش. فالعرش الذي يُشبه سرير الملوك في عظمته يفوق الكرسي شأنًا ومقامًا، إذ إن الكرسي يكون أمامه كما يكون السُّلَّم بين يدي السرير ليُرتقى عليه، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
سادسا: ذكر الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في معنى الكرسي:
القول الأول: إن المراد بالكرسي هو العرش نفسه.
وهذا القول مروي عن الحسن البصري([42])، فالكرسي والعرش واحد ولكنه مرة ذكر بلفظ العرش ومرة ذكر بلفظ الكرسي([43]). ومأخذ هذا القول هو أن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه([44])، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش، وبأنه كرسي، لكون كل واحد منهما يصح التمكن عليه([45]).
وهذا القول رجحه الطاهر بن عاشور فقال: “وهذا هو الظاهر لأن الكرسي لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية، وتكرر ذكر العرش، ولم يرد ذكرهما مقترنين، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]”([46]).
القول الثاني: إن المراد بالكرسي هو العلم.
وهذا القول هو قول الجهمية([47])، فقد أولوا الكرسي بمعنى العلم كما أولوا العرش بمعنى الملك، وكل ذلك فرارًا منهم عن إثبات علو الله واستوائه على عرشه، وفي هذا يقول ابن قتيبة: “وطلبوا للكرسي غير ما نعلم، وجاؤوا بشطر بيت لا يعرف ما هو ولا يدرى من قائله: (ولا يكرسئ علم الله مخلوق) والكرسي غير مهموز بإجماع الناس جميعًا، و(يكرسئ) مهموز”([48])، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال: “كرسيه علمه”([49]).
وهذا القول وجهه الإمام الطبري وذكر أن هذا هو الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقال رحمه الله: “وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يئوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السماوات والأرض، وكما أخبر تعالى عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. فأخبر -تعالى ذكره- أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وأصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة.. ومنه يقال للعلماء: الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم”([50]).
القول الثالث: أن الكرسي عبارة عن القدرة والملك والسلطان.
وسمي الملْك بالكرسي لأن الملِك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه، فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز([51]).
القول الرابع: أن الكرسي تصوير لعظمته تعالى وتخييل فقط.
وذلك أن الكرسي لما ذكر في آيةٍ واحدة في القرآن الكريم دل ذلك على أنه تمثيل وأنه ليس ثمَّ حقيقة للكرسي، ولكن هو تمثيل لتقريب عظمة الله. وهذا القول معروف من أقوال المعتزلة وطائفة من الأشاعرة([52])، واختاره الزمخشري وغيره، قال الزمخشري: “وفي قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أربعة أوجه: أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، كقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، من غير تصور قبضة وطي ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي. ألا ترى إلى قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]؟!”([53]).
وهذه طريقة سلكها الذين ينفون كثيرا من الصفات التي تدل على عظمة الله وقدرته كقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ونحو ذلك، فيقولون: إن هذا كله تخييل؛ بل قالوا: إن كل نص جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل فإنه لأجل التخييل لا تُقصد حقائقه، وإنما المقصود تعظيم الناس لله عز وجل، وإلا فهذه ليست على حقائقها([54]).
وهذا ما قرره الزمخشري في تفسيره حيث قال في تفسير الآية المتقدمة: “والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين”([55]).
وقال الرازي عند ذكره أقوال الناس في الكرسي: “والقول الرابع: ما اختاره القفال وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم، من ذلك أنه جعل الكعبة بيتًا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم، وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعًا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشًا فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]… ثم أثبت لنفسه كرسيًا فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}”([56]).
القول الخامس: أن الكرسي هو الفلك الثامن.
وهذا قول الفلاسفة وبعض المتكلمين([57])، وسبب تسميتهم الكرسي بالفلك الثامن أنه لما كانت الأفلاك عندهم تسعا اعتبروا أن السماوات سبع أفلاك، ثم سمعوا في الأخبار ذكر العرش والكرسي فقالوا بطريق الظن: إن الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على المتكلمين حيث قال: “فصار هؤلاء الذين ظنوا الموجودات ما عرفه هؤلاء المتفلسفة إذا سمعوا ما أخبرت به الأنبياء من العرش والكرسي قالوا: العرش هو الفلك التاسع والكرسي هو الثامن”([58]).
وقال في موضع آخر: “ولهذا لما أخبرت الأنبياء بعرش الرب وكرسيه ظن بعضهم أن الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع، وهذا القول مع أنه لا دليل عليه أصلا فهو باطل من وجوه كثيرة”([59]).
وقال ابن كثير: “وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير، ويقال له: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم آخرون”([60]). وجوز بعضهم أن يكون الكرسي من الكواكب السيارة المشاهدة([61]).
سابعا: بيان بطلان الأقوال المخالفة لقول أهل السنة في معنى الكرسي:
أما القول الأول بأن المراد بالكرسي هو العرش نفسه فقول غير صحيح؛ وذلك لعدم ثبوته عن الحسن البصري، لأن في إسناده جويبرا وهو متفق على ضعفه، ذكره الذهبي ونقل الأقوال في تضعيفه([62]).
قال ابن كثير: “وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم”([63]).
وأما قولهم: “أن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي؛ لكون كل واحد منهما يصح التمكن عليه” فهذا صحيح إن كان المقصود منه جواز إطلاق العرش والكرسي على السرير في اللغة([64])، ولقد ورد في نصوص الشرع التفريق بين العرش والكرسي، كما تم بيانه سابقًا عند المقارنة بينهما، حيث ثبت أن الكرسي لا يساوي إلا جزءًا يسيرًا بالنسبة للعرش. ولو كانا شيئًا واحدًا لما صحت هذه المقارنة أصلًا. كما ثبت عن كثير من السلف أن الكرسي موضوع بين يدي العرش، فلو كانا متطابقين لما جاز التفريق بينهما في الذكر.
ولهذا قال القرطبي: “وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه، وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه”([65]).
وقال شيخ الإسلام “وقد قال بعضهم: إن الكرسي هو العرش؛ لكن الأكثرون على أنهما شيئان”([66]).
ثم إن عدم ذكر العرش والكرسي معًا في القرآن لا يعني أنهما شيء واحد، فقد يرد ذكر بعض الأمور في السنة النبوية دون ورودها في القرآن، كما هو الحال في كثير من الأحكام الشرعية. ومع ذلك فقد جاء ذكرهما معًا في السنة النبوية الصحيحة التي هي قرينة للقرآن في الدلالة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»([67])، مما يؤكد أنهما كائنان منفصلان، إذ لا يصح التفاضل بين شيئين متماثلين.
كما أن الله قد سماهما باسمين مختلفين، وهذا يوضح أن كرسي الرحمن جل جلاله له من الصفات العظيمة ما يميزه عن العرش، إذ إن الله تعالى أطلق على العرش هذا الاسم لحكمة ودلالة لغوية، كما سمى الكرسي بهذا الاسم لمعنى آخر، مما يدل على تمايزهما في الحقيقة والصفة([68]).
أما القول الثاني بأن المراد بالكرسي هو العلم فتفسير غير صحيح، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: عدم ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وذلك لأن في إسناده رجلا ضعيفا وهو جعفر ابن أبي المغيرة، ومع ضعفه جاء بمخالفة صريحة، لأنه روى عن ابن عباس خلاف ما رواه عنه الحفاظ المتقنون، فالمشهور عن ابن عباس كما تقدم أنه كان يقول: “الكرسي موضع القدمين”، ولهذا قال الدارمي في رده على المريسي: “وليس جعفر ممن يعتمد على روايته، إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون”([69])، وقال الأزهري: “والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار”([70]).
الوجه الثاني: أنه لا يعرف في اللغة أن الكرسي بمعنى العلم.
فلم يقل أحد من أئمة اللغة: إن “كرس” بمعنى “علم”، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما تسمية العلم كرسيا فهذا لا يعرف في اللغة، ولكن بعضهم تكلف له من قولهم: كراس، والكراس غير الكرسي؛ فإن قدر أن يسمى الكرسي كراسا فهو الكتاب فيكون التقدير: وسع كتابه السموات والأرض، وهذا أبعد من لفظ العلم؛ فإن كتابه ما فرط فيه من شيء {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]”([71]).
وأما احتجاج الطبري بتسمية العلماء كراسي وتسمية الكراسة كراسة على أن الكرسي هو العلم، فهذا احتجاج ضعيف، لأن لقائل أن يقول: إنما سمي العلماء كراسي لجمعهم العلم لا لعلمهم، ففرق بين جمع العلم، وبين العلم نفسه، ولهذا لا يقال لطالب العلم المبتدئ: إنه كرسي، وإن كان عنده علم، فتبين من هذا أن مادة “كرس” لم تخرج من أصلها الذي هو الجمع. وكذلك الكراسة إنما سميت كراسة لأنها أوراق جمعت على هيئة مخصوصة، ولا يقال: إنما سميت بذلك لوجود العلم فيها؛ لأنها تسمى كراسة سواء كان فيها علم أو كانت غير مسطورة بعلم.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: “والعلماء صحيح أنهم جمعوا علومهم، لكنَّ العلم من حيث هو يحصل بتلقي المعلوم ثم العلم به والمعرفة به، فليس كل علم ناتجا عن جمع، بل يكون ناتجا عن تصور الخبر، فيكون معلوما له. وهذا هو المقرر في اللغة عند أهل نظرية المعرفة، فإن المرء يعلم بدون جمع، والله عز وجل وصف الصغير بقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، فكلما علم الصغير شيئا صار عالمًا به ولو لم يجمعه إلى غيره، فمادة الجمع غير مادة العلم، مادة الكرسي غير مادة العلم، والعلم ما صار علمًا للجمع، وإن كان العلماء سُمُّوا كراسي لأجل جمعهم العلم”([72]).
وعليه فإن تسمية العلماء بالكراسي إنما هو لوصولهم إلى مرتبة يجلسون فيها على الكراسي لتعليم الناس، فهذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال، فالكرسي بمعنى العالم مجاز فهو تسمية له بمكانه لأنّ الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم.
وأما إذا أُضيف الكرسي إلى العالم فإنه لا يدل إلا على حقيقته المعروفة، إذ لم يُنقل عن العرب أنهم استعملوا عبارة “كرسي العالم” بمعنى “علم العالم”. وكما لا يُقال ذلك في كرسي العالم، فإنه لا ينبغي أن يُقال في الكرسي المضاف إلى الله تعالى.
علاوة على ذلك يمكن أن يُقال عن أحد العلماء: “هذا كرسي من الكراسي” أي: “عالم من العلماء”، فهل يصح أن يُقال عن الله العليم الخبير: “الله كرسي” بمعنى “عالم”؟!
فمن أجاز ذلك فقد أتى بقول غير مسبوق وخاض في أمر عظيم، ومن منعه فعليه أن يمنع تفسير الكرسي بالعلم، لأن هذا القول يستلزم ذلك. والله أعلم.
الوجه الثالث: أن تفسير الكرسي بالعلم يلزم منه محذور شرعي؛ وذلك أنه إذا قيل: إن معنى قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: وسع علمه السموات والأرض، فإنه يلزم منه اقتصار علمه تعالى بالسماوات والأرض، وهذا باطل؛ فإن الله تعالى أخبر أنه قد أحاط بكل شيء علما، كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: “ففسروا الكرسي بالعلم مع أن هذا لا يعرف في اللغة البتة، والله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علما، فلا يختص علمه بالسموات والأرض، والمقصود بيان عظمة الرب سبحانه وهو بكل شيء عليم، ويعلم ما كان وما يكون، فليس في تخصيص علمه بالسماوات والأرض مدح ولا لهذا نظير في القرآن، فالرب لا يَذكر اختصاص علمه بذلك قط”([73]).
وقال أيضا: “قد نقل عن بعضهم أن كرسيه علمه، وهو قول ضعيف، فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، والله يعلم نفسه، ويعلم ما كان وما لم يكن، فلو قيل: وسع علمه السماوات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسبًا، لا سيما وقد قال: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، أي: لا يثقله، ولا يكرثه، وهذا يناسب القدرة لا العلم. والآثار المأثورة تقتضي ذلك”([74]).
والمقصود هنا أن علم الله عز وجل يشمل علمه بذاته عز وجل، وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلمه عز وجل الذي يسع السماوات والأرض، وعلمه عز وجل الذي يسع الجنة والنار، وعلمه عز وجل بعد تغير السماوات والأرض، وقبل خلق السموات والأرض، فإذًا تفسير الكرسي بأنه العلم هذا يضاد أن علم الله يسع كل شيء، وبهذا يتبين بطلان القول بأن كرسيه علمه والله أعلم([75]).
أما القول الثالث بأن الكرسي عبارة عن القدرة والملك والسلطان فهذا القول نسبه القرطبي إلى أهل الإلحاد فقال: “وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. وأهل الحق يجيزونهما إذ في قدرة الله متسع، فيجب الإيمان بذلك”([76]).
“وقالوا: إذا قيل: (إن كرسي الملك واسع) فهذا يدل على سعة ملكه وعلى علو شأنه وقوته، فيقولون: الله عز وجل قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني: أن سلطانه وملكه وسع السماوات والأرض، وهذا ليس بجيد أيضا؛ لأن الكرسي من جهة دلالة اللغة غير دلالته على الملك، ولأن الكرسي موصوف في السنة وفي آثار السلف بأنه غير الملك، فدل ذلك على أن تفسيره بالملك تفسير حادث، والتفسير الحادث بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم لا يصار إليه في تفسير القرآن”([77]).
أما القول الرابع بأن الكرسي تصوير لعظمته تعالى وتخييل فقط؛ وهذا القول مبني على قاعدتهم في أنَّ كل النصوص من هذا الباب على وجه التوهّم والتخييل، وهو قول باطل، لأنَّ معناه نفي كل الأمور الغيبية على هذه القاعدة، فما كان من الأمور الغيبية يدل على عظمة الله وكان فيها تمثيل بأشياء موجودة عند البشر فتنفى، ويكون المقصود التمثيل لا الحقيقة. وفي الحقيقة إنّ القول بأن هذا كله على جهة التخييل إلغاء لكل الدلالات الشرعية للألفاظ، وإلغاء لكل الغيبيات؛ لأنه يكون المقصود في كل هذا هو التمثيل، وكفى بذلك فسادا وبطلانا([78])، لأنه لا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسبّبت عن جهالات وضلالات([79]).
أما القول الخامس بأن الكرسي هو الفلك الثامن فهذا القول باطل لمخالفته ظاهر النصوص الشرعية، وخروجه عن أقوال السلف، وتعارضه مع الدلالة اللغوية لكلمة “الكرسي”، كما أن تفسير الكرسي بأنه فلك ليس إلا تخمينًا وتخرّصًا، وهو قول على الله بغير علم. وقد أشار ابن كثير إلى ذلك في ردّه على من زعم أن الكرسي هو الفلك الثامن حيث قال: “وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أن الكرسي عبارة عن الفلك الثامن الذي يسمونه فلك الكواكب الثوابت، وفيما زعموه نظر; لأنه قد ثبت أنه أعظم من السماوات السبع بشيء كثير، كما ورد به الحديث المتقدم أن نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة، وهذا ليس نسبة فلك إلى فلك، فإن قال قائلهم: نحن نعترف بذلك ونسميه مع ذلك فلكا فنقول: الكرسي ليس في اللغة عبارة عن الفلك، وإنما هو كما قال غير واحد من السلف: إن الكرسي بين يدي العرش كالمرقاة إليه. ومثل هذا لا يكون فلكا. ومن زعم منهم أن الكواكب الثوابت مرصعة فيه فقد قال ما لا يعلم، ولا دليل لهم عليه، هذا مع اختلافهم في ذلك أيضا كما هو مقرر في كتبهم، والله أعلم”([80]).
وبهذا يتبيّن أن الكرسي ليس فلكا من الأفلاك، وأن الصحيح أن الكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة([81]).
الخاتمة:
تبيّن من خلال هذه الورقة العلمية أن القول الراجح من هذه الأقوال هو أن الكرسي مخلوق عظيم من مخلوقات الله، يفوق السماوات والأرض في العظمة، لكنه دون العرش في المكانة. أما سائر الأقوال المخالفة فهي باطلة لا تستند إلى دليل صحيح، وإنما هي تأويلات بلا برهان، غايتها إنكار حقيقة الكرسي ورد النصوص الصريحة من القرآن والسنة التي أثبتته بوضوح، بل إن أعظم آية في كتاب الله سُميت به، فكيف يُعقل بعد ذلك أن يُفسَّر بمعنى آية العلم، أو القدرة، أو الملك وسعة السلطان؟!
لكن لا غرابة في تناقض أقوالهم واضطراب آرائهم، فهذا هو حال المؤوِّلة والمعطِّلة الذين يبتعدون عن منهج الحق، فيقعون في التخبط والتناقض. أما أهل السنة فإنهم يقفون مع النصوص الشرعية، فيثبتون ما دلت عليه من معانٍ صحيحة من غير تحريف أو تأويل، وبذلك أثبتوا الكرسي كما جاء في النصوص، وآمنوا بوصفه الصحيح، ومن ذلك أنه أعظم مخلوق بعد العرش، وأنه بين يديه بمثابة الدرج المؤدي إليه، وهو موضع القدمين.
قال الشوكاني: “الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته… وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة وأخطئوا في ذلك خطأ بينا، وغلطوا غلطا فاحشا، وهذا القول هو الحق، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقيّ إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات”([82]).
إذا علم هذا فلفظ الكرسي ورد في الآية، وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة، ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه([83])، ولقد وردت العديد من النقول عن أئمة السلف في توضيح هذا المعنى. والمقصود أن عظمة هذا المخلوق تعكس عظمة الخالق سبحانه وقدرته وسعة ملكه، إذ إن كان بعض مخلوقاته بهذه العظمة، فكيف بالخالق جل جلاله؟!
أما الذين أنكروا الكرسي أو أوّلوه تأويلًا غير صحيح فلم يقدروا الله حق قدره، ولم يستوعبوا تمامًا معنى إحاطته سبحانه وتعالى وعظمته وقوته، فهو أكبر من كل شيء، والسماوات السبع والأرضون كلها في يده كحبة خردل في يد الإنسان، بل إنه سبحانه يقبض السماوات السبع بيده، والأرضين بيده الأخرى، فهل يُعجزه بعد ذلك أن يخلق مخلوقًا كالكرسي؟! وكيف يكون ذلك عسيرًا عليه وهو القائل لكل شيء: “كن: فيكون؟!
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: تهذيب اللغة (10/ ٣٢).
([2]) انظر: القاموس المحيط (ص: ٧٣٥).
([4]) انظر: مجموع الفتاوى (6/ 584).
([5]) انظر: تفسير ابن عطية (1/ 345)، تفسير القرطبي (3/ 287).
([6]) انظر: تفسير الطبري (4/ 537-539).
([7]) أخرجه الدارمي في نقضه على المريسي (1/ 400، 412، 423)، وعبد الله في السنة (1/ 30، 2/ 354)، قال الشيخ الألباني بعد ذكر سنده: (هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات). مختصر العلو (ص: 102).
([8]) قال الذهبي: (ليس للأطيط مدخل في الصفات أبدا، بل هو كاهتزاز العرش لموت سعد، وكتفطر السماء يوم القيامة، ونحو ذلك) العلو للعلي الغفار (ص: 107).
([9]) أخرجه عبد الله في السنة (1/ 301، 2/ 354)، والذهبي في العلو (ص: 107)، وهو صحيح الإسناد موقوفا، ورجاله ثقات معروفون. كما ذكره الألباني في مختصر العلو (ص: 123).
([10]) انظر: تفسير الطبري (4/ 538).
([14]) تفسير القرطبي (3/ 287).
([16]) انظر: تهذيب اللغة (10/ 32)، لسان العرب (6/ 194).
([17]) انظر: البداية والنهاية (1/ ١٥)، شرح الطحاوية (ص: ٣١٣)، القول المفيد لابن عثيمين (3/ ٣٧٨).
([18]) أخرجه ابن أبي شيبة في العرش (٥٨) واللفظ له، وابن حبان (٣٦١)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (١/ ١٦٧) مطولًا، قال الألباني في التعليق على الطحاوية (٣٦): “هذا القدر فقط صح مرفوعًا”.
([19]) أخرجه الدارمي في النقض على المريسي (٤١٢/ ١)، وقال الذهبي في كتاب العلو (ص: ٧٦): “رجاله ثقات”، وصححه الألباني في مختصره (ص: ١٠٢).
([20]) أخرجه عبد الله في السُّنَّة (٣٠٢/ ١)، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص: ١٢٤).
([21]) انظر: أصول السُّنَّة لابن أبي زمنين (ص: ٩٦)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 584)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص: ٣٧١)، والقول المفيد لابن عثيمين (١/ ٤٤٣، ٥٤٩، 2/ ٥٣٦).
([22]) انظر: رد الدارمي على البشر المريسي (1/ 223).
([23]) انظر: شرح العقيدة الطحاوية للبراك (ص: 190).
([24]) تفسير ابن عطية (1/ 342).
([26]) أخرجه ابن ماجه (٤٠١٠) واللفظ له، وأبو يعلى (٢٠٠٣)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (٣٢٥٥).
([27]) أخرجه الطبراني (٩/ ٤١٧) (٩٧٦٣)، والدارقطني في رؤية الله (١٦٣)، والحاكم (٨٧٥١) مطولًا.
([28]) أخرجه أبو أحمد العسال في المعرفة كما في العلو للذهبي (ص: ٣٦)، وقال الذهبي في العرش (42): “إسناده صحيح”.
([29]) أخرجه الطبري (4/ 538)، وابن أبي حاتم (2/ 491)، وابن بطة في الإبانة (7/ 323)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 195).
([30]) انظر: الفتح القدسي في آية الكرسي للبقاعي (ص: 136)، فتح القدير للشوكاني (1/ 272).
([31]) انظر: شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (ص: 171).
([33]) انظر: الفتح القدسي في آية الكرسي، للبقاعي (ص: 137).
([34]) انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد، لصالح آل الشيخ (ص: 591).
([35]) انظر: آية الكرسي وبراهين التوحيد، لعبد الرزاق البدر (ص: 46).
([37]) انظر: آية الكرسي وبراهين التوحيد، لعبد الرزاق البدر (ص: 46).
([38]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 226).
([40]) انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص: 591)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 327)، آية الكرسي وبراهين التوحيد، لعبد الرزاق البدر (ص: 46).
([42]) انظر: تفسير الطبري (4/ 539)، تفسير السمعاني (1/ 258)، تفسير البغوي (1/ 312).
([43]) تفسير السمرقندي (1/ 194).
([44]) لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 190).
([45]) مفاتيح الغيب للرازي (7/ 13).
([46]) التحرير والتنوير (3/ 23).
([47]) انظر: رد الدارمي على المريسي (1/ 413-415)، ونحو هذا القول تفسير الكرسي بالقدرة كما الزجاج: “وقال قوم: كرسيه: قدرته التي بها يمسك السموات والأرض. قالوا: وهذا كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسيا. أي: اجعل له ما يعتمده ويمسكه، وهذا قريب من قول ابن عباس، لأن علمه الذي وسع السموات والأرض لا يخرج من هذا، والله أعلم بحقيقة الكرسي، إلا أن جملته أمر عظيم من أمر الله جل وعز”. تهذيب اللغة للأزهري (10/ 33).
([48]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 48).
([49]) أخرجه الطبري (4/ 540-541)، وابن أبي حاتم (2/ 490)، وابن منده في الرد على الجهمية (ص: 21)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 308)، ومداره على جعفر ابن أبي المغيرة وهو ليس بالقوي، ولم يتابع عليه، وخالفه الأئمة الحفاظ. ولهذا قال الدارمي: “وليس جعفر ممن يعتمد على روايته، إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون”. رد الدارمي على المريسي (1/ 410).
([50]) تفسير الطبري (4/ 540-541).
([51]) انظر: البحر المحيط في التفسير (2/ 612).
([52]) انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير(2/ 227)، فتح القدير (1/ 272).
([53]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 301).
([54]) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ (1/ 466).
([55]) تفسير الزمخشري (4/ 142).
([56]) مفاتيح الغيب (7/ 13). على أن الرازي يرجح قول أهل السنة في تعريف الكرسي. انظر: مفاتيح الغيب (7/ 14).
([57]) انظر: المواقف للإيجي (1/ 8)، مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني (ص: 558)، مجموع الفتاوى (6/ 546)، الرسالة العرشية (ص: 4)، روح المعاني (12/ 24).
([58]) مجموع الفتاوى (17/ 336).
([59]) الرد على المنطقيين (ص: 267).
([60]) تفسير ابن كثير (1/ 681).
([61]) انظر: التحرير والتنوير (3/ 24).
([62]) تاريخ الإسلام (3/ 834).
([63]) تفسير ابن كثير (1/ 681).
([64]) انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/ 365).
([65]) تفسير القرطبي (3/ 278)، وانظر: تفسير ابن عطية (1/ 342).
([66]) مجموع الفتاوى (6/ 585). وانظر: تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (3/ 254).
([68]) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ (1/ 465-466).
([69]) رد الدارمي على المريسي (1/ 411).
([71]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/ 365).
([72]) شرح الطحاوية (1/ 468-469).
([73]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/ 363).
([74]) مجموع الفتاوى (6/ 584).
([75]) انظر: شرح الطحاوية، لصالح آل الشيخ (1/ 468).
([76]) تفسير القرطبي (3/ 277).
([77]) شرح الطحاوية، لصالح آل الشيخ (1/ 469-470).
([78]) انظر: شرح الطحاوية، لصالح آل الشيخ (1/ 468).
([79]) انظر: فتح القدير (1/ 272).
([80]) البداية والنهاية (1/ 25).














