السبت - 01 جمادى الآخر 1447 هـ - 22 نوفمبر 2025 م

كشف الالتباس عما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى في حق الرسل عليهم السلام: (وظنوا أنهم قد كُذبوا)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 مقدمة:

إن ابن عباس رضي الله عنهما هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولا تخفى مكانة أقواله في التفسير عند جميع الأمة.

وقد جاء عنه في قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) ما يوهم مخالفة العصمة، واستدركت عليه عائشة رضي الله عنها لما بلغها تفسيره.

والمفسرون منهم من وافق ابن عباس رضي الله عنهما على تفسيره وانتصر له، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومنهم من وافق عائشة رضي الله عنها على استدراكها، ورأى أن قول غير ابن عباس رضي الله عنه أليقُ بالعصمة، كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبري رحمه الله وغيره.

وهذه الآية قد توهَّم منها بعض الجهال -كما ذكره أبو محمد ابن حزم رحمه الله- ما ينافي عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال رحمه الله: (قول الله تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بتخفيف الذال. وليس هذا على ما ظنه الجهال، وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنّوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوا فيما وعدوهم من نصرهم([1]). ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب، فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه، وأتمهم علمًا، وأعرفهم بالله عز وجل؟!

ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر، ومن أجاز إلى نبي الكفر فهو الكافر المرتد بلا شك. والذي قلنا هو ظاهر الآية، وليس فيها أن الله تعالى كذبهم، حاشا لله)([2]).

وفي هذه الورقة نبين ما يتعلق بتفسير ابن عباس رضي الله عنهما من توجيهات واعتراضات، بحيث يزول الالتباس عن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وتندفع شبهة بعض الجهال في مخالفة الآية للعصمة.

مركز سلف للبحوث والدراسات

أولًا: تفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما لقوله تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا):

قوله تعالى: (قَدۡ كُذبُواْ) قرئ بالتخفيف والتشديد، فقراءة التخفيف قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي، والباقون قرؤوها بالتشديد.

ولقراءة التشديد وجهان([3]):

الأول: وظن الرسل -أي: أيقنوا- أن الأمم كذبوهم تكذيبًا لا يؤمنون بعده.

والثاني: وظن الرسل حقيقة الظن دون اليقين أن من آمن بهم كذبوهم أيضًا حين تأخر النصر عنهم.

ولقراءة التخفيف ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظَنَّت الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر. وهذا هو التفسير الوارد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهو محل بحثنا.

الوجه الثاني: ظن القوم أنهم -أي: القوم- كذبوا، أي: كذبهم الرسل فيما أخبروهم به من نصر الله لهم وإهلاك أعدائهم([4])، أو قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا نزل بهم العذاب، وإنما ظنّوا ذلك لما شاهدوه من إمهال الله إياهم، وإملائه لهم([5]). وهذا التفسير ورد أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما كما سيأتي.

الوجه الثالث: ظن الرسل -أي: أيقنوا- أنهم -أي: الرسل- كذبوا: كذبهم من وعدهم من قومهم أن يؤمن بهم، أو أن ينصرهم، أو ظن الرسل أنهم يكذبهم من آمن بهم أيضًا يرتدّ عن دينهم، لاستبطاء النصر([6]).

والمقصود هنا ذكر ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما في الوجه الأول الذي فسرت به قراءة التخفيف، وبيان ثبوتها، وذكر من وافقه على ذلك من السلف والخلف، ثم ذكر القول الآخر الوارد عنه في تفسير هذه الآية.

  • ثبوت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما:

عن ابن أبي مليكة قال: قرأ ابن عباس: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (يوسف: 110) قال: (كانوا بشرًا، ضَعُفوا ويئسوا)([7]).

وعن ‌ابن جريج قال: سمعت ‌ابن أبي مليكة يقول: قال ‌ابن عباس رضي الله عنهما: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: (‌حَتَّىٰ ‌يَقُولَ ‌ٱلرَّسُولُ ‌وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)([8]).

وعن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: قرأ: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) خفيفة. قال ابن جريج: أقولُ كَمَا يقول: (أُخلِفُوا). قال ابن أبي مليكة: قال لي ابن عباس: (كانوا بشرًا)، وتلا ابن عباس: (‌حَتَّىٰ ‌يَقُولَ ‌ٱلرَّسُولُ ‌وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214). قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة: ذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا، فظنوا أنهم أُخلِفُوا([9]).

وهذه الروايات صحيحةٌ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ومنها ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه.

وقد ذكر عدد من المفسرين هذا القول في تفاسيرهم، ونسبوه لابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، منهم أبو محمد ابن قتيبة والسمرقندي والثعلبي ومكي بن أبي طالب القيسي ومحيي السنة البغوي وأبو المظفر السمعاني وأبو محمد ابن عطية وفخر الدين الرازي([10]).

قال الحافظ ابن حجر: (‌وعَجَبٌ ‌لابن ‌الأنباري في جزمه بأنه لا يصح، ثُمَّ الزمخشري في تَوَقُّفِه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنَّهُ صحَّ عنه)([11]).

فقد تعجب الحافظ من صنيع صنفين: صنف أنكروا الرواية، وصنف توقفوا في صحتها.

فممن أنكر هذه الرواية عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أبو بكر ابن الأنباري، وأبو علي الفارسي، ونقل القرطبي المفسّر الإنكارَ دون أن يُسمِّيَ قائِلَه([12]).

قال أبو علي الفارسي: (وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنّ الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كَذَبوا أو كُذِبوا، فقد أتى عظيمًا لا يجُوز أن يُنسَب مثلُه إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله. وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مُبدِّل لكلماته)([13]).

وقال أبو بكر ابن الأنباري بعد أن أورد كلام ابن عبّاس: (وهذا غير مُعوَّلٍ عليه من جهتين:

إحداهما: أن التفسير فيه ليس عن ابن عباس، لكنه من مُتأوِّلٍ تأوَّلَه عليه.

والأخرى: أن في قوله: (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) دلالة على أن أهل الكفر لما ظنوا ما لا يجوز ظن مثله واستضعفوا رسل الله، نُصِر الرسل.

ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيمًا لا يستحقون ظفرًا ولا نصرًا، وتنزيه الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلًا)([14]).

وسيأتي بيان عدم منافاة كلام ابن عباس رضي الله عنهما وتأويله للعصمة.

وممن أنكر نسبة هذا القول لابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا: السمين الحلبي وتبعه ابن عادل الحنبلي في تفسيره، فإنهما قالا في عرض الأقوال في الآية: (الثالث: أن ‌الضمائر ‌كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا: والرُّسُل بشر؛ فضعفوا وساء ظنُّهُم، وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء)([15]).

وفي كلامه نظر، فإنه قد نسب لابن عباس رضي الله عنهما ومن معه من أصحاب هذا القول أنهم جعلوا الظن على بابه، وبنى على ذلك نفي نسبة هذا القول لهم، والمقدّمة الأولى غير مُسلَّمَة، كما سيأتي.

وممن توقف في صحة هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: الزمخشري، وتبعه البيضاوي.

ونصُّ الزمخشري: (فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظَّنِّ ما يَخطِر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية)([16]).

قال الطيبي: (قوله: “فإن صح”، قلتُ: ‌ما ‌أصحَّه! وقد رواه البخاري في صحيحه)([17]).

وقد تبع البيضاويُّ الزمخشريَّ في ذلك، ونقل السيوطيُّ تعقّب الطيبي في حاشيته على البيضاوي([18]).

فالحاصل أن هذا القول ثابتٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونفيُ صحةِ نسبَتِه إليه أو التوقُّف في ذلك لا يستقيم، وهو محلُّ نظرٍ عند المحققين من أهل العلم بالحديث.

تنبيه: قال ابن حجر: (الذي يُظَنّ بابن عباس أنه أراد بقوله: كانوا بشرًا إلى آخر كلامه مَن آمن من أتباع الرسل، لا نَفسُ الرُّسُل. وقول الراوي عنه: ذهب بها هناك، أي: إلى السماء، معناه: أن أتباع الرسل ظَنُّوا أن ما وعَدَهُم به الرسل على لسان الملك تخلَّف، ولا مانعَ أن يقعَ ذلِك في خواطر بعض الأتباع)([19]).

وما ذكره ابن حجر هنا من أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (كانوا بشرًا) أتباع الأنبياء لا الأنبياء: فيه نظر، لأنه خلاف الظاهر.

  • مَن وافَق ابنَ عبَّاس رضي الله عنهما من السلف والخلف:

أجلُّ من نُسِب إليه موافقة ابن عباس رضي الله عنهما على ما ذهب إليه: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال الإمام الطبري رحمه الله: (وقد ذهب قومٌ ممن قرأ هذه القراءة -أي: قراءة التخفيف- إلى غير التأويل الذي اخترنا، ‌ووجَّهُوا ‌معناه ‌إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظَنَّت الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر)([20]).

وذكر رواية ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما المتقدّمة، ثم ذكر عن مسروق، عن ابن مسعود، أنه قرأ: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (يوسف: 110) مخففة، قال عبد الله: (هو الذي تَكرَه)([21]).

وظاهر كلام الحافظ ابن كثير أن ابن مسعود رضي الله عنهما قوله كقول ابن عبّاس في تفسير الآية([22]).

لكن نوقشت دلالة هذه الرواية على المطلوب، قال ابن حجر: (وليس في هذا أيضًا ما يُقطَعُ به على أن ابنَ مسعود أراد أن الضمير للرسُل، بل يُحتَمَل أن يكون الضمير عنده لمن آمن من أتباع الرسل، فإنَّ صُدور ذلك ممن آمن مما يُكرَه سماعه، ‌فلم ‌يتعين ‌أنه ‌أراد الرسل)([23]).

وقد وافق ابن عبّاس رضي الله عنهما أتباع مدرسته في التفسير، وقد تقدّم قول ابن جريج عقب ذكره تفسير ابن عباس: (أقولُ كَمَا يقول: أُخلِفُوا).

ووافقه تلميذه سعيد بن جبير، كما جاء عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (يوسف: 110) قلت: كُذِبوا؟ قال: (نعم، ‌ألم ‌يكونوا ‌بشرًا؟!)([24]).

وقال ابن حجر مُستَدِلًّا برواية عروة بن الزبير الآتي ذكرها في استدراك عائشة رضي الله عنها على ابن عبّاس: (وظاهرُ السياق أن ‌عروة ‌كان ‌يوافق بن عباس في ذلك قبل أن يسأل عائشة، ثم لا يُدْرى رجع إليها أم لا)([25]).

وقد انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية لتفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما في فصلٍ نفيس([26])، فقال بعد أن أورد رواية ابن عباس رضي الله عنهما واستدراك عائشة رضي الله عنها: (وقد تأوَّلَها -يعني قراءة التخفيف- ابنُ عبَّاس، ‌وظاهر ‌الكلام ‌معه)([27]).

وممن وافق ابن عبّاس رضي الله عنهما: الطوفيُّ، فإنه فسر قراءةَ التخفيف بما فسرها به ابن عبّاس رضي الله عنهما: (و(كُذِبُوا) (يوسف: 110) بالتخفيف، أي: أخلفهم الله عز وجل وعدَهُ في النصرة، وأنَّهُم ليسُوا على شيء)([28]).

وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني في تفسيره: ((وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ): بتخفيف الذال، قراءة الكوفيين، والمعنى: ظن الرسل أن أنفسهم كذبتهم في تقدير النصر، ولم يكن لهم وعدٌ بالنصر في تلك الواقعة من الله تعالى. أو ظنوا أن من أطاعهم علانية كَذَبُوهم سرًا. أو الظن مجازٌ عن الهواجس التي يذهب بها نور الإيمان، وهذا تأويل قول ابن عبّاس على ما رواه عنه البخاري)([29]).

ومن المعاصرين الذين فسروا الآية برأي ابن عباس رضي الله عنهما: الشيخ عبد الرحمن السعدي حيث قال في تفسيره: (يُخبِرُ تعالى أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل. حتى إن الرسل -على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده- ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق)([30]).

  • القول الآخر الذي جاء عن ابن عَبَّاس رضي الله عنهما في تفسير الآية:

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أورد تفسيرَ ابنِ مسعودٍ وابن عباس رضي الله عنهما المتقدم: (وهذا عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما مخالفٌ لما رواه آخرون عنهما. أما ابن عباس فروى الأعمش عن مسلم عن ابن عباس في قوله: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبُوهم.

وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعمران بن الحارث السلمي، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس بمثله.

وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حرة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله، كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا.

فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا.

ثم روى ابن جرير أيضًا من وجه آخر: أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني([31]).

وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جبر، وغير واحد من السلف)([32]).

وقد اختلفت مسالك العلماء في التعامل مع هذين القولين عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فمنهم من سلك مسلك الجمع، ومنهم من سلك مسلك الترجيح.

فممن سلك مسلك الجمع: الحافظ ابن حجر، فقال بعد أن أورد هذا التفسير: (فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عبّاس في ذلك، وهو أعلم بمراد نفسه من غيره)([33]).

وقَوَّى ابن حجر هذا التفسير أيضًا بكونه جاء عن سعيد بن جبير رحمه الله، وهو من أكابر أصحاب ابن عباس العارفين بكلامه([34]).

قال ابن حجر: (ولا يَرِدُ على ذلك ما روى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: (قَدۡ كُذِبُواْ) خفيفة، أي: أُخلِفوا؛ لأنا إذا قررنا أن ‌الضمير ‌للمرسل ‌إليهم، لم يضر تفسير كذبوا بأخلفوا، أي: ظن المرسل إليهم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به، والله أعلم)([35]).

ويشكل على هذا أن الروايات الورادة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما فيها ما هو صريح في عود الضمير على الرسل، كقوله المتقدّم: (كانوا بشرًا، ضعفوا ويئسوا)([36]).

كما أن سعيد بن جبير رحمه الله جاءت عنه الرواية المتقدّمة، كما جاءت عنه هذه الرواية، وفيها: (نعم، ‌ألم ‌يكونوا ‌بشرًا؟!)([37]).

وممن سلك مسلك الترجيح: الإمام الطبري، فإنه اعتمد هذا القول وانتصر له، ورَجَّحه على القول الأول بدلالة السياق، وكونه الأشبه بصفات الأنبياء([38])، ولذلك قال ابن كثير: (وزيف ابن جرير القول الآخر بالكلية، ورَدَّهُ وأباه، ولم يقبله ولا ارتضاه)([39]).

ورجح أبو المظفر السمعاني أيضًا هذا التفسير عن ابن عبّاس رضي الله عنهما حيث قال: (وفي معناه قولان:

أحدهما: ما روي عن ابن عباس أنه قال: ضعفت قلوب الرسل -وقد كانوا بشرًا- بتطاول الزمان وكثرة، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: (وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ) وقوله: (مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِ) استبطاءٌ، أو قالوا: هذا من ضعف البشرية.

والقول الثاني -وهو الصحيح-، وهو منقول أيضًا عن ابن عباس: أن معنى الآية: وظنَّ مَن آمن بالرسل، أن الرسل قد كُذِبوا بالتخفيف، أو ظن القوم الذين بعث إليهم أن الرسل قد كذبوا بالتخفيف)([40]).

ومن أهل العلم من اقتصر على هذا الوجه في تفسير قراءة التخفيف، وأعرض عن ذكر الوجه الأول الوارد عن ابن عبّاس بالكلية؛ منهم: ابن خالويه ومكي ابن أبي طالب في تفسيره وابن أبي زمنين والماوردي وابن الجوزي وأبي حفص النسفي والغزنوي وأبي البركات النسفي وابن جُزَي والجلالين والعليمي وغيرهم([41]).

وهذا الوجه احتاج أصحابُه إلى تعليل الاختلاف في مرجع الضمائر، وهو ما لم يُحتَج إليه في التفسير الأول الوارد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قال أبو علي الفارسي: (فإن قلت: كيف يجوز أن يُحمَل الضمير في (ظنُّوا) على أنه للمرسل إليهم الرسل، والذي تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم؟

قيل: إن ذلك لا يمتنع، لأن ذكرَ الرسُل، يدلُّ على المرسل إليهم، لمقارنة أحد الاسمين للآخر، ولما في لفظ الرسل من الدلالة على المرسل إليهم، وقد قال الشاعر:

أمِنْكَ البرقُ أرقُبُه فهاجَا … فبتُّ إخَالُه دُهْمًا خِلاجًا

أي: بتُّ أخال الرعد صوت دُهْم، فأضمر الرعد ولم يَجْر له ذكر، لدلالة البرق عليه لمقارنة لفظ كلّ واحد منهما الآخر. وفي التنزيل: ‌(سَرَٰبِيلَ ‌تَقِيكُمُ ‌ٱلۡحَرَّ) (النحل: 81) واستغني عن ذكر البرد، لدلالة الحرّ عليه.

وإن شئت قلت: إنّ ذكرهم قد جرى في قوله: (‌أَفَلَمۡ ‌يَسِيرُواْ ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ) (يوسف: 109)، فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل)([42]).

ثانيًا: استدراك عائشة رضي الله عنها على ابن عبّاس رضي الله عنهما:

اشتهرت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها استدراكات على علماء الصحابة رضي الله عنهم([43])، ومن تلك الاستدراكات ما جاء عنها في ردّها على ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية.

وسيكون البحث أولًا بإيراد نصّ كلامها، ثم بيان مستندها، والنظر في ما نُسِب إليها من إنكار القراءة المتواتر، ثم ذكر من وافقها من أهل العلم بالتفسير والقراءات على استدراكها.

  • نص كلام عائشة رضي الله عنها كما رواه عروة بن الزبير:

جرى بين الإمام المفسر ابن جريج الذي روى الخبر آنف الذكر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما واعتمدَه وقال به وبين التابعي الجليل عروة بن الزبير مباحثةٌ بشأن هذا التفسير، وقد نقل عروة لابن جريج ما أخبرته به خالتُه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من استدراك على كلام ابن عباس رضي الله عنهما.

قال ابن جريج بعد كلامه آنف الذكر: فلقيتُ عُروَة بن الزبير فذكرتُ له ذلك، فقال: قالت عائشة: معاذ الله! والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم، فكانت تقرؤها: (وظنوا أنهم ‌قد ‌كُذِّبُوا) مثقلة([44]).

وعن ابن شهاب عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قوله: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا) أو (كُذِبُواْ)؟ قالت: بل كذَّبَهم قومُهم. فقلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن. فقالت: يا عُرَيَّة!([45]) لقد استيقنوا بذلك. قلت: فلعلها أو (كُذِبُوا)؟ قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. وأما هذه الآية قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأست ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعهم كَذَّبُوهم جاءهم نصر الله([46]).

فمُستَنَد عائشة رضي الله عنها في نفي تأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما تنزيهُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويؤيد ذلك قولها: (معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها). قال الإمام مكي ابن أبي طالب القيسي: (تريد أن الرسل لا تشكّ في وعد الله ووعيده)([47]).

قال العلامة نجم الدين الطوفي: (وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها هذا التأويل تنزيهًا للأنبياء عن الشك في أمرهم)([48]).

  • هل أنكرت عائشة رضي الله عنها القراءة المتواترة؟ وتوجيه ذلك:

إن إنكار عائشة رضي الله عنها لتأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما ظاهرٌ جليٌّ في كلامها وجوابها لعروة، لكن هل كان في كلامها إنكارٌ أيضًا للقراءة المخففة وإن فُسِّرت بوجهٍ آخر؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فعائشةُ جعلت استيئَاس الرسل من الكفار المكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم، ولكن القراءة الأخرى ثابتة لا يمكن إنكارها)([49]). وكلام ابن تيمية يفيد أن عائشة رضي الله عنه أنكرت هذه القراءة.

وقال الحافظ ابن حجر في تعليقه على قول عائشة رضي الله عنها: (معاذ الله!) المتقدّم في جواب عروة: (وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، بناءً على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته([50])، ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها، ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك.

وقد ‌قرأها ‌بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة بن مسعود وبن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين.

وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس. كذا قال، وهو خلاف الظاهر)([51]).

وقد اعتَذَرَ ابن عاشور لعائشة رضي الله عنها أيضًا بنحو اعتذار ابن حجر فقال: (ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية (كذبُوا) بالتخفيف)([52]).

ولا تلازم بين قراءة التخفيف وبين تأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقد تقدّم أن لقراءة التخفيف ثلاثة أوجه:

الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظَنَّت الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما الذي أنكرته عائشة رضي الله عنها.

الثاني: ظن القوم أنهم -أي: القوم- كُذِبوا، أي: كَذَبهم الرسل فيما أخبروهم به من نصر الله لهم وإهلاك أعدائهم، وهو القول الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدّم بيانه.

الثالث: ظن الرسل -أي: أيقنوا- أنهم: أي الرسل، كُذِبوا: كَذَبهم مَن وعدهم من قومهم أن يؤمن بهم، أو ظن الرسل أنهم يكذبهم من آمن بهم أيضًا؛ يرتدّ عن دينهم لاستبطاء النصر، وهو قول بعض المفسرين.

فإبطال قول ابن عباس رضي الله عنهما الأول لا يلزم منه ردّ قراءة التخفيف؛ لجواز قبولها وحملها على أحد الوجهين الثاني أو الثالث، وهذا مأخذ الكرماني في قوله: (لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس).

  • مَن وافق عائشة رضي الله عنها على منع تأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما:

وافق جمع من أهل العلم عائشة رضي الله عنها في إنكارها تأويل ابن عباس رضي الله عنهما.

قال ابن قتيبة: (قد تكلم المفسرون في هذه الآية بما فيه مقنع وغَنَاء عن أن يوضّح بغير لفظهم).

وذكر الأقوال في تفسير الآية، ومنها قول ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم قال: (وهذه مذاهب مختلفة، والألفاظ تحتملها كلّها، ولا نعلم ما أراد الله عز وجل، غير أنّ أحسنها في الظاهر، وأولاها بأنبياء الله صلوات الله عليهم، ما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها)([53]).

وقال أبو إسحاق الزجاج: (وقد قال بعضهم وظنوا أنهم قد أخْلِفوا أي: ظن الرسُلُ، وذلك بعيدُ في صفة الرسل. يروى عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوعد شيئًا أخْلِفَ فيه، وفي الخبر: ومعاذ الله أن يظن الرسل هذا بربها)([54]).

وقال الطبري بعد ذكر تأويل ابن عبّاس: (وهذا تأويل، وقول غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافُه من القولِ أشبه ‌بصفات الأنبياء.

والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم، ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسل إليهم، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره.

وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته ‌أشد ‌النكرة فيما ذُكِر لنا)([55]).

ولذلك قال ابن كثير: (وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك، وانتصر لها ابن جرير)([56]).

وقال أبو القاسم الكرماني بعد أن أورد ما نقله ابن قتيبة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وما ذكره القُتبِيُّ في جماعةٍ في تأويل هذه الآية فبَعِيد، لا نعتَقَدُ مثله في الأنبياء والمرسلين)([57]).

وقال أبو محمد ابن عطية بعد ذكره تأويل ابن عباس رضي الله عنهما: (وردَّتْ ‌هذا ‌التأويلَ عائشةُ أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا.. وهذا هو الصواب، ‌وأين ‌العصمة والعلم؟!)([58]).

وقال القاضي عياض: (فإن قيل: فما معنى قوله: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) على قراءة التخفيف؟

قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها: ‌معاذ ‌الله ‌أن تظن ذلك الرسل بربها، وإنما معنى ذلك: أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم. وعلى هذا أكثر المفسرين.

وقيل: إن ضمير (ظنوا) عائد على الأتباع والأمم، لا على الأنبياء والرسل، وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة من العلماء.

وبهذا المعنى قرأ مجاهد: (كَذَبُوا) بالفتح، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء؟!)([59]).

وقال فخر الدين الرازي في بيان الأوجه المحتملة لقراءة التخفيف: (والوجه الثاني: أن يكون المعنى: أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا، وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قالوا: وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية.

إلا أنه بعيد؛ لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان، فكيف يجوز مثله على الرسل؟!).

ثم قال في بيان الأوجه المحتملة لقراءة التشديد: (والثاني: أن يكون الظن بمعنى الحسبان، والتقدير: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم، وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية)([60]). ثم ذكر الرازي نصّ رواية عائشة رضي الله عنها، وقال: (وهذا الرد والتأويل في غاية الحُسن من عائشة)([61]).

وقال السُّمَين الحلبي بعد أن ذكر تأويل ابن عبّاس: (وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء، فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك)([62]). وقد تقدم أن إنكار الحلبي إنما بناه على اعتقاده أن الظن في الآية المراد به المعنى الاصطلاحي.

وموافقة من وافق عائشة رضي الله عنها من أهل العلم على إنكار تأويل ابن عباس رضي الله عنهما ليس فيها إنكار منهم لقراءة التخفيف، فإنه لا تلازم بين الأمرين كما تقدم.

وأحسن ما يُحمَل عليه إنكار عائشة رضي الله عنها ما ذكره الحافظ ابن حجر بقوله: (ويُحمَل إنكارُ عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه)([63]).

ثالثًا: توجيه العلماء لتفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما:

إنِ احتجّ محتجٌّ بقول ابن عباس رضي الله عنهما على الطعن في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعصمتهم، وتجاوزِ ما يليق بمنصبهم من الكمال في الاعتقادات والأعمال القلبية، فالجواب عليه من وجوه:

الوجه الأول: الرِّيبة إنَّما تنْصَرِفُ إلى الوسائط التي هي مُقدِّمَاتُ الوَحْي، لا إلى نَفْسِ الوَحْي:

وجّه الإمام أبو سليمان الخطابي كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما، وحمَلَه على ما لا يُنافِي عصمة الأنبياء، وبين أن الرِّيبة إنَّما تنْصَرِفُ إلى الوسائط التي هي مُقدِّمَاتُ الوَحْي، لا إلى نَفْسِ الوَحْي، فقال: (فإنْ قيل: فما وَجْهُ ما ذَهَبَ إليه ابنُ عبَّاس من تأويل الآية، وقولُه: ذَهَبَ بها هنالك؟

قيل: أمَّا الذي لاَ يُشَكُّ فيه من مذهبه أنَّه لم يُجَوِّزْ على الرُّسُل -صَلَواتُ اللهِ عليهم- أن يَكْذِبُوا بالوحي الذي يأتيهم من قبل اللهِ، وأنْ يَشُكُّوا في صِدْقِ الخَبَرِ عنه أو يَرْتَابُوا بالوعد فيه.

ولكنَّه قد يُحتَمل أن يُقالُ: إنَّهم عند تَطَاوُلِ مُدَّةِ البلاء عليهم، وإبْطَاءِ نَجْزِ العِدَةِ عنهم، وشِدَّةِ مُطالَبَةِ القوم إيَّاهم بما كانوا يَعدُونهم من النُّصْرَةِ، دَخَلَتْهم الرِّيَبةُ، حتَّى تَوَهَّمُوا أنَّ الذي جَاءَهم من الوَحْي لعلَّه كان حُسْبَانًا منهم وَوَهْمًا، فارتابُوا بأنفسهم، وظَنُّوا عليها الغَلَطَ في تَلَقِّي مَا وَرَدَ عليهم من القول.

فيكون معنى الكذب في هذا مُتَأَوَّلًا على الغَلَط، كقول القائل لصاحبه: كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ. وكقولك: كَذَبَ سَمْعي، وكَذَبَ بَصَري. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي وَصَفَ له العَسَلَ: «صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخيكَ».

وقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا بُدِئَ بالوحي يرتَابُ بنفسه، ويُشْفِقُ أن يكونَ الذي يَتَرَاءَاهُ أَمْرًا غيرَ مَوْثوقٍ به، إلى أن ثَبَّتَ اللهُ قلبَه، وسَكَنَ بذلك جَأْشُه، وشَرَحَ به صَدْرَهُ، فانْزَاح عنه الريبُ، وَخَلَفَهُ اليقينُ.

ومَرْجِعُ الأمر في هذا الباب أنَّ الذي عرضَ من الرِّيبة إنَّما يَنْصَرِفُ إلى الوسائط التي هي مُقدِّمَاتُ الوَحْي، لا إلى نَفْسِ الوَحْي وأَصْلِه بعدَ حُصُولِ العلم به، واللهُ أعلم)([64]).

وقريب مما ذكره الخطابي هنا ما أجاب به الطوفيُّ عن استدراك عائشة رضي الله عنها على ابن عبّاس رضي الله عنهما بقوله: (الإنسان يطرأُ عليه لخوفٍ أو حُزنٍ أو مرضٍ أو هَمٍّ وغَمٍّ أحوال يقول ويظن فيها أقوالًا وظنونًا هو فيها معذور؛ لغلبة ذلك الحال. ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تراخى عنه الوحي في مبادئ أمره خرج ليتردى من شواهق الجبال وَجْدًا لانقطاع الوحي؟!

والرسل يوم القيامة يقال لهم: ماذا أجبتم؟ فيقولون: (‌لَا ‌عِلۡمَ ‌لَنَا) (المائدة: 109)، ينسَون أو يدهشون لغلبة تلك الحال عليهم، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا. فكذا ظنُّ الرسل هاهنا أنهم قد كذبوا هو من هذا الباب، والله عز وجل أعلم بالصواب)([65]).

تنبيه: قال المقريزي مُتَعَقِّبًا كلام الطوفي: (هذه -لعمري- وهلة من وهلات الطوفي، إذ سَوَّى الرُّسُل بسائر البشر في غلبة الحال عليهم، حتى باللَّه يظنوا السوء! وقد عصمهم اللَّه من ذلك ومما دونه أيضًا)([66]).

وفي تعقّبه نظر، فإن الطوفي لم يقل قط: إن الرسل ظنوا بالله ظنَّ السوء، وإنما قال: (ويظن فيها أقوالًا وظنونًا هو فيها معذور)، وهذا لا يقال في ظن السوء الذي هو من كبائر الذنوب بل قد يكون كفرًا، قال الله تعالى: (إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ ‌مِن ‌رَّوۡحِ ‌ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (يوسف: 87).

ولا يخفى أن من الخواطر التي تعرض للقلوب ما يُعفَى عنه في الشريعة، ولا يدخل تحت التكليف، فيكونون بها معذورون، وهذا ما قصده الطوفي، وليس هذا من باب ظن السوء بالله تعالى في شيء، فإن إساءة الظن بالله تعالى معدودة في الكبائر، وقد نصّ على ذلك علماء الحنابلة([67])، والأنبياء عليهم السلام منزّهون عن فعل الكبائر بعد النبوة، وهذا ما قرره الطوفي في معتقده حيث قال: (والمختار أن الأنبياء معصومون من الكبائر عمدًا وسهوًا)([68]).

وأما تسويتهم عليهم السلام بالبشر في هذا المقام فإن إمام الطوفي فيها ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: (كانوا بشرًا)، وسعيد بن جبير حين قال: (ألم يكونوا بشرًا؟!).

وقد بالغ المقريزي في ردّه على الطوفي، ونزّل عليه كلام ابن حزمٍ الذي تقدّم في أول البحث وفيه تكفيرٌ، وكذا كلام القاضي عياض، قال المقريزي: (تحذير القاضي عياض وابن حزم من قبله إنما هو مما ذكره الطوفي، فإنه وإن كان بعدهما بدهر حكى كلام من في عقده وهن، ومال إليه)([69]).

وهذا من المقريزي تحامل ظاهر على الطوفي، فإن ابن حزم إنما أنكر على من نسب إلى الأنبياء اعتقاد أن الله تعالى يكذب، وكفّره بذلك قال: (ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب، فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علمًا وأعرفهم بالله عز وجل؟!)([70]). وكلام الطوفي ليس فيه نسبة ذلك للأنبياء لا من جهة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام.

وأما القاضي عياض فإنه قال: (فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء؟!)([71]).

ولم يعدَّ القاضي عياض تفسير الطوفي أو نحوه من ذلك الشاذ، ولو فرضنا أنه يعدُّه كذلك فإن الاختلاف في ما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز ليس كله مجمعًا عليه، بل منه ما هو اجتهادي، والاحتجاج لكل قولٍ إنما يكون بالحجة، لا بنفس القول.

الوجه الثاني: ثبوت الفرق بين لفظ الظن في خطاب الكتاب والسنة وبين لفظ الظن في الاصطلاح الحادث:

الظن عند المتأخرين هو الاحتمال الراجح، أو ترجُّح أحد الجائزين على الآخر، كما قال ابن عاصم:

والشَّكُّ ما كان من الإدراكِ … محتملًا أَمرَين باشتراكِ

والظنُّ ما كان له الترجيحُ … في ذاك والوهم هو المرجوحُ

وقد ذكر ابن عادل والكوراني أن إنكار عائشة رضي الله عنها هذا التأويل وعدَّها له مخالفًا لتنزيه الأنبياء هو بناء على أن الظَّن على بابه وظاهره([72]).

والقول بأن عائشة رضي الله عنها حملت كلام ابن عبّاس على هذا الاصطلاح الحادث فيه نظر، فإن الظنّ بهذا المعنى اصطلاح منطقي متأخر، فكيف يقال: إن عائشة رضي الله عنها حملت كلام ابن عبّاس عليه؟! وإنما يُحمل كلام السلف على معهودهم في الخطاب.

فالقول بأن من أنكر تأويل ابن عباس رضي الله عنهما لهذا السبب قد يصح بشأن غير عائشة رضي الله عنها من المفسرين المتأخرين، ممن يحمل ألفاظ السلف على المصطلحات الحادثة، فليس من شرط استشهادهم بعائشة رضي الله عنها اتحاد المأخذ.

وقد أوضح ابنُ تيمية في دفاعه عن أثر ابن عبّاس رضي الله عنهما أن الظنّ هنا لا يراد به هذا المعنى، كما تقدّم، وكذا فعل الزمخشري.

قال ابن تيمية: (‌والظنُّ ‌لا ‌يُرَاد ‌به في الكتاب والسنة الاعتقادُ الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويُسمُّون الاعتقاد المرجوح وهمًا)([73]).

وقال: (قوله: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) لا يدل على ظاهره فضلًا عن باطنه أنه حصل في قلوبهم ‌مثلُ ‌تساوي الطرفين فيما أخبروا به، فإن لفظ الظن في اللغة لا يقتضي ذلك؛ بل يُسمى ظنًّا ما هو من أكذب الحديث عن الظان؛ لكونه أمرًا مرجوحًا في نفسه)([74]).

وقال الزمخشري: (وأمّا الظَّنُّ الذي هو ترجُّح أحدِ الجائزين على الآخر فغيرُ جائزٍ على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح؟!)([75]).

تنبيه: قول أبي حيان رحمه الله مُعلِّقًا على كلام الزمخشري: (وآخره مذهب ‌الاعتزال)([76]): بناه على مذهب الأشعرية في نفي التحسين والتقبيح العقليين، ومذهب أهل السنة وسط بين مذهبهم ومذهب المعتزلة، وليس هذا موضع التفصيل في ذلك.

الوجه الثالث: جواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء، لكنهم لا يُقَرُّون عليه:

قال ابن تيمية: (وأيضًا: فقوله: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) قد يكونون ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبيَّن الأمر بخلافه، فهذا جائز عليهم كما سنبينه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ‌ثم ‌تبين ‌الأمر بخلافه؛ ظن أن ذلك كذب، وكان كذبًا من جهة ظنٍّ في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه، فأما الشك فيما يَعلَمُ أنه أُخبِر به فهذا لا يكون)([77]).

وقد فصل ذلك ابن تيمية في جوابه في هذه المسألة عند كلامه عن لفظ الاستيئاس الوارد في الآية.

قال رحمه الله: (فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مُطلقًا فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصرٍ مُطلق -كما هو غالب إخباراته- لم يُقَيَّد ‌زمانُه ‌ولا ‌مكانه، ولا سَنَتُه ولا صفتُه، فكثيرًا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخرى، كما اعتقد طائفة من الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مُعتمرًا، ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى، فلما استيأسوا من دخوله مكة ذلك العام -لما صدهم المشركون حتى قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح المشهور- بقي في قلب بعضهم شيء)([78]).

وهذا التفسير يرجع إلى أن الأنبياء يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، سواء في الأخبار -كما في هذه الآية- أو في الأوامر، لكن لا يُقرُّون عليه، قال الشيخ: (والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه ‌يجوز ‌عليهم ‌الخطأ في الاجتهاد؛ لكن لا يُقرّون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر؟!)([79])، وقال: (فإذا كان من الجائز ‌في ‌باب ‌الأمر ‌والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم بخلافه؛ فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولى والأحرى)([80]).

وقريب مما قَرَّرَه الشيخ هنا قول الزمخشري في تفسير الآية: (أي: كَذَبَتهُم أنفُسُهم حين حدَّثَتهم بأنهم يُنصَرون، أو رجاؤُهم لقولهم: رجاء صادق، ورجاء كاذب.

والمعنى: أنَّ مُدَّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعَرُوا القنوط، وتوهَّمُوا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب)([81]).

فهذا التوهّم الذي ذكره الزمخشري هو الخطأ في الاجتهاد الذي ذكره ابن تيمية، والله أعلم.

وتَبِعَ البيضاويُّ الزمخشريَّ فقال: (أي: كذبتهم أنفسهم حين حدَّثَتهم بأنهم ينصرون)([82]).

وذكر ابن حجر تفسيرَ الزمخشري في الاحتمالات الواردة في تفسير الآية فقال: (أو الضمائر للرسل، والمعنى يَئِس الرُّسُل من النصر، ‌وتوهموا ‌أن ‌أنفُسَهم كذبَتْهم حين حدثتهم بقرب النصر، أو كذبهم رجاؤهم)([83]).

وقال الشوكاني: (وقيل: المعنى: وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر)([84]). وهو حاصل ما ذكره الزمخشري أيضًا.

وتبع الزمخشريَّ أيضًا أبو السعود في تفسيره، فنقل كلامه بألفاظه([85]).

وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني في تفسيره: ((وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) بتخفيف الذال قراءة الكوفيين، والمعنى: ظنّ الرسل أن أنفسهم كذبتهم في تقدير النصر، ولم يكن لهم وعدٌ بالنصر في تلك الواقعة من الله تعالى)([86]).

والكوراني تبعٌ للزمخشري في ما قاله، وقوله: (في تلك الواقعة) قيدٌ مهمٌّ لم يذكره الزمخشري، وبه يكون توجيه الكلام بنحو ما ذكره ابن تيمية.

وقال الحكيم الترمذي: (وجهُهُ أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر أن يتخلف النصر، لا من تهمةٍ بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثًا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتدَّ البلاء عليهم دخلهم الظن من هذه الجهة)([87]).

وكلام الحكيم الترمذي أيضًا فيه أن الأمر راجعٌ إلى خطأ في الاجتهاد، لكن كلامه يشبه أن يكون متعلقًا بخطأ في الاجتهاد في تحقيق المناط، وكلام ابن تيمية متعلق بخطأ في الاجتهاد في تنقيح المناط.

الوجه الرابع: ثبوت التفاضل في أعمال القلوب عند أهل السنة والجماعة:

قال مكي بن أبي طالب القيسي: (واستشهد ابن عبّاس على ذلك بقول إبراهيم: (وَلَٰكِن ‌لِّيَطۡمَئِنَّ ‌قَلۡبِي) (البقرة: 260)، وبقول نوح: (‌إِنَّ ‌ٱبۡنِي ‌مِنۡ ‌أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ) (هود: 45)، قال ابن عبّاس: كانوا بشرًا، يعتريهم ما يعتري البشر من الشك، وقد قال عزير: (‌أَنَّىٰ ‌يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَا) (البقرة: 260)، فاستبعد إحياء الله لبيت المقدس بعد خرابها)([88]).

وقال ابن تيمية: (ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله: (‌أَوَلَمۡ ‌تُؤۡمِنۖ ‌قَالَ ‌بَلَىٰ) ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: (وَلَٰكِن ‌لِّيَطۡمَئِنَّ ‌قَلۡبِي).

فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم شكًّا لذلك بإحياء الموتى.

كذلك الوعد بالنصر في الدنيا، يكونُ الشَّخصُ مُؤمِنًا بذلك، ولكن قد يضطربُ قلبُه، فلا يطمَئِنُّ، فيكون فوات الاطمئنان ظنًّا أنه قد كذب، فالشكُّ مظنة أنه يكون من باب واحد)([89]).

فهذا التقرير ينبني على أن ضعف اليقين الذي قد يُطلَق عليه اسمُ الريب أو الشك لا ينحصر فقط في تضعف التصديق، وإنما ققد يكون بسبب ضعف أعمال القلوب.

قال ابن تيمية: (واسم اليقين والريب والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله، وتصديقه وعدم تصديقه، وسكينته وعدم سكينته، ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط، كما يحسب ذلك بعض الناس، كما نبهنا عليه في غير هذا الموضع)([90]).

وقد بين ابن تيمية أن تلك العوارض التي تعرض للقلب على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما هو ذنب يَضعُف به الإيمان، ‌وإن ‌كان ‌لا ‌يزيله.

قال ابن تيمية: (وهذه الأمور لا تَقدَح في الإيمان الواجب، ‌وإن ‌كان ‌فيها ‌ما ‌هو ‌ذنبٌ؛ فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عُرِف من أصول السنة والحديث)([91]).

وقد تقدم قول الكوراني في أوجه تفسير قراءة التخفيف: (أو الظن مجازٌ عن الهواجس التي يذهب بها نور الإيمان، وهذا تأويل قول ابن عبّاس على ما رواه عنه البخاري)([92]).

وتجويز مثل تلك الخواطر إذا كانت ذنوبًا ينبني على تجويز الصغائر على الأنبياء، كما هو مذهب الجمهور، ولا يلزم منه نسبة الكبائر للأنبياء، كما ألزم الآلوسي صاحب (روح المعاني) ابنَ تيمية بذلك حيث قال: (ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على ذلك)، ثم شنع على قائله بقوله: (والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ‌ذو ‌قلب ‌سليم!)([93]).

وما يناقض الإيمان الواجب لا ينحصر بالكبائر، ومراد ابن تيمية في كلامه هنا الصغائر دون الكبائر، فإنه قد صرَّح بعدم تجويز الكبائر على الأنبياء، فلا يصح حمل كلامه على غير مراده، ومراده إنما يتبين بالنظر في مجموع نصوصِه.

قال رحمه الله: (وجُمهُور المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش، وما ذكر الله تعالى عن نبيٍّ كبيرةً فضلًا عن الفاحشة، بل ذكر في قصة يوسف ما يُبيِّن أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين، وإنما يُقتَدَى بهم فيما أُقِرُّوا عليه، ولم يُنهَوا عنه)([94]).

قال الآلوسي الابن في دفاعه عن شيخ الإسلام في هذه المسألة بعد أن ذكر كلام ابن تيمية فيها وقارنه بكلام غيره: (فقد تبين مما تقدم وتأخر أن الشيخ ابن تيمية لم يَقُل إلا ما حَرَّره كل أصوليّ وزبر، وما ابتدع قولًا من تلقاء نفسه، ولا ذكر في بحث العصمة شيئًا مُتَّبِعًا فيه لوهمه وحدسه، بل ذكر ما ذكرته الأفاضل، وفصل كما فصلت الأئمة الأوائل)([95]).

النوع الثاني مما يعرض من الوساوس: ما هو عفو يعفى عن صاحبه، وهذا يصلح أيضًا أن يكون مرادًا في تفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قال ‌أبو ‌نصر ‌القشيري في تفسيره في توجيه أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل إذا قربت منه)([96]).

وقال الآلوسي: (وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس، فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام)([97]).

وقولُ الزمخشري في تفسيره: (فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظَّنِّ ما يَخطِر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية)([98]) يحتمل النوعين الأول والثاني مما يعرض للقلوب من الخواطر والوساوس.

وقد حمل السمين الحلبي كلام الزمخشريِّ على النوع الأول فقط، وبناءً على ذلك تعقبه بقوله: (ولا يجوز أيضًا أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه)([99]). والذي يظهر أن السمين الحلبي بنى تعقبه على مذهب من لا يُجوِّز الذنوب مطلقًا على الأنبياء: كبائرها وصغائرها.

وأما مع حمله على النوع الثاني فقط فإنه مقبول على مذهبي مجوِّزِي الصغائر ومانعيها، فعلى المذهبين: لا وجه لاعتراض السُّمَين، ولهذا قبل الآلوسي توجيه الزمخشري مع حمل كلامه على النوع الثاني من الوسوسة، والله تعالى أعلم.

وقد تبع البيضاوي الزمخشريَّ حيث يقول: (وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر إن صح، فقد أراد بالظن ‌ما ‌يهجس في القلب على طريق الوسوسة)([100]).

أما النوع الثالث مما يعرض للقلوب: فما يقترن به صريح الإيمان، وهذا لا إشكال فيه إذا عرض للأنبياء فمن دونهم.

عن عبد الله بن مسعود قال: سئل النبي صَلى الله عَليه وسَلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»([101]).

وعن علي بن عثام قال: أَتيت سعير بن الخمس أَسأَله عن حديث الوسوسة، فلم يحدثني، فأَدبرت أَبكي، ثم لقيني فقال: تعال، حدثنا مغيرة، عن إِبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: سألنا رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم عن الرجل يجد الشيء، لو خر من السماء فتخطفه الطير كان أحبَّ إليه من أن يتكلم، قال: «ذاك صريح الإيمان»([102]).

الوجه الخامس: بيان الحكمة من صدور تلك الخواطر من الأنبياء:

بين ابن تيمية في ما قرره في هذه المسألة الحكمة من صدور تلك الخواطر من الأنبياء، وهي حث الأتباع على الاتساء والاقتداء.

قال رحمه الله: (وفي ‌قصِّ ‌هذه ‌الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء، كما في قوله: (‌لَّقَدۡ ‌كَانَ ‌لَكُمۡ ‌فِي ‌رَسُولِ ‌ٱللَّهِ ‌أُسۡوَةٌ ‌حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ) (الأحزاب: 21).

وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت ليتأسى بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا، كما قال تعالى: (‌وَلَقَدۡ ‌كُذِّبَتۡ ‌رُسُلٌ ‌مِّن ‌قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَا) (الأنعام: 34) (…) ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن، ولهذا قال: (‌لَقَدۡ ‌كَانَ ‌فِي ‌قَصَصِهِمۡ ‌عِبۡرَةٌ ‌لِّأُوْلِي ‌ٱلۡأَلۡبَٰبِ) (يوسف: 111)، وقال: (‌مَّا ‌يُقَالُ ‌لَكَ ‌إِلَّا ‌مَا ‌قَدۡ ‌قِيلَ ‌لِلرُّسُلِ ‌مِن ‌قَبۡلِكَ) (فصلت: 43)، وقال: (فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ‌ٱلۡعَزۡمِ ‌مِنَ ‌ٱلرُّسُلِ ‌وَلَا ‌تَسۡتَعۡجِل ‌لَّهُمۡ) (الأحقاف: 35)، (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ‌ٱلرُّسُلِ ‌مَا ‌نُثَبِّتُ ‌بِهِۦ ‌فُؤَادَكَ) (هود: 120).

وإذا كان الاتساء بهم مشروعًا في هذا وفي هذا، فمن المشروع التوبة من الذنب والثقة بوعد الله، وإن وقع في القلب ظن من الظنون، وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء، دون ما كان المتبوع معصومًا مطلقًا، فيقول التابع: أنا لست من جنسه فإنه لا يُذكر بذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة، بخلاف ما إذا قيل: إن ذلك مجبور بالتوبة فإنه تصح معه المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم)([103]).

خُلاصات واستنتاجات وتتمات:

  • قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) بأن الرسل أُخلِفُوا، وبألفاظ أخرى قد تقدمت= ثابتٌ عنه، وقد وافقه عليه جمعٌ من السلف، منهم ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن جريج، وأخطأ من أنكر نسبته إليه كابن الأنباري وأبي علي الفارسي والسمين الحلبي، أو توقف في ذلك كالزمخشري والبيضاوي.
  • المفسرون منهم من نقل قول ابن عباس رضي الله عنهما ووجَّهه كما فعل الزمخشري، ومنهم من نقله وضعفه كالطبري وأبي المظفر السمعاني، ومنهم من أعرض عن نقله بالكلية، وهذا صنيع كثيرين كالماوردي وابن الجوزي وغيرهما.
  • جاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير الآية قولٌ آخر، وفيه إرجاع الضمير لغير الأنبياء، وهذا يحتاج إلى تعليلٍ لم يُحتَج إليه في التفسير الأول، وقد تقدم تعليل أبي علي الفارسي لذلك.
  • الآية على قراءة التخفيف تحتمل ثلاثة أوجه في تفسيرها كما تقدم، وجهان منها منقولان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكل هذه الأوجه مقبولة؛ لأن الاختلاف بينها من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، غير أن سلوك مسلك الترجيح بينها محل اجتهادٍ.
  • الجواب عن إشكال الطاعنين بهذه الآية في عصمة الأنبياء لا يقتصر على ترجيح وجهٍ من الأوجه المذكورة في قراءة التخفيف؛ لأن نسبة الاستيآس للرسل محل طعن منهم أيضًا.
  • ثبت عن عائشة رضي الله عنها استدراكُهَا على ابن عبّاس رضي الله عنهما، واستحسن استدراكها ووافقها عليه كثيرٌ من العلماء من المتقدمين والمتأخرين، منهم ابن قتيبة والزجاج والطبري وابن عطية والقاضي عياض وأبو القاسم الكرماني والفخر الرازي، ومن عباراتهم في ذلك قول الفخر الرازي: (وهذا الرد والتأويل في غاية الحُسن من عائشة).
  • ليس من شرط موافقة عائشة رضي الله عنها في إنكار تأويل ابن عباس رضي الله عنهما اتحاد المأخذ، فإن تفسير الظن بمعنى الاحتمال الراجح المحتمل النقض هو اصطلاح متأخر.
  • ليس من شرط موافقة عائشة رضي الله عنها في إنكار تأويل ابن عباس رضي الله عنها موافقتها في إنكار قراءة التخفيف المتواترة، وإنكارها هو ظاهر كلامها رضي الله عنها كما قرره ابن حجر، وإن كان بعض العلماء كالكرماني لم يروا في كلامها إنكارًا لقراءة التخفيف.
  • محل النزاع بين من خالف ابن عباس رضي الله عنهما ومن أيده ليس هو في إنكار القراءة المتواترة؛ لأن أكثر من خالفه من المفسرين خالفوه دون التزام منهم لإنكار القراءة المتواترة، كالإمام الطبري.
  • مستند عائشة رضي الله عنها في إنكار قول ابن عباس رضي الله عنهما تنزيهُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بناء على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه.
  • انتصر الإمام الطبري رحمه الله لرأي عائشة رضي الله عنها في تفسير الآية؛ لكونه الأشبه بصفات الأنبياء، وردّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وقد استعمل هذه القرينة من قرائن الترجيح بين أقوال المفسرين، وهي الترجيح بكون القول أليق بعصمة الأنبياء، استعملها في مواضع أخرى من تفسيره، كرده قول من قال في تفسير قوله تعالى: (فَظَنَّ ‌أَن ‌لَّن ‌نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ) (الأنبياء: 87) بأنه: فظن أن يعجز ربه فلا يقدر عليه، رده الطبري أيضًا لمخالفته للعصمة([104]).
  • ليس في كلام ابن عباس رضي الله عنهما نسبةُ تكذيب وعد الله تعالى إلى الرسل، حاشاهم من ذلك، وحاشاه من أن يَنسِب ذلك إليهم، وغالب عبارات من أنكر نسبة هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما أو أنكره عليه أو جعله مرجوحًا في تفسير الآية تدور حول فهمهم من هذا الأثر هذا المعنى، أو قريبًا منه، ولا ريب أن نسبة هذا المعنى إلى الأنبياء لا تجوز، وأن من اعتقده يقال فيه ما قاله ابن حزمٍ، وقد تقدّم في أول البحث.
  • وَجَّه كثير من العلماء قول ابن عباس وبينوا محامله الصحيحة، منهم أبو سليمان الخطابي وأبو نصر القشيري والحكيم الترمذي والزمخشري وابن تيمية والطوفي، ولم يجعلوه مخالفًا للعصمة، بل منهم من صرح بكونه راجحًا على قول عائشة رضي الله عنها، كابن تيمية والطوفي.
  • التوجيهات التي ذكرها العلماء لقول ابن عباس رضي الله عنهما تسدّ الباب على الجهال الذين يستدلون بالآية على الطعن في الأنبياء عليهم السلام، وقد تقدم تقريرها.
  • من أسباب الاختلاف في قبول أثر ابن عبّاس رضي الله عنهما أو ردّه عند المتأخرين:
  • الاختلاف في حقيقة الإيمان، ودخول الأعمال فيه، وتفاضل أهله فيه.
  • الاختلاف في ما يجوز وما لا يجوز على الرسل صلوات الله عليهم، فقد غلا كثيرٌ من المتأخرين في هذا الباب([105])، ونتج عن ذلك استطالة على المخالف، كما وجدناه في تعقّب المقريزي على الطوفي.
  • تفسير ألفاظ الوحي بالمصطلحات الحادثة، كتفسير الظن بالمعنى المنطقي، ثم الإنكار على ابن عباس رضي الله عنهما بناء على هذا، كما وقع في كلام السمين الحلبي.
  • لابن تيمية فصل مفرد انتصر فيه لقول ابن عباس رضي الله عنهما، وإنكار الآلوسي صاحب (روح المعاني) كلامه -مع أنه نسبه إلى جده المجد- غير متجه، فإن فيه إلزامًا لابن تيمية بما لا يلزمه من القول بتجويز الكبائر على الأنبياء، ولهذا لم يكن مقبولًا، فإنه لم يضم كلام ابن تيمية بعضه إلى بعض، ولعل عذره عدم القدرة في ذلك الوقت على الاطلاع الكافي على كلام ابن تيمية، والعلم عند الله.
  • من الاتهامات الباطلة التي نُسبت لشيخ الإسلام: إنكاره عصمة الأنبياء! وقد رد هذه التهمة النعمان الآلوسي في (جلاء العينين).
  • من المعاصرين الذين تابعوا ابن عباس رحمه الله في تفسيره: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وقد أنكر بعض الغلاة قوله فقَال: (هذه المقالة في حق الرسل طامة نسأل الله تعالى أن يغفرها للشيخ… فينبغي تنزيه الرسل عن مثل هذا التأويل كما فعل المحققون من أهل التفسير والحديث والفتوى في القديم والحديث)، ثم استدل بكلام الطبري، وهذا من الجهل بكلام المفسرين وأهل العلم من وجهين: الأول: أنه ليس ثمة إجماعٌ على ردّ قول ابن عبّاس رضي الله عنهما. والثاني: أن الطبري رحمه الله جعل قول عائشة رضي الله عنها الأشبه بصفات الأنبياء، ولم يجعله طامَّةً.
  • إثبات عصمة الأنبياء من أصول أهل السنة، دون غلوٍّ يحمل على البغي على المخالف في موارد الاجتهاد في المسألة بتكفيره أو التشنيع عليه، ودون تأويلات مستكرهة للنصوص.
  • العلم بأن الأنبياء عليهم السلام حصلت منهم تلك الظنون والخواطر عند تأخر النصر، حتى قالوا: (مَتَى نَصْرُ اللهِ) فيه تسليةٌ للمؤمنين على مرّ الأزمان، فإنهم قد تقع منهم تلك الخواطر، فهو أَبعَثُ على الاتساء والاقتداء بهم صلوات الله وسلامه عليهم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) هذا اختيار ابن حزم في تفسير الآية، وليس هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الوجه الثالث من الأوجه الآتية في تفسير قراءة التخفيف.

([2]) «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 20).

([3]) انظر: «التيسير في التفسير» لأبي حفص النسفي (5/ 518).

([4]) سيأتي ذكر القائلين بهذا القول عند الحديث عن القول الآخر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية.

([5]) «الحجة» لأبي علي الفارسي (4/ 442-443).

([6]) هذا الوجه غير مشهور، لكن ذكره بعض المفسرين، انظر: «تأويلات أهل السنة» للماتريدي (6/ 299)، و«الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم (4/ 20)، و«التيسير في التفسير» لأبي البركات النسفي (8/ 518)، و«تفسير الإيجي» (2/ 354)، و«اللباب» لابن عادل (11/ 228)، و«إرشاد العقل السليم» لأبي السعود (3/ 193).

([7]) أخرجه الطبري (13/ 393).

([8]) أخرجه البخاري (4524)، والنسائي في «الكبرى» (11191).

([9]) أخرجه الطبري (13/ 393، 395)، وهو في «تفسير ابن جريج» برواية الحسن الزعفراني -ط. دار المنهاج القويم- (ص: 127).

([10]) «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة (ص234)، و«بحر العلوم» للسمرقندي (2/ 214)، و«الكشف والبيان» للثعلبي (15/ 192)، «الكشف عن وجوه القراءات السبع» لمكي (2/ 16)، و«معالم التنزيل» للبغوي (4/ 286)، و«تفسير السمعاني» (3/ 73)، و«المحرر الوجيز» (5/ 557)، «مفاتيح الغيب» للرازي (18/ 521).

([11]) «فتح الباري» (13/ 431).

([12]) نقل كلام ابن الأنباري: الواحدي في «البسيط» (12/ 270-271)، وكلام أبي علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (4/ 443)، وكلام القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (9/ 276).

([13]) «الحجة للقراء السبعة» (4/ 443).

([14]) نقله الواحدي في «البسيط» (12/ 270-271).

([15]) «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» (6/ 564)، ونقله ابن عادل في «اللباب في علوم الكتاب» (11/ 227).

([16]) «الكشاف» (2/ 510).

([17]) «فتوح الغيب» (8/ 450).

([18]) «نواهد الأبكار» (7/ 567).

([19]) «فتح الباري» (13/ 431).

([20]) «تفسير الطبري» (13/ 392).

([21]) أخرجه الطبري (13/ 393).

([22]) «تفسير ابن كثير» (4/ 426).

([23]) «فتح الباري» (13/ 433).

([24]) أخرجه الطبري (13/ 394).

([25]) «فتح الباري» (13/ 429).

([26]) مطبوع في «مجموع الفتاوى» (15/ 175-195)، وقد وقف عليه الآلوسي وانتقده كما سيأتي، وعزاه خطأ للمجد ابن تيمية.

([27]) «مجموع الفتاوى» (15/ 167).

([28]) «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية» (2/ 337).

([29]) «غاية الأماني في تفسير الكلام الربّاني» (3/ 1094-1095).

([30]) «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» -ط. دار ابن الجوزي- (2/ 809).

([31]) علق أبو محمد ابن عطية رحمه الله بقوله: (فرضي ‌الله ‌عنهم! كيف كان خُلُقُهم في العلم). «المحرر الوجيز» (5/ 556).

([32]) «تفسير ابن كثير» (4/ 426-427).

وقد روى الطبري هذا التفسير عن ابن عباس من عدة طرق كما ذكره ابن كثير: من طريق سعيد ابن جبير (13/ 384، 389)، وعمران السلمي (13/ 384-385)، وعبد الرحمن بن معاوية (13/ 385)، وعلي بن طلحة (13/ 386)، وحسن إسناده ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 432).

ورواه الطبري عن مجاهد (13/ 389)، وعن ابن زيد (13/ 390)، وعن الضحاك (13/ 390-392).

([33]) «فتح الباري» (13/ 432).

([34]) «فتح الباري» (13/ 432).

([35]) «فتح الباري» (13/ 432).

([36]) أخرجه الطبري (13/ 393).

([37]) أخرجه الطبري (13/ 394).

([38]) «تفسير الطبري» (13/ 392، 394).

([39]) «تفسير ابن كثير» (4/ 426).

([40]) «تفسير السمعاني» (3/ 73).

([41]) «الحجة في القراءات السبع» لابن خالويه (ص199)، و«الهداية إلى بلوغ النهاية» لمكي (5/ 3652)، لكنه أشار إلى قول ابن عباس الأول في كتابه «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (2/ 16) كما تقدّم، و«تفسير الكتاب العزيز» لابن أبي زمنين (2/ 342-343)، و«النكت والعيون» للماوردي (3/ 89)، و«زاد المسير» لابن الجوزي -ط. الدار الشامية- (8/ 55)، و«التيسير في التفسير» للنسفي أبي حفص (8/ 518)، و«تقشير التفسير» للغزنوي (2/ 217)، و«مدارك التأويل» للنسفي أبي البركات -ط. دار تحقيق الكتاب- (2/ 125)، و«التسهيل لعلوم التنزيل» لابن جزي -ط. دار طيبة الخضراء- (الخامسة) (2/ 178)، و«حاشية الصاوي على الجلالين» -ط. دار اللباب- (3/ 412)، و«فتح الرحمن في تفسير القرآن» للعليمي (3/ 471).

([42]) «الحجة للقراء السبعة» (4/ 443)، ونقل كلامه ملخصًا ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 557)، والفخر الرازي -دون عزوه له- في «مفاتيح الغيب» (18/ 521).

([43]) جمعها الزركشي في رسالته «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة»، وقد أورد هذا الاستدراك (ص: 100-101).

([44]) أخرجه البخاري (4524)، والنسائي في «الكبرى» (11191).

([45]) يَا عُرَيَّةُ: بالتصغير، ولكنَّه تصغيرُ الشفقة والمحبَّة والدَّلال، وليس تصغيرَ التَّحقير. «عمدة القاري» (15/ 281).

([46]) أخرجه البخاري (3389، 4695).

([47]) «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (2/ 16).

([48]) «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية» (2/ 337).

([49]) «مجموع الفتاوى» (15/ 167).

([50]) هذا أحد الأوجه في تفسير قراءة التخفيف، وسيأتي.

([51]) «فتح الباري» (13/ 429).

([52]) «التحرير والتنوير» (13/ 70).

([53]) «تأويل مشكل القرآن» (ص: 234).

([54]) «معاني القرآن وإعرابه» (3/ 132).

([55]) «تفسير الطبري» (13/ 394).

([56]) «تفسير ابن كثير» (4/ 426).

([57]) «لباب التفسير» (4/ 435)، و«غرائب التفسير وعجائب التأويل» (1/ 556).

([58]) «المحرر الوجيز» (5/ 557).

([59]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» -ط. دار الضياء- (ص605).

([60]) «مفاتيح الغيب» (18/ 521).

([61]) «مفاتيح الغيب» (18/ 522).

([62]) «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» (6/ 564)، ونقله ابن عادل في «اللباب في علوم الكتاب» (11/ 227).

([63]) «فتح الباري» (13/ 432).

([64]) «أعلام الحديث» (3/ 1812-1813).

([65]) «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية» (2/ 337).

([66]) «إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع» (11/ 196).

([67]) انظر: «كشاف القناع» للبهوتي (15/ 292)، و«الذخائر لشرح منظومة الكبائر» للسفاريني (ص: 248-250).

([68]) «حَلَّال العُقد في بيان أحكام المعتقد» (ص: 65).

([69]) «إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع» (11/ 195).

([70]) «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 20).

([71]) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» -ط. دار الضياء- (ص605).

([72]) «اللباب في علوم الكتاب» (11/ 227)، «غاية الأماني في تفسير الكلام الربّاني» (3/ 1095).

([73]) «مجموع الفتاوى» (15/ 176).

([74]) «مجموع الفتاوى» (15/ 183-184).

([75]) «الكشاف» (2/ 510) ونقله أبو السعود في «تفسيره» (3/ 193).

([76]) «البحر المحيط» (6/ 336).

([77]) «مجموع الفتاوى» (15/ 180).

([78]) «مجموع الفتاوى» (15/ 184).

([79]) «مجموع الفتاوى» (15/ 189-190).

([80]) «مجموع الفتاوى» (15/ 184).

([81]) «الكشاف» (2/ 510).

([82]) «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» -ط. دار اللباب- (2/ 209).

([83]) «فتح الباري» (13/ 431-432).

([84]) «فتح القدير» (3/ 73).

([85]) «إرشاد العقل السليم» (3/ 193).

([86]) «غاية الأماني في تفسير الكلام الربّاني» (3/ 1094-1095).

([87]) نقله القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (9/ 276)، وابن حجر في «فتح الباري» (13/ 431).

([88]) «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (2/ 16).

([89]) «مجموع الفتاوى» (15/ 178).

([90]) «مجموع الفتاوى» (15/ 183-184).

([91]) «مجموع الفتاوى» (15/ 178).

([92]) «غاية الأماني في تفسير الكلام الربّاني» (3/ 1094-1095).

([93]) «روح المعاني» (13/ 70).

([94]) «منهاج السنة النبوية» (2/ 426-427).

([95]) «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين» (ص: 495).

([96]) «التيسير في التفسير» -ط. دار اللباب-، ونقله الحافظ في «فتح الباري» (13/ 431).

([97]) «روح المعاني» (13/ 70).

([98]) «الكشاف» (2/ 510)، ونقله أبو السعود في «تفسيره» (3/ 193).

([99]) «الدر المصون» (6/ 565)، وتبعه ابن عادل في «تفسيره» (11/ 127)، وأبو السعود في «تفسيره» (3/ 193)، والسيوطي في «نواهد الأبكار» (7/ 567)، والقسطلاني في «إرشاد الساري».

([100]) «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» (2/ 209).

([101]) أخرجه مسلم (133).

([102]) أخرجه ابن حبان (149).

([103]) «مجموع الفتاوى» (15/ 178-179).

([104]) «جامع البيان» (16/ 380).

([105]) انظر بحثا بعنوان: (الغلو في حقوق الأنبياء مسألة العصمة نموذجًا)، منشور في موقع مركز سلف في جزأين:

https://salafcenter.org/7771/

https://salafcenter.org/7779/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الأول)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من المعلوم أن مسائل التوحيد والشرك من أخطر القضايا التي يجب ضبطها وفقَ الأدلة الشرعية والفهم الصحيح للكتاب والسنة، إلا أنه قد درج بعض المنتسبين إلى العلم على الاستدلال بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين لتبرير ممارساتهم، ظنًّا منهم أن تلك الأقوال تؤيد ما هم عليه تحت ستار “الخلاف الفقهي”، […]

ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ

أحد عشر ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ. مما يتكرر كثيراً ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين ،مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم ؛واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون […]

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وَقَد تأخَّر تدوِينُها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ إثارةَ الشكوك حول حجّيّة السنة النبوية المشرَّفة بسبب تأخُّر تدوينها من الشبهات الشهيرة المثارة ضدَّ السنة النبوية، وهي شبهة قديمة حديثة؛ فإننا نجدها في كلام الجهمي الذي ردّ عليه الإمامُ عثمانُ بن سعيد الدَّارِميُّ (ت 280هـ) رحمه الله -وهو من أئمَّة الحديث المتقدمين-، كما نجدها في كلام […]

نقد القراءة الدنيوية للبدع والانحرافات الفكرية

مقدمة: يناقش هذا المقال لونا جديدًا منَ الانحرافات المعاصرة في التعامل مع البدع بطريقةٍ مُحدثة يكون فيها تقييم البدعة على أساس دنيويّ سياسيّ، وليس على الأساس الدينيّ الفكري الذي عرفته الأمّة، وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى التشويش على مبدأ محاربة البدع والتقليل من شأنه واتهام القائمين عليه، والأهم من ذلك إعادة ترتيب البدَع على أساسٍ […]

كشف الالتباس عما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى في حق الرسل عليهم السلام: (وظنوا أنهم قد كُذبوا)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن ابن عباس رضي الله عنهما هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولا تخفى مكانة أقواله في التفسير عند جميع الأمة. وقد جاء عنه في قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) ما يوهم مخالفة العصمة، واستدركت عليه عائشة رضي الله عنها لما بلغها تفسيره. والمفسرون منهم […]

تعريف بكتاب “نقض دعوى انتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقَـدّمَـــة: في المشهد العقدي المعاصر ارتفع صوت الطائفة الأشعرية حتى غلب في بعض الميادين، وتوسعت دائرة دعواها الانتساب إلى أهل السنة والجماعة. وتواترُ هذه الدعوى وتكرارها أدّى إلى اضطراب في تحديد مدلول هذا اللقب لقب أهل السنة؛ حتى كاد يفقد حدَّه الفاصل بين منهج السلف ومنهج المتكلمين الذي ظلّ […]

علم الكلام السلفي الأصول والآليات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى […]

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثالث- (أخطاء المخالفين في محل الإجماع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثالث: أخطاء المخالفين في محل الإجماع: ذكر الرازي ومن تبعه أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وبمعنى الكمال والنقصان محلّ إجماع بينهم وبين المعتزلة، كما تقدّم كلامه. فأما الإطلاق الأول وهو كون الشيء ملائمًا للطبع أو منافرًا: فقد مثَّلُوا لذلك بإنقاذِ الغَرقى واتهامِ الأبرياء، وبحسن الشيء الحلو […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع: ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح‌ قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكون‌ُ الشي‌ء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ […]

ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (1362  – 1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه([1]): هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته: وُلِد سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله بمدينة مكة المكرمة في الثالث من شهر ذي الحجة عام 1362هـ. وقد […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها. ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017