الخميس - 09 شوّال 1445 هـ - 18 ابريل 2024 م

آدَابُ المفتي وَالمُستفتي

A A

في مجالسهم ومن خلال تعليقاتهم في المواقع الإلكترونية يتحدَّث الناسُ كثيرًا عن فوضى الفتوى في أيامنا هذه، يقول البعض: لم نعد نعرف الصواب، كل شيء اليوم بدأنا نشكُّ في حكمه، ما كان واجبا قبل أيام أصبح بعض العلماء يقولون بتحريمه، وما كان حراما أمس أصبحنا نسمع من يقول بإباحته، والكل يتحدث بالكتاب والسنة، والحقيقة أنَّنا لم نعد نعرف أين الحقيقة، وهل الكتاب والسنة مع هؤلاء أم مع هؤلاء؟

هذا الكلام يدور اليوم كثيرًا بين الناس، ولا أحد يلومهم، إذ إنَّ الوضع في هذه الأيام أصبحَ خطيرًا جدا، ولا بدَّ من السعي الحثيث لتداركه وإلا حدث ما لا تُحمد عقباه.

كانت هناك أخلاقيات وضوابط يعرفها علماء الشريعة وطلبة العلم الشرعي تَحكُم ما يمكن أن يذاع على الملأ، وما يجب أن تختص به مجالس أهل العلم من حوارات في الفقه والحديث وأصول الدين، أما اليوم فقد خرج الأمر من يد علماء الدين، فلم يعد المؤهل للحديث في جزئيات الشريعة وكلياتها هم العلماء العارفون وحسب، بل أصبح المؤهل الذي يتيح لك إمكانية الحديث فيما تشاء من أحكام الدين هو أن تكون حاصلا على جهاز كمبيوتر في بيتك، ويفضل من يكون كمبيوتره محمولا، حتى يستطيع أن يتحدث عن الشريعة في أي مكان يحلو له، وكلما كان الجهاز أصغر كانت الكفاءة للحديث في هذا الأمر أكبر.

هناك مؤهل آخر يمكن أن يجعلك قادرا على الحديث في جزئيات الفقه، وهو أن تكون على علاقة بصحفي يحب الإثارة فتختار معه جزئية فقهية تمس خصوصية المجتمع ومألوفه وما تواطأ عليه أفراده، فتنشر عن طريقه ما يخالف معهود الناس لتصبح مفتيا يشار إليه بالبنان.

لم تعد الفوضى الفكرية وتشكيك الناس في أمر دينهم وعواقب تزهيدهم في علمائهم مما يحسِبُ له هؤلاء المتطفلون على الفتوى حسابا، المهم لديهم أن يتحدثوا، ولا يهمهم أبدا عواقب ما يتحدثون عنه.

ولست الآن بصدد أن أسبر هذه الظاهرة الخطيرة، والتي هي بحق مؤهلة لأن تعني بسبرها والجد في حلها العديد من مراكز البحث الفقهية والتربوية والإعلامية، ولعلي أن أكون بصددها في سلسة من المقالات قادمة، أما اليوم وفي هذه العجالة فأنا معنيٌّ بانتخاب إحدى القواعد التي ذكرها علماء أصول الفقه في كتبهم عند البحث في آداب المفتي والمستفتي، أو شروط المفتي وآداب المستفتي، وهي مباحث لا يكاد يخلوا منها كتاب من كتب أصول الفقه العامة قديمها وحديثها، وحين نتأمل مشهدنا الفقهي اليوم وما فيه من فوضى في مجال الإفتاء والاستفتاء، ندرك سر اهتمام علماء أصول الفقه بهذه المباحث، فتطبيق المجتمعات الإسلامية لما في كتب الأصول من تعاليم تتعلق بهذا الشأن، كان له أعظم الأثر في التماسك الفقهي الذي ساد العالم الإسلامي طيلة تاريخ التشريع الإسلامي رغم كل ما يعرفه ذلك التاريخ من اختلاف كبير بين المذاهب الفقهية الأربعة، واختلافٍ أيضا بين علماء المذهب الواحد فيما يسمونه الوجوه والروايات والتخريجات، لكن كل هذا الخلاف بين المذاهب وفي داخل المذهب الواحد لم يؤد إلى ما نحن فيه اليوم من فوضى متبادلة في الإفتاء والاستفتاء، وما ذاك إلا لأن ما قعَّده الأصوليون كان في غالبه موضع التنفيذ بين العامة والخاصة.

وسأتحدث هنا عن إحدى القواعد التي كان لها الفضل في عصمة تلك الأجيال المتوالية مما نحن فيه اليوم من بلاء لا يخفى على أحد.

هي قاعدة الخوف من الفتوى واستشعار كونها توقيعا عن الله تعالى كما عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وهذا الاستشعار يجعل المرء على وَجلٍ من أن يتقدم بين يدي الله تعالى بالحكم على الأشياء بالإباحة أو التحريم، وَجِلًا من أن يخطئ في التبليغ عن الله تعالى، وهذا الوَجَل هو في حقيقته ثمرةٌ من ثمار تعظيم الله تعالى؛ إذ إن الإنسان كلما كان أكثر تعظيما لخالقه كان أشد تحريا في التبليغ عنه، كما أن الطالب أو العامل تزداد شدة تحريه في النقل عن شيخه أو معلمه، على قدر ازدياد حبه له أو خوفه منه، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60].

وكذلك يكون الوجل من الفتوى، خوفًا من أن يستأسر المفتي لهوى نفسه وما تشتهيه من أقوال، فينساق دون شعور منه إلى ليِّ أعناق الأدلة كي توافق ما تميل إليه نفسه طلبا لفسحةٍ في عبادة أو طمعًا في عرض من الدنيا، فيدخل المفتي حينذاك تحت الوعيد المنصوص عليه في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]، ومن شِدَّةِ تعظيمهم لله تعالى وخوفهم من هوى النفس ونزغات الشيطان، لم تكن أنفسهم العظيمة تسكن إلى ثناء الناس وتقريضهم وتقديمهم، بل كانوا يخشون من رواج الثناء عليهم كما يخشون من رواج القدح فيهم، والقدح لم يكن يخيفهم لذاته، بل يخيفهم لما قد ينبني عليه النذارة بسوء العاقبة عند الله تعالى مستفيدين من الحديث المشهور “أنتم شهداء الله في الأرض”([1]).

أما الثَّناء فكانوا يعدونه مفتاحًا للكِبر ومجالًا فسيًحا لاستدراج النفوس نحو طواعية الهوى، ولا يأمنون أن يكون ابتلاء من الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

لقد بلغ الورع بهؤلاء الأسلاف أن استصغروا أنفسهم عن الاجتهاد المطلق فظلُّوا أتباعا لأئمة المذاهب، مع أن منهم من ساوى أولئك الأئمة في العلم أو قاربهم، لكن الخوف من التقدُّم إلى الاستقلال بالفتوى جعلهم يؤثرون الصفوف التوالي في قيادة الفقه الإسلامي على أن يكونوا مسؤولين أمام الله عن القول في دم أو مال أو عرض بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) متفق عليه، صحيح البخاري (1367)، صحيح مسلم (949).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

مخالفات من واقع الرقى المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الرقية مشروعة بالكتاب والسنة الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وإقراره، وفعلها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وهي من الأمور المستحبّة التي شرعها الشارع الكريم؛ لدفع شرور جميع المخلوقات كالجن والإنس والسباع والهوام وغيرها. والرقية الشرعية تكون بالقرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017