السَّلَفُ والمهاراتُ العقلية ..قياسُ الأولى أنموذجاً
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقَـــدّمَــــــة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد…
التقنيات الذكية والتسارع الهائل في الاختراعات اليوم تعدُّ طفرةً في العلم الحديث، وقبلها كانت جاذبية نيوتن قفزة مشهودة في عالم الفيزياء، ومثلها نسبيَّة أينشتاين. وما كان لهؤلاء أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا إعمالهم المهارات العقلية.
ولو رجعنا بالزمن إلى الوراء لنعرف الأساسات التي بنيت عليها هذه العلوم والاكتشافات، رأينا أن من أقدم تلك المهارات العقلية مهارة القياس التي اشتهر بها أرسطو، فأساس منطقه الصوري هو القياس ومنه بدأ، ومن القياس أيضًا انطلق علماء المسلمين في بناء أدلتهم وقواعدهم ونقد قياسات الفلاسفة قبلهم، ومنه أيضًا استنبط العلماء التجريبيُّون قواعد الاستقراء وأرسوا قوانين الاختراع اليوم.
وكان للوحي الإلهي من مهارة القياس أعلاها وأقواها، فقد كثر فيه استعمال قياس الأولى في بناء كثير من قضاياه ومسائله، ومن معين كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام نهل سلفنا الصالح، وعلى إثرهم سار علماء الإسلام، فأبدعوا في صياغتها، وبرعوا في تراكيبها ودلالاتها.
وفي هذه الورقة العلمية إبرازٌ لهذا الجانب المشرق من صفحات السَّلف، والعلماء من بعدهم، وإظهار مدى حذقهم ومتانة حججهم، وبراعتهم في الحجج العقلية والقياسات البرهانية الصحيحة.
هذا في ظاهره، وفي باطنه تفنيد دعوى من يدَّعي أن السَّلف وعلماء الإسلام كانوا (نصيين) أو (جامدين) أو (حشويين) إلى غير ذلك من التهم الساقطة([1]).
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
مفهوم قياس الأولى:
القياس لغة: التقدير كقول القائل: قاس الشيء بالشيء، أي: قدره على مثاله([2]).
ويذكر بعض العلماء أنه يأتي بمعنى التسوية؛ كقولهم: فلان لا يقاس بفلان، ولعله في الحقيقة يرجع إلى معنى التقدير؛ إذ التقدير لا بد فيه من شيئين يقدر أحدهما بالآخر، ويكون بينهما نوع مساواة وتقارب، ومقصود المثال أنه لا يقدر بالآخر لأنه لا مساواة بينهما كما ذكر الآمدي، وفي المسألة كلام بين الأصوليين، والله أعلم([3]).
وأما معناه اصطلاحا فيختلف بحسب أهل الاصطلاح، فقد استَخدم هذا المصطلحَ أهلُ فنون شتى وبمعانٍ متباينة، فمن تلك المعاني:
1- حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما. وهذا اصطلاح الأصوليين، ويستعمله الفقهاء، ويسمَّى: قياس التمثيل، والقياس الأصولي، والقياس الفقهي([4])، وهذا المعنى هو المقصود في عنواننا وبحثنا، وسيأتي تفصيله.
2- القاعدة العامة التي شهد لها كثير من الأدلة حتى أصبحت ضابطًا وأصلًا، وهذا يطلقه الفقهاء في كتبهم، كقولهم: السَّلم على خلاف القياس([5]).
3- تطبيق القاعدة الكلية على جزئياتها لمعرفة حكم الجزئيات، وذلك كتطبيق قاعدة (كل من يشرب الخمر فاسق) فيقال: خالد يشرب الخمر، وكل من يشرب الخمر فاسق، فخالد فاسق([6]). وعرفها آخر بقوله: “القياس المنطقي: صيغة شكلية لإثبات حقائق سبق العلم بها، ولكن حصلت الغفلة عن جوانب منها؛ إذ يأتي القياس المنطقي منبها عليها أو ملزما الخصم التسليم بها إن هو أنكرها”([7])، وهذا اصطلاح المناطقة وتبعهم بعض أهل الكلام، ويسمى القياس المنطقي والقياس الأرسطي وقياس الشمول.
4- حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه؛ كرفع الفاعل ونصب المفعول في كل مكان([8]). وهذا اصطلاح أهل النحو العربي، ومثال ذلك: اشتقاق كلمة (طباعة) قياسًا على (تجارة) وغيرها من تطبيقات النحاة القياسية([9])، وهذا يسمى القياس النحوي أو القياس اللغوي، ومن الواضح أنه ليس محل حديثنا.
ولعل خلجات نفسك تستفهم هنا: وأين موقع قياس الأولى من كل هذه الاصطلاحات؟
فالجواب: أنه قد سبقت الإشارة إلى أن القياس الأصولي هو المقصود في بحثنا هذا؛ ذلك أن القياس الأصولي ينقسم إلى ثلاثة أقسام بحسب حال المقيس إلى المقيس عليه:
فالقسم الأول: قياس الأدنى، وهو ما كان المقيس أدنى وأضعف علَّةً من المقيس عليه؛ ومثاله: قياس النبيذ على الخمر في التحريم، فإن العلَّة -وهي الإسكار- أضعف وأدنى في النبيذ منها في الخمر المنصوص عليه، وعليه فتحريم النبيذ قياسًا على الخمر هو قياس أدنى لضعف العلة في النبيذ، ألا وهي الإسكار.
القسم الثاني: قياس المساوي، وهو ما كان المقيس مساويًا في علَّته للمقيس عليه؛ ومثاله: قياس حرق مال اليتيم على أكله في النهي، فإن العلَّة -وهي الإتلاف- موجودة فيهما على حدٍّ سواء، وعليه فالنهي عن الحرق قياسًا على الأكل هو قياسٌ مساوٍ لتساوي العلة في الاثنين، ألا وهو الإتلاف.
القسم الثالث -وهو المقصود في بحثنا-: قياس الأولى، وهو ما كان المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه؛ لأن علته أقوى وأشد في المقيس، ومثاله -المثال اليتيم الشهير في كتب الأصول من أوضح الأمثلة- ألا وهو قياس ضرب الوالدين على التأفيف في النهي، فإن العلَّة -وهي الإيذاء- أشد في الضرب منها في التأفيف المنصوص عليه، وعليه فالنهي عن الضرب أولى من النهي عن التأفيف قياسًا أولويًّا([10]).
قياس الأولى في الوحي:
قبل الخوض في النصوص التي ورد فيها استعمال قياس الأولى، لعلنا نتطرق إلى قضيَّة مهمة وهي: هل في الوحي أمرٌ بإعمال العقل وإجراء القياسات والموازنات؟
نعم، قد ورد في الوحي ما يفهم منه ذلك، كما سطَّر العلماء ذلك في كثيرٍ من دواوينهم خاصَّة عند مناقشتهم لحجِّية القياس، ونكتفي هنا بذكر أصرح تلك الأدلة -والمسألة مطروقة في مظانها- ألا وهو: أمره تعالى بالاعتبار والتعقُّل والتفكُّر كما في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، فإن لم يكن الاعتبار هو إعمال العقل بالقياس ومثله فأيُّ شيءٍ هو؟!
يقول الطبري في تأويله مبيِّنًا أن العلة لو اتَّحدت اتحد الحكم، وأن القياس والاعتبار إنما يكون بالعقول: “فاتَّعظوا -يا معشر ذوي الأفهام- بما أحلَّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته، واعلموا أن الله وليُّ من والاه، وناصر رسوله على كلِّ من ناوأه، ومحلّ من نقمته به نظيرَ الذي أحلَّ ببني النضير. وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون”([11]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: “والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع، فقال: هي سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان، أي: قيسوها بها؛ فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال: اعتبرت الدراهم بالصنجة إذا قدرتها بها”([12]).
“والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها”([13]).
وقياس الأولى قياس فطريّ لا يحتاج سوي الفطرة إلى أدلةٍ على صحته، بل كلُّ إنسان يعقله ويطبِّقه في حياته، ألا ترى أن الأماكن التي يمنع التدخين فيها وتوضع فيها لافتات منعه وتحريمه يفهم الناس منها أن ما هو أشد منها أكثر منعًا كالشيشة والحشيش مثلًا.
وكما أنه عقليٌّ فطريٌّ فهو أيضًا شرعيٌّ، ففي الوحي ما يدل على مشروعيته، فبعد أن بيَّن سبحانه وتعالى أن الآلهة التي يعبدها المشركون لا كمال فيها يوجب عبادتها، بل هي الأسوأ والأقبح حتى في الأمثال والأقيسة العقلية، وأن عابديها إنما يعبدونها لما يعتقدون فيها من المنفعة مع ما فيها من العيوب والآفات.
أخبر سبحانه وتعالى أن له من القياسات أكملها وأعلاها، وأنه أولى بكل كمال لا نقص فيه، بل له الكمال المطلق وله المثل الأعلى؛ ولذا فهو أولى بالعبادة، بل أحق بإفراده بذلك لتفرده بالكمال المطلق سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 57 – 60]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
ففي هذه الآيات يقرر المولى سبحانه أن له من القياسات أكملها وأعلاها ومنه قياس الأولى، وأن من خصائصه أنه على الحالة الأعلى والأكمل والأفضل، سواءً في ذاته أو صفاته أو أفعاله سبحانه وتعالى، فلا أحد يسامته فضلًا عن أن يساميه، وكيف يكون له مثيل وهو الأكمل بلا عيب ولا نقص، وليس في الخلق من يخلوا من عيب أو نقص، ففي الآية الأولى يقرر تقريرًا يبطل ما جعلوا من حقوقه لغيره، وما جعلوا له من النقائص، “فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده؛ ولهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل، أي: أعلى من غيره”([14]). فبيَّن أن لمعبوداتهم الأمثال القبيحة والدنيئة وأنها لا تليق بالله سبحانه، بل له المثل الأعلى والحالة الأكمل، ولا سميَّ له في الوجود ولا نظير؛ ولذا فهو منزه عن أن يشرك به غيره، أو أن يكون له ولد فضلًا عن أن يكون له الأدنى من الولد وهو الأنثى، وكذلك في الآية الأخرى قرَّر أن المخلوقات جميعها عابدة له مذعنة له وحده، ثم بيَّن بدأه للخلق وكمال قدرته وأبطل إنكارهم للبعث يوم القيامة؛ إذ هو سبحانه أقوى وأكمل من أن يعجز عن إحيائهم بعد الموت وقد خلقهم، وكيف يعجز وله المثل الأعلى في القوة والقدرة، بل وفي كل صفاته، ثم ضرب مثلًا يبيِّن فظاعة من يشرك به شيئًا مع أنه له المثل الأعلى.
“ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى؛ بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس؛ بل هم مفطورون عليه فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق؛ فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء”([15]).
فإذا علمنا أن هذا القياس كما أنه عقليٌّ فهو فطريٌّ وشرعيٌّ أيضًا، فهذا أوان عرض نصوص الوحي التي فيها إعماله:
فمن أقوى الحجج القياسية وأوضحها في كلام الله سبحانه وتعالى ما ورد في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 57-62].
ففي هذه الآيات يناقش المولى سبحانه وتعالى المنكرين للبعث، فأخبر سبحانه بأنهم يقرون بأن الله سبحانه هو خالقهم، وهو الذي أنشأهم أوَّل مرة، فكيف ينكرون البعث وهو ليس سوى إعادة إنشاء لما أنشأه أوَّل مرة؟! بل هو أسهل من النشأة الأولى.
ووجه القياس هنا: أنهم يقرُّون بالأصل وهو أن الله خلقهم وأنشأهم النشأة الأولى، ولكنهم ينكرون ما هو مثله بل أولى منه بالإقرار، وهو البعث والإعادة بعد الموت، فالبعث أولى؛ لأن العلة -وهي القدرة- فيها أقوى؛ إذ من استطاع أن يُنشئ النشأة الأولى هو أشد قدرة وأكثر استطاعة على الإعادة والبعث كما في الآية التالية.
فالإعادة أهون من الإبداع والخلق كما في آيات أخر؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
وأهون من تدبير الإنسان وتدبير حياته من حين ولادته حتى يشب ويهرم، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 37 – 40].
وأهون من إحياء الأرض بعد موتها، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].
وأهون من خلق الكون وتدبيره، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 81، 82].
ومن القياسات البديعة في كتاب الله تعالى: ما ورد في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28].
ففي هذه الآية استُعمل قياس الأولى؛ للبرهنة على أهم القضايا الدينيَّة؛ وهو إفراد الله بالعبودية له وحده، وشناعة الإشراك به، فإن الإنسان الحرَّ لا يرضى أن يشاركه عبدٌ في التصرُّف في أمواله والتحكُّم في خصوصياته؛ لما فيه من الظلم والنَّقص، فإذا كان كذلك فالخالق أولى بالتنزيه عن أن يشاركه أحدٌ فيما يختصُّ به من الربوبية والألوهية، بل ذلك أشنع ظلمًا وأكبر إثمًا.
ووجه القياس هنا: أن الإنسان وهو مخلوقٌ يتنزَّه عن أن يشاركه أحد فيما يختصُّ به مع ما فيه من النقائص والعيوب، أفلا يُنزَّه المولى سبحانه وتعالى وهو خالق كلِّ شيء عن الشرك به سواءً في ربوبيته أو ألوهيته سبحانه وتعالى؟! بلى ومن باب أولى.
ومثل هذا المعنى قد ورد في الحديث النبوي أيضًا وسيأتي([16]).
ومن القياسات القرآنية البرهانية أيضًا قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62]، ففي هذه الآيات يحكي سبحانه وتعالى عبوس أوجه كفَّار قريشٍ إذا ولد لهم أنثى وكراهتهم لذلك، حتى إن الرجل يتحاشى أن يعرف قومه بأمره فضلًا عن أن يخبرهم بنفسه، بل تصل القضية إلى وأدها ودفنها عند بعضهم، فإذا كان الإنسان وهو مخلوق لله تعالى يكره أن يولد له أنثى؛ لأنه أقل من الذَّكر، فمن باب أولى أن يُنزَّه إلهه وخالقه عن ذلك، ولكن كفَّار قريش ازدادوا ظلمًا على ظلمهم، فلم يكتفوا بنسبة الولد إليه سبحانه وتعالى، بل نسبوا إليه الأقل قدرًا، وقالوا بأن الملائكة بنات الله.
ووجه القياس هنا: أن كفَّار قريش كانوا يرون ولادة الأنثى نقصًا وعارًا وأنها أقل من الذكر، هذا وهو مخلوق، وكان الأولى أن ينزهوا إلههم الذي يقرون بخلقه لهم، لا أن ينسبوا إليه أشنع النقيصتين.
ومن القياسات البرهانية في القرآن الكريم: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]، فالإنسان بفطرته يقرُّ بأن الذي يهب الهداية لغيره أكمل وأولى بالاتِّباع ممَّن لا يتَّصف بذلك، وأقلُّ منزلةً منهما من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، والمشركون المخاطبون في الآية أشركوا بالله سبحانه وتعالى من هم في أدنى الدركات، مع أنه يقرُّ بأن الله سبحانه هو خالقه، وكان الأولى والأحرى أن ينزَّه عن أن يُشرك به غيره ممَّن هو أقل منه قدرًا سبحانه وتعالى.
والأولى والأحرى أيضًا أن يُفرد من يتفرَّد بهداية غيره بالعبادة والتأليه، ولا يساوى بغيره ممَّن لا يُقارن به في شيءٍ من خصائصه.
ووجه القياس هنا: أن المستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أولى بأن يُتبَع ويُعبد ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره؛ فالله سبحانه وتعالى أولى بإفراد العبادة له لأنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى.
والوحي القرآني مليءٌ بمثل هذه القياسات، وهي مسرودة في مظانها، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
قياس الأولى في سنة الأنبياء:
استعمال قياس الأولى وضرب الأمثال والاعتماد على العقليَّات الصحيحة ليس مقصورًا على نصوص القرآن فحسب، بل كان هذا القياس واستخدام العقليَّات حاضرًا في نقاشات سلف نبيِّنا محمدٍ من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذه قصة يحيى بن زكريَّا عليه السلام وهو يدعو إلى الله ويقرِّر أوامر الله تعالى ويضرب لها الأمثال، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحارث الأشعري رضي الله عنه والذي ضرب فيه الأمثال لغالب العبادات حتى بوَّب له الترمذي في سننه: “باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة”، وفيه: أن يحيى استدل على وجوب توحيد الله بالعبادة بقياس الأولى، فذكر أن مَثَل المشرك بالله تعالى في عبادته كمَثَل سيِّد اشترى عبدًا بخالص ماله، ثم انطلق به إلى داره ودكَّانه، وعلَّمه كيف يعمل وكيف يسكن، ثم طلب منه أن يؤدِّي إليه حقوقه من الأجور والأموال، فصار العبد يتاجر بمال سيِّده ثم يدفع الرِّبح إلى غيره!!([17]).
فهو هنا كما نرى استعمل قياس الأولى ليحتج على الناس لوجوب التوحيد، وليبيِّن شناعة الشرك في العقل البشري أجمع.
ووجه القياس هنا: أن السيِّد يستحق ولاء عبده الذي اشتراه بماله، وأوكل إليه أعماله وتجاراته أن يؤدِّي إليه ما عمله، وجعل ذلك لغير سيِّده، فهذا قبيحٌ في العقل، مرفوض في المنطق، فبيَّن يحيى عليه السَّلام أن الله عزَّ وجلَّ أولى بإفراد العبادة له سبحانه وعدم إشراك غيره في ذلك؛ لأنه هو الذي {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 3]، و{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4]، وعلَّمه ما لم يعلم، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، فهو أحقُّ بالعبادة والخضوع له سبحانه من غيره؛ فإن علَّة الإنعام في إيجاد الإنسان وخلقه ومنحه كل أعضائه ومنافعه لا تقارن بإنعام السيِّد على عبده في المثال السابق.
ومنه ما جاء في حديث أبي رزين العقيلي الطويل الذي ورد في المسند من زوائد عبد الله بن الإمام أحمد، حيث استشكل الصحابي إمكانية البعث والنشور بعد أن تفرَّقت الأجساد وتمزَّقت الأضلاع، وتمازج بعضها في بطون السباع، وذرَّتها العواصف والرياح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؟ الأرض أشرفت عليها، وهي مدرة بالية، فقلت: لا تحيا أبدًا، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء، فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها، وهي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فيخرجون من الأصواء، ومن مصارعهم…»([18]).
فهنا استخدم نبيُّنا الكريم عليه الصلاة والسلام قياس الأولى؛ ليقنع هذا السائل المتشكِّك، فضرب له مثلًا يراه ويقرُّ به، حيث إنه يؤمن بأن الله هو الذي أحيا الأرض بعد أن كانت ميتة، وجمع فيها الخضرة والسيقان والأوراق، فبيَّن أن الذي قدر على جمع ذلك بسقية ماء أولى بأن يقدر على جمع البشر كلِّهم في مكان واحد وإن تفرَّقت أجسادهم وتمازجت أحشاؤهم.
ووجه القياس هنا: أن الصحابي يقرُّ بأن الله تعالى هو من صبَّ الماء وشق الأرض وأنبت الزرع وأحيا الأرض، ولكنه يستشكل قدرة الله على جمع أجساد البشر في مكان واحد بعد أن بليت وتفرَّقت، فقايس النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين القضيَّتين وأكَّد على اتحاد العلة فيهما؛ وذلك يستلزم اتحاد الحكم والنتيجة، بل العلَّة -وهي القدرة- أقوى في البعث منها في إحياء الأرض؛ إذ من قدر على إحياء هذا العالم الأرضي الذي لم يكد يعرف البشر نسبةً كبيرة منه كيف لا يقدر على إعادة إحياء البشر وجمعهم في مكان واحد؟!
وقد سبق مثل هذا القياس في الوحي القرآني.
وفي الحديث السابق أيضًا مثال آخر؛ حيث استشكل فيه الصحابي أيضًا رؤية الله سبحانه وتعالى حين قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ولعمر إلهك، لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فيخرجون من الأصواء، ومن مصارعهم فتنظرون إليه، وينظر إليكم»، قال: قلت: يا رسول الله، كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ننظر إليه وينظر إلينا؟! قال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم، ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم، وترونه من أن ترونهما، ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما»([19]).
فهنا استشكل الصحابي رضي الله عنه رؤية الله سبحانه تعالى من الجميع، كيف تتم ذلك والبشرية بالمليارات وهو سبحانه وتعالى واحد لا نظير له؟! فانتقل به النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قياس ذلك على أمر يقرُّ به ويوقن به، ألا وهو رؤيته للبدر؛ فإن كل إنسان يعلم يقينًا أن القمر شيء واحد، وجميع من في الكرة الأرضية يرونه رؤية عيان دون أن يؤثر عليهم، فبيَّن أن الله تعالى أولى بأن يرى دون أن يحول شيء بين ذلك.
وأصله في الصحيحين في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوسا ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا»، ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39]([20]).
ووجه القياس هنا: أن الصحابي رضي الله عنه استشكل رؤية الله تعالى من جميع البشر في مكان ووقت واحد، فانتقل به النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قياس ذلك بما هو واقع يسلِّم به المخاطب، وهو رؤية البشرية للقمر في وقت واحد دون أن يحول بينهم وبينه شيء، فقاس الرؤية بالرؤية، وأكَّد على اتحاد العلة فيهما؛ بل رؤية الله تعالى أولى بالإمكان من رؤية القمر لأنه أعلى وأكبر سبحانه وتعالى.
ومن استعمالات النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القياس العقلي: أن رجلاً جاء مستشكلًا قول الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، وهذا الرَّجل مع إقرار قلبه بعظيم قوة الله تعالى التي لا معارض لها لم يتصوَّر كيفيَّة حشر الكافر على وجهه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجواب المباشر وانتقل إلى إقناعه بقياس الأولى، فبيَّن له أن من استطاع أن يخلق له ويركِّب فيه آلة المشي ويجعلها برجليه قادر على أن يُحوِّل خاصِّية المشي تلك إلى رجليه، بل إن تحويل تلك الخاصِّية أسهل من خلقها بدايةً، فقال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!»، قال قتادة: بلى وعزة ربنا([21]).
ووجه القياس هنا: أن الصحابي رضي الله عنه استشكل إمكانية حشر الكافر مشيًا على وجهه، فانتقل به النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قياس ذلك بما هو واقع يسلِّم به المخاطب، وهو خلق الله لجهاز المشي في هذا الإنسان أوَّل مرة، وأن من استطاع ذلك قادر على تغيير موضع الجهاز ومواصفاته؛ لأن العلَّة واحدة وهي في الثانية أقوى منها في الأولى؛ فإن إعادة صيانة الجهاز وتركيبه أسهل من صنعه واختراعه بدءًا.
قياس الأولى عند السلف:
على نهج كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلَّم كانت خطى السَّلف، فمن الوحي ينهلون علومهم، وعلى وفقه بُنيت أعمالهم، ومنه استقوا قيمهم ومناهجهم، ومن عقليَّاته استلهموا حججهم وبراهينهم.
ولما كان قياس الأولى من أظهر الأدلة العقلية البرهانية في الوحي الإلهي، كان للسَّلف منه أوفر الحظ والنصيب، ونحن هنا نستعرض شيئًا من قياساتهم تلك:
- فمن استعمالات الصحابة رضوان الله عليهم لهذه المهارة الإقناعية الحجاجية ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث إن أحد الناس جاءه يستفهم عن كيفيَّة حسَاب الناس في ساعة واحدة؛ كما ورد ذلك في قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202]، والذي قال فيه المفسرون: “سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد، ولا إلى عقد، ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]… فالله عز وجل عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وعليه؛ لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته…”.
فاستفسر هذا السائل عن كيفيَّة إقامة حساب البشرية كلِّها في ساعة واحدة وهو واحد سبحانه وتعالى، فقال: كيف يُحاسب اللهُ عباده في ساعة واحدة؟! حينئذٍ استخدم علي بن أبي طالب مهارته العقلية ليقنعه، فقايس بين هذا وبين ما يعيشه كل إنسان ويحتاجه يوميًّا في هذه الدنيا، ألا وهو الرزق، والله جل وعلا متكفِّل لكل إنسان برزقه، فهو سبحانه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، ولا يشغله شأن عن شأن، فقال رضي الله عنه: “كما يرزقهم في ساعة واحدة”([22]).
ووجه القياس هنا: أن الرجل استشكل إمكانية حساب الله للخلائق في ساعة، فبيَّن له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن مثل ذلك واقعٌ في الدنيا، وهو كون الله تعالى يرزق البشرية كلها في ساعة واحدة، لا يشغله أحد عن أحد، وأقنعه بقياس أولى ظاهر الحجة، فإن العلَّة واحدة وهي القدرة؛ فإن محاسبة الخلائق يوم القيامة أهون من رزق البشرية جمعاء كلٌّ في وقته وبمقداره من أول ظهور للبشر وحتى يوم القيامة، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284].
- وعلى وفق صنيع علي بن أبي طالب رضي الله عنه صنع بعض العلماء، ولكن اختار قياس إجابة الله تعالى لعباده إذا صلَّوا على الحساب، حيث إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى يجيب كلَّ من يقوم للصَّلاة ويناجيه، فإذا ابتدأ قراءة الفاتحة و«قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال الله تعالى: مجَّدني عبدي…» إلى آخر الحديث([23]).
فلعظمة مكانة الصلاة ومكانة من يحمده ويمجِّده يثني عليه سبحانه وتعالى بنفسه في كلِّ مرَّة يصلِّي فيها، وهذا لكلِّ فرد، فإذا صدَّق المسلم بهذا الخبر الصادق الوارد عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله يجيب كلَّ من حمده وأثنى عليه في صلاته، ولا شك أن في كل لحظة إنسان يحمد الله في زماننا هذا، بل قد يكون أكثر من ذلك. فإن صدَّق بهذا، فالحساب في لحظة واحدة مثله، فهما سيَّان، فكما أنه سبحانه يجيب كلَّ من حمده وناجاه في لحظة واحدة لا يشغله هذا عن هذا، فكذلك يحاسبهم في لحظة واحدة لا يشغله إنسان عن إنسان.
ووجه القياس هنا: أن الإشكال في إمكانية حساب الله للخلائق في ساعة يزول إذا ما عرفنا أن مثل ذلك واقعٌ في غيره مما هو أعلى وأكبر، فإن الله تعالى يجيب كل عبدٍ صلَّى وحمده وأثنى عليه، لا يشغله أحد عن أحد، فإن قارنا وقايسنا بين هذا وبين الحساب فإن الحساب أهون منه؛ لأن الحساب مرَّة واحدة، بينما الإجابة تتكرر مرَّات وكرّات، وكلٌّ يجيبه الله في وقته سبحانه وتعالى، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].
- ومن استعمالات القياس في عصر التابعين ما جاء عن عكرمة رحمه الله أن معترضًا اعترض عليه حين ذكر قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه، فلم يتصوَّر الرجل المسألة، واستبعد أن يكون الله سبحانه وتعالى يُرى من قِبل البشر، وذهب يورد على عكرمة آية من كتاب الله فَهم أنها تدل على ما يعتقد ويتبنَّاه، فقال: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]؟!
حينئذ انتقل عكرمة رحمه الله بالحديث إلى قضيَّة أخرى يوقن بها ويقرُّ بها كلُّ عاقل، ألا وهي إمكانية رؤية السماء دون الإحاطة بها والإدراك لحقيقتها كليًّا، فسأله: ألست ترى السماء؟! فلم يجد بدًّا من قول: بلى، حينها بيَّن أنه يراها ولكنه لا يستطيع أن يحيط بها علمًا، ولا أن يدرك حقيقتها، فقال له مستفهمًا استفهامًا إنكاريًّا: فكلها ترى؟!([24]).
ووجه القياس هنا: أن الرجل اعترض على القول بإمكانية رؤية الله تعالى بآية من كتاب الله فهم أنها تنفي الرؤية، وهي قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، فوضَّح له عكرمة رحمه الله بقياسٍ ظاهر جليٍّ أوَّلي، يوضِّح له معنى الآية بمثال واقع مشاهد للمخاطب، وهو رؤية البشرية للسماء مع عدم إمكانية الإحاطة بها، فقاس الرؤية على الرؤية، وأكَّد على اتحاد العلة في عدم الإحاطة؛ بل عدم الإحاطة بالمولى أولى من عدم الإحاطة بالسماوات السبع؛ لأنه أجل وأكبر سبحانه وتعالى.
- وقد واصلت الأجيال التالية لجيل الصحابة من التابعين وأتباعهم ما عهدوه على معلِّميهم وأشياخهم من استخدام العقل والاستنباط والمقايسات بين القضايا، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وظَّف الدلائل العقلية والنقلية في القضايا العقدية، واستخدم المهارات العقلية في تقرير وردِّ الإشكالات فيها، ومن كبريات الإشكالات التي استعمل فيها قياس الأولى والتي تثار في آيات الصفات قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، فإن الله تعالى أخبر أنه يكون مع المتناجين، ولكنه في آيات أخر أثبت أنه فوق السماوات في العلو، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17]، فكيف يحيط المولى جل وعلا علمًا بكلِّ ذرةٍ في الكون ويكون مع المتناجين، ثم هو في ذات الوقت خارج الكون وليس داخله؟!
فأثبت الإمام أحمد رحمه الله إمكانية الجمع بين إحاطة الله تعالى علمًا بكل ما في الكون حتى التناجي مع أنه ليس داخلًا فيها، وضرب لذلك مثلًا بالإنسان؛ فإن بصره يحيط علمًا بكل ما في يده وتحت قبضته ككوب الشراب مثلًا، فإنه يحيط علمًا بذلك الكوب وما فيه، مع أنه ليس داخلًا فيها، بل هو خارجٌ عنها، والله له المثل الأعلى، فهو أحقُّ بالاتصاف بهذا الكمال سبحانه، قال رحمه الله: “لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صافٍ، وفيه شراب صافٍ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه”([25]).
ووجه القياس هنا: أن من جملة الإشكاليات التي يوردها نفاة الصفات على صفة العلو إشكالية عدم إمكانية الجمع بين علوه تعالى وإحاطته علمًا بكل شيء، فضرب الإمام أحمد لذلك مثلًا قياسيًّا، حيث إن الإنسان يحصل له ذلك، فهو يحيط علمًا بكل ما في الكوب في يديه مع أنه خارجٌ عن هذا الكوب، فإذا كان هذا ممكنًا في المخلوق فالله تعالى أولى وأحرى، ولله المثل الأعلى، فإنه سبحانه وتعالى أولى أن يمكنه الجمع بين هذين الكمالين سبحانه؛ فإنه على كل شيء قدير.
- وليست هذه بحالة نادرة أو مثال يتيم أو حادثة شاذة، بل ديدن السلف -والإمام أحمد واحد منهم- إعمال العقل في نصوص الشرع وقضاياه، وهذا مثال ثانٍ لاستعماله رحمه الله هذا النوع من القياس، وفي حلِّ الإشكالية السابقة ذاتها، وهي إشكالية الجمع بين دنو الله تعالى وقربه وبين علوه سبحانه وتعالى واستوائه على عرشه.
فأخبر الإمام أحمد أن هذا واقعٌ معاينٌ لدى البشر، فإن واحدًا منهم يبني البيت بجميع مرافقه واحتياجاته، ثم إذا خرج منه كان عالِمًا بكل جزء فيه وبكل قسم من أقسامه وبمساحة كل غرفةٍ منه، مع أنه خارج البيت وليس داخله، فإذا كان هذا جائزًا مستقيمًا في حق المخلوق، والله تعالى له المثل الأعلى، فإمكانيته وجوازه في حقه تعالى من باب أولى وأحرى.
فهو سبحانه “قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو وما هو من غير أن يكون في جوف شيء مما خلق، وهذا أيضًا قياس عقلي من قياس الأولى، قرر به إمكان العلم بدون المخالطة، فذكر أن العبد إذا صنع مصنوعًا كدار بناها فإنه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها؛ لكونه هو بناها، فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وإن لم يكن فيها محايثًا لها؟!…لأنه هو الخالق كما قال سبحانه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك 14]”([26]).
ووجه القياس هنا: أن من جملة الإشكاليات التي يوردها نفاة الصفات على صفة العلو إشكالية عدم إمكانية الجمع بين علوه تعالى وإحاطته علمًا بكل شيء، فضرب الإمام أحمد لذلك مثلًا قياسيًّا، حيث إن الإنسان يحصل له ذلك، فهو يحيط علمًا بالبيت الذي بناه وبجميع ما فيه من مرافق، فإذا كان هذا ممكنًا في حقِّ المخلوق فالله تعالى أولى وأحرى، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
- ومن استعمالات السَّلف أيضًا لهذا القياس في باب تنزيه الله تعالى: تنزيه الله تعالى عن السُّفل؛ إذ السُّفل مذموم عند كلِّ أحد ويتنزَّه عنه كل عاقل؛ والله تعالى جعل السُّفل لأرذل الخلق وأشقاهم ألا وهم المنافقون؛ قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وذم السُّفل مستقرٌّ في الفطر والعقول حتى إن الكافر يتمنَّى يوم القيامة أن لو رأى من أضلَّه عن الصِّراط المستقيم ليجعله في السُّفل؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29].
فالسُّفل مكانٌ لسفلة القوم ودنيئهم، ومأوى الأرذلين، يتنزَّه عنه العاقل حتى الكافر من البشر، وإذا كان كذلك بالنسبة للإنسان المخلوق فالله سبحانه وتعالى الخالق الجليل أولى بالتنزيه عنه جلَّ شأنه.
فهو منزَّه عن السُّفل وعن أن يكون شيء منه في السُّفل، تعالى وتقدَّس عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، بل هو العلي العظيم، وهو الكبير المتعال، وهذا القياس استعمله الإمام أحمد كما استعمله ابن بطة العكبري أيضًا([27]).
ووجه القياس هنا: أن الإنسان وهو عبد مخلوقٌ يتنزَّه أن يكون في السُّفل؛ لأنه نقص وعيب، فإذا كان كذلك وهو مخلوق فالله تعالى الخالق أولى وأحرى أن يُنزَّه عن السُّفل؛ إذ له الكمال المطلق من كل وجه سبحانه.
- وممَّن برع في هذا القياس الإمام أبو جعفر الطبري، فمن ذلك: ما أورده في معرض بيانه لإعجاز القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى تحدَّى كفار قريش أن يأتوا بسورةٍ من مثله، ولكنهم لم يقدروا على ذلك، بل قد شهد التاريخ على عجزهم، حتى قال قائلهم: “فوالله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”([28])، وإذا كانت قريش وهي أفصح العرب عجزت عن الإتيان بمثله فغيرهم أولى بالعجز؛ لأنه لا يكاد يصل إلى مستواهم البياني واللغوي أحد بعدهم.
يقول الإمام الطبري رحمه الله وهو يفسِّر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، قال: “وإن كنتم -أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين- في شكٍّ وهو الريب مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأنّي الذي أنزلته إليه، فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حُجته؛ لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبُرْهانه على حقيقة نبوته وأنّ ما جاء به من عندي: عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة- فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ”([29]).
ووجه القياس هنا: أن كفار قريش -وهم أفصح العرب- عجزوا عن الإتيان بسورة من مثل القرآن؛ فإذا عجزوا عن ذلك فغيرهم أولى بالعجز، فدلَّ على أنه لا أحد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وتظهر براعة الإمام الطبري رحمه الله في هذا القياس في استنباطه من نفي الله تعالى للنوم والسِّنة عن نفسه في قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] نفي ما هو أشدُّ منه من الآفات والعاهات من باب أولى، فإن من لا تأخذه السِّنة والذهول لوهلة واحدة أبعد ما يكون عن الغفلة أو ما دونها من الآفات والعاهات والنقائص والعيوب([30]).
ووجه القياس هنا: أن الله سبحانه وتعالى نزَّه نفسه عن أقلِّ درجات الذُّهول والغفلة، فتنزيهه سبحانه وتعالى عمَّا هو دونها من النقائص والعاهات من باب أولى.
- ومما جاء عن السَّلف رحمهم الله من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص بقياس الأولى؛ ما ورد عن الإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العُكبَري (387هـ)، فإن من أعظم القضايا التي بلوا بها قضية نفي الصفات، وبالأخصِّ مسألة العلو لله سبحانه وتعالى، ومن أهم ملابساتها وإشكالياتها إشكالية الجمع بين علوِّ الله سبحانه وتعالى وبين قربه ودنوِّه من كلِّ شيء؛ فإن نفاة الصفات كانوا يزعمون أنه سبحانه في كلِّ مكان بذاته، وينفون عنه صفة العلوّ، فنزّه الإمام العكبَري المولى عن كونه كذلك، وبيَّن أن قولهم هذا يلزم منه أن يكون الله تعالى في كلِّ مكان، فهو موجود في أخبث الأماكن -تعالى الله- كما أنه موجود في أطيبها، وضرب لذلك مثلًا من واقع حياة الإنسان، فإن العاقل يتنزَّه أن يكون في أنجس الأماكن كمجاري الصرف الصحي والبالوعات وبطون الحيوانات النجسة التي هي مكان فضلاتها كالكلاب، فالإنسان يأبى أن يكون في مثل هذه الأماكن ويتنزَّه عنها؛ لأنها من النقائص، وإذا كان كذلك فالله تعالى أولى بالتنزيه عن ذلك وعن أن يقال: إنه في كل مكان([31]).
ووجه القياس هنا: أن الإنسان وهو عبد مخلوقٌ يتنزَّه أن يكون في الأماكن النجسة والمحالِّ القذرة؛ كمجاري الصرف الصحي والبالوعات؛ وذلك لما فيه من النقص والعيب، فإذا كان كذلك وهو مخلوق فالله تعالى الخالق أولى وأحرى أن يُنزَّه عن الحلول في تلك الأماكن، إذ هو سبحانه أولى بالكمال والتنزيه، فهو الخالق، كما أنه هو واهب الكمال للعبد وهو أولى به سبحانه، هذا تنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات.
- وأما تنزيهه سبحانه وتعالى عن مجامعة الخبيث النجس من الأحياء، فقد تفطَّن له الإمام أحمد رحمه الله، وضرب لنا فيه أيضًا مثلًا قياسيًّا، فإن الله جلَّ وعلا أمرنا بالاستعاذة من الشيطان الرَّجيم، والابتعاد عن وساوسه ونزغاته، والترفُّع عن الأماكن التي يقطنها الخبث والخبائث، وهو بالفعل ما يتنزَّه عنه الإنسان العاقل الطاهر، أن يجتمع هو والشيطان الرَّجيم والخبث والخبائث في مكان واحد، ومن يقول بأن ذات الله تعالى في كل مكان، يلزمه أن يقول بأن ذات المولى والشيطان يجتمعان في مكان واحد، مع أن الشياطين في أسفل السافلين والله سبحانه وتعالى الأعلى ذاتًا وقهرًا وقدرًا سبحانه وتعالى.
وإذا كان الإنسان المخلوق يتنزَّه عن مجامعة الخبث والخبائث، فلأن يُنزَّه الله عن ذلك أولى وأحرى؛ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد؛ فإنه الخالق سبحانه الأكرم الأعلى الذي {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]([32]).
ووجه القياس هنا كسابقه: فإذا كان الإنسان وهو عبد مخلوقٌ يتنزَّه أن يجتمع مع الشيطان الرجيم وأماكنه، فالله تعالى الخالق أولى وأحرى أن يُنزَّه عن الاجتماع مع ذلك اللعين السَّافل.
- ومن الفقه في هذا الباب الاعتبار بحال الملائكة الأبرار في قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6-10]، فهنا يخبرنا الله تعالى أن الشياطين يدحرون دحرًا ويبعدون عن السَّماء وعن العلو، وأن الوحي السماوي المطهَّر مصان عنهم محفوظ منهم، وذلك عن طريق الملائكة الكرام الذين هم من أشرف الخلائق وأكرمها؛ وقد أخبر الله تعالى أن الملائكة الذين هم بهذه المكانة والمنزلة لا يتأتَّى للشياطين -بل وكبيرهم- أن يجتمعوا بهم؛ لأن الملائكة من أشرف الخلائق، والشياطين من سفلتها، وشتان ما بينهما.
وإذا كان الأمر كذلك مع مخلوق من المخلوقات الشريفة، فإن الخالق الذي له المثل الأعلى أولى بالتنزيه عن الاجتماع بأولئك الشياطين الماردين الملعونين، فيستحيل أن يكون في كل مكان، بل هو العلي الأعلى، له العلو المطلق سبحانه وتعالى كما أخبر سبحانه في كتابه وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ذكرناه هو ما قرَّره ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر قياس الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول: “فالشيطان ملعون رجيم كما قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء: 117، 118]، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الشياطين تُرجم بالشهب لئلَّا تسترق السمع من الملائكة؛ فقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6-10]، وقد أمر الله عباده بالاستعاذة من الشيطان فقد قال لكبيرهم في السماء: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18]… وقد أخبر الله في كتابه عن هرب الشيطان من الملائكة حيث قال: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال 48]، فإذا كان ملعونًا مبعدًا مطرودًا عن أن يجتمع بملائكة الله أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي، فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم وتنزه الله وتقديسه عن قرب الشياطين أولى، فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءًا وكان تعالى في كل مكان، كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين، بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه، دع الملائكة!! وهذا مما يُعلم بالاضطرار وجوب تنزيه الله وتقديسه عنه أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين، وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته؛ فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس من جميع هذه الأعيان المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء”([33]).
ووجه القياس هنا: أن الملائكة وهي مخلوقات لله منزَّهة أن تجتمع مع الشياطين، وإذا كان كذلك فالله تعالى الخالق أولى وأحرى أن يُنزَّه عن الاجتماع معهم؛ لأنه أكمل وأعلى وأجل.
- وفي موضعٍ آخر استنتج ابن تيمية رحمه الله قياسًا قريبًا من هذا، وهو أن الإنسان مع ما فيه من العيوب والنقائص مفطورٌ على الترفُّع عن النجاسات وحبِّ النظافة والتطهُّر، ثم مع كلِّ ذلك أمره ربُّه سبحانه وتعالى إذا أراد الإقبال عليه ومناجاته أن يتطهَّر ويتنظَّف ويتطيَّب، وأن يترفَّع عن النجاسات أيًّا كانت، سواءً في ثوبه أو في بدنه أو في البقعة التي يصلِّي فيها، فإذا كان العبد المخلوق متَّصفًا بشيءٍ من هذا الكمال، فقمنٌ أن يوصف الله تعالى به سبحانه وتعالى.
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد الكلام على أمر الشارع بالتنزُّه عن البول والنجاسات: “وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وهي مما فُطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها؛ لكونها خبيثة، فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب -الذي يجب تنزيهُ الرب عنه- لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة، وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها، ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير، فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهَّر له ويتنزه عن النجاسة كان تنزيهُ الرب وتقديسهُ عن النجاسة أعظم وأكثر؛ للعلم بأن الرب أحقُّ بالتنزيه عن كل ما يُنزّه عنه غيره، وأيضًا فالمعبود أعظم من العابد، وهذا معلوم في بدائِهِ العقول، لا سيما وهو سبحانه القدوسُ السلامُ”([34]).
ووجه القياس هنا: أن العبد مع ما فيه من النقائص والعيوب يتنزَّه عن النجاسات، وأمره مولاه إذا أراد مناجاته أن يتطهَّر ويترفَّع عن النجاسات، فإذا كان كذلك فلأن يُنزَّه الله تعالى عن النجاسات والقبائح أولى وأحرى؛ لأنه الرَّب، ولأنه معبود ذلك العبد، ولأنه قدُّوس سبحانه وتعالى.
- والْمُهلَّب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي (435هـ) -صاحب شرح صحيح البخاري- كانت له أيضًا سهامٌ في باب المهارات العقلية، فمن ذلك استنباطه من العجز عن العلم بالأمور التي نوقن بوجودها في واقعنا ولكن لا نستطيع أن نصل إلى شيءٍ من علمها، بل ولا يستطيعها نبيٌّ مرسل، ولا ملك مقرب، أن الله يريد أن نُرجع كل العلم إليه، خاصَّة الغيبيَّات، وذلك كالرُّوح التي بين جنبي الإنسان، لا يملك عن حقيقتها وصفاتها شيئًا مع أنه يوقن أنها موجودة، ولو خرجت الروح لانتهت حياة الإنسان، ولكننا عاجزون عن إدراك شيءٍ عنها؛ لأن الله اختصَّ بعلمها؛ يقول تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فإذا كان الإنسان لا يدرك حقيقة الرُّوح التي بين جنبيه؛ فلأن لا يدرك ما دونه من الغيبيَّات من باب أولى، وإذا كان عليه أن يردَّ علم الرُّوح التي بين جنبيه إلى الله تعالى، فلأن يردَّ علم ما سواه إلى العلَّام من باب أولى؛ وهذا هو وجه القياس هنا([35]).
- وبمثل هذا جادت قريحة الإمام القرطبي المفسِّر محمد بن أحمد بن أبي بكر (671)، فممَّا استنبطه من قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أن عجز الإنسان عن إدراك ما بين جنبيه قطعٌ للطَّمع عن إدراك حقيقة الحقِّ سبحانه وتعالى؛ يقول -رحمه الله-: “والصحيح الإبهام؛ لقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، دليل على خلق الروح، أي: هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهمًا له وتاركًا تفصيله؛ ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى؛ وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز”([36]).
ووجه القياس هنا: أن العبد عاجزٌ عن إدراك حقيقة روحه التي بين جنبيه، والله سبحانه وتعالى أكَّد على عجزه ذلك؛ ليوقن بأن عجزه عن إدراك حقيقة الحق سبحانه وتعالى من باب أولى وأحرى؛ فإنَّ من عجز عن إدراك حقيقة نفسه الصغيرة، فهو عن إدراك حقيقة مولاه وربِّه أعجز.
- وقد كثر في كلام ابن تيمية -رحمه الله- استعمال هذا القياس، ومنها استدلاله على النبوة من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]، فذكر الله تعالى أن الإنسان فيه نقصٌ يحتاج في إتمامه وإكماله إلى الله وإلى تعليمه، وأنه سبحانه قادر على تعليمه، وإذا كان كذلك فإن إمكانية تعليم الأنبياء والوحي إليهم وإلهامهم وهم أكمل البشر من باب أولى وأحرى.
يقول ابن تيمية رحمه الله: “وقوله: {علم الإنسان ما لم يعلم} يدل على قدرته على تعليم الإنسان ما قد علمه مع كون جنس الإنسان فيه أنواع من النقص. فإذا كان قادرا على ذلك التعليم فقدرته على تعليم الأنبياء ما علمهم أولى وأحرى. وذلك يدخل في قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم}؛ فإن الأنبياء من الناس. فقد دلت هذه الآيات على جميع الأصول العقلية، فإن إمكان النبوات هو آخر ما يعلم بالعقل. وأما وجود الأنبياء وآياتهم فيعلم بالسمع المتواتر مع أن قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم} يدخل فيه إثبات تعليمه للأنبياء ما علمهم، فهي تدل على الإمكان والوقوع”([37]).
ووجه القياس هنا: أن الله تعالى أخبر عن وجود النقص في البشر عامة، وعن قدرته على تعليمهم والوحي إليهم، والأنبياء هم أكمل البشر الذين اصطفاهم من بين الخلق وصفوة البشرية، أفلا يقدر ذلك الخالق العظيم سبحانه وتعالى أن ينبِّئهم ويوحيَ إليهم؟! {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].
ومن إبداعات ابن تيمية القياسية التي استنبطها بفطنته قياسه نزول المولى سبحانه وتعالى في الثلث الأخير على حركة الشمس، فإن الشمس وهي إحدى مخلوقات الله سبحانه، وهي جسم واحد تتحرَّك حركةً واحدة، فتقترب من جماعة وتبعد عن جماعة، وتكون نهارًا على قوم وليلًا على آخرين وعصرًا على غيرهم، وبذات الحركة أيضًا تحدِث الصيف عند أقوام والشتاء عند آخرين، وهكذا الربيع والخريف.
فإذا كان مخلوق من المخلوقات بحركةٍ واحدة يُحدث كلَّ هذا، فكيف يمتنع على المولى سبحانه الخالق لكلِّ شيءٍ أن يفعل في لحظةٍ واحدةٍ أفعالًا كثيرة، فينزل إلى قوم في ثلث الليل الأخير، ويصعد عن آخرين، ويجود على عابدٍ بالثناءات، ويمنَّ على ذاكرٍ بالعطيَّات، ويستجيب دعاء قوم، سبحانه ما أعظمه من إله، كل يوم هو في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن.
يقول ابن تيمية رحمه الله: “الشمس جسم واحد وهي متحركة حركة واحدة متناسبة لا تختلف، ثم إنها بهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم وغاربة عن آخرين، وقريبة من قوم وبعيدة عن آخرين؛ فيكون عند قوم عنها ليل وعند قوم نهار، وعند قوم شتاء وعند قوم صيف، وعند قوم حر وعند قوم برد، فإذا كانت حركة واحدة يكون عنها ليل ونهار في وقت واحد لطائفتين، وشتاء وصيف في وقت واحد لطائفتين، فكيف يمتنع على خالق كل شيء الواحد القهار أن يكون نزوله إلى عباده ونداؤه إياهم في ثلث ليلهم -وإن كان مختلفاً بالنسبة إليهم- وهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحتاج أن ينزل على هؤلاء ثم ينزل على هؤلاء، بل في الوقت الواحد الذي يكون ثلثًا عند هؤلاء وفجرًا عند هؤلاء يكون نزوله إلى سماء هؤلاء الدنيا وصعوده عن سماء هؤلاء الدنيا، فسبحان الله الواحد القهار، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180-182]”([38]).
ووجه القياس هنا: أن الشمس تُحدث بحركة واحدة حوادث كثيرة باختلاف الأماكن والأزمنة والأشخاص بنفس الحركة في نفس اللحظة، أوليس الذي خلق وقدَّر بقادر على أن يفعل ما هو أعظم وأكبر؟! {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
- ومن استعمالات ابن تيمية أيضًا لهذا القياس أن من كمالات الملائكة أنهم لا جوف لهم، فلا يأكلون ولا يشربون، وأن هذا الكمال لا يستلزم نقصًا وهو كمال ممكن في حق الله تعالى، فهو أولى به من المخلوق.
وهاتان الصفتان كانتا دليل نفي الألوهية عن ابن مريم وأمه حين اتُّخذا إلهين من دون الله، حيث قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فإذا انتفت الألوهية عنهما لاتصافهما بهاتين الصفتين، فمن باب أولى وأحرى أن يُنزَّه الله عنهما؛ إذ هو الإله الحق لا غيره([39]).
وبمثله استدل الإمام ابن القيم على صفتي السَّمع والبصر؛ ففي القرآن نفي استحقاق الأصنام للألوهية؛ لأنها لا تسمع ولا تبصر، وإذا كان كذلك فإن الله تعالى وهو الإله الحق متصف بها من باب أولى وأحرى.
- ودليل الإتقان والإحكام الشهير، والذي يستعمله كثيرٌ من المناقشين للإلحاد اليوم، واستعمله من قبل علماء الإسلام لمناقشة منكري الصِّفات، واستعمله قبل ذلك القرآن الكريم لتقرير التوحيد بأنواعه، يتكوَّن في باطنه من قياس الأولى الذي هو محلُّ حديثنا([40]).
فإن العقلاء مفطورون على استحسان وضع الشيء في موضعه وإتقانه وإحكامه وامتداح صاحبه ووصفه بالحكمة والعلم والقدرة، فإذا كان هذا في حال المخلوقات المشاهدة، أفلا تدل على كمال الخالق العظيم الذي أبدع الكون بدقائقه وأتقنه مع ضخامته وتعقيداته؟! بلى، ومن باب أولى.
وممَّن أحسن صياغة هذا المعنى ابن القيِّم رحمه الله تعالى إذ يقول: “إن الله سبحانه وتعالى فطر عباده -حتى الحيوان البهيم- على استحسان وضع الشيء في موضعه والإتيان به في وقته وحصوله على الوجه المطلوب منه، وعلى استقباح ضد ذلك وخلافه، وأن الأوَّل دالٌّ على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته، وضده دالٌّ على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته، وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها، ومعلومٌ أنَّ الذي فطرهم على ذلك وجعله فيهم أولى به منهم، فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها، ويخصها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أعلم بها من غيره، ويبرزها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها، ومن له نظر صحيح وفكر مستقيم وأعطى التأمل حقه شهد بذلك فيما رآه وعلمه، واستدل بما شاهده على ما خفي عنه؛ فإن الكل صنع الحكيم العليم، ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه، واشتماله على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال، وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك؛ فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات21]، وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية17] إلى آخرها”([41]).
ووجه القياس هنا: أن الأحياء مفطورون على استحسان الإحكام والإتقان، ويستدلُّون به على حكمة وعلم وقدرة فاعله من المخلوقات المغمورة بالنقائص والعيوب، وإذا كان كذلك فدلالة إتقان الكون وإحكامه على كمال علم الله وحكمته وقدرته أولى وأحرى.
- ومنهم الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، فإنه استدلَّ بقياس الأولى على عدم جواز التبرُّك بآثار الصَّالحين؛ كثيابهم وأظفارهم وفضلاتهم؛ لأن الصَّحابة والسَّلف لم يفعلوه مع صالحيهم، يقول رحمه الله: “الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه؛ إذ لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يُفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان رضي الله عنه، ثم كذلك علي رضي الله عنه، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه -أي: الثياب والشعر وفضل الوضوء- أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسِّير التي اتبعوا فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو إذًا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء”([42]).
ووجه القياس هنا: أن الصحابة لم يتبرَّكوا بآثار أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وهم أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مع وجود الدَّواعي وانتفاء الموانع، فلأن لا يشرع التبرك بغيرهم ممن هو دونهم في الفضل والمنزلة من باب أولى وأحرى.
- وبمثل هذه القياس استدلَّ ابن أبي العز الحنفي على إثبات صفة الكلام، فإن الله تعالى استنكر على عابدي العجل اتخاذهم له إلهًا بانتفاء صفة الكلام عنه؛ لأن الكلام صفة كمال، والإله الحق يجب أن يكون له الكمال المطلق؛ ولذا استنكر المولى عليهم عبادتهم إلهًا لا يتكلَّم، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف: 148]، فإذا كان انتفاء صفة الكلام يستلزم نفي الألوهية عنه، فالله تعالى -وهو الإله الحق- متصف بها سبحانه وتعالى من باب أولى وأحرى([43]).
ووجه القياس هنا: أن الكلام صفة كمال، احتجَّ الله بانتفائها عن العجل على عدم استحقاقه الألوهية، وإذا كان الكلام صفة كمال موجودٍ في المخلوقات، فالله سبحانه وهو الإله الحق أولى بالاتصاف بها سبحانه.
الخاتمة:
المنهج العقليُّ السليم هو ما رسمه القرآن والسنة، وعلى نهجه سار السَّلف الصالح وأتباعهم من بعدهم، وهو ما وقفنا على شيءٍ من أمثلته في هذه الورقة العلمية، فكانوا بحقّ أقوى الناس برهانًا وأمتنهم حجة وأصفاهم قريحة، وما حالهم ومنهجهم إلا كزهرة الورد، كلَّما قلَّبتها زادتك من نفحاتها، ومهما حاول الشانئون تشويهها بنتفٍ أو قطع ازدادت جمالًا وبهاءً، وكأنهم زيَّنوها حين أرادوا تشويهها، ففي كلِّ مرةٍ يقطعون منها قطعةً تشويهًا تزداد بهاءً وتبرز في شكل جمالي جديد، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) وللدكتور مصطفى حلمي كلمة نفيسة في هذا السِّياق في مقدمة كتابه منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين؛ حيث يقول: “الدراسات الكلامية التقليدية أولت عنايتها للفرق المنشقة عن أهل القرون الأولى كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، كما تعمقت وتوسعت في عرض المذهبين الكبيرين: الاعتزالي والأشعري، ولم تلتفت للنتاج العقلي للمحدثين والفقهاء بالقدر الكافي الذي يسمح بإبراز مواقفهم من أصول الدين ومنهجهم في النقاش والرد على مخالفيهم، مع العلم بأنهم كانوا يستندون إلى أدلة عقلية وبراهين منطقية قائمة على تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشاد أيضًا بفهم الأوائل الذين كانوا أكثر علمًا ودراية بأسرار اللغة العربية وأسباب النزول ودقائق العقائد المتصلة بأصول الدين.
وفي ضوء هذه الحقيقة نرى أن طريقة أهل الحديث والسنة تحتاج إلى نظرة إنصاف وتقدير؛ حيث شاعت الفكرة التي تصفهم بأنهم (نصيون) وليسوا (عقليين)، فضلاً عن أوصاف أخرى تشاع عنهم خطأ كوصفهم بالجمود، وما إلى ذلك من صفات شوهت صورهم في أذهان الخاصة والعامة”.
([2]) وفي أصله لغتان: (قوس) و(قيس)، ينظر: أساس البلاغة (2/ 114)، مقاييس اللغة (5/ 40)، القاموس المحيط (ص: 569)، ومختار الصحاح (ص: 262).
([3]) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 183)، نبراس العقول للشيخ عيسى منون (ص: 9 وما بعدها)، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين د. عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي (ص: 21).
([4]) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 183)، المحصول للرازي (5/ 5)، شرح مختصر الروضة (3/ 218)، نبراس العقول للشيخ عيسى منون (ص: 17 وما بعدها).
([5]) ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (1/ 83)، الذخيرة للقرافي (9/ 312)، المجموع شرح المهذب (5/ 409)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (2/ 535)، الدراري المضية شرح الدرر البهية للشوكاني (2/ 287).
([6]) خلاصة علم المنطق للدكتور عبد الهادي الفضلي بتصرف، والمنشور على الرابط :
http://www.elibrary4arab.com/ebooks/manteq-w-falsafa/manteq-alfadly/qeyaas.htm.
([7]) ضوابط المعرفة للميداني (ص: 227)، وينظر التعريفات للجرجاني (ص: 181).
([8]) الإغراب في جدل الإعراب لابن الأنباري (ص: 45).
([9]) ينظر: معجم مصطلحات النحوية والصرفية د. محمد سمير اللبدي (ص: 191).
([10]) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 3)، الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (3/ 25)، التقرير والتحبير على تحرير الكمال ابن الهمام لابن الموقت (3/ 221).
([11]) تفسير الطبري ت: شاكر (23/ 266)، وينظر: المحصول للرازي (5/ 26).
([12]) مجموع الفتاوى (14/ 58).
([13]) التحرير والتنوير لابن عاشور (28/ 72).
([14]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 1030).
([15])مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 72).
([16]) واستعمال قياس الأولى في باب الكمال والتنزيه (الأسماء والصفات) من أهم القضايا التي تكررت في النصوص، والمقصود بها: أن كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان ممكنًا ومجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب فالخالق أولى بتنزيهه عنه، ولاستعمال قياس الأولى في هذا الباب شروط؛ كأن يكون الكمال وجوديًّا وممكن الوجود خارج الذهن ولا نقص فيه بوجه من الوجوه ولا مستلزمًا للعدم. ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 85).
([17]) سنن الترمذي ت: بشار (2863)، وقال: “هذا حديث حسن صحيح غريب”.
([18]) مسند أحمد ط: الرسالة (26/ 121) برقم (16206)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف. وقد حاول الإمام ابن القيم تقويته فقال: “هذا حديث كبير مشهور، جلالة النبوة بادية على صفحاته تنادي عليه بالصدق، صححه بعض الحفاظ، حكاه شيخ الإسلام الأنصاري، ولا يعرف إلا من حديث أبي القاسم عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، ثم من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري المدني عنه، وهما من كبار علماء المدينة، ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما البخاري في مواضع من صحيحه، وروى هذا الحديث أئمة الحديث في كتبهم، منهم عبد الله ابن الإمام أحمد… رووه في السنة وقابلوه بالقبول وتلقوه بالتصديق والتسليم. قال الحافظ أبو عبد الله بن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصاغاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقرؤوه بالعراق بجمع العلماء وأهل الدين، ولم ينكره أحد منهم، ولم يتكلم في إسناده، وكذلك رواه أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول”. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 461)، ومهما يكن من أمر فإن ما قصدناه من ذكر القياس تشهد لمعناه النصوص الأخرى.
([20]) متفق عليه: صحيح البخاري (4851)، ومسلم (211).
([22]) ينظر: تفسير ابن عطية (4/ 551)، تفسير القرطبي (2/ 435)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 70)، وقد أورده ابن تيمية في كتبه عن ابن عباس، ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 133)، درء تعارض العقل والنقل (4/ 129)، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 56).
([24]) تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1363)، تفسير ابن كثير ت: سلامة (3/ 310)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 335).
([25]) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد (ص: 149).
([26]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (5/ 108).
([27]) ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد (ص: 147)، الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 142).
([28]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (3872)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
([29]) تفسير الطبري ت: شاكر (1/ 373).
([30]) ينظر: تفسير الطبري ت: شاكر (5/ 393).
([31]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 139).
([32]) ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد (ص: 149).
([33]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (5/ 102 وما بعدها).
([34]) بيان تلبيس الجهمية (5/ 85).
([35]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 204).
([36]) تفسير القرطبي (10/ 324).
([37]) مجموع الفتاوى (16/ 362).
([38]) بيان تلبيس الجهمية (4/ 57).
([39]) ينظر: التدمرية لابن تيمية (ص: 143).
([40]) ذكر هذا الدليل طائفة من العلماء في كتبهم؛ كالخطابي والبيهقي وابن رشد وابن حزم والرازي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء، ومن الكتب التي فصَّلت الكلام عن الإتقان: كتاب الحكمة في مخلوقات الله عزَّ وجل للغزالي، وكتاب شفاء العليل ومفتاح دار السعادة لابن القيم، وكتاب العلم ودليل التصميم في الكون لعدد من المؤلفين الغربيين، وهم: (مايكل بيهي وويليام ديمبسكي وستيفن ماير).
([41]) الصواعق المرسلة (4/ 1565).