الافتراء على ابن مسعود في جواز القراءة بالمعنى
الحمد لله الذي أنزل القرآن الكريم وعلمه، والصلاة والسلام على خير نبي أرسله، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد.. فخير ما يستهل به في دفع هذه الفرية أصلان عظيمان وقاعدتان راسختان: أحدهما من كتاب الله تعالى، وثانيهما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهما مرتبطان ببعضهما وبموضوعنا ارتباطًا وثيقًا.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وفيها أن الله -تعالى ذكره- ضمن لنا أن يحفظ الذكر الذي أنزله؛ فما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة محفوظ([1])، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وعليه، فلا يقع في القرآن الكريم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل، كما خصَّ هذه الأمة بالرواية والإسناد الذي يميز به بين الصدق والكذب الجهابذةُ النقادُ، وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلضفٍ عُدولُه -أهل العلم والدين-، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيا بهم دين الله تعالى الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن الله سبحانه بهم للناس سبيله([2])، وعلى هذا استقر إجماع الأمة([3]).
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».
فمن عظيم رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أن أنزل القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقرؤه على سبعة أحرف؛ وقد صحَّت الأحاديث في ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وثبتت عن طرق التواتر القطعي؛ يقول أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): “قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة”([4]).
ومن تلك الأحاديث: ما رواه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»([5]).
ومما ذكر في معنى السبعة أحرف الواردة في الأحاديث ما ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) حيث قال: “أي: على سبعة أوجه، يجوز أن يُقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد: أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة”([6]).
والسبب في تعدد إنزال القرآن على سبعة أحرف -كما يقرره العلماء- هو التخفيف والتسهيل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هَوِّن على أمَّتي»([7])، كما صرَّح به في الرواية الأخرى([8]).
من أين جاءت الشبهة؟
بالرغم من وضوح هذين الأصلين اللذين تقدم ذكرهما ورسوخ اعتقادهما في قلب كل مسلم إلا أن أعداء الإسلام من المستشرقين -كالمستشرق بلاشير([9])– وجدوا في هذا الحديث -أعني: حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف، ولو من طرف خفي؛ بسبب سوء طويتهم وعدائهم للإسلام- فرصة سانحة للطعن في القرآن الكريم، فتلقفوا القول بجواز قراءة القرآن الكريم بالمعنى، من بعض الشيعة والزائغين([10])؛ وحاولوا تقوية ذلك عن طريق إيراد بعض الروايات عن الصحابة، ظنًّا منهم أنها قد تفيدهم في دعواهم([11]).
وفي هذه المقالة تفنيد لواحدة من تلك الافتراءات، وهي الزعم بأن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- كان يقول بجواز قراءة القرآن بالمعنى، وفيما يلي كلام ابن مسعود متبوعًا بدفع الشبهة.
أثر ابن مسعود:
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا كان يقرئه ابن مسعود، وكان أعجميًّا، فجعل يقول: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 44]، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فرد عليه، كل ذلك يقول: طعام اليتيم، فقال ابن مسعود: «قل: طعام الفاجر»، ثم قال ابن مسعود: «إن الخطأ في القرآن ليس أن تقول: الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، إنما الخطأ أن تقرأ آية الرحمة آية العذاب، وآية العذاب آية الرحمة، وأن يزاد في كتاب الله ما ليس فيه»([12]).
فهم الزائغين من الأثر:
قال أبو بكر ابن الأنباري (ت 328هـ): “وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب، إذا لم يخالف معنى، ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له”([13]).
واستند المستشرقون إلى كلام الزمخشري المعتزلي، واقتطعوه من سياقه؛ حيث يقول الزمخشري (ت 538هـ): “وبهذا [يعني: بالأثر المروي عن أبي الدرداء، وهو بلفظ أثر ابن مسعود] يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز، إذا كانت مؤدية معناها”([14]).
الرد على شبهتهم:
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
أولهما -الرد الإجمالي-:
إن كلام الزمخشري -الذي استندوا إليه- مقطوع من سياقه، ولو رُدَّ إلى سياقه لاتضح مخالفته لما فهموه منه، ودونك لفظه كاملًا: “وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية، على شريطة وهي: أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئًا، قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة؛ لأنّ في كلام العرب خصوصًا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها”([15]).
كما أن هذا الفهم الذي زعموه قد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه القول بخلافه؛ فقد ثبت عنه -بإسناد صحيح- فيما رواه عنه شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله: «وَقَدْ تَسَمَّعْتُ الْقُرَّاءَ فَسَمِعْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ، فَاقْرَؤوا كَمَا عَلِّمْتُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَالِاخْتِلَافَ، فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: هَلُمَّ وَتَعَالَ»([16]).
وجه الدلالة:
فتأمل -يا رعاك الله- إلى قوله: «تسمعت القراء» أي: أنه سمع منهم قراءة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله: «فاقرؤوا كما علمتم» أي: كما تلقيتم القرآن وسمعتموه، وقد بين ذلك جمهور أهل العلم:
فقد جعله أبو عبيد مؤكدًا للمعنى الذي ذهب إليه في تفسير الأحرف السبعة بأنها اللغات؛ فقال عقبه: “وكل هذا يوضح لك معنى السبعة الأحرف”([17]).
ويقول أبو بكر ابن الأنباري: “هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في: هلم، وتعال، وأقبل، فأمَّا ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفًا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب“([18]) .
ويقول ابن عطية (ت 542هـ): “وإنما هي على التفسير”([19]) .
ويقول أبو شامة (ت 665هـ): “معنى قول كثير من الصحابة والتابعين: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرؤوا كما علمتم: هو أن السنة المشار إليها ما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأه، أو أذن فيه على ما صح عنه: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف»“([20]).
والثاني -الرد التفصيلي-:
- لا يملك أحد -كائنًا من كان- أن يبدل في القرآن ولو حرفًا واحدًا؛ يقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
والمعنى: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ما يكون لي أن أبدل القرآن من عندي؛ وما أتبع في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه إلا ما ينزله إلي ربي([21]).
- أن كلامهم مخالف لما استقر عليه إجماع المسلمين؛ يقول المازري (ت 536هـ): “وقد استقر الإجماع على منع تغيير القرآن، ولو زاد أحد من المسلمين في كلمة منه حرفًا واحدًا، أو خفَّف مشددًا، أو شدَّد مخففًا لبادر الناس إلى إنكاره، فكيف بإبدال كثير من كلماته؟!”([22]).
- قد نص أهل العلم على أن هذا الفهم الذي فهموه كذب، ولا يصح عن ابن مسعود:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “وأما من قال عن ابن مسعود إنه يجوّز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم، وتعال، فاقرؤوا كما عُلِّمتم”([23]) .
ويقول شمس الدين ابن الجزري (ت 833هـ): “وأما من يقول: إن بعض الصحابة -كابن مسعود- كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، إنما قال: نظرت القراءات فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم، نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة؛ إيضاحًا وبيانًا؛ لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنًا، فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه”([24]).
ولو ذهبنا نستقصي ما انتقد به علماء الإسلام هذا القول الفاسد لطال بنا المقام، ولخرجنا عن المقصود، والله تعالى من وراء القصد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (27/ 169- 170).
([3]) ينظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري (1/ 462).
([5]) أخرجه البخاري (4991)، ومسلم (819).
([7]) أخرجه مسلم (820) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
([8]) يعني: عن أبي بن كعب؛ ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 99).
([9]) في كتابه “المدخل لترجمة القرآن” (ص: 69-70)، نقلًا عن تاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين (ص: 84-85).
([10]) هي شبهة قديمة قد أجاب عنها علماء الإسلام؛ كالباقلاني في الانتصار للقرآن (1/ 362)، والقرطبي في التفسير (19/ 41).
([11]) ينظر: المدخل لدارسة القرآن الكريم لأبي شهبة (ص: 206).
([12]) أخرجه أبو يوسف في الآثار (ص: 44)، وابن وهب في التفسير (3/ 54، 55 – من الجامع لابن وهب)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (ص: 311)، واللفظ لأبي يوسف.
([13]) ينظر: تفسير القرطبي (19/ 41).
([14]) تفسير الزمخشري (4/ 281).
([15]) تفسير الزمخشري (4/ 281).
([16]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1293)، والطبري في التفسير (1/ 50)، وابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2121)، والبيهقي في السنن الصغير (1/ 354)، وفي السنن الكبرى (3991).
([18]) ينظر: تفسير القرطبي (19/ 42).
([19]) تفسير ابن عطية (5/ 76).
([20]) ينظر: تفسير القاسمي (1/ 179).
([21]) ينظر: تفسير الطبري (15/ 40- 41).
([22]) المعلم بفوائد مسلم (1/ 462).