العلم اللدني بين القبول والرفض
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد.. فإن الكلام عن “العلم اللدني” مزلة أقدام؛ لذا كان لزامًا على المؤمن الوقوف على حقيقته، وكيفية دفع الشبهات التي وقع فيها أهل الانحراف والزيغ، ومقدمة ذلك أمور([1]):
أولًا: إن العلم الحقيقي الذي اعتبره الشارع الحكيم: هو العلم الحاصل بالشواهد والأدلة، وأمَّا ما يُدَّعى حصوله بغير شاهد ولا دليل فلا وثوق به، وليس بعلم، وعليه فإن دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال -كالإلهام([2])– دعوى باطلة.
ثانيًا: إن الله تعالى ربط التعريفات كالعلم بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها؛ لذا أيَّد الله تعالى رسله بالأدلة والبراهين الدالة على صحة ما جاؤوا به من عند الله تعالى.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، خاصة في هذه الأيام التي شاع فيها استعمال هذا المصطلح “العلم اللدني” في القنوات والمنتديات والمواقع الإلكترونية الصوفية: هل العلم اللدني علم معتبر في الشرع؟!
وللجواب عن هذا السؤال: لا بد أولًا من الإقرار بأن فِرق الإسلام قد اختلفت في “العلم اللدني”، ومدى اعتباره والاستدلال به، ويمكن إجمال ذلك في رأيين:
الأول: يرى بعض أهل السنة والجماعة أن العلم اللدني موجود وحقيقي، لكن له تعريف مخالف لما عليه أهل البدع والخرافات؛ فالعلم اللدني هو: ذاك العلم المستند إلى الوحي، وقام عليه الدليل الصحيح، ولا يناقضه بحال؛ يقول الإمام ابن القيم (ت 751هـ): “فالعلم اللدني: ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله على لسان رسله، وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود”([3]).
الثاني: يرى الزنادقة الباطنية وملاحدة الاتحادية وجهلة المتفلسفة ومبتدعة الصوفية: أن العلم اللدني هو ما كان مستنده ترك النقل والعقل معًا؛ فيرون أن الأحكام الشرعية المأخوذة من الكتاب والسنة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم؛ وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات بلا واسطة([4]).
وفساد قول هؤلاء المنحرفين والمبطلين معلوم من الدين قطعًا؛ يقول الإمام أبو العباس القرطبي المالكي (ت 656هـ): “وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب([5])؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله؛ السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلِّغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك”([6]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل، وصار حقيقة قولهم الكفر بالله، وبكتبه، ورسله، وباليوم الآخر”([7]).
نخلص من ذلك: أن هناك اختلافًا في التصور بين أهل الحق والمبطلين في تعريف العلم اللدني؛ والفرق الجوهري بينهما: هو في مستند العلم اللدني، فأهل الحق يرون أن مستند العلم اللدني -بمعناه الصحيح- هو الشرع وعدم مخالفته للعقل الصريح، أما أهل الزيغ والضلال فيرون أن العلم اللدني مستنده ترك النقل والعقل ومخالفتهما.
يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الفرق: “وأما عِلم من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتقيد بهما فهو من لدن النفس والهوى والشيطان، فهو لدني، لكن من لدن من؟! وإنما يعرف كون العلم لدنيًّا رحمانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل”([8]).
ولما صار مصطلح “العلم اللدني” شعارًا لكل من أراد التحلل من الشريعة بالكلية أعرض جمهور أهل السنة والجماعة عن تناوله تصريحًا وتفصيل القول فيه؛ وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: “وقد انبثق سد العلم اللدني، ورخص سعره، حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني، وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ويلقيه شيطانه في قلبه يزعم أن علمه لدني، فملاحدة الاتحادية وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون: إن علمهم لدني، وقد صنف في العلم اللدني متهوِّكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلة المتفلسفين، وكل يزعم أن علمه لدني…”([9]).
أقسام العلم اللدني:
مما تقدم يُعلم أن العلم اللدني على نوعين لا ثالث لهما، وقد قام الإمام ابن القيم ببيانهما بقوله: “فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني، ولدني شيطاني بطناوي. والمحك هو الوحي، ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم”([10]).
ويضيف قائلًا: “والعلم اللدني الرحماني: هو ثمرة هذه الموافقة [يعني: الموافقة للكتاب والسنة]، والمحبة التي أوجبها التقرب بالنوافل بعد الفرائض، واللدني الشيطاني: ثمرة الإعراض عن الوحي، وتحكيم الهوى والشيطان”([11]).
ولقائل أن يقول: إذا كان مصطلح العلم اللدني شعارًا لأهل الفساد والغي، فلماذا يُشتغل ببيانه وتفصيل القول فيه؟!
والجواب: لا يَمنع اشتهار أهل البدع والخرافة باستعمالهم للعلم اللدني -حتى صار ذلك شعارًا لهم- من تناول هذا المصطلح بشيء من التفصيل؛ بيانًا لحقيقته، ولعل في هذا فائدتين، والإنصاف عزيز، وقد علمنا الله تعالى إياه في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]:
الأولى: التحذير من الاغترار بأقوالهم، أو التوهم بأنها توافق ما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
الثاني: دفعًا لما قد يتوهمه من وقف على بعض كلام أهل السنة والجماعة -كالإمام ابن تيمية وابن القيم- في العلم اللدني، فيظن من ليس له ممارسة بأقوالهم أنهم يوافقون أهل البدع، أو يلبس المبتدعة على أهل الحق فيقولون لهم: إن علماءكم يستعملون مصطلحاتنا، ويقولون بها، فلِم تنكرون علينا استعمالها؟! والحق الذي لا مرية فيه أن كلا الأمرين باطل.
وتحقيقًا للفائدتين جاءت هذه الورقة العلمية، وفيها عرض -يناسب المقام- لنوعي العلم اللدني، وذلك في مبحثين:
المبحث الأول: العلم اللدني عند أهل الحق.
والمبحث الثاني: شبهات المنحرفين في العلم اللدني والرد عليها.
المبحث الأول: العلم اللدني عند أهل الحق:
العلم اللدني عند أهل الحق هو علم حقيقي وموجود، له أدلته من النصوص والآثار؛ وبيان ذلك: أن الله تعالى يمتن على عباده المتقين بالعلم والفهم؛ فمن بذل وسعه في موافقة الكتاب والسنة، واجتهد في العمل بمقتضى ما علَّمه الله تعالى مع الإخلاص والصدق، فإن الله تعالى يزيده -فضلًا منه سبحانه- بأن يلهمه فهمًا صحيحًا، واستنباطًا سديدًا في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وكذا في الأدلة العقلية، وهذا العطاء من الله تعالى يمكن تسميته بــــــــ “العلم اللدني المقبول أو الحقيقي”.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما العلم اللدني فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه واتباعهم ما يحبه ما لا يفتح به على غيرهم”([12]).
وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن العلم اللدني هو نتيجة وثمرة لموافقة العبد لمرضاة الله تعالى، واجتهاده في طاعته والعمل الصالح مع الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقول ابن القيم: “العلم اللدني ثمرة العبودية والمتابعة، والصدق مع الله، والإخلاص له، وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله، وكمال الانقياد له، فيفتح له من فهم الكتاب والسنة بأمر يخصه به… فهذا هو العلم اللدني الحقيقي“([13]).
وقريب منه قول أبي بكر الكلاباذي الحنفي (ت 380هـ): “شرط لوراثة هذا العلم العمل بعلم الدراسة -الذي هو علم الاكتساب-، وهو علم الأحكام بعد أحكام علم التوحيد، وهذا علم الدراسة، وعلم الوراثة: علم آفات النفس، وآفات العمل، وخدع النفس، وغرور الدنيا، وأخبر أن من عمل بعلم الاكتساب ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم، وهو علم الإفهام”([14]).
وهذا المعنى للعلم اللدني يشبه قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، والمعنى: أن الله تعالى فهَّم القضية في ذلك سليمان دون داود عليهما السلام([15]).
وبه يعلم أن أهل الحق يرون أن العلم اللدني علم صحيح ومعتبر شرعًا، وأن مناطه أمران:
أولهما: موافقة الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وبمفهوم المخالفة فإن من لم يطع النبي صلى الله عليه وسلم فاتته الهداية ووقع في الضلال لا محالة.
وثانيهما: الاجتهاد في العمل بالعلم، والصدق مع الله تعالى والإخلاص له ونحو ذلك؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والآثار على هذا المعنى، وفيما يلي بعضها:
دلالة القرآن الكريم على المعنى الصحيح للعلم اللدني:
القرآن الكريم مشحون بإثبات العلاقة الطردية بين العلم والهدى، وبين الطاعة واتباع مرضاة الله تعالى، فكما أن الله تعالى يفيض على عباده من فتوحات الفهم والعلم والهدى واليقين إن هم أطاعوه واتبعوا رضوانه، فإن الله تعالى يصرف العبد عن العلم والهدى إن هو اتبع ما يكرهه الله تعالى، وبيان هذا من وجهين:
الوجه الأول: دلالة القرآن على أن من أطاع الله فإنه يُزاد من العلم والهدى:
دلَّ القرآن الكريم على أن من فعل ما يؤمر به في الكتاب والسنة، فإن الله تعالى يمنحه من لدنه أجرًا وهداية وتوفيقًا، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرًا، فعلى سبيل المثال:
- قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66-68].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى وعدهم إن هم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه، فإنه سبحانه سيؤتيهم من عنده أجرًا عظيمًا، ويهديهم صراطًا مستقيمًا في الدنيا والآخرة([16]).
- وقال عز وجل: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
وجه الدلالة:
فمن اتبع ما يرضي الله تعالى وقام به؛ فإن الله تعالى يهديه ويخرجه من ظلمات الشرك والشك والمعاصي والجهل وغيرها، وينجيه من المهالك، ويبين له أقوم طريق وأرشده.
- وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. يقول ابن جرير الطبري (ت 310هـ): “يقول تعالى ذكره: وأما الذين وفَّقهم الله لاتباع الحقّ، وشرح صدورهم للإيمان به، وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد، فإن ما تلوته عليهم، وسمعوه منك {زَادَهُمْ هُدًى}، يقول: زادهم الله بذلك إيمانًا إلى إيمانهم، وبيانًا لحقيقة ما جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم”([17]).
الوجه الثاني: دلالة القرآن على أن من اتبع ما يكرهه الله فإنه يُصرف عن العلم:
أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أن اتباع العبد لما يكرهه الله تعالى يصرفه ذلك عن العلم والهدى، ومن أمثلة الآيات التي تدل على هذا المعنى:
- قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
- وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 109، 110].
وجه الدلالة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “أي: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ونقلب أفئدتهم أي: يتركون الإيمان، ونحن نقلب أفئدتهم لكونهم لم يؤمنوا أول مرة، أي: ما يدريكم أنه لا يكون هذا وهذا حينئذٍ”([18]).
دلالة الآثار على المعنى الصحيح للعلم اللدني:
ثبت في الصحيح عن أبي جُحيفة -رضي الله عنه- قال: قلت لعلي -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: “لا والذي فلق الحبة([19])، وبرأ النسمة([20])، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن…”([21]).
وجه الدلالة:
في هذا الأثر دليل على واسع فضل الله تعالى وعظيم منته على عباده المتقين؛ بأن يفتح عليهم من الفهم والعلم في كتابه، وفيه أيضًا أبلغ الرد على أهل الضلال والفساد في ادعائهم بأن الإلهام الذي يلهمه الله تعالى لبعض عباده دليل مستقل عن الكتاب والسنة.
يقول أبو العباس القسطلاني (ت 923هـ): “فيه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وهذا فيه تأييد لقول إمام دار الهجرة مالك -رحمه الله-: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله في قلب من يشاء”([22]).
وهذا يقودنا إلى التساؤل: هل للزهد وتصفية القلب أثر في تحصيل العلم؟!
وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب عن هذا التساؤل فقال: “والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام: طرفان ووسط.
- فقوم يزعمون أن مجرد الزهد وتصفية القلب ورياضة النفس توجب حصول العلم بلا سبب آخر.
- وقوم يقولون: لا أثر لذلك، بل الموجب للعلم العلم بالأدلة الشرعية أو العقلية.
- وأما الوسط: فهو أن ذلك من أعظم الأسباب معاونة على نيل العلم؛ بل هو شرط في حصول كثير من العلم، وليس هو وحده كافيًا؛ بل لا بد من أمر آخر: إما العلم بالدليل فيما لا يعلم إلا به، وإما التصور الصحيح لطرفي القضية في العلوم الضرورية”([23]).
ثم يضيف قائلًا: “فمن ظن أن الهدى والإيمان يحصل بمجرد طريق العلم مع عدم العمل به، أو بمجرد العمل والزهد بدون العلم فقد ضل. وأضل منهما من سلك في العلم والمعرفة طريق أهل الفلسفة والكلام بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا العمل بموجب العلم، أو سلك في العمل والزهد طريق أهل الفلسفة والتصوف بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا اعتبار العمل بالعلم”([24]).
المبحث الثاني: شبهات المنحرفين في العلم اللدني والرد عليها:
ادعى الزنادقة الباطنية وتبعهم الصوفية أن العلم اللدني الذي يؤتيه الله تعالى أولياءه علمٌ وهبيّ وإلهامٌ، وليس وحيًا، بمعنى: أن الله تعالى يختص به أولياءه عن طريق الإلهام، دون غيرهم، وبنوا شبهتهم على قصة موسى مع الخضر عليهما السلام([25])، وأن الله تعالى قد آتى الخضر الرحمة من عنده، والعلم من لدنه؛ قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]([26]).
كما ادَّعوا جواز خروج الولي عن ظاهر الشرع بحجة علم الحقيقة والعلم اللدني، كما خرج الخضر -عليه السلام- عن طاعة شريعة -عليه السلام-([27]).
وتتركز شبهتهم في هذا على أمرين:
الأول: أن الخضر كان وليًّا ولم يكن نبيًّا.
الثاني: أن الإلهام دليل مستقل، يقدم على الكتاب والسنة.
وفيما يلي الرد على هاتين الشبهتين:
أولًا: الخضر -عليه السلام- نبيٌّ مكرمٌ:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الخضر -عليه السلام- كان نبيًّا([28])، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة؛ يقول القرطبي (ت 671هـ): “والآية تشهد بنبوته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي”([29]).
دلالة سياق القرآن الكريم على نبوة الخضر:
يقول تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 65-70].
دل سياق الآيات القرآنية على نبوة الخضر -عليه السلام- من وجوه:
أحدها: أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر هما عن طريق النبوة والوحي([30]).
الثاني: سياق الخطاب بين موسى والخضر -عليهما السلام- يدل على نبوته، وبيان ذلك كما يقول الحافظ ابن كثير (ت 774هـ): “فلو كان وليًّا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد، بل موسى إنما سأل صحبته؛ لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه.
فلو كان غير نبي لم يكن معصومًا، ولم تكن لموسى -وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة- كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة.
ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه، ولو أنه يمضي حقبًا من الزمان -قيل: ثمانين سنة- ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه، واتبعه في صورة مستفيد منه، دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يُطلع الله عليه موسى الكليم نبي إسرائيل الكريم”([31]).
الثالث: قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، قال الشنقيطي: “أي: إنما فعلته عن أمر الله -جل وعلا-، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا”([32]).
الرابع: أن الخضر أقدم على قتل الغلام، وفي هذا دليل على عصمة الخضر وأنه نبي؛ لأن الولي لا يجوز له الإقدام على القتل بمجرد ما يلقى في روعه؛ لأن خاطره ليس معصومًا عن الخطأ([33]).
دلالة السنة النبوية على نبوة الخضر:
ثبت في الصحيحين أن الخضر قال لموسى -عليهما السلام-: «يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه»([34]).
والمعنى كما يوضحه القاضي أبو محمد ابن عطية (ت 542هـ) في تفسيره: “كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى -عليه السلام- علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم”([35]).
ثم يقول الحافظ ابن كثير -ختامًا لتقريره نبوة الخضِر-: “وإذا ثبتت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته وأن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه“([36]).
ثانيًا: الرد على شبهة أن الإلهام دليل من الأدلة:
الإلهام عند الأصوليين -كما عرفه أبو زيد الدبوسي (ت 430هـ)-: “ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به، من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة”([37]).
ومن المقرر عند جمهور العلماء عدم اعتبار هذا الإلهام، وعدم جواز العمل به؛ يقول أبو المظفر السمعاني (ت 489هـ): “قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به، إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم“([38]). والمعنى: أن الإلهام لاغ لا يجوز اعتباره ولا العمل به، وإنما يجوز العمل به عند فقد الأدلة في المباحات فقط، ولا يتعدى العمل به فيما سوى المباح.
وقد دل الكتاب والسنة على بطلان الاستدلال بالإلهام، وأنه لا حجة إلا فيما يمكن إظهاره من الأدلة والبراهين.
أولًا: الأدلة من القرآن على بطلان حجية الإلهام([39]):
- قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى ألزم اليهود والنصارى الكذب؛ لأنهم عجزوا عن إظهار الحجة؛ وكذا الإلهام أمر خفي لا يمكن إظهاره.
- وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117].
وجه الدلالة:
في الآية الكريم توبيخ للمشركين بادعائهم إلهًا غير الله بلا دليل ولا برهان على دعواهم، ولو كانت شهادة قلوبهم حجة ودليلًا لما لحقهم الذم، فثبت أن الحجة المعتبرة شرعًا هي ما يمكن إظهاره من النصوص والآيات.
- وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وجه الدلالة:
في الآية دليل واضح على أن الحق إنما يثبت بعد ظهور الآيات والحجج، والإلهام ليس كذلك، فلا يثبت به الحق.
- وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى برحمته لعباده لا يوقع عليهم ما توعدهم به إلا بعد بعثة الرسل وإقامة الحجة، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهامًا، فثبت أن الإلهام ليس دليلًا.
ثانيًا: الدليل من السنة على بطلان حجية الإلهام:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن، قال له: «كيف تقضي إذا عَرَضَ لك قضاء؟»، قال: أقْضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: أقضي بِسُنَّةِ رسول الله، قال: «فإن لم تجد في سُنَّةِ رسول الله؟»، قال: أجتهد رأيي ولا آلُو، قال: فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ، وقال: «الحمد لله الذي وَفَّق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرضي رسولَ الله»([40]).
وجه الدلالة:
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر لمعاذ إلهام القلب، فعلم أنه لا عبرة به.
وقد أحسن الإمام أبو المظفر السمعاني في إلزام من قال بهذا القول الفاسد، فقال: “ونحن نقول لهؤلاء: إنا ألهمنا أن ما تقولنه خطأ وباطل، [فإن] قالوا: هذا دعوى منكم، نقول: ما تقولونه أيضًا دعوى، فإن قالوا: إنكم لستم من أهل الإلهام، نقول أيضًا: إنكم لستم من أهل الإلهام، وبأي دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا؟!”([41]).
فثبت بهذا بطلان دعواهم بحجية الإلهام؛ يقول الإمام ابن القيم: “وأما قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر مخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم.
والفرق: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورًا بمتابعته، ولو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى، ويكون معه، ولهذا قال له: أنت موسى نبي إسرائيل؟ قال: نعم.
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس، في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى -عليهما السلام- حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى ابن مريم -عليهما السلام- فإنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن ادَّعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كالخضر مع موسى، أو جوَّز ذلك لأحد من الأمة: فليجدد إسلامه، وليتشهد شهادة الحق، فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه، وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم، وبين أهل الاستقامة منهم، فحرِّك تره”([42]).
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (3/ 399- 400) بتصرف واختصار.
([2]) سيأتي الكلام على شبهة الاستدلال بالإلهام.
([3]) مدارج السالكين (3/ 400).
([4]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي (11/ 40).
([5]) يقول الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 324): “وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يرجحه الدليل في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة آل عمران”. وقد قال فيه دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ص: 49): “والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى”.
([6]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي (11/ 40).
([8]) مدارج السالكين (2/ 446).
([12]) مجموع الفتاوى (13/ 245).
([13]) مدارج السالكين (2/ 446).
([14]) بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 100).
([15]) ينظر: تفسير الطبري (18/ 475).
([16]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 245)، وتفسير ابن كثير (2/ 353).
([17]) تفسير الطبري (22/ 170).
([18]) مجموع الفتاوى (13/ 245- 246).
([19]) أي: شق الحبة لتنبت. ينظر: جامع الأصول لابن الأثير (10/ 253).
([20]) أي: خلق كل ذي روح. ينظر: جامع الأصول لابن الأثير (10/ 254).
([22]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/ 166).
([23]) مجموع الفتاوى (13/ 246- 247).
([24]) المرجع السابق (13/ 247).
([25]) في مركز سلف مقالة بعنوان: “قصة الخضر وإبطال دعاوى الصوفية”، وهذا رابطها:
([26]) ينظر: ختم الولاية للحكيم الترمذي (ص: 362).
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2/ 222) -كشفًا لما في هذا الكتاب من أباطيل-: “وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وهو -رحمه الله تعالى- وإن كان فيه فضل ومعرفة، وله من الكلام الحسن المقبول، والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده” اهـ.
([27]) ينظر: الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 170).
([28]) ينظر: تفسير ابن عطية (3/ 529)، وتفسير القرطبي (11/ 16).
([29]) تفسير القرطبي (11/ 16).
([30]) ينظر: أضواء البيان (3/ 323).
([31]) البداية والنهاية (1/ 382).
([32]) أضواء البيان (3/ 323)، وينظر: تفسير القرطبي (11/ 39).
([33]) ينظر: البداية والنهاية (1/ 382- 383)، وأضواء البيان (3/ 323).
([34]) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
([35]) تفسير ابن عطية (3/ 529).
([36]) البداية والنهاية (1/ 383).
([37]) تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي (ص: 392).
([38]) قواطع الأدلة في الأصول (2/ 348).
([39]) ينظر: قواطع الأدلة في الأصول (2/ 350)، وأضواء البيان (3/ 323).
([40]) أخرجه أبو داود (3592)، والترمذي (1327)، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 351).