التمائم عند المالكية
جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليبين للناس التوحيد، ويردهم إلى الجادة التي حادوا عنها لطول عهدهم بالرسالة، واجتيال الشياطين لهم عن دينهم وتحريفهم له، وقد شمل هذا التحريف جميع أبواب الدين، بما في ذلك أصله وما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وقد انحرف الناس في هذا الأصل على أشكال وأحوال، ومن بين مظاهر الانحراف الانحراف في الموقف من الأسباب الخفية وتأثيرها والاعتقاد فيها، وهل تأثيرها لو وجد حسًّا كاف في الاعتقاد فيها وتبنيها. وقد انحرف الناس فيها واعتقدوا الضر والنفع في غير الله سبحانه، وتعلقوا بأشياء من دونه، منهم من جعلها وسائل، ومنهم من جعلها أربابا، فجاء القرآن ليرد على هذا الاعتقاد الباطل فقال سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون} [الزمر: 38].
فقد نزلت هذه الآية ردًّا على المشركين حين خوفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلهتهم، فرد الله عليهم، فحاروا جوابا عن هذا السؤال([1]).
ثم إنَّ مما كانوا يعتقدون فيه كشف الضر وجلب النفع التمائمَ وما في معناها، فقد كانوا يتعوذوّن بها لدفع المقدور، ويظنون أنها تردّه، وقد بقي هذا الاعتقاد موجودًا حتى وقع فيه بعض المسلمين وشبِّه عليهم فيه، ونحن في هذا المقال نتكلم عن التمائم ونورد الأحاديث الواردة فيها، ونبين مراتبها؛ مقتصرين في ذلك على أقوال المالكية؛ حتى لا يظن ظان أن القول فيها خاصٌّ بمذهب الإمام أحمد رحمه الله:
معنى التمائم:
التمائم: العُوذ، واحدتها تميمة. قال أبو منصور: أراد الخرز الذي يتَّخذ عوذا. والتميمة: خرزة رقطاء تنظم في السير ثم يعقد في العنق، وهي التمائم والتميم؛ عن ابن جني، وقيل: هي قلادة يجعل فيها سيور وعوذ؛ وحكي عن ثعلب: تممت المولود علقت عليه التمائم. والتميمة: عوذة تعلق على الإنسان؛ قال ابن بري: ومنه قول سلمة بن الخرشب:
تعوذ بالرقى من غير خبل وتعقد في قلائدها التميم([2])
وقد وردت نصوص شرعية تنهى عن هذا الاعتقاد وترده، منها أحاديث صحيحة وحسنة، وأخرى ضعيفة، فعن ابن مسعود كان يقول: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال: الصفرة -يعني: الخلوق-، وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغير -أو: غير- محله -أو: عن محله-، وفساد الصبي، غيرَ محُرِّمِه”([3]).
ومنها ما روي عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري رضي الله عنه أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا أن: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو: قلادة- إلا قطعت))([4]).
وعن عيسى قال: دخلت على عبد الله بن عكيم أبي معبد الجهني أعوده وبه حمرة، فقلنا: ألا تعلق شيئا؟! قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلَّق شيئا وكل إليه))([5]).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه))([6]).
وعن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك))([7]).
وعن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وتركت هذا! قال: ((إن عليه تميمة))، فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال: ((من علق تميمة فقد أشرك))([8]).
وقد ناقش العلماء دلالة هذه الأحاديث، فحملوها على الشرك إذا وافق اعتقاد الإنسان فيها اعتقاد أهل الجاهلية من اعتقاد جلب النفع ودفع الضر، قال ابن عبد البر: “وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من علق التمائم أو عقد الرقى فهو على شعبة من الشرك)) وذلك كله أن يعلق كتابا في عنقه أو يرقي نفسه أو غيره لئلا ينزل به من الأدواء”([9])، وقال القرطبي رحمه الله: “وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافي والمبتلي، لا شريك له. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم”([10]).
كما نص ابن رشد -رحمه الله- على أن ما كان منها بغير كتاب الله واللفظ العربي فهو لا يجوز بحال، فقال: “وأما التمائم بغير ذكر الله تعالى وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجيزه بحال، لا لمريض ولا صحيح؛ لما جاء في الحديث من أن ((من تعلق شيئا وكل إليه))، و((من علق تميمة فلا أتم الله له))، و((من علق ودعة فلا ودع الله له))؛ ولما رواه في موطئه من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث في بعض أسفاره رسولا والناس في مقيلهم: ((لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو: قلادة- إلا قطعت))“([11]).
كما رجحوا عن مالك الرواية المانعة لكل أنواع التمائم التي ليس فيها ذكر الله عز وجل، وذلك لجريانها على أصوله؛ ولأن مستندها ما روي عن عائشة وهو مما لا تقوله برأيها([12]).
وحاصل كلامهم منع كل ما فيه شبهة الشرك، ويتأكد المنع حين يتعلق الأمر بالتشبه بأهل الجاهلية أو النصارى([13]).
أما ما كان من التمائم فيه ذكر الله وأسماؤه سبحانه فهذا الخلاف فيه محفوظ معلوم، وحاصل المذهب فيه المنع من تعليقه قبل وقوع البلاء أو تعليقه خشية نزوله([14]).
وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها([15]).
ومما يدلُّ على ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (إنما التمائم ما علِّق قبل البلاء، فما علق بعد البلاء فليس من التمائم)([16]). وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال؛ قبل نزول البلاء وبعده([17]).
هذا من ناحية النظر الأصلي ووجود الخلاف، وخلاصة المسألة أن تعليق التمائم من غير القرآن وما ليس فيه ذكر ولا دعاء ولا يفهم معناه فإن تعليقه محرم، واعتقاد الضر والنفع فيه شرك بالله عز وجل، أما التمائم التي بالقرآن فلا يتصور الشرك فيها؛ لأن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لكن الأظهر منعه، وذلك للتوقيف في مسائل الأسباب الخفية، ولكونه ذريعة إلى غيره، وقد يعرض القرآن للامتهان، والأولى بالإنسان الاقتصار على السنة وما ورد فيها من الاستعاذة بالله سبحانه ودعائه والتوكل عليه والاكتفاء بذلك عن غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 89).
([2]) ينظر: لسان العرب (12/ 69).
([3]) أخرجه أبو داود (4222)، وإسناده ضعيف؛ فيه عبد الرحمن بن حرملة الكوفي، قال البخاري في التاريخ الكبير (5/ 270) وفي الضعفاء الصغير (ص: 70): “لم يصح حديثه”، وقال الذهبي في الميزان: “هذا منكر”.
([5]) أخرجه الترمذي (2072) وقال: “عبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
([10]) تفسير القرطبي (10/ 320).
([11]) البيان والتحصيل (1/ 439).
([12]) ينظر: المقدمات الممهدات (3/ 465).
([13]) ينظر: الذخيرة للقرافي (13/ 311).
([14]) ينظر: التمهيد (17/ 161).
([15]) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 319).