الإيمان بالملائكة حقيقتُه وتأثيرُه في حياة المؤمن
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
قضية الملائكة من أكبر القضايا التي شغلت المجتمعات البشرية على اختلافها بين معتقد لوجودهم، وناف لهم، والمعتقدون لوجودهم اختلفوا في اعتقادهم طرائق قددًا، فمنهم العابد لهم من دون الله، ومنهم المعتقد فيهم أنهم بنات الله، ومنهم من اتّخذهم عدوا، وآخرون جعلوهم جنسًا من الجن، كل هؤلاء تحدث القرآن عنهم ورد على أباطيلهم، وبين المعتقد الصحيح في هذا الجنس العظيم، ووصفهم بما يليق بهم، ويتناسب مع طبيعة وظائفهم في الكون.
ومما يدلك -أيها القارئ الكريم- على محورية الملائكة في المعتقد أنه لم يوجد مخلوق مكلف بعد البشر نال من تفصيل الوحي في خلقته وهيئته وعمله مثل الملائكة، وقد أجاب القرآن عن كل نقيصة رُمُوا بها، كما بين علاقتهم بالله عز وجل وبصالح المؤمنين وسائر البشر بعد ذلك، وفصل الوظائف المنوطة بهم وكيف يؤدونها وفق ما أمروا بها، وألزم المؤمنين بالإيمان بهم ومحبتهم، وجعل ذلك من محبة الله، كما جعل عداوتهم من عداوة الله عز وجل.
وسوف نتناول في هذه الورقة العلمية قصة هذه المخلوقات كما وردت في الوحي وصحيح السنة؛ مقتصرين على أهم ما يتعلق بها، وسوف نتعرض للشبهات المثارة حولهم، ونجيب عنها بعون الله عز وجل، ونبدأ في تعريف الملائكة وضرورة الإيمان بهم، ثم نذكر بعض صفاتهم، ووظائفهم التي تحدث عنها الوحي:
معنى الملائكة وحقيقة الإيمان بهم:
قال أبو بكر بن الأنباري: “الملائكة سميت ملائكة لتبليغها رسائل الله عز وجل إلى أنبيائه صلوات الله عليهم. أخذوا من الألوك وهي الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل
أراد بالألوك: الرسالة. ويقال لها أيضا: مَألَكَة ومَألُكَة، قال الشاعر:
أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظاري
وقوم يقلبونه فيقولون: ملأكا. ويقولون: هو ملك من الملائكة، وهو ملأك من الملائكة. فمن قال: هو ملأك أخرج الحرف على أصله، ومن قال: ملك حول فتحة الهمزة إلى اللام وأسقط الهمزة. قال علقمة بن عبدة:
فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب”([1])
أما حقيقتهم فهم عباد لله عز وجل، خلقهم من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليسوا بجن ولا إنس، والدليل على ذلك ما صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم))([2]).
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون} [الأنبياء: 26]. “يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بربهم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} من ملائكته، فقال جلّ ثناؤه استعظاما مما قالوا، وتبريًّا مما وصفوه به سبحانه، يقول تنزيها له عن ذلك: ما ذلك من صفته {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، يقول: ما الملائكة كما وصفهم به هؤلاء الكافرون من بني آدم، ولكنهم عباد مكرمون، يقول: أكرمهم الله”([3]).
والإيمان بهم ينتظم في أمور:
أحدها: التصديق بوجودهم.
الثاني: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه، كالإنس والجن مأمورون مكلفون، لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، والموت عليهم جائز، ولكنّ الله تعالى جعل لهم أمدًا بعيدًا، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله تعالى، ولا يدعون آلهة كما دعتهم الأوائل.
الثالث: الإقرار بأنّ منهم رسلًا يرسلهم الله إلى من يشاء من البشر، وقد يجوز أن يرسل بعضهم إلى بعض، ويتبع ذلك الإقرار بأنّ منهم حملة العرش، ومنهم الصافّين، ومنهم خزنة الجنّة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، فقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره([4]).
ووجودهم مقطوع به شرعا، ومحكوم به عقلا؛ إذ إن العقل حكم بصدق الأنبياء من خلال معجزاتهم وحسن تشريعهم، كما تيقن بأن غياب الشيء عن حواس المخلوق لا يعني عدم وجوده، وهم من عالم الغيب الذي يغيب عن ناظر الإنسان، وتصديق العقل به مبناه على تواتر الرسل الصادق وشواهد العوائد التي اقتضت ذلك؛ “لأن المكلف له مبدأ ووسط ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به وهو الكتاب، والموحى إليه وهو الرسول”([5]).
فشرط الإيمان بالرسل الإيمان بالملائكة التي تنزل بالوحي عليهم؛ لأنهم الواسطة بين الخلق وبين الله، والوحي له ثلاثة أنواع هي: إلقاء المعنى في القلب وهو الإلهام وقد يعبّر عنه بالنّفث في الرّوع، أو كلام الله لعبده من وراء حجاب، أو إرسال ملك إليه، وأغلبه عن طريق الملك، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم} [الشورى: 51].
“وَهَذَا الْوَحْيُ مِنَ الرُّسُلِ خِطَابٌ مِنْهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُونَهُ نُطْقًا وَيَرَوْنَهُ عِيَانًا. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”([6]).
فإذا كان الوحي لا يثبت إلا بطريق الملك فإن الإيمان به يقتضي ضرورة الإيمان بوجود الملائكة، ومما يدلك على ركنية الإيمان في الملائكة مناقشة القرآن لجميع المعتقدات فيهم، ورد الباطل منها، ودونك نماذج من اعتقاد الناس في الملائكة قبل نزول الوحي:
أولا: اعتقاد المشركين في الملائكة:
لقد ناقش القرآن الكريم نظرة المشركين العرب للملائكة، وردها جملة وتفصيلا، وكانت تتلخص هذه العقيدة في ثلاث قضايا:
الأولى: الاعتقاد أنهم متخلقون من رب العالمين، وسبب هذا التخلق هو الزواج بالجن، فقد روي عن مُجَاهِدٍ قَالَ: قال المشركون: الملائكة بنات الله، فسأل أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن([7])، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قالوا -لعنهم الله-: تَزَوَّجَ مِنَ الْجِنِّ فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمُ الْمَلَائِكَة([8]).
وقد رد الله على هذا المعتقد الفاسد وأبطله؛ وذلك بتبيينه عدم حضور هؤلاء لخلق الملائكة، ونزه نفسه عن الولد، وبين أن الجِنَّة محضرون للحساب يوم القيامة([9]).
فقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. ثم بين في نفس السورة مقام الملائكة ووظيفتهم، فقال حكاية عنهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصَّافَّاتِ: 149-166]. وتوعد من نسبهم إلى الأنوثة بالسؤال يوم القيامة عن هذه الفرية فقال: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} [الزخرف: 19].
الثانية: عبادتهم من دون الله، فقد وجد في حي بني مُلَيْحٍ مِنْ خُزَاعَةَ من كان يعبد الجن ويزعم أن الجن تتراءَى لَهُ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ([10])، فبين الله بطلان هذا القول ورده، فقال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [فاطر: 40، 41]. يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم كما يكون للأصنام شياطين([11]).
فنزه القرآن الملائكة عن هذه الدعوى، وبين بعدهم عنها، بل صرح بذلك في آيات أُخَر كما في قوله سبحانه: {لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172].
الثالثة: الجهل بحقيقتهم وعددهم وظن القوة عليهم، وهذا المعتقد ظهر كردة فعل على النبوة، فقد ذكر المفسرون أنه لما نزل قول الله سبحانه: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} [المدثر: 30] قال أبو جهل لقريش: “أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا؟!”([12])، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَر} [المدثر: 31].
فأبطل الله هذا القول، وبين أن ذلك غير ممكن فقال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} لَا رِجَالًا آدَمِيِّينَ، فَمَنْ ذَا يَغْلِبُ الْمَلَائِكَةَ؟! {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} أَيْ: عَدَدَهُمْ فِي الْقِلَّةِ {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا([13]).
ثانيا: اعتقاد اهل الكتاب:
لم يكن أهل الكتاب منكرين للملائكة، أو مدعين فيهم ما ادعى المشركون، وذلك أنهم كانت عندهم بقايا من دين الرسل؛ لكن ذلك لم يمنع من وجود نوع من الاعتقاد الفاسد عندهم في الملائكة لا يقره الشرع ولا يرضاه، فقد كان اليهود على عداء مع جبريل عليه السلام، ويزعمون أنه هو الذي يأتيهم بالعذاب، وعليه فهم لا يحبونه، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين} [البقرة: 97].
قال أبو جعفر: “أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته”([14]).
وقد رد على هذا الاعتقاد المتهافت، وبين أن العداوة لجبريل عداوة للملائكة ولله ولرسله، فقال تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِين} [البقرة: 98].
“فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم وحدة واحدة، فمن عادى واحدًا منهم فقد عادى الله وجميع الملائكة، أمّا تولي بعض الملائكة ومعاداة بعض آخر فهي خرافة لا يستسيغها إلا مثل هذا الفكر اليهودي المنحرف، وهذه المقولة التي حكاها القرآن عن اليهود عذر واهٍ عللوا به عدم إيمانهم، فزعموا أن جبريل عدوهم؛ لأنّه يأتي بالحرب والدمار، ولو كان الذي يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ميكائيل لتابعوه”([15]).
فجعل الله عداوتهم كفرا، والله عدو للكافرين، ولم يقف القرآن عند هذا الحد، وهو نفي المعتقدات الباطلة في الملائكة وتنزيههم عن كل نقيصة، بل طلب الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا، وهذا الإيمان يشمل اعتقاد فضلهم وكرمهم، كما يشمل الإيمان بوظائفهم وصفاتهم، ودونك تفصيل ذلك:
وجوب الإيمان بالملائكة:
قد أكدت آيات قرآنية وأحاديث نبوية على الإيمان بالملائكة، من ذلك قول سبحانه وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285]، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
وقد ذم الله أهل الكتاب على إيمانهم ببعض الملائكة وكفرهم ببعض، كما فعلوا مع الرسل، وبين أن هذا الاعتقاد باطل؛ لأن الإيمان لا يتجزأ، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون} [البقرة: 87]، وقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]. “فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة”([16]).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل الطويل حين سأله عن الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال جبريل: صدقت([17]).
ونصوص السنة طافحة بوجوب الإيمان بهم، وإجماع من يعتد بإجماعه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم منعقد على الإيمان بهم.
ويكون الإيمان الشرعي بالملائكة إيمانًا من خلال عدة مظاهر يتصف بها المسلم تجاه الملائكة.
مظاهر الإيمان بالملائكة عند المؤمنين كما وصفت في الوحي:
لا يكون الإنسان مؤمنا بالملائكة بمجرد اعتقاد وجودهم، فذلك أمر مفروغ منه، فكل الفلسفات البشرية تؤمن بوجودهم؛ إما على حقيقتهم كما أخبر الله، وإما بتخيل عنهم كما هو حال كل المعتقدات الوثنية والخرافية، وإنما الإيمان الشرعي يكون بأمور منها:
الأول: إنزال الملائكة منازلهم: وذلك باعتقاد فضلهم وكمال خلقتهم، وأنهم عباد لله عز وجل، ليس بينه وبينهم نسب، وإنما نالوا فضلهم بسبب ما حباهم الله به من الصفات الحسنة وجبلهم عليه من العبادة، وهذا الاعتقاد مفصل في القرآن، قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون} [الأنبياء: 26]، وقال سبحانه منزها لهم عما وصفهم به المشركون من التشريك بهم مع الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّون (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُون} [الصافات: 165، 166]، وقال سبحانه: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُون} [فصلت: 38].
فقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن إفراد العبادة له، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، {فَالذينَ عندَ رَبكَ} يَعني: المَلَائكَةَ، {يُسَبحُونَ لَهُ بالليل وَالنهَار وَهُم لَا يَسأَمُونَ}، كَقَوله: {فَإن يَكفُر بهَا هَؤُلاء فَقَد وَكلنَا بهَا قَومًا لَيسُوا بهَا بكَافرينَ}([18]).
الثاني: الإيمان بهم جملة وتفصيلا:
فالملائكة خلق لله لا يحصى ولا يعد، ذكر الله أعدادا منهم محددة فتنة لبعض الناس، وأخفى أخرى؛ لأن البشر لا قدرة لأحد منهم على معرفة أعدادهم، ولا يطيقون ذلك؛ لأنه من علم الله الذي لا يمكن للبشر الاطلاع عليه، فمثال الأعداد التي ذكر الله قوله سبحانه: {وَالمَلَكُ عَلَى أَرجَائهَا وَيَحملُ عَرشَ رَبكَ فَوقَهُم يَومَئذ ثَمَانيَة} [الحاقة: 17]، وقوله: {عَلَيهَا تسعَةَ عَشَر} [المدثر: 30]، وقوله: {إذ تَستَغيثُونَ رَبكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَني مُمدكُم بأَلف منَ المَلائكَة مُردفين} [الأنفال: 9].
فكون العرش يحمله ثمانية والنار عليها تسعة عشر والله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، فهذا ليس حصرا لعددهم، ولا هو كذلك عجز منهم؛ فملك واحد قادر على إفناء البشرية وطي البسيطة؛ لكن كل هذا لحكمة يعلمها الله، وذكر هذه الأعداد هو اعتبار وابتلاء للمؤمنين ليزدادوا إيمانا، وللكافرين ليضلوا كما قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلنَا أَصحَابَ النار إلا مَلاَئكَةً وَمَا جَعَلنَا عدتَهُم إلا فتنَةً للذينَ كَفَرُوا ليَستَيقنَ الذينَ أُوتُوا الكتَابَ وَيَزدَادَ الذينَ آمَنُوا إيمَانًا وَلاَ يَرتَابَ الذينَ أُوتُوا الكتَابَ وَالمُؤمنُونَ وَليَقُولَ الذينَ في قُلُوبهم مرَضٌ وَالكَافرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهَذَا مَثَلًا كَذَلكَ يُضل اللهُ مَن يَشَاء وَيَهدي مَن يَشَاء وَمَا يَعلَمُ جُنُودَ رَبكَ إلا هُوَ وَمَا هيَ إلا ذكرَى للبَشَر} [المدثر: 31]. أما عدد الملائكة على جهة التفصيل فلا يعلمه إلا الله كما ذكر في آخر الآية.
الثالث: التشبه بهم في العبادة:
حقيقة الإنسان أنه في حالة التكليف متردد بين مرتبين:
مرتبة الكمال وهي التشبه بالملائكة في العبادة.
ومرتبة النقصان وهي التشبه بالشياطين في المعصية، والركون إلى الشهوات وتغليبها؛ ولذلك جاءت نصوص القرآن آمرة بالعبادة على نحو ما عند الملائكة، فكما هم مسبحون أمرنا نحن بالتسبيح، وكما هم ساجدون أمرنا نحن بالسجود، فقال سبحانه: {فَسَبح بحَمد رَبكَ وَكُن منَ الساجدين} [الحجر: 98]، وكما هم يصطفون في عبادتهم فقد أمرنا نحن بالاصطفاف في الصلاة، فعن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! اسكنوا في الصلاة))، قال: ثم خرج علينا فرآنا حلقا فقال: ((ما لي أراكم عزين؟!))، قال: ثم خرج علينا فقال: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟!))، فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف))([19])، وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة))([20]).
ومن ذلك عدم التكبر حتى مع الكمال قال سبحانه: {لن يَستَنكفَ المَسيحُ أَن يَكُونَ عَبدًا لله وَلاَ المَلائكَةُ المُقَربُونَ وَمَن يَستَنكف عَن عبَادَته وَيَستَكبر فَسَيَحشُرُهُم إلَيه جَميعًا} [النساء: 172].
الرابع: اعتقاد أن ما عندهم من الكمال هو من فضل الله:
فلم يفعلوا منه شيئا لأنفسهم، ولا قدرة لهم على إيجادهم، فهم لا ينفعون ولا يضرون إلا بإذن الله، ولا يشفعون إلا بإذنه، قال سبحانه: {قُل ادعُوا الذينَ زَعَمتُم من دُون الله لاَ يَملكُونَ مثقَالَ ذَرة في السمَاوَات وَلاَ في الأَرض وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ منهُم من ظَهير} [سبأ: 22].
قال ابن عطية: “وقوله: {الذينَ} يريد الملائكة والأصنام، وذلك أن قريشا والعرب كان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يقول: نعبدها لتشفع لنا ونحو هذا، فنزلت هذه الآية معجزة لكل منهم، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة من أنهم {لا يَملكُونَ} ملك الاختراع {مثقالَ ذَرة} في السماء وَلا في الأَرض، وأنهم لا شرك لهم فيهما، وهذان فيهما نوعا الملك إما استبدادا وإما مشاركة، فنفى عنهم جميع ذلك، ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في شيء من قدرته والظهير المعين”([21]).
وقال سبحانه: {وَكَم من ملَك في السمَاوَات لاَ تُغني شَفَاعَتُهُم شَيئًا إلا من بَعد أَن يَأذَنَ اللهُ لمَن يَشَاء وَيَرضَى} [النجم: 26].
“ولم يكن هذا القول ونحوه تنقصًا بالملائكة، ولا سبا لهم، ولا معاداة لهم، بل الملائكة والأنبياء يعادون من أشرك بهم، ويوالون أهل التوحيد الذين ينزلونهم منازلهم، وهم برآء ممن يغلون فيهم”([22]).
الرابع: تطلُّب دعائهم واستغفارهم وتحري ما يوجبه والمكث في الأماكن التي يحضرونها والحذر من لعنهم وما يوجبه:
فقد ورد أنهم يدعون للمرء في مصلاه، ففي البخاري من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه))([23]).
وقد ذكر الله استغفارهم لعموم أهل الإيمان كما في قوله سبحانه: {الذينَ يَحملُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبحُونَ بحَمد رَبهم وَيُؤمنُونَ به وَيَستَغفرُونَ للذينَ آمَنُوا رَبنَا وَسعتَ كُل شَيء رحمَةً وَعلمًا فَاغفر للذينَ تَابُوا وَاتبَعُوا سَبيلَكَ وَقهم عَذَابَ الجَحيم} [غافر: 7].
أما المجالس التي يحضرون فهي كثيرة، منها مجالس الذكر والعلم ومدارسة القرآن كما ورد في الحديث: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))([24]).
وكذلك الحذر مما لعنهم وما يوجبه وهي أمور كثيرة منها ما هو مذكرو في القرآن كقوله سبحانه: {إن الذينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُم كُفارٌ أُولَئكَ عَلَيهم لَعنَةُ الله وَالمَلائكَة وَالناس أَجمَعين} [البقرة: 161].
وقال سبحانه: {كَيفَ يَهدي اللهُ قَومًا كَفَرُوا بَعدَ إيمَانهم وَشَهدُوا أَن الرسُولَ حَق وَجَاءَهُمُ البَينَاتُ وَاللهُ لَا يَهدي القَومَ الظالمين أُولَـئكَ جَزَاؤُهُم أَن عَلَيهم لَعنَةَ الله وَالمَلائكَة وَالناس أَجمَعين} [آل عمران: 87].
قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود؛ كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقال أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى؛ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم. وقيل: ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها([25]).
وقد ورد أنهم يلعنون المؤمن إذا رفع السلاح في وجه أخيه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه))([26]).
فهذه ثمار من الثمرات الطيبة للإيمان بالملائكة، ويترتب عليها كذلك الإيمان بوظائفهم الموكلة إلى بعضهم، وهي وظائف تثمر في قلب المؤمن خشية، وتزيده يقينا في المعتقد، وتجعله يتصور الغيب تصورا صحيحا، لا يتفاجأ مع انكشاف الغطاء عنه.
ومن أهم الوظائف وأكثرها حضورا في القرآن وفي السنة:
توكيلهم بحفظ الناس من كل مكروه لم يقدر عليهم، وحفظ أعمالهم وأرزاقهم وكتابتها، قال سبحانه: {إن كُل نَفس لما عَلَيهَا حَافظ} [الطارق: 4]. قال مجاهد: “أي: حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيته يا ابن آدم قُبضت إلى ربك”([27]). وقال سبحانه: {لَهُ مُعَقبَاتٌ من بَين يَدَيه وَمن خَلفه يَحفَظُونَهُ من أَمر الله} [الرعد: 11]، أي: له معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله، أي: بأمر الله([28]).
ومن وظائفهم كذلك أن بعضهم مكلف بقبض أرواح العباد، وهؤلاء المكلفون بقبض الأرواح فيهم ملائكة رحمة وملائكة عذاب، قال سبحانه: {وَهُوَ القَاهرُ فَوقَ عبَاده وَيُرسلُ عَلَيكُم حَفَظَةً حَتىَ إذَا جَاء أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفتهُ رُسُلُنَا وَهُم لاَ يُفَرطُون} [الأنعام: 61].
فإذا توفته الملائكة فإن كان من أهل الجنة بشروه كما قال تعالى: {إن الذينَ قَالُوا رَبنَا اللهُ ثُم استَقَامُوا تَتَنَزلُ عَلَيهمُ المَلاَئكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلاَ تَحزَنُوا وَأَبشرُوا بالجَنة التي كُنتُم تُوعَدُون} [فصلت: 30].
وإن كان من أهل النار -عياذا بالله- ضربوه على وجه وقفاه، وذكروه بسوء ما هو قادم عليه، قال سبحانه: {وَمَن أَظلَمُ ممن افتَرَى عَلَى الله كَذبًا أَو قَالَ أُوحيَ إلَي وَلَم يُوحَ إلَيه شَيءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزلُ مثلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَو تَرَى إذ الظالمُونَ في غَمَرَات المَوت وَالمَلائكَةُ بَاسطُوا أَيديهم أَخرجُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذَابَ الهُون بمَا كُنتُم تَقُولُونَ عَلَى الله غَيرَ الحَق وَكُنتُم عَن آيَاته تَستَكبرُون} [الأنعام: 93]، وقال تعالى: {فَكَيفَ إذَا تَوَفتهُم المَلاَئكَةُ يَضربُونَ وُجُوهَهُم وَأَدبَارَهُم} [محمد: 27].
ومن وظائفهم أن بعضهم خزنة الجنة وبعضهم خزنة النار، قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيزُ منَ الغَيظ كُلمَا أُلقيَ فيهَا فَوجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَم يَأتكُم نَذير} [الملك: 8]، وقال: {وَسيقَ الذينَ اتقَوا رَبهُم إلَى الجَنة زُمَرًا حَتى إذَا جَاؤُوهَا وَفُتحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيكُم طبتُم فَادخُلُوهَا خَالدين} [الزمر: 73].
وبعضهم وكل بحمل العرش كما مر، وفيهم الموكل بالنفخ في الصور، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ))، فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا))([29]).
وفيهم الموكل بالرحم كما في الحديث: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة))([30]).
وفيهم الموكلون بعذاب القبر، فقد ورد في الحديث: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ))([31]).
ومن وظائفهم أنهم رسل الله بالوحي وبالعذاب كذلك، قال سبحانه الله: {اللهُ يَصطَفي منَ المَلاَئكَة رُسُلًا وَمنَ الناس إن اللهَ سَميعٌ بَصير} [الحج: 75]، وقال سبحانه حكاية عنهم في قصتهم مع قوم لوط: {قَالُوا يَا لُوطُ إنا رُسُلُ رَبكَ لَن يَصلُوا إلَيكَ فَأَسر بأَهلكَ بقطع منَ الليل وَلاَ يَلتَفت منكُم أَحَدٌ إلا امرَأَتَكَ إنهُ مُصيبُهَا مَا أَصَابَهُم إن مَوعدَهُمُ الصبحُ أَلَيسَ الصبحُ بقَريب} [هود: 81].
كما تحدث القرآن عن كثير من وظائفهم في أوائل السور، قال سبحانه: {وَالمُرسَلَات عُرفًا (1) فَالعَاصفَات عَصفًا (2) وَالناشرَات نَشرًا (3) فَالفَارقَات فَرقًا (4) فَالمُلقيَات ذكرًا (5) عُذرًا أَو نُذرًا} [المرسلات: 1-6].
وغيرها من الوظائف.
صفات الملائكة:
وصف الله عز وجل الملائكة بصفات التعظيم والتبجيل التي تدل على كمال خلقتهم، وعلو منزلتهم، وعظم قدرهم، ومن هذه الصفات صفة العبودية، قال تعالى: {وَقَالُوا اتخَذَ الرحمَنُ وَلَدًا سُبحَانَهُ بَل عبَادٌ مكرَمُون} [الأنبياء: 26].
ومنها كذلك ملازمة التسبيح حتى صار لهم كالنفس([32])، قال تعالى: {يُسَبحُونَ الليلَ وَالنهَارَ لاَ يَفتُرُون} [الأنبياء: 20].
ومنها أنهم لا يأكلون ولا يشربون، قال سبحانه حكاية عنهم: {فَلَما رَأَى أَيديَهُم لاَ تَصلُ إلَيه نَكرَهُم وَأَوجَسَ منهُم خيفَةً قَالُوا لاَ تَخَف إنا أُرسلنَا إلَى قَوم لُوط} [هود: 70].
ومن صفاتهم أن لهم أجنحة على أعداد متفاوتة، قال سبحانه: {الحَمدُ لله فَاطر السمَاوَات وَالأَرض جَاعل المَلاَئكَة رُسُلًا أُولي أَجنحَة مثنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزيدُ في الخَلق مَا يَشَاء إن اللهَ عَلَى كُل شَيء قَدير} [فاطر: 1].
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، وقد سد الأفق، فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} [النجم: 8، 9]، قالت: ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق([33]).
وعن عبد الله رضي الله عنه في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ} [النجم: 18] قال: رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق([34])، وفي رواية: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق([35]).
ولهم القدرة على التشكل في صفات البشر على هيئات مختلفة، فقد ورد في حديث جبريل الطويل أن جبريل أتاهم على هيئة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر([36]).
وهم موصوفون بالقوة والشدة التي لا يستطيعها بشر، فقد قال سبحانه وتعالى عنهم {يَا أَيهَا الذينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهليكُم نَارًا وَقُودُهَا الناسُ وَالحجَارَةُ عَلَيهَا مَلاَئكَةٌ غلاَظٌ شدَادٌ لاَ يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُون} [التحريم: 6].
وهم أجسام نورانية لا يستطيع البشر رؤيتهم في هذه الحياة على هيئتهم الحقيقية إلا على سبيل المعجزة كما وقع لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أما غيرهم فلا يراهم على هيئتهم، وإنما يراهم على هيئات أخرى، ولا يستطيع الجزم بذلك إلا إذا أخبره نبي مصدق([37]).
وهم كسائر المخلوقات متفاضلون فيما بينهم، فيهم المقربون، وفيهم منهم دون ذلك، لكن الجميع تجمعهم صفة الإيمان والكرامة على الله سبحانه وتعالى.
وغرضنا من هذا تبيين تأثير الإيمان بهم في حياة البشر؛ وذلك أنه لا يوجد مخلوق إلا وللملائكة وجود في حياته، إما بحفظه وكتب رزقه وأجله عمله وشقي أو سعيد، أو نصرته كما هو حال المؤمنين، فهم كذلك ينصرون المظلوم، ويحضرون الجمع والجماعات ومشاهد الخير، فالإيمان بهم واعتقاد وجودهم يجعل المؤمن في سعادة من أمره، وأنس بعباد الله عز وجل من الملائكة، فهم يَعِدُونَه بالخير ويبعدونه عن الشر، كما في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]([38]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الزاهر في معاني كلمات الناس (2/ 255). وينظر: الصحاح للجوهري (4/ 161).
([4]) ينظر: شعب الإيمان للبيهقي (1/ 296).
([7]) ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 24).
([8]) ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 272).
([9]) ينظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 95).
([10]) ينظر: تفسير القرطبي (14/ 309).
([11]) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 135).
([12]) ينظر: تفسير الطبري (24/ 29).
([13]) ينظر: تفسير البغوي (8/ 271).
([15]) عالم الملائكة الأبرار (1/ 170).
([16]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 298).
([18]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 182).
([21]) تفسير ابن عطية (4/ 417).
([22]) الرد على الأخنائي لابن تيمية (ص: 220).
([25]) ينظر: تفسير القرطبي (4/ 130).
([27]) ينظر: تفسير الطبري (24/ 353).
([28]) ينظر: تفسير مجاهد (ص: 405).
([29]) أخرجه الترمذي (2431)، قال الشيخ الألباني: “صحيح”.
([31]) أخرجه أبو داود (4751)، قال الشيخ الألباني: “صحيح”.
([32]) ينظر: تفسير القرطبي (12/ 140).
([35]) أخرجه البخاري (3232)، ومسلم (174).