الأحد - 20 جمادى الآخر 1446 هـ - 22 ديسمبر 2024 م

العُزْلة بين الورَع وتضييع الحقّ

A A

لقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تحذر من الفتن ومواطن الشبهات، وتأمر المؤمن بالابتعاد عن كل ما قد يضرّ دينه ويفسده، كما جاءت نصوص شرعية أخرى تأمره بلزوم جماعة المسلمين والحرص على مجالس الخير والمشاركة في كل بر والتعاون مع كل طالب للخير على البر والتقوى، ولا شك أن هذه النصوص قد يظهر تعارض بينها في بعض المواطن حيث يوجد الخير ويوجد الشر، فلا يدري الإنسان أيشارك في الخير رجاء الأجر، أم يترك الشر رجاء السلامة.

ولا شك أن ترجيح أحد الأمرين لا يخلو من عملية اجتهادية شاقة، وقد غلا بعض الناس في الأدلة التي تأمر بالعزلة وتجنب الفتن، فتسرعوا في ترك المجتمعات والحكم عليها بالجاهلية والشر، ففرطوا في خير كثير، ووقعوا في بعض ما فروا منه، حتى إن بعضهم تعرض للابتداع في الشرع والوقوع في كبائر الذنوب من تكفير للمسلمين وتكبر على الصالحين، وترك لما قد يحتاجه من علم في دينه ودنياه.

ونحن نورد في هذا المقال بعض الأدلة المرشدة لهذا الفهم، وأول ذلك أننا حين ننظر في القرآن الكريم نجد أن الاعتزال بحد ذاته لا يناقض مخالطة الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بأفعال الخير، فقد جاء عن السلف -رحمهم الله- تفسير العزلة بأنها الابتعاد عن الشر والمشاركة في الخير:

ففي الحديث: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))([1]).

قال ابن المبار ك في تفسير العزلة: “أن تكون مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت”([2]).

وعن وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا، وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل؛ إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمَّ سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتا نطوقا([3]).

فالأحاديث الواردة في الباب محمولة على الابتعاد عن الشرّ، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بإراقة الدماء والفتن الواقعة بين المسلمين مما يعلم الإنسان من نفسه أنه لا يستطيع لها دفعًا، بل هو طرف من أطراف الباطل إن شارك؛ ولذلك اعتزل الصحابة الفتن والقتال بين المسلمين، ولعل في حديث حذيفة رضي الله عنه ما يفسر لنا هذا، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة إلى إجراء عملي يفعله قبل العزلة.

فعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر))، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))([4]).

فقد أرشده إلى لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وهو إجراء لتفادي الفتنة يسبق العزلة وينسجم مع نصوص أخرى آمرة بشهود الجمعة والجماعة وصلة الرحم وحضور مجالس الخير، وقد أنكر الصحابة -رضوان الله عليهم- على بعض العباد التعجل في الاعتزال ومفارقة الناس، فقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين من خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن عتبة ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال: (إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد، أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة!). وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه، فقال له: (إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله)([5]).

فالاعتزال لا يمكن أن يكون سلوكا عاما يرشد إليه جميع أفراد المجتمع، بل هو سلوك فردي قد يخص شخصا بعينه ويتقيد بحاله، وهو موقف لكنه لا يفتى به كل الناس؛ لما في ذلك من تعجّل في الحكم على المجتمعات بالهلاك وتغييب للخير الذي قد يكون موجودا وبكثرة، لكن الإحباط وسرعة اليأس إلى النفوس يجعل الإنسان يتعجل في الحكم في أمر له فيه سعة، ويؤكد ما قلنا ما روي عن الصحابة -رضوان الله عليهم- من الإنكار على من سارع بالعزلة وانفصل عن المجتمع، وقد فسر بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليك بخاصة نفسك)) بفرض العين وما تعرف من نفسك مشروعيته، فهذا لا يمنع أن تشارك الناس فيه إذا اتضح لك وتترك المتشابه، وهنا لا إشكال، ويشهد له ما مر معنا من النقل عن ابن المبارك رحمه الله.

 وكل الأحاديث تدور حول اعتزال الفتنة، ولكنها لا تتناول أعمال الخير ولا أعمال البر، ولا ترشد إلى تركها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))([6]).

فهذا هو الأصل المحكم الذي لا ينبغي لمسلم أن يحيد عنه، ولا أن يزهد فيه، وغيره استثناء إن جاز فإنما هو في حق أعيان الناس، لا في حق العموم؛ بدليل أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) سنن ابن ماجه (4032)، قال الشيخ الألباني: “صحيح”.

([2]) ينظر: تفسر القرطبي (10/ 361).

([3]) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 362).

([4]) صحيح البخاري (3411).

([5]) ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 111).

([6]) مسند الإمام أحمد (13374).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017