السبت - 21 محرّم 1446 هـ - 27 يوليو 2024 م

العُزْلة بين الورَع وتضييع الحقّ

A A

لقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تحذر من الفتن ومواطن الشبهات، وتأمر المؤمن بالابتعاد عن كل ما قد يضرّ دينه ويفسده، كما جاءت نصوص شرعية أخرى تأمره بلزوم جماعة المسلمين والحرص على مجالس الخير والمشاركة في كل بر والتعاون مع كل طالب للخير على البر والتقوى، ولا شك أن هذه النصوص قد يظهر تعارض بينها في بعض المواطن حيث يوجد الخير ويوجد الشر، فلا يدري الإنسان أيشارك في الخير رجاء الأجر، أم يترك الشر رجاء السلامة.

ولا شك أن ترجيح أحد الأمرين لا يخلو من عملية اجتهادية شاقة، وقد غلا بعض الناس في الأدلة التي تأمر بالعزلة وتجنب الفتن، فتسرعوا في ترك المجتمعات والحكم عليها بالجاهلية والشر، ففرطوا في خير كثير، ووقعوا في بعض ما فروا منه، حتى إن بعضهم تعرض للابتداع في الشرع والوقوع في كبائر الذنوب من تكفير للمسلمين وتكبر على الصالحين، وترك لما قد يحتاجه من علم في دينه ودنياه.

ونحن نورد في هذا المقال بعض الأدلة المرشدة لهذا الفهم، وأول ذلك أننا حين ننظر في القرآن الكريم نجد أن الاعتزال بحد ذاته لا يناقض مخالطة الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بأفعال الخير، فقد جاء عن السلف -رحمهم الله- تفسير العزلة بأنها الابتعاد عن الشر والمشاركة في الخير:

ففي الحديث: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))([1]).

قال ابن المبار ك في تفسير العزلة: “أن تكون مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت”([2]).

وعن وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا، وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل؛ إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمَّ سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتا نطوقا([3]).

فالأحاديث الواردة في الباب محمولة على الابتعاد عن الشرّ، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بإراقة الدماء والفتن الواقعة بين المسلمين مما يعلم الإنسان من نفسه أنه لا يستطيع لها دفعًا، بل هو طرف من أطراف الباطل إن شارك؛ ولذلك اعتزل الصحابة الفتن والقتال بين المسلمين، ولعل في حديث حذيفة رضي الله عنه ما يفسر لنا هذا، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة إلى إجراء عملي يفعله قبل العزلة.

فعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر))، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))([4]).

فقد أرشده إلى لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وهو إجراء لتفادي الفتنة يسبق العزلة وينسجم مع نصوص أخرى آمرة بشهود الجمعة والجماعة وصلة الرحم وحضور مجالس الخير، وقد أنكر الصحابة -رضوان الله عليهم- على بعض العباد التعجل في الاعتزال ومفارقة الناس، فقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين من خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن عتبة ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال: (إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد، أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة!). وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه، فقال له: (إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله)([5]).

فالاعتزال لا يمكن أن يكون سلوكا عاما يرشد إليه جميع أفراد المجتمع، بل هو سلوك فردي قد يخص شخصا بعينه ويتقيد بحاله، وهو موقف لكنه لا يفتى به كل الناس؛ لما في ذلك من تعجّل في الحكم على المجتمعات بالهلاك وتغييب للخير الذي قد يكون موجودا وبكثرة، لكن الإحباط وسرعة اليأس إلى النفوس يجعل الإنسان يتعجل في الحكم في أمر له فيه سعة، ويؤكد ما قلنا ما روي عن الصحابة -رضوان الله عليهم- من الإنكار على من سارع بالعزلة وانفصل عن المجتمع، وقد فسر بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليك بخاصة نفسك)) بفرض العين وما تعرف من نفسك مشروعيته، فهذا لا يمنع أن تشارك الناس فيه إذا اتضح لك وتترك المتشابه، وهنا لا إشكال، ويشهد له ما مر معنا من النقل عن ابن المبارك رحمه الله.

 وكل الأحاديث تدور حول اعتزال الفتنة، ولكنها لا تتناول أعمال الخير ولا أعمال البر، ولا ترشد إلى تركها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))([6]).

فهذا هو الأصل المحكم الذي لا ينبغي لمسلم أن يحيد عنه، ولا أن يزهد فيه، وغيره استثناء إن جاز فإنما هو في حق أعيان الناس، لا في حق العموم؛ بدليل أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) سنن ابن ماجه (4032)، قال الشيخ الألباني: “صحيح”.

([2]) ينظر: تفسر القرطبي (10/ 361).

([3]) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 362).

([4]) صحيح البخاري (3411).

([5]) ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 111).

([6]) مسند الإمام أحمد (13374).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

التداخل العقدي بين الطوائف المنحرفة – الشيعة والصوفية أنموذجًا –

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أولًا: المد الشيعي في بلاد أهل السنة: من أخطر الفتن التي ابتُليت بها هذه الأمة: فتنةُ الشيعة الرافضة، الذين بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، الذين يشهد التاريخ قديمًا وحديثًا بفسادهم وزيغهم وضلالهم، الذين ما سنحت لهم فرصة إلا وكانت أسلحتهم موجَّهة إلى أجساد أهل السنة، يستحلّون […]

الحجاب.. شبهات علمانية، عرض ونقاش

  الهجوم على الحجاب قديم متجدِّد، ولا يفتأ العلمانيون والليبراليون من شحذ أقلامهم دائما في الصحف والمواقع والمنتديات الثقافية للكتابة عن الحجاب وحوله، سالبين بذلك حتى أبسط الحقوق التي ينادون بها، وهي الحرية. فالمسلمة التي تلتزم بحجابها دائما عندهم في موطن الرَّيب، أو أنها مضطهَدة، مسلوبة الحقوق والإرادة، ولا يرون تقدُّما علميًّا أو فكريًّا أو […]

الدِّيوان الصوفي.. نظريةٌ بدعيةٌ وخرافةٌ صوفيةٌ

ما الديوان الصوفي؟ يصوِّر الفكر الصوفي أن لهم مجلسًا يطلَق عليه اسم: (الديوان الصوفي)، وهذا المجلس النيابي تمثَّل فيه أقطار الدنيا من النخبِ الممتازة من الصوفية، وهو حكومةٌ باطنيةٌ خفيَّة يرونَ أن عليها يتوقَّفُ نظام العالم، ويتخيَّلون انعقاده في غار حراء خارج مكة، وفي أماكن أخرى أحيانًا؛ ليدير العالم من خلال قراراته، ويجتمع فيه سائر […]

المنهج النبوي في معالجة المواقف الانفعالية عند الأزمات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إنَّ الأزمات والفتن النازلة بالمسلمين تدفع بعض الغيورين إلى اتخاذ مواقف انفعالية وردود أفعال غير منضبطة بالشرع، ومن ذلك إصدار الأحكام والاتهامات تحت وطأة الغضب والحمية الدينية. ومعلوم أن لهذه المواقف آثارا سلبية منها: أنها تؤثر على تماسك المجتمع المسلم ووحدته، لا سيما في أوقات الشدة والفتنة واختلاف الآراء […]

المحرم وعاشوراء.. شبهات ونقاش

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: هذا الدين العظيم يجعل الإنسان دائمًا مرتبطًا بالله سبحانه وتعالى، فلا يخرج الإنسان من عبادة إلَّا ويتعلَّق بعبادة أخرى؛ لتكون حياته كلُّها كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، فلا يكاد […]

فتاوى الدكتور علي جمعة المثيرة للجدل – في ميزان الشرع-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: في الآونة الأخيرة اشتهرت بعض الفتاوى للدكتور علي جمعة، التي يظهر مخالفتُها للكتاب والسنة ولعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين، كما أنها مخالفة لما أجمع عليه علماء الأمة في كل عصر. ولا يخفى ما للدكتور من مكانة رسمية، وما قد ينجرّ عنها من تأثير في كثير من المسلمين، […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017