النشاط الأشعري المعاصر…قراءة في البعد الاجتماعي الديني
للتحميل كملف pdf اضغط على الأيقونة
مقدمة:
تعدُّ الظاهرة الدينية من أقدم الظواهر التي عرفها الإنسان في هذه الدنيا، فهي جزء من وجوده، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، فالإنسان متديّن بطبعه، وعلى ذلك جبله الله سبحانه، وجعل من الوحي موجهًا له في أقواله وأفعاله وكلّ شأنه.
ولما كانت الظاهرة الدينية بهذه المنزلة وهذا الارتباط الوثيق بالإنسان كان البحث في شأنها أو محاولة تغييرها أو إخراجها عن سياقها أمرًا في غاية الخطورة؛ لما له من أثرٍ في واقع الناس، وإنما يكون النظر فيها إذا توفرت جملة أمور كصحَّة القصد ابتداءً وسلامة البواعث الداعية للنظر، ثم فهْم مكونات الظاهرة بحيث يمكن تحصيلها وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وإلا فإنَّ الخطأ في هذا مؤذنٌ بفساد عريض، وفي الحديث: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ»([1])، ومن عرف مقاصد البعثة النبوية وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم نقل المجتمع الجاهلي مما كان فيه ليكون مجتمعًا صحيح التوجُّه والسُّلوك، متجرِّدًا في كلّ غاياته لله سبحانه عرَف مقصد دراسةِ هذه الظواهر وأهمية ذلك.
في كلّ مجتمع من المجتمعات هناك -في تعبير علم الاجتماع- صفوةٌ تقوده وتوجِّهه، وهذه الصفوة قد تكون دينية أو سياسية -وهما مادة الحكم-، وعادة ما يكون لظهورها سياقٌ موضوعيّ وأسباب مجتمعيّة. وكما هو مقرر في علم الاجتماع فكما أن لظهورها أسبابًا، كذلك لذهابها واستبدالها أسبابٌ، وليس شأن الناظر هنا الوقوف عند هذا الحدِّ من الإدراك، وإنما العناية بمعرفة الأسباب التي تدعو لذهاب صفوة وظهور غيرها، علمًا أنَّ هاتين الصفوَتين قد تجتمِعان وقد تفترقان، ولهذا سياقاتٌ واقعيّة؛ مما يجعل من اجتماعهما وافتراقهما حالة تكتنفها جملة من الأحكام، كما تندرج في توصيفها جملةٌ من المصطلحات، منها مصطلح “التوظيف”، والذي يطلق غالبًا في سياق الذمّ على اعتبار أنه -أي: التوجيه- يذهب بفاعلية الظاهرة الدينية، وقدرتها على الإصلاح، فضلا عن ضعف القصد وخشية المآلات، وإن كان ما تقدّم صحيحًا في اعتبار معيَّن، إلا أن التوظيف كما يحتمل التوجيه السلبي يحتمل التوجيه الإيجابي، ولكلا الحالتين أمثلة في التاريخ، ومن جانب آخرَ فإنَّ توظيف الظاهرة الدينية قد يكون متأخرا عن أسباب ظهورها، فلا تلازم بينهما.
شهدت الظاهرة الدينية في العقود الماضية ظهور السلفية كمادة للتغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، وكان لهذا الظهور أسبابٌ موضوعية، وقد شهد ظهورها أحداثًا جسامًا في الأمّة جعل منها محلَّ امتحان، نرى اليوم آثاره والتي من أبرزها ظهور ظاهرة دينية جديدة تعمل على إعادة إحياء المدارس التقليدية في الفقه والعقيدة والسلوك، وكغيرها من الظواهر لفتت أنظار الباحثين.
وكان مما وقفت عليه مؤخرًا كتاب: “النشاط الأشعري المعاصر: السمات ومكونات الخطاب والعلاقات” للباحث الشيخ محمد براء ياسين حفظه الله، وهو بحث نافع وعمل جادّ، بذل فيه جهدًا ملحوظًا، دلَّ على سعة اطلاعه وحسن بيانه وجمعه، والكتاب على اختصاره إلا أنه فتح أبوابًا للنظر في هذه الظاهرة الجديدة، فأحببتُ أن يكون لي إسهام في هذا الباب، فاخترت أن أكتب فيه قراءةً مختصرة في البعد الاجتماعي الديني، حيث اجتمع في الكتاب جملة من معانيه تحتاج إلى جمع ونظم وتحليل؛ رجاء الفائدة منها، وسأجعلها في عناوين مترابطة مندرجة توضِّح المقصود بإذن الله، وعليه فكلّ إحالة هي للكتاب المذكور، هذا وأسأل الله التوفيق والسداد.
الانبعاث الأشعري: السابق واللاحق:
تقدَّم أن ظهور ظاهرة دينية معينة إنما يكون لأسباب، ولا يلزم من ذلك حقٌّ أو غيره، على أن محلَّ العناية هو دراسة أسباب الظهور أو الضمور لمعرفة الواقع وتقديم العلاج له، وعند النظر في أدبيات “النشاط الأشعري المعاصر” ترى نوع قصور في التعامل مع الظواهر الدينية، ومنها ما يتعلق بسياق ظهور الأشعرية قديما وحديثًا، وليس مقصود الإشارة هنا لفت الانتباه لهذا القصور، وإنما محلّ العناية هنا آثار هذا القصور في التعامل الواقع وما فيه من اختلاف، كذلك ما قد يؤدّيه هذا القصور من توظيف غير حسن وتجاوز الحقّ في التعامل مع المخالفين، وقد وقف الباحث -وفقه الله- في كتابه على مواضع تدل على المعاني المتقدمة، من ذلك:
قول علي جمعة: “العلماء قاطبة يطلقون على السادة الأشاعرة أنهم أصحاب المذهب الحق، فكانوا أحق بها وأهلها، واستقر التدريس في كل معاهد العلم العريقة في الأمة الإسلامية؛ مثل الأزهر الشريف والزيتونة والقيروان على تدريس مذهب السادة الأشاعرة؛ اعترافا من المحققين من علماء الأمة بأنه المذهب الحق” (ص: 88-89).
من خلال هذه الفقرة من كلام علي جمعة يظهر حجم الوثوق الذي يظهره “النشاط الأشعري المعاصر”، وهذا وإن كان لا يختصّ بهم إلا أنهم اعتمدوا على مجرد الانتشار وجعلوا منه ركيزة في التأسيس للعودة إلى الواقع، وقد غاب خلف هذه الدعوى الأسباب الموضوعية في انتشار المذهب الأشعري، وتعلقه ابتداء بتبني الخلفاء والأمراء له حتى أصبح مذهب الدولة، وقد بنوا على ذلك أحقية المذهب الأشعري بالاعتماد والظهور ووجوب الالتزام، وقرروا وجوب الدعوة إليه على الحكام والعلماء، من ذلك قول نزار حمادي معلقا على زيارته لجامعة الإمام أبي الحسن الأشعري في داغستان: “هكذا تكون خدمة مدرسة أهل السنة، ولعلك لو فتشت العالم العربي من شرقه إلى غربه في عصرنا ما وجدت جامعة بهذا الوضوح في المقاصد وكمال الانتظام وحسن الإعداد… القائمون على جلّ الحكومات العربية والأثرياء العرب قادرون على إنشاء أفضل الجامعات وتخريج أذكى العلماء، ولكنهم مخذولون ممنوعون من ذلك، أصيبوا بداء البخل والشح مع الجهل المركب والنفاق، إلا من رحم الله تعالى” (ص: 35).
وكما هو واضح فقد انعكس هذا الشعور على المقاربات الواقعية، حيث امتازت بالصدام، من ذلك اتهام العلماء الذين لا يجرون على طريقهم بأنواع الاتهامات، من ذلك قول سعيد فودة في الثناء على العلاء البخاري: “فلم يمالئ الناس على حساب الدين وأحكامه، ولم يكن يبتغي رضا الحكام ليصلح أموره الدنيوية كما تراه في كثير من مشايخ الزمان” (ص: 73). ومثل هذا يوقفك على الاستعداد الشخصي والنفسي لدى أبناء هذا التيار، وقدرتهم على استيعاب المخالفين لهم وإدارة الخلاف، وقد انعكس هذا على واقع الناس اليوم حتى بلغ إلى إصدار قرار بمنع لباس معين!
وقد ظهر -كما تقدَّم- في أدبيات “النشاط الأشعري المعاصر” الجهلُ بأسباب الظواهر الدينية في ظهورها أو ضمورها، ولما كانوا يعتقدون في طريقتهم أنها الحق، وأن ما عداها الباطل؛ فسروا ظهور السلفية بأسباب بعيدة عن الواقع، تذهب بالقدرة على صحّة المعالجة للظواهر أو معرفة الحق عند الاختلاف، من ذلك ما ذكره الباحث -وفقه الله- عن محمد زاهد الكوثري في ردٍّ له على الأستاذ محب الدين الخطيب: “فأنت تعلم -وكل الناس يعلمون- أن كتب سلفكم في مراحل الدعاية في بلاد السنة إنما كانت أول محطة تحط فيها قبل سنوات قلائل هي المطبعة الفرجية للشيخ فرج الله الكردي ذاك السلفي المشهور، فهو يقوم بطبعها وإذاعتها، ويأبى بقية الطابعين بمصر وغير مصر أن يقوموا بدعايتهم إلا تحت مستعار الكنى ومختلف الألقاب، أهذه سلفيتكم المحتجبة ثلاثة عشر قرنا؟! ولماذا كانت تتوارى بالحجاب يوم كان للإسلام قوة وشوكة وحول وطول؟!” (ص: 131).
وغالب كلام النشاط الأشعري المعاصر لا يخرج عما قاله الكوثري في تكييف الظاهرة السلفية، وأول ما يظهر في تعاملهم مع ظهور السلفية هو غياب التفسير التأريخي لعلاقة السلفية بدعوة الإسلام وعلاقتها بالأشعرية، فيظهر من كلام الكوثري مصادرة شرعية السلفية من الأصل، حيث جعلها مستترة مدة ثلاثة عشر قرنا هي عمر دعوة الإسلام نفسه في ذلك الوقت!! وأما أن السلفية ظهرت عندما ضعف الإسلام فهذه أيضا مصادرة، ومن عرف التاريخ عرف أن الأشعرية بأصولها العقلية ظهرت عند ضعف الدولة الإسلامية وضعف مدرسة أهل الحديث، وقد أشار إلى نحو هذا عدد من علماء ذلك الوقت، ومن طالع مقدمات كتبهم وقف على ذلك، كمقدمة ابن خلاد الرامهرمزي لكتابه: “المحدث الفاصل”، ومقدمة الخطابي لكتابه: “معالم السنن”، وما راج مذهب الأشعرية يوم راج وانتشر إلا لتعلقه بالإمام أحمد رحمه الله، ومع هذا فإن ضعف الدولة الإسلامية تاريخيًّا هو سبب مباشر لهذا النوع من الحركات العلمية، وليس الكلام عن السبب، وإنما الكلام عن هذه الحركة العلمية ومقدار إجابتها عن الواقع الجديد، وهنا يظهر الفرق الكبير بين ظهور السلفية في الوقت الذي أشار إليه الشيخ الكوثري، وبين الانبعاث الأشعري الجديد ومقاصده.
الانبعاث الأشعري: قراءة في المقاصد:
مثلت الأحداث التي مرت بها المنطقة بداية من حرب الخليج إلى ما يعرف بالربيع العربي سببًا للفت الانتباه إلى السلفية، حيث قوِّم الواقع تقويما يجعل من السلفية سببا في الإرهاب، وعلى هذا خرجت التوصيات من المراكز البحثية الغربية بمحاربة السلفية فكريًّا، ومن ذلك إيجاد البديل لها، ومن نظر في المنطقة منذ ذلك التاريخ رأى تغييرا في الواقع؛ من إنشاء مراكز إلى تأسيس روابط وعقد مؤتمرات ومنع كتب معينة بل ولباس معين، في جملة أعمال كلها تأتي في السياق السابق، وقد أشار الباحث -حفظه الله- إلى هذه الثنائية بقوله: “وقد نظر إلى النشاط الأشعري المعاصر عقب مؤتمر الشيشان على أنه نشاط لديه قابلية للتوظيف لمواجهة روح المقاومة للقوى الغربية، ووجه ذلك أن عنصر الخصوصية الشديدة للسلفية لدى النشاط الأشعري المعاصر يمكن توظيفه لإخماد روح المقاومة للقوى العالمية؛ لكون السلفية من روافد هذه الروح المقلقة دوليًّا ومحليًّا” (ص25).
ومن تأمل في أدبيات “النشاط الأشعري المعاصر” رأى أنهم مدركون لما تقدم تقريره، وقد قدموا إجابات متعددة عن مسألة التوظيف، من ذلك قول سعيد فودة في الإجابة عن سؤال متعلق بانعقاد مؤتمر الشيشان: “المهم في المؤتمر أنه لم تمارس حكومة البلاد أي ضغوط سياسية ولا توجيهية على العلماء والمشاركين فيه، ولم يحدث شيء من الإملاء والتوجيه أبدا، وإنما لا أقبل بذلك لنفسي أبدا” (ص: 26). ومثل هذا الكلام إن كان صِدقا فهو يعبّر عن غفلة عظيمة، وإلا فأي توجيه يمكن أن يمارس أكثر مما جرى؟! وأي نتائج تؤمل أكثر مما كان؟! فهي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من توصيات مراكز البحث الغربية، بل زادت عليها، ولكن كيف نفسر هذا التعالي الذي يمارسه “النشاط الأشعري المعاصر” تجاه مسألة التوظيف؟!
للإجابة عن هذه المسألة لا بد من النظر في مقاصد الانبعاث الاشعري؛ حيث جعلوا مجرد العودة إلى الواقع مقصدا لهم ولو كلفهم ذلك تأويل مجريات الأحداث، وعند ذلك غابت عنهم كثير من المقاصد الشرعية، كما غابت فلسفة التاريخ وأسباب الظهور والضمور، واكتفوا بادعاء الحق للأشعرية في الظهور، ومن نظر في نتاجهم رأى أنه مقتصر على البعد الفلسفي والكلامي، وقد ذكر الباحث -وفقه الله- جملة من نشاطات “النشاط الأشعري المعاصر”، وهي لا تخرج عن علوم المتكلمين التقليدية، وهذا يجعلك تتساءل عن قدرة هذا النشاط على مجاراة الواقع وتقديم جواب عن سؤال النهضة، فضلا عن قدرتهم على البعث الحضاري، وهذا من الفوارق المهمة بين النشاط الأشعري المعاصر والانبعاث السلفي، والذي كان انبعاثا أملاه الواقع.
ومن نظر في بواعث العلماء المصلحين على مرّ التأريخ رأى أنهم وجدوا في السلفية ملاذا لهم في تغيير الواقع وتقديم الإجابة من مجرياته، وقد تجاوزوا في طرحهم الفلسفة ومضائق الكلام كما هي عادة الشعوب التي تنشد التقدم، وبالعودة إلى السؤال المتقدم حول تعالي “النشاط الأشعري المعاصر” عن الإقرار بمسألة التوظيف، فمما دفعهم إلى هذا -وهو من بواعثهم المهمة- عداؤهم غير المبرر للسلفية حتى غلب على خطابهم وذهب باتزانهم، بل أوردهم موارد غير شرعية حيث تاهت أولوياتهم في التعامل مع المخالفين، وقد رصد الباحث في مواضع من كتابه هذه الحالة، فمن ذلك قوله: “فإن عدم التوجيه أو الإملاء أو التبعية لا ينفي الوعي لدى القوم بالغايات التي تقصدها تلك الجهات المحلية والدولية من دعمهم، بل والسعي لتحقيقها، ومن جملة تلك الغايات الواضحة إضعاف السلفية؛ لأن الحسابات الأشعرية المعاصرة تؤدي إلى أن إضعاف السلفية مهمة نبيلة وعمل صالح؛ إذ هو إضعاف لمبتدعة لن ينتصر الإسلام مع قوتهم” (ص: 28).
وفي سبيل العداء للسلفية سعى “النشاط الأشعري المعاصر” إلى إلصاق التهم بها، كادعاء أن السلفية كرست الانقطاع بين أجيال الأمة وعشرة قرون مضت (ص: 133)، وأول ما تقف عليه في مثل هذه الدعوى هو عدم فهم الظاهرة السلفية، وفهم دعوتهم التي تقوم بتجاوز جملة من التراتيب التي عرضت ووجدت في واقع الناس كالجمود والتقليد، فضلا عن الإغراق في علم الكلام والفلسفة والذي ذهب بفاعلية الأمة. ثم لو كان الأمر يدور بين اعتبار جيل من أجيال الأمة، فأيهما أولى بالذم: من قطع الأمة عن علوم القرون المفضلة والتي شهد لها الوحي بالخيرية، أم من قطعها عمن بعدهم -وإن كان هذا غير صحيح-؟! فإن ما فعلته السلفية لا يتعدى وضع معايير لإعادة علوم الوحي إلى فاعليتها من خلال إعمال النص والذهاب بالمعارضات الواردة على محل الاستدلال به، وهذه عدة المصلحين على مرّ التأريخ، وإلا فهذه المدونات العلمية ما زالت متداولة بين أيدي الناس.
وقد ذهب “النشاط الأشعري المعاصر” إلى الفجور في الخصومة من خلال أدبيات خطابهم وما فيه من السب والشتم، من ذلك وصف سعيد فودة للسلفيين بأنهم: “أجهل من التيس في زريبته، وهؤلاء معطلون لعقولهم، ولا ينظرون، وليس فيهم أي قابلية للنظر مهما كان بسيطا”، وقال: “وإذا سألتهم عن أصول الاستدلال تراهم أجهل من الحجارة” (ص: 138)، إلى غير ذلك من الكلام الذي يوقفك على مقدرة أمثال هؤلاء على تقديم مقاربات واقعية تستوعب المجتمع، وفي ذات السياق فقد ذهب عداؤهم غير المبرر للسلفية وغياب إدراكهم للواقع إلى الإخلال بالأولويات؛ حيث قدموا عداء السلفية على مواجهة المشاريع الشيعية في المنطقة، وقد عللوا ذلك بأنه: “لا يمكن ذلك أن يتم في ظل وجود السرطان المسمى بالوهابية وأدعياء السلفية في جسد أهل السنة، ولكنه سرطان عقيم وعما قريب يزول بإذن الله” (ص: 158).
ظاهرة الغلو في فكر النشاط الأشعري المعاصر:
لم يفوت النشاط الأشعري المعاصر فرصة في إدانة خصومه إلا استغلها، ففي انتشار ظاهرة الغلو وإلصاقها بالسلفية على وفق ما ذكرته مراكز البحث الغربية سعى كثير من أبناء هذا التيار إلى استغلال هذه الفرصة في ذم السلفية وعلمائها، حيث يعتبر سعيد فودة “داعش” نتيجة حتمية للسلفية، كما يرى الجفري أن ابن تيمية -رحمه الله- هو أساس “داعش” ومن فكره خرجت (ص: 77، 78)، وهذا القول منهم وهذه التهم وإن كانت تأتي في سبيل الخصومة إلا أنها تعود على أبناء “النشاط الأشعري المعاصر” بالذم، فمن جهة يظهر غياب المقصد الشرعي في توصيف هذه الظاهرة والذي يتعالى عن مثل هذه الأخلاق، كما يظهر من جهة ذم التراث نفسه، والذي يعظمه أبناء هذا التيار، فجعل مجرد التشابه كافيا للإلحاق، والأصل أن ينشغل أبناء هذا التيار إن أحبوا خوض غمار التصنيف والإلحاق بأمور، منها: بيان علاقة الدين نفسه بظاهرة الغلو، ومكانته فيها، وتفكيك هذا التركيب، وقد تقرر أن الغلو سلوك إنساني له عوامل وأسباب تظهره وتخرجه عن حد الاعتدال، كما كان عليهم أن يفرقوا بين السلفية كبعد معرفي وبين السلفية كنظام تديّن، حيث تقرر أن نظام التدين يدخل فيه ما ليس منه، فوجود تيارات الغلو له أسبابه الموضوعية، ووجود بعض أدبيات السلفية فيهم إنما يعود في بعض الأحيان للبيئة التي ظهرت فيها، كما أن السلفية مثلت في العقود الماضية مادة التدين والتغيير في المجتمع، ولكن السؤال: هل في أدبيات النشاط الأشعري المعاصر ما يمنع الغلو؟ وهل قدموا مقاربات تعين على ذلك؟ خصوصا أنهم لم يمتَحَنوا في الواقع اليوم لانزوائهم في العقود القريبة الماضية، وإلا فمن عرف ظاهرة الغلو وعلاقة الدين بها عرف أن التدين الأشعري كغيره يمكن أن يؤسّس لهذه الظاهرة، ولا يمنع منها، بمعنى أن المكون الديني في الغلو يتحقّق بوجود الأشعرية كما يتحقّق بغيرها.
وهنا أنبه على مسألة مهمة وهي: أن التيارات التي شكلت التدين عند الناس في العقود الماضية قد قدّم أهلها مقاربات تجاه قضايا الواقع كالحكم بغير ما أنزل الله، وحكم العمل بالقوانين الوضعية، وأنواع الدول وغير ذلك، وعلى أساس ما قدموا بنيت مشاريع إصلاحية في الواقع، وهذا كله خارج عن نطاق الظاهرة الأشعرية المعاصرة، فليس لهم مقاربات فيها، بل إن بعض ما قرره أبناء النشاط الأشعري المعاصر يؤسس للغلو، كما في تقرير سعيد فودة لحكم الدول التي تحكم بالقوانين (ص: 28)؛ ولذلك فإن ما أظهره النشاط الأشعري المعاصر من استغلال لهذه الظاهرة هو في حقيقته خروج عن المقاصد الشرعية المعتبرة أوجبته الخصومة غير الشرعية.
المذهبية في فكر النشاط الأشعري المعاصر والفجوة الحضارية:
اتَّخذ “النشاط الأشعري المعاصر” من الدعوة إلى المذهبية ركيزة لدعوتهم والعودة إلى الواقع اليوم، وقد قادهم هذا إلى نقد التفقّه السلفي الذي شكّل تديّن الناس في العقود الماضية، على أن هذا النقد كما هو في سائر شؤون هذا التيار اتّسم بالحدة والمبالغة والخروج عن الشرع، وقد ظهر هذا في أمرين:
الأول: تقويم التفقه السلفي: فقد وصفه أبناء هذا التيار بأنه تفقّه شاذ، من ذلك قول سعيد فودة: “وهم فعلا لا يتّبعون أحدًا من هؤلاء العلماء الأجلاء، بل هم مخالفون لهم، وهم يقولون بما لا يقله واحد منهم، وكل واحد منهم مذهب قائم بذاته… وإذا سألتهم عن أصول الاستدلال تراهم أجهل من الحجارة” (ص: 138). ومثل هذا التقويم فيه من الغلو والبعد عن الحق ومجافاته الشيء الكثير، ومن نظر في أدبيات “النشاط الأشعري المعاصر” لم ير توصيفا للتفقه السلفي يبيّن حقيقته، والمنهج الفقهي الذي دعت إليه السلفية، ومراتب التفقه عندهم، بل والاختلاف بين المدارس السلفية في هذا الباب، وهذا بطبيعة الحال قصور ممّن تصدّى لنقد ظاهرة دينية انعكس على واقعهم. فهذه الدعوة الصلبة التي ينتهجها “النشاط الأشعري المعاصر” تصطدم مع المؤسسات الفقهية في العالم، كالمجامع الفقهية في العالم الإسلامي، والجامعات والمعاهد بل والمنابر الإسلامية عامة، حيث تؤسس بهذه الطريقة إلى نوع من الصراع، والذي بدأنا نعيشه اليوم.
وأما الأمر الثاني الذي انتهجه “النشاط الأشعري المعاصر”: فهو إلصاق التهم بالسلفية كما تقدم، حيث اتخذوا من ذلك وسيلة لصرف الناس عنهم، والذي أود الإشارة إليه في معرض ذكر هذه المسألة أن هذا النوع من الصراع يذهب بكثير من أولويات التفقه الذي تحتاجها الأمة اليوم، حيث تعاني الأمة من فجوة حضارية لا تذهب بها هذه الدعوة، فمن نظر إلى النوازل المعاصرة رأى أنها بنيت على الفقه الأصيل، وهو الذي جرى عليه العمل في المجامع الفقهية كما تقدم، فمقتضى تلك الدعوة ترك هذا الكم الهائل من الاجتهادات، مع عدم القدرة على إيجاد البديل كالتخريج على أصول المذاهب وفروعها، والأصل أن التفقه من حيث هو نظام تدين أن يعالج الواقع ويستوعب الحضارة ويتجه نحو العمران، لا أن نجعل من المشكلة الحضارية مشكلة دينية، فمشكلتنا ليست دينية.
ومن جانب آخر فإن الحاجة إلى العودة إلى المذاهب لدى “النشاط الأشعري المعاصر” جعلتهم يتجاوزون كل نقد وجهه أهل العلم للمذاهب كوجود الجمود والتقليد، وهذا أمر ملازم لكل نظام تدين؛ حيث يتعلق بحركة المجتمع وتفاعله مع النص وتشابه الحاجات والاستعدادات لدى الناس، وإنما أوجب لهم هذا بالإضافة إلى ما تقدم بيانه خلوُّ هذا الانبعاث من فكرة الإصلاح التي نادى بها أهل العلم في مطلع القرن الماضي، بل رأوا فيها انحسارا لنفوذهم حيث قامت على نقد المذهبية، ومن أشهر من نادى بذلك من المتأخرين شيخ الأزهر محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا -رحمهما الله-، وكتاب “حوارات المصلح والمقلد” لرشيد رضا شاهد بذلك؛ ولذلك يوجه لهم نقدا شديدًا في أروقة ومعاهد هذا التيار.
وهنا نأتي إلى علاقة “النشاط الأشعري المعاصر” بابن تيمية -رحمه الله- حيث يعد ابن تيمية العدو الأول لهم، وقد اتخذوه غرضا لهم وهو أمر لا يخفى، وقد خصص الباحث -وفقه الله- مواضع في كتابه لرصد هذا العداء، منها المبحث الثالث والذي عنونه بـ: “العدائية لشيخ الإسلام ابن تيمية”. وبعيدا عن تفاصيل الكلام في هذا المبحث، إلا أن هذا العداء ذهب بفرصة كبيرة للإصلاح المجتمعي وبعث روح التجديد، فقد ظهر في أدبيات “النشاط الأشعري المعاصر” جهل كبير بنزعة التجديد عند ابن تيمية -رحمه الله- وظروف ذلك العصر، حيث كان عصرا مؤهلا لظهور دعوة إصلاحية، فقد بلغ المسلمون مبلغًا من ضعف الروح ووهن العقيدة ظهرت آثاره في سقوط الدولة الإسلامية على يد التتار، كيف لا يكون كذلك وقد أصبحت العقيدة مباحث فلسفية جدلية انحصرت في الكتب، فضلا عن تجريد الأسماء والصفات من معانيها وبالتالي آثارها في نفوس المسلمين وقلوبهم، ومن نظر في “النشاط الأشعري المعاصر” رأى أن أكثر ما شددوا عليه اليوم هو إعادة ما كان يميز المدرسة الأشعرية قبل ابن تيمية -رحمه الله-، ولا أدري هل كانت الأمة تنتظر العودة إلى الاستغاثة بغير الله سبحانه فيتعلّق القلب بغير خالقه ومولاه فيركن إلى ضعف، أو التوسل بالصالحين؟! وهل في هذا خروج من التيه الحضاري الذي نحن فيه؟! وهل من ينادي بمثل هذا مؤهل لقيادة الأمة في هذه المرحلة مع مثل هذا الوعي؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
كتبت المقدمة بأسلوب علمي رصين كم نحن بحاجة إلى مثله في الردود العلمية بدلا من تبادل العبارات غير اللائقة
ومؤتمر الشيشان مكيدة ربما لم يدرك أبعادها أكثر المشاركين فيه مادروا أن روسيا تنتقم من المسلمين بكل وسيلة لأنهم أذاقوها مرارة الهزيمة في أفغانستان…
اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدا