علم الكلام بين السّلف والخلف
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:
تمثل الثقافة المستوردة من غير المسلمين والعلوم الأجنبية عن الشريعة إشكاليةً في منهجية التعاطي معها من حيث التمييز بين شيئين:
الأول: ما هو من قبيل العلوم والمعارف الإنسانية المشتركة التي ما زالت الأمم تتقارضها مع بعضها البعض، دون أن تتنازل عن مقوماتها وخصائصها الفكرية الأصيلة، كالعلوم الطبيعية والرياضية ونحوها.
الثاني: ما هو من قبيل العلوم المزاحمة للوحي في مجال تأثيره، بحيث يعد الاشتغال بها مؤثرًا في مركزية الكتاب والسنة كمصدرٍ حاكمٍ على ما سواه، سواء في العقيدة، أو العمل، أو السلوك.
ورفضُ هذه الأخيرة هو أحد سمات المنهج السلفي في الاستدلال، أعني: الاستدلال بالكتاب والسنة، ورفض التأويلات الكلامية والفلسفية، والتي كانت في الحقيقة أحد تجليات التأثر بالثقافة المستوردة المتمثلة حينها بكتب المنطق اليوناني وفلسفة الأوائل.
والغرض من هذه الورقة إبراز موقف السلف من علم الكلام، وتشديدهم في النهي عنه، مع بيان ما قصدوه بذمهم، وقبل ذلك تعريف علم الكلام، والفرق بينه وبين الفلسفة والمنطق؛ لما بين هذه العلوم العقلية الثلاثة من تقارب وتداخل.
أولا: المنطق:
المنطق: صناعة عقلية تستخدم في ترتيب طرائق التفكير وتصحيح مناهج الاستدلال، أو كما عرفه أصحابه: “آلة قانونية تعصم مراعاتها الذِّهن عن الخطأ في التفكير”([1]).
فهو آلة لضبط غيره من العلوم، وليس علمًا يراد لذاته، ويعتبر أرسطو (348-322 ق. م) واضع علم المنطق، وأول من جرّد الكلام في مباحثه؛ ولذا يسمى بالمعلم الأول، وقد اعتنى الفلاسفة العرب بكتاباته المترجمة، وعلى رأس هؤلاء نصر الفارابي (ت 339هـ)، ومن بعده ابن سينا (ت 428هـ)، ومن بعدهما ابن رشد (ت 595هـ) من فلاسفة الأندلس.
وما زال هذا المنطق اليوناني الأرسطي مذمومًا عند علماء المسلمين، لا يستخدمه الفقهاء، ولا الأصوليون، ولا حتى المتكلمون المتقدمون من المعتزلة والأشاعرة؛ لأن أدلتهم الكلامية التي يتوصَّلون بها لإثبات العقائد الدينية معارضة للمنطق الأرسطي الذي قامت عليه الميتافيزيقا الأرسطية، وقبول أحدهما يبطل الآخر، فلو صحَّحوا المنطق لبطلت أدلتهم، وللزم من ذلك بطلان العقائد التي هي مدلول هذه الأدلة([2])، حتى جاء أبو حامد الغزالي رحمه الله (ت 505هـ) فخلط علم المنطق بعلوم المسلمين في الأصول والعقائد، ويكاد يتفق الباحثون على أن الغزالي هو أول من روَّج وأصَّل لذلك([3])، ومن بعده فشا أمره، خاصة في مصنفات أصول الفقه، أو كتب الكلام والعقيدة الأشعرية، خلافًا لما كان عليه المتكلمون الأوائل([4]). ولكن هذا لا يعني أن كل الفقهاء بعد الغزالي قبلوا بدعوته، بل منهم من وقف منها موقفًا رافضًا عنيفًا، كابن الصلاح رحمه الله، والذي أصدر فتواه الشهيرة في تحريم علم المنطق، ودعا ولاة الأمور لمنع تدريسه في المدارس العلمية، وإخراج من يدرسه.
ولكن موقف الفقهاء الرافضين والمحرِّمين لم يتطرق لدراسة نقدية موضوعية للمنطق، باستثناء الدراسة النقدية التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه (الرد على المنطقيين)، والذي وصفه الدكتور علي النشار -أستاذ الفلسفة الإسلامية، وهو لاذع النقد لابن تيمية- بقوله: “أعظم كتاب في التراث الإسلامي عن المنهج، تتبع فيه مؤلفه تاريخ المنهج الأرسططاليسي والهجوم عليه، ثم وضع هو آراءه في هذا المنطق في أصالة نادرة وعبقرية فذة”([5])، والعبقرية هنا تتمثل في نقد المنطق، ليس باعتبار كونه علمًا محدثًا مقحمًا في الشريعة فقط؛ بل من منطلق كونه غير صحيح في ذاته، معارضًا للمنقول والمعقول معًا، معتبرًا أن القياس العقلي المنطقي لا يصلح دومًا وحصرًا برهانًا وقانونًا عامًا، ليس فقط في الإلهيات والمسائل الدينية، بل حتى في العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة، وهو ما يُعرف حديثًا بالمنطق التجريبي الاستقرائي، والذي كان سببًا في النهضة الأوربية الحديثة.
ويمكننا تلخيص اتجاهات العلماء المتأخرين ومواقفهم من دراسة علم المنطق في ثلاثة اتجاهات:
الأول: التحريم، وممن ذهب لذلك ابن الصلاح -رحمه الله- كما سبق، وله في ذلك فتوى مشهورة، وجمع السيوطي -رحمه الله- في ذلك كتابًا سماه: (صون المنطق)، وعمدتهم في ذلك أنه مدخل للفلسفة المحرمة، ومدخل الشرِّ شرٌّ.
الثاني: الجواز، بل جعله بعضهم فرضَ كفاية، وممن ذهب لذلك الغزالي -رحمه الله- الذي بالغ في ذلك حتى اعتبر أنه لا يوثق بعلم من لا يحسنه! كما قال في مقدمة كتابه (المعيار في المنطق): “لا يُفَرَّقُ بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب، فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعاير بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار”([6]).
الثالث: الجواز للمتمكن من علوم الشريعة، بحيث يأمن على نفسه من ضلال الفلاسفة المختلط بمنطقهم. وممن انتصر لذلك العلامة الأمين الشنقيطي في رسالته (آداب البحث والمناظرة).
والذي ينبغي تقريره في هذه المسألة ما يلي:
1- أن محل النزاع المذكور هو علم المنطق اليوناني الأرسطي، وليس مطلق استخدام الأدلة العقلية؛ فإن القرآن متضمن لأعظم الأدلة العقلية، واستخدام الفقهاء للقياس الفقهي هو نوع من إعمال الأدلة العقلية، واستخدام أئمة السلف لها في محاوراتهم ومناظراتهم معروف لكل من طالع كلامهم.
2- أن محل الذم هو في استخدام المنطق في الإلهيات ومسائل الشريعة، وليس المنطق الرياضي أو الطبيعي؛ فإن هذه من العلوم الدنيوية التي لا يحرم تعاطيها، وهذا بغض النظر عن صدقها في ذاتها من عدمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام… ونحن لم نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية” إلخ كلامه رحمه الله([7]).
3- أننا نقطع بأن علماء السلف لم يشتغلوا به، بل ذموه وهجروه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولهذا ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه، ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله”([8])؛ ولذا فمن الخطأ الواضح اعتباره فرض كفاية، أو مما لا يتمّ الاجتهاد إلا به كما ذكره بعض المتأخرين من المصنفين في الأصول.
4- المنطق المخلوط بفلسفة الأوائل لا ينبغي التردد في تحريم دراسته؛ لكونه مدخلا للفلسفة المناقضة للشريعة، ولا يستثنى من ذلك إلا من يدرسها لينقضها؛ فإنه لا يتمكن من ذلك إلا بعد التمكن منها، وهذا بشرط الرسوخ في علوم الشريعة، ولا يشكّ من طالع كتابات ابن تيمية -رحمه الله- في نقضه للمناطقة وأصولهم أنه لم يتمكّن من ذلك إلا بعد دراستها دراسة وافية.
وأما المنطق الذي خلصه بعض علماء المسلمين من شوائب الفلسفة الكفرية فإنه أخف شأنًا من سابقه، وقد كتب العلامة الشنقيطي رسالة في المنطق عنونها بـ: (آداب البحث والمناظرة)، وذكر فيها أنه خلَّصها من شوائب الفلسفة، وأن محلَّ التحريم ما كان مختلطًا بالفلسفة المحرمة، وذكر أيضا أنه لو لم تترجم كتب المنطق اليوناني لكان المسلمون في غنى عن تعلمه؛ فإنهم لا يحتاجونه في تقرير شيء من دينهم، ولكن لما اعتمد عليه النفاة والمعطلة صار يحتاج بعض المسلمين تعلمه للرد عليهم.
وكذلك اختلطت مصطلحات المنطق ببعض علوم الآلات، خاصة أصول الفقه، بحيث لا يتمكّن طالب العلم من فهم هذه الكتب بدقة إلا إذا فهم هذه المصطلحات، فيحتاج طالب العلم لشيء يسير من هذا مما هذَّبه علماء أهل السنة.
ثانيا: علم الفلسفة:
الفلسفة كلمة إغريقية تعني: (محبة الحكمة).
وفي الاصطلاح: علم الأشياء الكلية على ما هي عليه بحسب طاقة الإنسان، وهذا تعريف الكندي لها([9])، والحقيقة أنه لا يمكن تحديد تعريف واحد للفلسفة؛ إذ تختلف التعاريف بحسب نظر الفيلسوف واتجاهه الفلسفي، فالفلسفة عند الأوائل -كسقراط وأفلاطون وأرسطو- تختلف عن الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة، فضلا عن التباينات داخل كل اتجاه من هذه الاتجاهات الرئيسة، والفلسفة وفقًا لهذا الاتجاه علم يهدف للوصول لحقائق الأشياء وجوهرها عن طريق النظر العقلي.
وتبحث الفلسفة في ثلاثة مجالات رئيسة:
الأول: الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة)، ويتفرع عنها علم الإلهيات.
الثاني: نظرية القيم، ويتفرع عنها البحث في الأخلاق والسياسة والاجتماع والجمال.
والثالث: نظرية المعرفة، وهي تبحث في أصول المعرفة.
وذكر الغزالي -رحمه الله- أنها تشمل أربعة مباحث: الإلهيات، والطبيعيات، والرياضيات، والمنطقيات([10]).
والعلاقة بين المنطق والفلسفة هي علاقة الوسيلة والآلة بالغاية، فالمنطق هو الآلة التي يتوصل الفيلسوف من خلالها لإدراكاته في الأبواب المختلفة، وهذا يعني إفساح المجال للعقل ليحكم ويستدل على قضايا الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع دون حكم ديني مسبق، ولا حرج عليه في أي نتيجة يتوصل إليها من خلال بحثه؛ ولهذا أطبق العلماء من المتقدمين والمتأخرين على ذم هذه الفلسفة وتحريم تعلمها، وأقوال أئمة المذاهب متفقة على تحريم الاشتغال بعلم الفلسفة([11]).
وقد حاكمهم الغزالي -رحمه الله- في (تهافت الفلاسفة)، وضللهم في عشرين مسألة، حكم بكفرهم في ثلاث منها، وهي: قدم العالم، ونفي علم الله للجزئيات، وإنكار المعاد الجسماني.
والفلسفة بلا شك تمثل منهجًا ليس مزاحمًا فقط للإسلام، بل هو بديل عن الوحي المنزل الذي جعله الله نورًا وهدى للناس؛ ولذا لا يمكن الجمع بين الإسلام والفلسفة بهذا الاعتبار، والقول بأن فلانًا من فلاسفة الإسلام يقصد به أنه نشأ في بلاد الإسلام، وتأثر بديانة المسلمين في بعض مصطلحاتهم وعقائدهم، وليس أن هناك فلسفة إسلامية بهذا الاعتبار.
ثالثا: علم الكلام:
عرفه ابن خلدون في مقدمته فقال: “هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة “([12])، وعرفه الإيجي بقوله: “علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه”([13]).
الفرق بينه وبين الفلسفة:
يشترك علم الكلام والفلسفة في كونهما يعتمدان على المقدمات العقلية في إقامة البرهان، ولكن بينهما فروق يمكننا استخلاص بعضها، وهي:
1- من جهة الموضوع: فموضوع الفلسفة أعم من موضوع علم الكلام، فعلم الكلام لا يبحث في الطبيعيات ولا الرياضيات ولا غيرها من مباحث الفلسفة القديمة أو الحديثة، وإنما يهتم بجانب تقرير العقائد الدينية فقط.
2- منهجية البحث: يعمد المتكلم إلى نصرة العقائد الدينية الثابتة عنده كوجود الله، ووحدانيته والنبوة ونحوها بالأدلة العقلية، بينما لا يعتقد الفيلسوف شيئًا مسبقًا، فهو يستدل بعقله، ثم يعتقد بخلاف المتكلم.
3- من جهة النشأة: سبقت الفلسفةُ -بشكل عام- علمَ الكلام في الظهور، فهي ليست خاصة بأمة من الأمم، بل شاركت في بنائها كثير من الأمم، فوجدت الفلسفة الهندية القديمة، والصينية، واليونانية -وهي أشهرها-، والفلسفات الغربية الحديثة، وما كتبه الفلاسفة المنتسبون للإسلام، بخلاف علم الكلام؛ فإنه نشأ في البيئة الإسلامية؛ لأن غرض من أنشأه -بظنهم- دفع شبهات الملاحدة.
وهذه الفروق من جهة الأصل، وأما في الواقع العملي عند المتأخرين خصوصًا فكما يقول ابن خلدون: “ولقد اختلطت الطريقتان [طريقة الفلاسفة والمتكلمين] عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر”([14])، وسبب ذلك ما أشرنا إليه قبل قليل من مزج الغزالي للمنطق الأرسطي بعلوم المسلمين، ومنحه شرعية لدى قطاع واسع من علماء المسلمين، قال ابن خلدون رحمه الله: “وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم، ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلْمين، فحسبوه فيهما واحدًا من اشتباه المسائل فيهما”([15])، وأشار شيخ الإسلام إلى مثل ذلك([16]).
موقف السلف من علم الكلام:
لا يختلف الناقلون لمذهب السلف أنهم لم يشتغلوا بعلم الكلام، بل بالغوا في ذمه وتحريمه، وقد نقل الغزالي في الإحياء الخلاف في تعلم الكلام، ثم قال: “وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف”([17])، ثم بين -رحمه الله- عدم اشتغال الصحابة بذلك امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في الموضع نفسه: “وعلى هذا استمر الصحابة رضي الله عنهم، فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم”، فعلماء الكلام أنفسهم يقرون بأنه علم محدَث، وإن تكلف بعضهم فجعل الإحداث لمجرد الألفاظ والاصطلاح، أو تأول عدم اشتغال السلف بذلك لعدم الحاجة، فلما وجدت الحاجة لزم الاشتغال به، وهذه طريقة كثير من المنتصرين لعلم الكلام، كابن عساكر -رحمه الله- في دفاعه عن الأشعري في كتابه المشهور (تبيين كذب المفتري)([18]).
أقوال السلف في ذم علم الكلام:
أورد قدرًا منها الإمام أبو فضل المقرئ (ت ٤٥٤هـ) في جزء له بعنوان: (أحاديث في ذم الكلام وأهله)، انتخبها من رد الإمام أبي عبد الرحمن السلمي الصوفي (ت 412هـ) على أهل الكلام، يستحسن نقل طائفة منها:
1- عن نوح الجامع قال: قلت لأبي حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: “مقالات الفلاسفة! عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة”.
2- وقال تلميذه أبو يوسف رحمه الله: “من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس”.
3- وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “إياكم والبدع”، فقيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: “أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان”.
4- وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: “من طلب الكلام فآخر أمره الزندقة”.
5- وقال الإمام الشافعي رحمه الله: “حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام”.
6- وقال الإمام الجنيد رحمه الله: “أقل ما في الكلام سقط هيبة الرب من القلب، والقلب إذا عري عن الهيبة من الله فقد عري من الإيمان”.
وأورد طائفة منها أبو إسماعيل الهروي (ت ٤٨١هـ) -رحمه الله- في كتابه (ذم الكلام وأهله)، وهي وغيرها آثار مشهورة، ما زال أهل العلم يوردونها في مصنفاتهم، والغريب تجاهل علماء الكلام من المنتسبين للمذاهب المتبوعة لأقوال أئمتهم ونصوصهم القاطعة في تحريم علم الكلام وذمه، فيدعون إلى تقليدهم في الفروع، ويوجبون ذلك ويلزمون به، ويعرضون عن أقوالهم في أصول الدين والعقائد، وهم في الأمرين مفارقون لمنهج هؤلاء الأئمة.
سبب كراهة السلف لعلم الكلام:
من خلال الآثار الواردة عنهم يمكننا فهم علة ذمهم للكلام، والتي تتمثل في الآتي:
1– أنه يؤدي للإعراض عن الكتاب والسنة، فهو من العلوم المزاحمة لعلوم الوحي، والمؤثرة على مكانتها في النفوس، وفي قول الشافعي السابق: “ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بعلم الكلام” ما يؤكد ذلك، وقال الإمام أحمد رحمه الله: “فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه ومنهي عنه، لا يكون صاحبه -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة، حتى يدع الجدال ويؤمن بالآثار”([19])، فهذا إبطال لمنهج الاستدلال في ذاته؛ باعتباره بدعة وطريقة لم يسلكها الصحابة في تقرير أمور الدين.
2- أنه خطأ في ذاته ومقدماته باطلة، فدليل الأعراض وحدوث الأجسام مثلًا الذي هو عندهم أعظم دليل على وجود الله تعالى ونفوا من أجله سائر الصفات الثابتة غير صحيح في ذاته من كل الوجوه، وما كان كذلك فلا تجوز حكايته.
3- أن هذه المقدمات الفاسدة والتي يعتبرها صاحبها أصلًا يردُّ بها الكتابَ والسنة توصل لنتائج باطلة لا محالة، فهو بدعة في ذاته، فإن أوصل إلى بدعة -وهذا لازم لصاحبه- فهو باطل ثان، كما قال الإمام مالك: “لعن الله عمرًا [ابن عبيد]؛ فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل”([20]).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ناقش بعض أدلة المتكلمين العقلية: “وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه، وتجهيل أصحابه وتضليلهم، حيث سلكوا في الاستدلال طرقًا ليست مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم”([21]).
وعقَّب على نسبة الجويني لأحمد إنكار القياس العقلي مطلقًا، فضعَّف النقل، ثم قال معلّلًا عدم صحته: “فإن أحمد لم يَنْه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه، ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة، وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة، والكلام في الله ودينه بغير علم… والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة… والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم، والكلام المبتدع في الدين”([22]).
فليس إنكار الأئمة متجهًا لمطلق استخدام الأدلة العقلية، وإنما لأدلة المتكلمين التي توصل حتما لمعارضة الكتاب والسنة؛ لفساد مقدماتها، وكذب أغلبها، وما فيها من حق ففي غيرها من الأدلة العقلية ما هو أيسر وأقصر من تطويلهم في مقدماتهم، مع كونه كذلك أصرح وأقطع وأكثر ظهورًا.
وليس الإنكار لمجرد الألفاظ والمصطلحات الحادثة كذلك، فإنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان مضمونها ومعناها حقًّا؛ قال شيخ الإسلام في الموضع السابق: “وهو [أي: أحمد] لا يكره -إذا عُرِف معاني الكتاب والسنة- أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة في هذا”([23]).
فالإنكار ليس متجهًا لمجرد إحداث الألفاظ، ولا لمطلق استخدام الأدلة العقلية الصحيحة في نفسها، وإنما لأدلة المتكلمين التي هي من جنس أدلة الفلاسفة المبنية على المنطق الأرسطي الذي لا يصلح دليلًا في المسائل الدينية، ولا يورث يقينا، بل يثير الشبهات في نفس صاحبها، وهو من الجدل المذموم، والاشتغال به إضاعة للعمر فيما لا ينفع بل فيما يضر.
ومن تأمل أحوال أساطين المتكلمين وحيرتهم وندم بعضهم على اشتغاله به ورجوعه للكتاب والسنة علم بركة المنهج السلفي، وصدق نصيحة السلف لهذه الأمة، وأن الخير كل الخير في لزوم منهجهم.
قال الفخر الرازي في وصيته التي أملاها على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصفهاني: “ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات؛ وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية “([24]).
وقال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: “يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به”. وقال أبو الفتح الطبري الفقيه: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور”([25]).
ورغم أن علم الكلام يهدف -حسب دعوى أصحابه- إلى مقاومة ملاحدة الفلاسفة؛ إلا أن نفس الآفة أصابتهم -وإن بدرجات متفاوتة-، وجعلوا مقدماتهم العقلية قطعيات عقلية، ردوا بها نصوص الشرع الواضحة، فأنكرت المعتزلة صفات الله والقدر، وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين وتخليد مرتكب الكبيرة، وكل هذا بنوه على مقدمات عقلية كلامية رأوها قطعية.
ونفس الآفة -بدرجة أقل – وقع فيها الأشاعرة، خاصة نسختها التي بلورها الفخر الرازي، وهي التي استقرَّ عليها المتأخرون منهم، والتي اختلط فيها الكلام بالمنطق الأرسطي.
والفخر الرازي أحد مؤسسي المذهب الأشعري في صورته المتأخرة يصرح بتقديم العقل باعتبار دلالته قطعيًّا على الدلائل النقلية التي تفيد الظن([26]).
وهذه الانحرافات الملازمة لأغلب من خاض في هذا البحر الخضم؛ تؤكد صحة وسلامة منهج السلف، الذين ردوا على أهل البدع، ولم يلجؤوا للمنطق، ولا دخلوا في علم الكلام، وإنما حاججوهم بدلائل الكتاب والسنة، والأدلة العقلية الصحيحة المأخوذة منهم، أو الموافقة للفطر السليمة.
وليس هذا كلامًا نظريًّا، بل ناظر أحمد المعتزلة والجهمية في خلق القرآن، وناظر الشافعي حفصًا الفرد، ورد الدارمي على بشر المريسي، وصنف أئمة السلف في الرد عليهم دون الحاجة للخوض في مهلكة علم الكلام ومتاهاته التي قلّ من دخل فيها وخرج سالِمًا.
وقد حكى أحمد -رحمه الله- مناظرته مع بعض الغارقين في علوم الكلام القائلين بخلق القرآن، فقال: “جعل برغوث يقول يومئذ: الجسم كذا، وكلام لا أفهمه، فقلت: لا أعرف، لا أدري ما هذا! إلا أنني أعلم أنه أحد صمد، لا شبيه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فجعل يسكت عني”([27]).
فناظره، بل وأسكته ببينات الوحي، ولم يجارهم في كلامهم المذموم الباطل، والذي غالبًا لا ينقطع معه المناظر، بل يظل الطرفان يوردان على بعضهما، وينقضان، ولا يتبين شيء.
بقي أن ننبه إلى أن بعض العلماء المتأخرين صار يستخدم مصطلح “علم الكلام” مرادفًا لعلم التوحيد والعقيدة، وهذا كصنيع النووي -رحمه الله- حيث قال: “المراد بالكلام أصول الدين، وبالمتكلمين أصحاب هذا العلم”([28]).
وهذا صنيع السفاريني -رحمه الله- أيضًا، حيث استشكل نهيه عن علم الكلام مع خوض العلماء فيه، وتصنيفه هو فيه في كتابه (لوامع الأنوار)، ثم أجاب عن ذلك بقوله: “العلم الذي نهينا عنه غير الذي ألفنا فيه، والكلام الذي حذرنا منه غير الذي صنف فيه كل إمام وحافظ وفقيه، فعلم الكلام الذي نهى عنه أئمة الإسلام هو العلم المشحون بالفلسفة والتأويل، والإلحاد والأباطيل، وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة، والأخبار النبوية عن حقائقها الباهرة، دون علم السلف ومذهب الأثر، وما جاء في الذكر الحكيم وصحيح الخبر” إلى آخر كلامه([29]).
وهذا الذي ذكره هو العقيدة وأصول الإيمان كما جاءت في الكتاب والسنة وكلام السلف الكرام، وتسميتها بعلم الكلام غير مناسب؛ فإن علم الكلام صار علَمًا على منكر وباطل، فتسميته بالعقيدة أو الفقه الأكبر أو السنة أو نحوها مما جاء عن السلف أولى وأصوب.
خاتمة:
تبين مما سبق موقف السلف القطعي من علم الكلام المذموم، وعدم جواز الاشتغال به، وذم أصحابه، وأن ذلك ليس إلغاءً للعقل كما يروّج بعض المغالطين، بل هو رفض لإعماله في غير مجاله، وبالطريقة الخاطئة كذلك، فالعقائد الدينية ومسائل الشريعة أدلتها متوافرة في الكتاب والسنة وما يتبعهما، وهذه العلوم الكلامية لا تنفع الأمة في دينها ولا دنياها، بل تهدر جهودها في حلقات من الجدل المشؤوم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) التعريفات، للجرجاني (ص: 232).
([2]) انظر في رفض المتكلمين للمنطق الأرسطي: الفصل الثاني والسادس من كتاب (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) للدكتور علي النشار.
([3]) لابن حزم -رحمه الله- كتاب في المنطق (التقريب لحد المنطق)، وهو سابق على الغزالي، ولكنه لم يكن ذا أثر يذكر على المسار العلمي العام، ويشير بعض الباحثين كالدكتور علي النشار إلى أن كتابات الجويني كانت تمهيدًا للغزالي، ولكن الكل يتفق على دور الغزالي البارز في مزج المنطق بعلوم المسلمين.
([4]) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 337)، ومقدمة ابن خلدون (1/ 648).
([5]) مناهج البحث عند مفكري الإسلام، لعلي سامي النشار (ص: ٣٦٩)، ط. دار النهضة العربية.
([6]) المعيار، للغزالي (ص: 60).
([7]) الرد على المنطقيين (ص: 311).
([9]) راجع: المعجم الفلسفي المعاصر، مراد وهبة (ص: 523)، ط. الهيئة المصرية للكتاب.
([11]) انظر: الأشباه والنظائر (4/ 125)، وأسنى المطالب (4/ 182)، وكشاف القناع (3/ 34).
([12]) مقدمة ابن خلدون (1/ 580).
([16]) الرد على المنطقيين (ص: 195).
([19]) انظر: أصول السنة (ص: 21).
([20]) انظر: ذم الكلام، للهروي (5/ 73).
([22]) درء التعارض باختصار (7/ 144- 155).
([23]) درء التعارض باختصار (7/ 155).
([24]) انظر: عيون الأنباء (ص: 467).
([26]) انظر: تفسير الرازي (2/ 298).
([27]) انظر: الإبانة الكبرى، لابن بطة (6/ 253).