المُحْكَماتُ الشرعيّة وأهميتها في معالجة النوازل
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جاء القرآن لبيان الحق وهداية الخلق، وهذا البيان مستغرق لحاجات الناس وما نزل بهم من نوازل وأحكام، فالقارئ للشريعة يدرك أنها مستوعبة لحياة الفرد والمجتمع، وهذا الاستيعاب يتم عبر آليات منضبطة ومحكمة هي أصول الفقه، ونقصد بها هنا الوسائل التي يتعرف بها على المحكمات الشرعية، ومن ثم يتم رد كل الإشكاليات والتصرفات التي تصدر عن المكلف إلى المحكمات؛ ليتم توضيح كل التصرفات والإشكالات من خلال المحكمات وإعطاء إجراء عملي للتعامل معها وفق ما ينتجه الرد إلى المحكمات كآليات شرعية وعقلية لفهم القضايا.
ولا شك أن المحكمات هي أكثر الدين وأغلبه؛ لأن كل الأمور في المعتقد والأحكام والمعاملات ترجع إليها؛ إذ المسلم الجاد في البحث عن مراد الله لا يمكن أن يتنازل عن أصل الإحكام في الدين؛ إذ التنازل عنه يعد زهدًا مبكِّرا في دلالة النصوص الشرعية، كما أنه يجعل المعضلات والشبهات تتعاظم في عين الإنسان، وتكبر في قلبه، بدل أن تقلَّ أو تزول، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون} [التوبة: 124]. فتمسُّكُ المؤمن بالإحكام واعتقاده بكمال الشرع يجعل السورة في حقه محفِّزةً على الخير ومؤكِّدًةً له، وتمسُّكُ المنافق بأصل الشَّكِّ والرّيب في الدين وفي نصوصه كان معول هدم لإيمانه، وسببًا في زيادة كفره.
ومعلوم أنه لم يسلم جانب من جوانب الدين من محاولات التحريف والتبديل، بما في ذلك التربية والسلوك، وقد كانت الأداة الأكثر إقلاقًا لأصحاب هذه المحاولات هي أصول الفقه؛ إذ بها يتضح المراد ويزول الإشكال وتنضبط الآليّة، ويكون العامي شريكا للعالم في الفهم حين يتمّ تفعيلها والتحاكم إليها عند النزاع؛ مما جعل أهل الأهواء والبدع ينحون منحى الاحتكار للعلوم الشرعية، وجعلها تخصُّصية؛ ليسلم لهم حراكهم الثقافي والعلمي مما يسمونه سطوة الجمهور وصناعة الأيدولوجيا.
ويحسن بأهل العلم -وهم اليوم على مفترق طرق وقد صار أمر طلاب العلم والعوام عليهم غمة- أن يقوموا بواجب دفع الشبه ورد عاديات الباطل، عن طريق تفعيل المحكمات وتبيينها والرد إليها؛ حتى لا يغرق الناس في بحر الشبهات، ويَخُوضَ اللُّجَّةَ من لا سفينة له، وحقه أن يقتنع بالبلل. وسوف نحاول في هذه الورقة العلمية تركيز العدسة البحثية على إبراز المحكمات ومعانيها في الشرع، وتبيين أهميتها وأهمية التحاكم إليها، مع أمثلة تطبيقية لتعامل السلف في هذا المجال مع النوازل وكيفية ردها إلى المحكم:
المحكمات في الكتاب والسنة:
لن نخوض في المعنى اللغوي للمحكمات الشرعية، وإنما نكتفي بذكر ما تتميز به مما نص عليه في الكتاب والسنة وتطرق إليه علماء السلف.
لقد ذكر الله عز وجل المحكمات ووصف بها كتابه فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7].
ووصف آياته بالإحكام فقال: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [هود: 1].
قال الطبري: “وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} فإنه يعني: من الكتاب آيات، يعني بالآيات آيات القرآن، وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك، ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن: {هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ} يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم، وإنما سماهن أمّ الكتاب لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمّي الجامعَ معظم الشيء: أُمًّا له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر: “أمّهم”([1]).
وذكر في معنى المحكم أنه: “ما لا يصعب على العالم معرفته لفظًا أو معنًى”([2]).
وهاهنا مسألة مهمَّة، وهي أن القرآن الكريم كلّه موصوف بالإحكام كما في قوله تعالى: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 1، 2]، وقوله سبحانه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، ووجود المتشابه فيه لا ينفي إحكامه؛ إذ المتشابه يصير محكما بردِّه إلى المحكم، وما شاع عند بعض الأصوليين من تمسكهم بأن المحكم قليل في مقابل المتشابه أدَّى إلى الزهد في دلالة النصوص، والابتعاد عنها في التفسير والتحاكم، واختلاق بدائل ضعيفة زادت من الحيرة في أبواب المعتقد. ومن هنا تجد بعض السلف يعرف المحكمات بتبيين أهميتها، فقال محمد بن جعفر بن الزبير: “المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد”([3]).
وحاصل كلامهم أن المحكمات ما عرف تأويله وفهم معناه، وهذا منهم تدليل على أن القرآن كله محكم بهذا الاعتبار؛ إذ ليس فيه ما لا يفهم، أو ما يتوقف فيه جميع العباد وإن اشتبه على بعضهم. والمحكمات في الشرع أعم مما يتصور الناس، فكل أمر باق على أصله فهو محكم، لا ينبغي العدول عنه إلى غيره، فالإجماع محكم في مقابل دعوى الخلاف، والظاهر محكم في مقابل دعوى التأويل، وهكذا في جميع الأصول الشرعية، وثبوت الحكم في مقابل النسخ محكم، فمجموع النصوص المؤكدة على حفظ الضروريات هي من المحكم الذي لا ينبغي العدول عنه إلى غيره، فهذه هي خلاصة المحكمات التي ينبغي للمسلم أن يتمسك بها، وأن يجعلها معيارا يحاكم إليه جميع التصورات والتصرفات، وقد علم السلف الصالح أهميتها شرعا، وضرورتها عقلا، فأعلوا من شأنها، وحطوا على من خالفها وحذروا منه.
أهمية المحكمات الشرعية:
المحكمات هي الأعلى في الشريعة، وإليها ينسب الدين والقرآن؛ لأنها قواعد الدين، وعليها تترتب المصالح والمفاسد، وبها تعرف؛ وذلك أن الناظر في أدلة الشرع يجدها تجري على قانون النظر، وقد اتسقت أحكامها وانتظمت على نسق واحد؛ وهذا هو سر وصف القرآن أحيانا بالتشابه، من باب أن بعضه يشبه بعضا، ويصدق أوله آخره([4]).
وقد جعل الله المحكم -وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه- هو الأم والأصل المرجوع إليه، ثم قال: {وأخر متشابهات} [آل عمران: 7]، يريد: وليست بأم ولا معظم، فهي إذا قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها هو شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه.
يقول الشاطبي: “وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية؛ إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة، بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى -أو: اثنتين- وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى -أو: اثنين وسبعين- فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»([5]). وقد روي ما يبين هذا المعنى، ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه، وإن كان غيره قد هون الأمر فيه، أنه قال: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال». فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»، وهو ظاهر؛ فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية”([6]).
فسعة مجال المحكمات تدل على أهميتها، وذلك ما تنبه له إمام المفسرين ابن كثير رحمه الله، فقال: “يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد”([7]). وتظهر أهمية المحكم من حيث إنه لا نصيب لأهل الزيغ فيه، وهذا هو منطوق آية آل عمران، فلا يمكن تحريفه ولا تبديله ولا تأويله([8]).
ثم مخالفة المحكم ليست سائغة من أحد مهما كان فضله وعلمه، ومهما كانت حالة ضغط الواقع وقوة الرغبة ومسايرة العصر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في أحلك الظروف وأعقدها- لم يقبل منه مخالفة المحكم في الموقف من عمه أبي طالب، مع محبته الشديدة له، ومع نصرة عمه له ودفاعه عن دينه([9]).
فقد نزَّل الله عليه في كتابه أن عدم الاستغفار قضية محكمة، لا يمكن مخالفتها مطلقا، فقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم} [التوبة: 113]. وهذا التعميم في المحكمات جار في الحدود والأنكحة والطلاق والبيع والميراث، فكلها جعلت الشريعة لها أصولا محكمة تحفظ بها، ويرجع إليها عند النزاع، وتلحق بها فروعها، فليس المحكم هو العقائد وحدها، ولا الأحكام وحدها، بل كل أبواب الشرع الأغلب فيها الإحكام، فالعقائد محكمة من حيث أصولها، وهي الإيمان بالله وبرسله وملائكته وكتبه والبعث والنشور، وهي محكمة من حيث مصدرها كذلك، وهو الوحي وما يعضده من عقل صريح وفطرة سليمة، وكذلك الأحكام والمعاملات كلها جارية على جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا وجه عظيم من أوجه إحكامها، فالشرع قاصد لهذا المعنى، ويلحق بها مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وما شهدت به الظنون المعتبرة والتجارب الصحيحة، كل هذا من المحكم الذي يلزم التمسك به، وحسبك بها أهمية اطّرادُها وعدم قبول الاستثناء فيها؛ ولهذا عدها الشاطبي من الكليات فقال: “اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، وهي التي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة؛ كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك، ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر؛ كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله تعالى، وما جعل لله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها؛ كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ونحوها، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنى والقتل والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر”([10]).
لذا فإنه ينبغي على الفقهاء والعلماء في ظل عولمة الرذيلة وتحكيم الأهواء أن يردوا الناس إلى المحكم، وأن يشيعوه وأن يبينوه للناس؛ لأن به العصمة، كما ينبغي تبيين سعة مدلوله وكثرته في الشرع كما هو منطوق القرآن، وقد صرح به أئمة التفسير؛ لأنه بذلك يعرف الناس الواضحات من الدين التي لا لبس فيها، ولا يمكن المفاوضة عليها، ومن هذه النماذج المحكمة غير ما مر: التأكيد على صيانة الشرع عن التحريف والتبديل، ويعرف ذلك بنص القرآن على عصمتها من التحريف والتبديل، وبتوفر الدواعي للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجلمة والتفصيل، فقد قيض الله صحابة نبيه لحفظ القرآن، فحفظته الصدور والسطور أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فكان كبار القراء معروفين عند الأمة ومعروفًا من نقل عنهم، وعلى أي وجه نقل، وكذلك حفاظ الحديث تصدوا للأحاديث، فميزوا سقيمها من صحيحها، وعرفوا رجالها، كما قام علماء الأمة بتبيين الحق وتفسير الوحي ورد الشبه وإقامة البراهين، واستعملوا الأفكار، وأشغلوا أنفسهم طوال الليل والنهار بحفظ الشريعة وإفهامها للناس.
فإذا تقرر هذا علم أنه لا يمكن أن يكون هناك نص شرعي أو فهم صحيح للدين غير محفوظ، كما أنه لا يمكن أن توجد شبهة لا يمكن الرد عليها ردا يزيلها، ويبين الحق فيها، وهذا من المحكمات التي لا ينبغي العدول عنها ولا الزهد فيها أو الشك؛ ولعلنا نذكر نماذج من المحكمات التي بينت النصوص أن التمسك بها يعصم من الزلل.
المحكمات التي يتمسك بها عند الفتن والنوازل:
قد حددت الشريعة مجموعة من القضايا يرجع إليها عند أي طارئ على الإنسان أو المجتمع، فهي بمثابة الفيء الذي يستظل به كل هارب من الحر. من هذه المحكمات:
أولا: التمسك بالكتاب والسنة:
وهذا أصل محكم يرجع إليه في كل الأمور عند الخلاف وعند التنازع، وهو أصل للكل، حق وعصمة من كل فتنة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59].
قال أبو جعفر: “يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم -أيها المؤمنون- في شيء من أمر دينكم -أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه- {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ}، يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم -أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم- فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم، وأما قوله: {وَالرَّسُولِ} فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول إن كان حيًّا، وإن كان ميتًا فمن سنته، {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون {بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب”([11]).
فالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع أمر محكم، لا يعدل عنه طالب للحق، والخوف من الرد إليهما علامة النفاق ودليل الخذلان، قال سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [النور: 50]. “فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقًا”([12]).
ويندرج تحت هذا المحكم أصل آخر محكم وهو: أن أوامر الله ونواهيه أنفع للعبد مما يريد لنفسه؛ لأنها بنيت على جلب المصالح ودرء المفاسد عن العبد في الدنيا والآخرة، “فيجب أن تُتَلقَّى أحكام الله بطيب نفس وانشراح صدر، وأن يتيقَّن العبد أن الله لم يأمره إلا بما في فعله صلاح، ولم ينهه إلا عما في فعله فساد، سواء كان ذلك من نفس العبد بالأمر والنهي، أو من نفس الفعل، أو منهما جميعًا، وأن المأمور به بمنزلة القوت الذي هو قوام العبد، والمنهي عنه بمنزلة السموم التي هي هلاك البدن وسقمه، ومن يتيقن هذا لم يطلب أن يحتال على سقوط واجب في فعله صلاح له، ولا على فعل محرم في تركه صلاح له أيضا”([13]).
ثانيا: لزوم منهج الصحابة وما كانوا عليه من علم وعمل:
فهذا أصل محكم دلَّ عليه الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح ممن جاء بعد الصحابة، فالصحابة هم أمة محمد المخاطبة بالوحي ابتداء، وهم المؤمنون الأول الذين حكم الله بأن اتباع غير سبيلهم يؤدي إلى النار فقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
روى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة؛ لعلي أكلم هؤلاء القوم، قال: إني أخافهم عليك، قلت: كلا، فلبست وترجّلت، ودخلت عليهم في دار نصفَ النهار وهم يأكلون، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد([14]).
ومحل الشاهد استدلال ابن عباس بالصحابة وبعلمهم بالتأويل، وجعل ذلك حجة على الخوارج؛ مما يدل على أن هذا الأصل كان معروفًا ومشاعًا في الزمن الأول، وليس إنتاج مدرسة معيَّنة، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم علامة الفرقة الناجية بلزوم منهج الصحابة فقال: «ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمَّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»([15])، وقال عليه الصلاة والسلام: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»([16]).
وقد تمثل السلف هذا المنهج، وجعلوه أصلا محكما يتحاكمون إليه عند النزاع والخلاف، وهو لزوم ما كان عليه الصحابة، “فكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم”([17]).
“فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة”([18]).
ثالثا: لزوم الجماعة:
وهو أصل محكم أرشدت إليه النصوص الشرعية من كتاب وسنة، وجعلته مخرجا من الفتن، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم»([19])، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية»([20]).
وغير هذا من النصوص الآمرة بالاعتصام بالجماعة ونبذ الفرقة والخلاف، فكل هذا يدل أن الزوم الجماعة ونبذ الفرقة أصل محكم لا يمكن التزهيد فيه بكل حال، وإن فقدت فإنه يلزم السعي لإيجادها؛ لأن مبدأ التعاون على البر والتقوى مبدأ مطلوب، والسعي إليه حتم وواجب.
رابعًا: التمسك بكليات الشرع وقواعده:
فإنه إذا ثبتت قاعدة كلية ضرورية أو حاجية أو تحسينية فلا ترفعها آحاد الجزئيات، فلا بد إذا ثبتت قاعدة في الشريعة أن يحافظ عليها، والمحافظة عليها تكون بمراعاة جزئياتها والتمسك بها؛ لأنه بترك الجزئيات يضيع الكلي؛ ولذلك عتبت الشريعة على تارك الصلاة والجماعة والجمعة، وشرعت الحدود في الجزئيات محافظة منها على الكليات، وغالبا ما يأتي التشغيب على الكليات والمحكمات من جهة التزهيد في الجزئيات وتركها، فينبغي أن يعلم أن الجزئي الذي يندرج تحت كلي يحافظ عليه؛ لأن المحافظة عليه محافظة على الكلي([21]).
والناظر في الواقع وطبيعة المعارك المشتعلة في الأفق ذات الطابع الفكري والثقافي يجد أنها تدور حول فهم النص وطريقة التعامل معه وتنزيله على الواقع المتجدد، وقد تشكلت هذه المعارك في أشكال عدة؛ بين جاعل للنص أداة تبريرية له، وبين من ينظر إليه على أنه ينبغي أن يأخذ مقاعد الاحتياط في تفسير الحياة وإصلاحها، وقد أكثر المعاصرون من ذم النظر في الجزئيات، واحتفوا بالكليات كوسيلة للتخلص من تفاصيل الأحكام الشرعية، وجعلوا النص عبارة عن ألفاظ أدبية لا تحمل أي قداسة، يمكن قراءتها وتفسيرها أكثر من تفسير، وآخرون أنكروا الغيبيات، ورفضوها جملة وتفصيلا، وجعلوها ضربا من الخرافة، وكل هذه القراءات المنحرفة للنصوص لا يعصم منها إلا التمسك بالمحكمات، ورد المتشابهات إليها حتى تتضح، والمحكمات هي الثوابت والمسائل المسلمة في الشرع، والتي من شك فيها أو أنكرها فقد خرم أصل الدين وأبطل أسسه، ولم يكن للمسلمين من مناص في ظل أمواج الباطل الهادر إلا إظهار هذه المحكمات، وتفعيلها في حياة الناس، والتركيز عليها، وتبيين سعتها، فبها يتميز الحق من الباطل، وتستقر القلوب على الإيمان، ويُعصم المسلمون من الفتنة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) تفسير الراغب الأصفهاني (2/ 414).
([3]) ينظر: المحرر الوجيز (1/ 401).
([4]) ينظر: الموافقات، للشاطبي (3/ 97).
([6]) الموافقات (5/ 145) بتصرف.
([8]) ينظر: المرجع نفسه (2/ 8).
([9]) ينظر: موقف الليبرالية في البلدان العربية من محكمات الدين (ص: 34).
([12]) الصارم المسلول على شاتم الرب والرسول (ص: 37).
([13]) الفتاوى الكبرى (6/ 105).
([17]) شرح العقيدة الأصفهانية، لابن تيمية (ص: 165).
([18]) الفصل بين أهل الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (4/ 116).