دعوتُ…ولم يُستجب لي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقَـــدّمَــــــة:
لماذا لا يقع كل شيء أطلبه وأريده، وتكون الحياة جميلةً وحسنةً دائمًا كما أريد؟!
على الله أن يحققَ لي كل ما أتمنى وأحلم به، ويحقق لي أهدافي؛ حتى أومن به وأوقن به؟!
ما رأيك -أخي القارئ الكريم- في هذا النمط من التفكير وفي هذه العبارات؟ هل يستسيغ عقلك صدور مثل هذا من مخلوق ضعيف محدود القدرة والإرادة تجاه خالقه ذي الجلال والجمال والعظمة والكمال؟! ألا تمجُّها بمجرد سماعها، وتقرّ بقبحها دون انتظار أو تأمل؟!
ولا فرق في الحقيقة والمآل بين هذه العبارات وبين عبارة عنوان هذا البحث: “دعوت ولم يستجب لي!”، فكلها سواء، وكلها نمط واحد في التفكير، وكلها من عقول ضعيفة ونفوس مهزوزة، وكلها محاولاتٌ لخلق تعارضٍ بين الشّرع والقدر، وإحداثِ خرقٍ في ثوبِ شرعنا الأبيض الناصع، وخلخلة المنظومة المعرفية الإسلامية.
لِمَاذَا لَا يَستَجِيبُ اللهَ دُعَائِي؟!
استفهامٌ لَه وجهان متنافران، مع أن مبنى الوجهين متفق! فتارةً يُلفى مزهرًا مثمرًا، وتارةً يكون قبيحًا مهلكًا.
فَما أَنفَع هذا التساؤل لو صَدرَ من قلبِ عبدٍ يَبحث عن قصوره! ولكن ما أقبحه لو صَدرَ من صَدرٍ متعنتٍ يبرِّر لخطِيئَتِه ويَعترِض على تقدير ربِّه!!
ولكن هذا التساؤل استُغلَّ في الوقت الذي تتابعت فيه الحروب وتكاثرت الكروب، وغُلف بطبقٍ من ذَهب، وحُلّيَ بِبَعض القَصص المختلَقة؛ لكي يُستَساغ من قِبَل المنهكين بالحروب والجروح والنكبات، ولكي تُصدّقه العقول وتضعف به النفوس، أو تُغير طعمَ الإيمان واليقين بالله إن لم تُفسده على أقل تقدير.
ومن هنا كانت هذه الورقة لنُؤصلَ المسأَلة وندلِّل على استجابة الله للدعاء، ونبيّن شروط إجابته وموانعَها، ونردّ على تلك الأسئلة التشكيكية المثارة. وقد جاءت مقسمة على عناصر هي:
أوّلًا: استجابة الله للدعاء حقيقة شرعية واقعية.
ثانيًا: أحوال وأمور ينبغي للداعي الالتزام بها.
ثالثًا: أحوال وأمور ينبغي للداعي تجنبها.
رابعًا: مناقشة منكري استجابة الله للدعاء.
اللهم إنا نعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها.
أوّلًا: استجابة الله للدعاء حقيقة شرعية واقعية:
يعلم المؤمن يقينًا أَن مولاه وخالقه قريب، لكل داع دعاه مجيب؛ لهذا حث سبحانه وتعالى عباده على الدعاء فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فإن الملك الكريم سبحانه «يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين»([1]).
وأيضًا يعلم المؤمن أن اللهُ يحبّ أن يرى عباده يناجونه وينادونه، ويبتهلون إليه ويدعونه، وبهذا أمرهم: {وَقَالَ رَبكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وأنه أرحم الراحمين، وأن رحمته قريب من المحسنين، ويدرك حقًّا عظم المنن التي امتن الله بها عليه، فإن عطاياه لا يحصيها عادٌّ، ولا يحيط بها محصٍ.
والباعث لهذا اليقين باستجابة الله للدعاء هو أمر الله سبحانه بالدعاء أولًا، ووعدُه بالإجابة ثانيًا، وأيضًا ما يعلمه من الوقائع المتواترة والحالات المستفيضة التي استجاب الله فيها أدعية خلقِه، وقضى فيها حاجاتهم، وهذا أمرٌ معلوم معروف، ويكفي أن تتأمل وتتلمس بركة دعوات الأنبياء، فبركة دعوة إبراهيم -عليه السلام- لمكة ما زالت ملموسة، وهي الدعوة التي حكاها الله في كتابه فقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ الناسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، فغدت حاضرةً مكتظة بألوان الثمرات بعد أن كانت واديًا لا زرع فيه ولا ضرع، وبركة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم للمدينة ما زالت ملموسة، حيث دعا لصاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم -عليه السلام- لمكة([2])، وكم من الانتصارات حقّقها المسلمون بفضل دعوات الصالحين، وهذا ثابت بالواقع المشاهد، فوقائع كثيرة أجاب الله فيها الدعوات.
فكيف إذن يُظن برب العالمين أنه لا يجيب الدعاء؟!
ألم يستجب لإبراهيم فتحوّلت الصحراء القاحلة إلى أعظم بلدة عامرة؟
ألم يستجب الله لزكريا ووهب له يحيى وأصلح له زوجه؟!
ألم يستجب لسليمان وآتاه الملك الذي لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين؟!
ألم يستجب الله لموسى بأن نصره وفلق له البحر وأغرق فرعون وجنوده؟!
إضافةً إلى هذه الوقائع المتواترة المتضافرة وتلك الوعود بالإجابة المحتمة، فإن النصوص متنوعة في قضية إجابة الدعاء.
فتارةً يحضّ الله تعالى عباده على دعائه ويرغبهم في ذلك ويأمرهم به، فيقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وتارةً يقص سبحانه علينا قصص السابقين ممن دعوه واستجاب لهم؛ كما في قصة يونس بن متّى عليه السلام، يقول تعالى عنه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
وثالثةً يتوعد الله تعالى من يُعرض عن دعائه ومناجاته بأشد أنواع الوعيد يوم القيامة، قال: {إِن الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة هي الدعاء في هذه الآية كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم([3]).
وأخرى يتودد إلينا سبحانه بقربه واستجابته لمن دعاه، فيقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
بل إنه سبحانه وتعالى لم يقتصر على الإجمال في هذه القضية، وإنما فصل فيها وأرشدنا إلى أساليب الأدعية وأنواعها، وما ينبغي للداعي الاتصاف به وما ينبغي له اجتنابه، حيث بين الله في كتابه أن الدعاء في الخفاء والسر أفضل منه في العلن، وأن التضرعَ والابتهال في الدعاء من أهم ما ينبغي على الداعي الاتصاف به، فقال تعالى: {ادْعُوا رَبكُمْ تَضَرعًا وَخُفْيَة} [الأعراف: 55].
وقد ذكر القرآن أنواعًا من الأدعية التي ينبغي الاهتمام بها أيضًا، فمرةً يبين ما ينبغي للداعي طلبُه لنفسه؛ كطلب العلم، حيث يقول تعالى: {وَقُلْ رَب زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وكأَن يطلبَ الوقاية من الشيطان، كما فَعَل الأنبياء والصالحون، فتعوَّذوا بالله منه، وعوّذوا ذرياتهم منه، قال تعالى: {وَإِني أُعِيذُهَا بِكَ وَذُريتَهَا مِنَ الشيْطَانِ الرجِيمِ} [آل عمران: 36]، وغيرها من الأدعية.
ومرةً يتطرق لما ينبَغي أن يفعله تجاه غيره؛ كالاستعاذة من شرهم، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَب الْفَلَقِ (1) مِنْ شَر مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَر غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَر النفاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَر حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق]، وتسخير الأخيار منهم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ الناسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، وطلب الإحسان إليهم، كقوله تعالى: {وَقُلْ رَب ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، وطلب الرزق والبركة فيه، كقول إبراهيم: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وكما تحدَّث القرآن عن أنواع العلاقات، فقد تحدث أيضًا فيمَن ينبغي أن يُخصُّوا بالدعاء من الناس؛ كالوالدين: {رَب اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ} [نوح: 28]، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، والزوجة والأبناء والذرّية: {رَبنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرياتِنَا قُرةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، ولعموم المؤمنين: {رَبنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
وليس هذا فقط، بل إن القرآن فصّل القول فيمَن يستحق الدعاء، وحرر سبحانه الركائز التي ينبغي توفّرها في المدعو أيما تحرير، فقال عز من قائل: {وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، فمَن يُدعى إنما يستحق الدعاء إذا كان ملكًا له الملك كله، وبيده الأمر والخلق، والنفع والضر، وليس ذلك إلا لله تعالى، وأيضًا لا يستحق الدعاء من لا يسمعه، وأما الله سبحانه فقد وسع سمعه الأصوات، يسمع دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في ظلمة الليل الحالك. وأيضًا المدعو يستحق الدعاء لو كان قادرًا على إجابة الدعاء، وعلى إنقاذ الإنسان في أوقات العظائم والشدائد، والله على كل شيء قدير، له القدرة المطلقة في الدنيا ويوم الأهوال، وهو العليم الخبير سبحانه وتعالى.
وكما تلاحظ فإن الآية ورَدت على سبيل الاستنكار على من يدعو إلهًا لا يستجيب للدعاء، وليست هذه الآية هي الوحيدة في المسألة، بل النصوص متضافرة في ذلك، فكثيرًا ما يستنكر القرآن الكريم على مَن يدعو مخلوقاتٍ مثله لا يقدرون على إجابة الدعاء ويتركون الخالق القادر على ذلك، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَل مِمنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُون} [الأحقاف: 5]، وقوله: {وَاتخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، وقوله: {إِن الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُم كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 194، 195] إلى غيرها من الآيات.
فهذا حال تلك الآلهة الباطلة، وأما الإله الحق سبحانه وتعالى فـ{هُوَ الذِي يَقْبَلُ التوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السيئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 25، 26].
فالله هو مولانا وخالقنا، والمالك الذي له الملك المطلق، ومدبر الأمور كلها، وبيده كلّ شيء، فهو إذن المستحق للعبادة والدعاء.
وليس بصحيحٍ ما يقال بأن استجابة الله للدعاء هو في إطار الممكن مع القوانين الكونية فحسب، فإن الله سبحانه وتعالى خالق المسببات وأسبابها، فلا يقف أمره في حدود القوانين الكونية، بل بيده تجاوزها وتغييرها سبحانه؛ إذ هو خالق الكون وقوانينه؛ وهذا ما يدل عليه القرآن، فإن إبراهيم لما ألقي في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فكان الجواب أن {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، وكذلك في قصة زكريا الذي وُلد له يحيى بعد أن بلغ في الكبر عتيا وكانت امرأته عاقرًا.
والحاصل أن من أيقنَ وآمن بأن الله يستجيب الدعاء لم يكن ليتساءل ويشك في تأخر الجواب لإشكالية في مَن يدعوه، ولكن يبحث عن سببٍ في نفسه وفعله أخَّر الجواب؛ وذلك أن الدعاء كما يقول ابن القيم “بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به والساعد ساعد قوي والمانع مفقود حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير”([4]).
فالدعاء لا بد وأن يُعتبر فيه حال الداعي، وحال الدعاء، وله آدابه وشروطه وموانع إجابته، ولعلنا نبينها هنا بشيء من الإجمال.
ثانيًا: أحوال وأمور ينبغي للداعي الالتزام بها:
فمما ينبغي في حال الداعي:
1- أن يكون موحِّدًا لله تعالى، موقنًا بأنه لا قادرَ على حاجته إلا الله، فهو أول ما ينبغي للداعي أن يكون عليه، وألّا يدعو أحدًا مع الله تعالى وهو القائل: {وَأَن الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
2- أن يكون مخلصًا في دعائه، مقبلًا على ربه، موقنًا بإجابته سبحانه، غير ملتفت إلى غيره، لا رياء ولا سمعة، وهذا أم الآداب وأسها، وقد تكرر أمرُ الله بها في القرآن، قال تعالى: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ} [غافر: 14].
3- حسن الظن بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»([5]).
4- أن يكون حاضر القلب خاضعًا، مقبلًا على ربه، متضرّعًا خائفًا ذليلًا، موقنًا بإجابته سبحانه، وهذا من أهم المقاصد في الدعاء، قال الله عز وجل: {ادْعُوا رَبكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقال صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن اللهَ لا يَستجيب دعاءً من قلب لاه»([6])، يقول الإمام النوَويّ رحمه الله: “واعلم أن مقصودَ الدعاء هو حضورُ القلب كما سبق بيانه، والدلائلُ عليه أكثرُ من أن تُحصَر، والعلم به أوضح من أن يذكر”([7]).
5- أن يلح في الدعاء ويكرر الطلب، ويبكي عنده كبكاء الطفل حين يطلب، ويعيده من غير مبالغة في ذلك، وكل هذا من معاني التضرع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدعو ثلاثًا ويستغفر ثلاثًا([8])، وَوَقع في حديث عائشة في قصة سحره صلى الله عليه وسلم: «فدعا ثم دعا ثم دعا»([9]).
6- أن يبتعد عما نهى الله وحرمه، ويجتنب المعاصي والمنكرات، وكيف يليق بالمرء أن يعصي أمره سبحانه وتعالى ثم هو يطلب منه تفريج كرباته وقضاء حاجاته؟! ولذا فإن المعاصي من أعظم أسباب تأخر الإجابة.
7- أن يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ويستغفره ويتقرّب إليه، فإنه مظنة إجابة الدعاء؛ كما أخبر الله عز وجل على لسان رسله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبكُمْ إِنهُ كَانَ غَفارًا (10) يُرْسِلِ السمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَناتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]، قال ابن تيمية: “العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل”([10]). وهذا المعنى مستنبَطٌ من سيد الاستغفار، ففي الحديث الصحيح: «سيدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»([11])، ولاحظ الجمع بين الأمرين في قوله: «أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي».
8- أن يتطهر ويتنظف ويتطيب قبل الدّعاء، «فإن الله جميل يحب الجمال»([12])، وقد ورد ما يدل على استحباب الوضوء للدعاء في قصّة استشهاد أبي عامر وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفارَ؛ فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر وفاته وطلبه منه الاستغفار دعا بماء فتوضأ ثم دعا له([13]).
9- استقبال القبلة، فإن الله تعالى أمرنا باستقبال القبلة في الصلاة، ولبها وحقيقتها الدعاء، قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنهُ لَلْحَق مِنْ رَبكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَما تَعْمَلُونَ} [البقرة: 149]، كما أنه ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستقبل القبلة في الدعاء كما في قصة دعائه على قريش حين آذوه([14])، وكذلك في حديث صلاة الاستسقاء([15]).
10- افتتاح الدعاء بالثناء على الله عز وجل، وذكر محامده ومحاسنه ومننه التي لا تعد ولا تحصى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أوصى به نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي ثم ادعه»([16])، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في ثنائه على ربه في دعائه حتى إنه قال: «وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك»([17]).
11- أن يفتتح الدعاء ويختمه بالتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبهذا أمر الله تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
12- اختيار جوامع الكلم وأحسنها وأوضحها، وخير الدعاء الأدعية الواردة في القرآن الكريم وأدعية النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز الدعاء بغير ذلك مما يخص الإنسان به نفسه من حاجات دون اعتداء كما قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبكُمْ تَضَرعًا وَخُفْيَةً إِنهُ لَا يُحِب الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
13- رفع اليدين في الدعاء، وقد ورد عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنه قال: «دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياضَ إبطيه»([18])، وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم –تبارك وتعالى– حييّ كريم؛ يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّها صفرًا خائبتين»([19]).
14- اغتنام الأزمنة والأمكنة والأحوال التي هي مظنة إجابة الدعاء؛ كالذي وردَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد»([20])، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله على الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»([21]).
وغيرها من الأحوال التي ورد فضلها واستجابة الدعاء فيها؛ كحال السفر، وعند الاضطرار، ووقت السحر، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ووقت نزول المطر، وبين الأذان والإقامة، ويوم عرفة في موقف عرفات، وعند الملتزَم، وبعد الطواف، وفي المساجد؛ خاصة المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وغيرها.
15- اعتياد الدعاء حال الرخاء والإكثار منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»([22])، وقد أنكر الله تعالى على من يتقرب إلى الله ويدعوه ويناجيه في الرخاء فإذا أنعم عليه أعرض عنه ونسيه فقال: {وَإِذَا مَس الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَما كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرهُ مَر كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسهُ} [يونس: 12].
هذا بعض ما ينبغي على الداعي الاتصاف به، وليس المقصود أن الإجابة يشترط فيها الاتصاف بهذه الصّفات السابقة جميعًا، أو انتفاء جميع الموانع اللاحقة الذكر؛ فإن الكمال لله سبحانه وتعالى، ولكن المقصود الاجتهاد وبذل الوسع في ذلك قدر الإمكان، ولننتقل إلى الحديث عما ينبغي للداعي أن يتجنبه.
ثالثًا: أحوال وأمور ينبغي للداعي تجنبها:
فيما يلي جملة من الأمور ينبغي للداعي أن يتجنبها، وبعضها من موانع إجابة الدعاء:
1- اشتمال الدعاء على الشرك بالله أو الأمور المبتدعة؛ كدعاء غير الله معه من بشر أو شجر أو قبر؛ ذلك أن الدعاء مخ العبادة، وجعل شيء منها لغير الله شرك.
2- ضعف الإقبال على الله تعالى في الدعاء، وعدم اليقين بإجابته سبحانه، والركون إلى المادّيّات، خاصة في عصرنا عصر المحسوسات وإنكار الغيب، فبعض الناس إذا أصيب بمصيبة عظيمة يبعد على العقل البشري إمكانية زوالها كمرضٍ عضال يغلب على الظن أنه لا يبرأ منه، أو خسارةٍ فادحةٍ يصعب استرجاعها، أو كان خارجًا عن القوانين الكونية كما يقولون، فإنه يدع الدعاء ويترك اللجوء إلى الله، وربما ألقى الشيطان في روعه أن الدعاء لا فائدة منه.
ولنا في أنبياء الله وأصفيائه عبرة، فهذا زكريا -عليه السلام- دعا وهو شيخ كبير وامرأته عاقر طالبًا الذرية: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُريةً طَيبَةً إِنكَ سَمِيعُ الدعَاءِ} [آل عمران: 38]، فاستجاب الله دعاءه: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلي فِي الْمِحْرَابِ أَن اللهَ يُبَشرُكَ بِيَحْيَى مُصَدقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصالِحِينَ} [آل عمران: 39]، فلا تيأس من رَوحِ الله، ولا تُحجِّر رحمة الله سبحانه.
3- أكل المال الحرام واستعماله، وهو من أهم الموانع، لما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المتقين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيهَا الرسُلُ كُلُوا مِنَ الطيبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] »، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر: «يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟!»([23]).
4- سوء الأدب مع الله تعالى في الدعاء؛ كرفع الصوت رفعًا مبالغًا فيه، أو انصراف القلب عن الدعاء، أو تكلف البكاء والصياح والمبالغة في ذلك، أو الدعاء بتحجير الرحمة كأن يقول: اللهم وفق أهلي خاصة دون غيرهم، أو التألي على الله كما حصل في حديث الذي دعا الله أن لا يغفر لفلان من الناس، فقال الله: «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان…»([24]).
5- ومن ذلك الاعتداء في الدعاء بأن يسأل الله عز وجل ما لا يجوز سؤاله؛ كأن يدعو الإنسان أن يخلده في الدنيا، أو أن يدعو بإثم أو محرم كقطيعة الرحم ونحوه؛ لما ورد عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: «قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»([25]). ومن ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن تمني الموت من أجل بلاء نزل بالإنسان، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنِّيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي»([26]).
6- إتيان المعاصي وما نهى الله عنه؛ فمن استجاب لأمر الله تعالى قمنٌ أن يستجيب الله دعوته، والعكس بالعكس.
7- استعجال الإجابة والاستحسار بترك الدعاء، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: «قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»([27])، ولنا في أنبياء الله سبحانه وتعالى أسوة، فانظر كم من السنين بقي زكريا -عليه السلام- وهو يدعو ربه حتى رزقه الله ابنه يحيى، وتأمل كم مكث أيوب -عليه السلام- صابرًا حتى استجيب له.
8- تعليق الدعاء بمشيئة الله تعالى؛ كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنه لا مستكره له»([28]).
9- الدعاء بتعجيل العقوبة، والمنبغي من المؤمن بعفو الله وكرمه أن يفزع إلى طلب مغفرة الله وعفوه، دون تعجل العقوبة؛ فإن الله عفوٌّ غفور، وينادي عباده بأن يتوبوا فيقول: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من المسلمين قد ضعف حتى صار مثل الفرخ فقال له: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟» قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فافعله في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تطيقه -أو: لا تستطيعه-، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟!» فدعا الله له فشفاه([29]).
10- الدعاء على الأهل والمال، وفي الحديث: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم»([30]).
هذا حال الإنسان المؤمن، فهو يبحث عن سبب تأخر الإجابة في نفسه، ويعرف قصوره وكمال ربه، ولكن بعض البشر ممن طال عنقه وعظم نعيقه يتعالى على خالقه وموجده الكبير المتعال، ويرمي باللوم على خالقه! وينسب التقصير إلى مولاه! بل ويُنكر وجوده ويقول: لماذا لا يستجيب الله دعائي إن كان موجودًا؟!!
رابعًا: مناقشة منكري استجابة الله للدعاء:
الله سبحانه وتعالى ينادينا ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويقول: {وَيَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26]، ألا نصدق كلام الخالق العزيز ونؤمن به ونوقن به وهو الذي خلق الخلق ويعلم ما يصلحهم وينفعهم، أم نستمع إلى دعاوى مخلوقات لا تنفع ولا تضر؟!!
إن هذه الآيات صريحة في أن الله تعالى يستجيب لعباده دعاءهم، ولا محيد ولا مناص لأحد عن ذلك، بل لا مجال لتأويلها، فهي صريحة في أنه سبحانه وتعالى يستجيب لعباده الدعاء، ثم بعده جاء الوعيد من الله تعالى لمن يُعرض عن الابتهال والالتجاء إليه ويُقبل على غيره فيقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِن الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
فهل ندعو الله سبحانه وتعالى ونرجو ثوابه وفضله وامتنانه، أم نكون من المستكبرين المعرضين عن الابتهال إليه؟!
فالآيات والنصوص واضحة، ونداءات الرحمن للإنسان جلية، ثم القرار إلى العبد، والجزاء على ما قرر العبد لنفسه.
وكأني بسائل هذا السؤال يُريد أن يَنتحِل هو صفة الإله ويَتَّخذ دور الخالق، بحيث {لَا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ودعنا ننظر جدلًا: هل تليق هذه الصفة بالإنسان بأن لا يكون مسؤولًا بل سائلًا في كل شيء؟
إن هذه الصفة إنما تليق بمن مَلك الكمال في كل شيء، والإنسان لا انفكاك له عن النقص، فأنى يكون للإنسان مثل هذه الصفة؟!
عجبًا لهذا المخلوق!! بدل أن يذعن ويسلم لمن له الكمال المطلق، وينظر إلى ضعفه وعجزه وقصوره، يتكبر ويتجبر على ذي الكمالات وصاحب الفضل والهبات.
فهل يصح من الإنسان أن يتعامل مع ربه بهذه الطريقة الشرطية: إن كنت موجودًا قويًّا قادرًا فأثبت لي وجودك بتحقيق رغباتي، وبتحقيق رغباتي فحسب؟! دون أدنى نظرٍ إلى مصالحي!!
وينسى هذا المغرور كل الآيات والبراهين التي سخرها الله لتدل عليه سبحانه، ومتى كان الإله خادمًا مطيعًا دوره الخدمة فقط وتلبية الرغبات؟!! فإما أن يخدمنا ويلبي لنا رغباتنا وإلا لم يُقبل! أرأيت منطقًا أقبح من هذا المنطق المادي؟!
هل يصح أن نقارن الإله بالبشر، ونعامله ذات المعاملة التي نعامل بها البشر، معاملة سطحية أنانية لمجرد مصالح متبادلة؟!! مثله مثل البشر تمامًا بلا فرق!
أم كيف يصح أن يتعامل مع الله سبحانه كما يتعامل بعض الناس مع المسؤول، يرفعون إليه طلباتهم، فإن استجاب لهم وإلا تظاهروا ضده وانقلبوا عليه؟! هذا مع أن البشر أنفسهم لا يرضون بذلك؟!
قل لي بالله عليك، هل يليق مثل هذا لو فُعل بملك من ملوك الأرض، قويٍّ له القوة والسلطة والهيمنة؟! ألا يعتبره استفزازًا وتهكّمًا بملكه وقوته؟!!
وهنا ينبغي علينا أن نعيد النظر في أفكارنا ورؤانا ومفاهيمنا، وأن نغير هذا المفهوم للإله، فإنه مفهومٌ صنعته الأفكار الهدَّامة في عصرنا؛ من علمانية ووضعية قائمة على المادة والمحسوس فحسب؛ مما جعلنا نقيس الإله على ما نراه ولا نؤمن بغير ذلك!!
إن هذه الأفكار الهدامة التي يعيشها العالم اليوم ويُراد لها أن تروج جنَت على كل شيء حتى على تصوّر الإله، فينبغي لنا أن نحذر من هذا، فإن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولا يصح في حقه تعالى مثل هذا القياس، فإن الله ليس مسؤولًا بشريًّا أو حاكمًا دنيويًّا، بل إنه سبحانه يعلم ما لا نعلم، ويعرف مصالحنا أكثر من معرفتنا، كيف لا وهو الذي خلقنا وأوجدنا ويدبِّر شؤوننا، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مقاديرها، فإن الله سبحانه وتعالى {قَدْ أَحَاطَ بِكُل شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، ألا يعلم بالأنفع والأصلح لنا ونحن خلقٌ من خلقِه، أم كيف تغيب عنه حاجاتنا، {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]؟!
وأما طريق العلم به سبحانه فهو الخبر الصادق الذي يصل إلينا منه عن طريق أنبيائه ورسله، أما الحس فليس هذا مجاله؛ فإن هذا من الغيبيّات التي لا تدرك بالحس([31])، وأما القياس فلا يليق به سوى قياس الأولى دون غيره من الأقيسة البشرية؛ لأنه ليس كمثله شيء حتى يقاس على مخلوق من المخلوقات، فلم يتبق لنا سوى قياس الأولى، وهذا القياس يحتاج المرء فيه إلى الحس والعقل معًا، فهو عقلي حسيٌّ في آن.
فالعقل من أعظم السبل الدالة على الله إذن، ومن أهم السبُل العقلية في سبيل معرفة الإله: التفكر في آيات الله وآثاره الدالة عليه سبحانه؛ كالمشهور بدليل الإبداع والاختراع ودليل الإتقان([32])؛ ولكن طريق العقل طريقٌ محدود بحدود وليس هذا مجال بحثه([33]).
إذن من الإشكالات الجذرية في قَضِيتنَا والتي تلقى رواجًا في العالم المادي: النظرُ إلى جانب الرحمة والإحسان الإلهي، وإغفال جانب العدل والحكمة وضرورة الحساب ومجازاة كلٍّ بما يستحق، والتيارات الفكرية اللادينية تسعى إلى غرس هذه الأفكار، والفيلم الشهير (بابا نويل) أكبر شاهد على ما نقول، فهو يصوّر الإله على أنه الخير الذي يلبي رغبات الناس ويمنحهم السعادة في هذه الحياة كما يتصوّرونها، دون النظر إلى أهمية مراعاة الأصلح للإنسان والأنفع له!!
ولا شك أن للعقائد النصرانية أثرها في ترسيخ هذه الفكرة في نفوس الملاحدة؛ فالعهد الجديد يغلِّب جانب المحبة والرحمة دون التفاتٍ إلى أهمية العدل والحكمة([34])، ويتضح هذا الأثر جليًّا إذا عرفنا أن كثيرًا من الملاحدة الذين ينعقون بمثل هذه الشبهة كانوا من معتنقي النصرانية سلفًا.
إذن علينا أن نؤمن بأن الحياة الدنيا ليست كلها أشياءَ جَميلة ونافعة وحسنة وخيرًا محضًا، وأيضًا ليست هي قبيحة وضارة وسيئة وشرًّا محضًا، بل هي معبَر وطريق للآخرة، وهذا مكمن خيريتها، ولكنها في نفس الوقت دار امتحان وابتلاء.
ولا بد من أن نتذكر أن الله الذي أمر بالدعاء ورغَّب فيه هو الذي يقدّر البلاء، وهو الذي قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وهو {الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، فهذه الدار التي نعيش فيها ليست دار نعيم واستقرار، وإنما هي دار ابتلاء وامتحان، هذا ما أخبر به الله تعالى، والفائز فيها هو الصابر الشكور، لا المتسخّط الجزِع.
فالعبد كما أنه مأمور بالدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى والإنابة إليه، فإنه أيضًا مأمورٌ بالتسليم لقضاء الله وقدره، والإيمان بذلك، وعدم الاعتراض على قضائه سبحانه، بل الصبر والشكر، فالذي قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] هو الذي قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فالدعاء الذي يدعو به الإنسان مقدّر بقدَر، كما أن الإجابة إن حصلت فهي تحصل بقدر الله تعالى؛ فلا بد من الجمع بين آيات القدر وآيات الوعد بإجابة الدعاء.
ثُم لا فضل للإنسان على الله حتى يُلزم ربّه بالإجابة، بل الله هو المتفضل على البشر بذلك، بل الدعاء نفسه نعمة من الله تعالى يستحق الشكر عليها.
وكما أن الإنسان مأمورٌ بالدعاء فهو في ذات الوقت مأمورٌ بحسن الظن بالله، وعدم اليأس من روح الله، {إِنهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فلا بد إذن من الجمع بين هذه المعاني. وغالب من أغواه الشيطان من أهل البدع إنما أُتي من هذه السبيل: اجتزاء النصوص وضرب بعضها ببعض.
إذن مقتضى الإلهية أن يكون الأمر كله لله، وليس إلى الخلق منه شيء، وهذا ما نراه جليًّا في قصة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على بعض قريش حيث كان إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]([35]).
فهذا نبينا محمد مع أنه خير البشر وأفضل الخلق لم تُستجب له بعض دعواته، والحال نفسه مع غيره من الأنبياء، ففي بعض الأحيان تظهر إحاطة الله بكل شيء علمًا، وتنجلي حكمته بما لم يحيطوا به، فلا يستجيب دعاءهم، ومن ذلك: أن الله لم يستجب لنوح -عليه السلام- في ابنه، ولم يستجب دعاء إبراهيم -عليه السلام- لأبيه، ولم يستجب لأيوب -عليه السلام- إلا بعد سنوات طوال، وكذلك الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي: أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها»([36]).
وأما دعوى أن وجود البلاء منافٍ للرحمة فلا معنى لها؛ لأن صفة الرحمة لا بد أن توضع في مكانها وفي موضعها الصحيح، ويُعطاها من يستحقها، أما بغير ذلك فلا تسمّى رحمة، بل ينقلب الحال إلى خورٍ أو ظلم.
وتوضيح ذلك أن الإنسان تحمل الأمانة وأكرَمه الله بها، وهداه السبيل إلى الكفر والإيمان، وعلى حسب اختياره يُجازى ويُحاسب، وهذا هو كمال العدل الإلهي، فـ{إِن اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرةٍ} [النساء: 40]، ولا سبيل حينئذٍ لنسبة الظُّلم إلى الله تعالى([37]).
وكون الإنسان يعبد الله عز وجل طوعًا باختياره هو غاية خلقه وإيجاده([38])، فبينما تؤوب الخلائق وتخضع الكائنات لله جبلة، حيث لا تملك سوى ذلك، ولا تملك حرية الاختيار والإرادة في تصرفاتها؛ يتفرد الإنسان ويتميز بتأليه ربه وخضوعه الاختياري لمولاه وخالقه.
فواعجبًا من كمال قدرته سبحانه وتعالى؛ الذي أعطى عباده القدرة والاختيار؛ ليختاروا هم عبادته سبحانه، وينالوا عظيم فضله وكرمه عز وجل، ولم يجعلهم مجبورين على عبادته؛ فإن “أمر الله أعظم من أن يجبِر ويقهَر، ولكن يقضي ويقدر، ويخلُق ويجبِل عبده على ما أحب”([39]).
وإذا كانت الغاية من وجودنا هي العبادة والخضوع والالتجاء إلى الله، فلا بد أن نتذكر أن الدعاء عبادة من العبادات، وليست مجرد طلب، فالإنسان مأجورٌ على دعائه وإن لم يُستجب له، والله تعالى يضع الأمور في مواضعها، وينظر الأصلح لحال الإنسان.
فعلاقتنا بالله إذن ليست لقضاء مصالح بينية كما يتصور البعض، فإن الله لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا يضره عصيان العاصين، ولكنها علاقة تأليه بين المخلوق وخالقه.
وكان الأولى بالإنسان أن يتفقَّد قصوره في حق مولاه، ويتطلب خطاياه التي حالت دون حصول مبتغاه، وينظر في ذنوبه التي ارتكبها في جناب خالقه، لا أن يعترض على تقدير ربه الذي لم يقدره إلا جزاءً بما كسبت يداه، أو يتذمر من عواقب أفعاله ونواياه، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
فواعجبًا لحال هذا الذي يعترض على خالقه ومولاه!! الله سبحانه وتعالى خلقه ورزقه وامتنَّ عليه بالمنن والنعم التي لا تعدّ ولا تحصى، بل إيجاده في هذه الحياة بعقله وقوته وكلّ عضو منه هي أكبر منة من الله تعالى، {وَإِنْ تَعُدوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، ثم حين يؤخر الله عنه حاجة من حاجاته يظنها هو مصلحة له؛ ينسى كل تلك الفضائل والمنن، ويترك كل تلك العطايا خلف ظهره، ويتبجّح بما يخجل العاقل من إبدائه، فضلًا عن الجهر والصراخ به، فهلّا تساءل: كم هي تلك الأعطيات التي أعطاه الله واستحيا قليلًا قبل أن ينسب الظلم إلى ربه؟!
فالله سبحانه وتعالى هو الإله، وهو الذي يأمر وينهى، وقضاؤه لا رادّ له، وإنعامه لا ممسك له، وله الكمالات كلها سبحانه وتعالى، {لَا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، يقضي ويُقدّر، ويَمتحِن ولا يُمتحَن، فمنزلته سبحانه فوق كل منزلة، يعلو ولا يُعلى عليه، فهو الأعلى والأكبر والأكمل. والتعالي على الله تعالى تكبّر وتجبر، والله لا يحب المتكبرين.
ثم الإنسان يدرك كم هو محدود المدركات، علمه محدد بحدود وسائل المعرفة لديه، وبقدر استخدامه لمصادر المعرفة التي لديه، وبالتالي فلا شك أن أمانيه وطلباته ورغباته محدودة، بل قد تصب فيما لا ينفعه ولا يصلح له، وكثيرًا ما يتمنى الإنسان شيئًا ويطلبه ويبذل في سبيله كل الجهود، ثم يظهر له فيما بعد كم لطف الله تعالى به حين لم يقدر له ذلك الذي تمناه، وكم ادخر الله له من الكنوز بتأخير طلبه ذاك الذي ابتغاه، كيف لا والله سبحانه يعلم ما لا نعلم؟! كيف لا وهو العليم الحكيم؟! كيف لا وهو الذي وسع كل شيء رحمة وعلما؟! كيف لا وهو أرحم الراحمين، بل أرحم بنا من رحمة الأم بولدها؟!
فالواجب على المؤمن أن يتبصّر في حاله، ويتفكر في أفعاله، ويتطلب الحكمة في تقدير مولاه، دون أن يتذمر من تأخير مبتغاه.
هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في أمته أمثال هؤلاء فلا عجب، حيث ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم؛ ما لم يستعجل»، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي! فيستحسر عند ذلك، ويترك الدعاء»([40]).
وتأمل تجد كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بين دركات هذه الشبهة والضلالة ومراحل الانزلاق فيها، فكثير ممن يعترض بهذا الاعتراض غالبًا ما يبدأ باليأس وعدم رؤية الإجابة، ثم الاعتراض والاستحسار، حتى يصل إلى ترك الدعاء والإعراض عن الله ودينه، والله المستعان.
إنّ حال من يتضجَّر ويتمعَّر من تأخير إجابة الدعاء لحكمة يعلمها الله سبحانه ولخير يريده عز وجل كحال أمٍّ منعت ابنتها من أكل الحلوى كيلا تضرَّ بها وتتسوّس أسنانها، ولكن البنت تصرّ على موقفها، وترى أن لو كان في قلب أمها مثقال ذرة من رحمة لأشبعت لها نهمتها ولقضت لها حاجتها، ولكن أمها قليلة الرحمة، بل خالية من كل شفقة، بل إن عدمها خير من وجودها، أفكان وجود الأم في هذه الصورة خيرًا من عدمها؟! وهل نزعت الأم في تصرفها ذلك رداء الرحمة؟! كلا، ولكنه قصور الفهم وضعف الإدراك من تلك البنت، ليس إلا.
وليس في استجابة الله لأدعية البشر دون بعض ظلمٌ لأحد كما يزعمُ بعضهم، فإن الله يستجيب لمن يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو، واستجابته لهؤلاء لا يستلزم منه أن يستجيب لكل البشر.
ومن لم يُستجَب له أو تأخر إتمام مراده فليس الحل أن يتسخط، ويكفر بالله سبحانه لمجرد مصيبةٍ حصلت له أو مضرة لم تدفع عنه، فإن هذا لن يحقق له مراده، ولن يقدم أو يؤخر من الأمر شيئًا، ولكننا نقول له: لَكَ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حين تأخر الوحي عليه وفَتَر، فأنزل الله عليه سورة الضحى، وفيها أرشده الله إلى أن الآخرة أولى بالسعي في سبيله، ثم ذكره بكرم ربه وعطاياه ومننه، ثم أوصاه بتذكر النعم الأخرى التي أنعم الله بها عليه والتحدث عنها، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 9-11]، وفي السورة التي بعدها ذكّره ببعض تلك النعم، ثم أمره بأن ينشغل بشكر الله على تلك النعم بالعبادة والعمل، فقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8].
وحتى لو لم يُستجب للعبد فإن المؤمن يكفيه أن الدعاء بالنسبة له خيرٌ كله، أجيبت دعوته أم لم تُجب، فإنه من خير إلى خير، إما أن تجاب دعوته، أو أن يُصرَف عنه بها سوءٌ، أو يُيسَّر له أمر خير مما طلب، أو تُدَّخر له في الآخرة، كما ورد عند الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم»، فقال رجل من القوم: إذا نكثر، قال: «الله أكثر»([41]).
وإن العبد يأتي يوم القيامة فيتمنَّى من شدة ما يرى من العطاء والحسنات أن لو لم يستجب له في الدنيا لما يرى من حسن ثوابه.
ويروى أن إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- سُئل عن قول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! فأجاب: من أجل خمسة أشياء، قيل: وما هي؟ قال: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وقلتم: نحب الرسول صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، وقلتم: نلعن إبليس وأطعتموه، والخامسة: تركتم عيوبكم وأخذتم في عيوب الناس([42]).
وإن سلّمنا على سبيل التنزّل بأن الإله يجب أن يلبّي جميع رغبات عبيده وطلباتهم، ويقضي حاجاتهم، فمن سيكون الإله المدبر الذي بيده الخلق والأمر حينئذٍ؟ أهو الإله أم الإنسان؟!
فمن ينادي بأن الإله لا بد أن يستجيب لكل طلباته ورغباته ينازع الله تعالى في ربوبيته في الحقيقة، والله عز وجل أحدٌ فردٌ صمد، لا ند له ولا نظير.
ثم كيف سيكون حال العالم إذا كان تدبير العالم على حسب أهواء البشر، لن يستقر حال الكون لحظةً واحدة، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
وأما قضية وجود الله سبحانه وتعالى فهي قضية حقيقية يقينية برهانية، تضافرت الدلائل والوسائل على يقينيتها، ولا تؤثر عليها مسألةٌ كهذه، وإنما تؤثر غالبًا على نفسيّات من لا يفهم حقيقة هذه الدنيا، ولا يوقن بكمال الله تعالى في كل الصفات من الرحمة والعدل والحكمة وغير ذلك.
ويا سبحان الله!! قضيةٌ أجهدت عقول المفكرين والفلاسفة والعباقرة، وتأتي شبهة نفسية مثل هذه تزحزح هذه القضية الكبيرة القائمة!!
ومن أكبر الإشكاليات في هذه المسألة: أن الملاحدة يفترضون أن كل من يدعو الله هو مؤمن كامل صالح، مستوفٍ شروط الدعاء، منتفية عنه جميع الموانع، ويستحق الإجابة!! ثم يقول بكل ثقة: لكن أين الله ليجيب؟!
فهلا تفكر في حال ذلك الإنسان الذي يفترض كماله ونظر في حاله؟! وهلا تبصّر في أن الدعاء ذاته عبادةٌ من العبادات لولا توفيق الله تعالى لم يوفَّق له ولا سعى إليه؟!
وليعلم كل إنسان أننا نعبد الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أمرنا بذلك أولًا وقبل كل شيء، دون أن نتعنّت في البحث عن الحِكم والغايات، أو نشترط على الله أن يلبي مطالبنا؛ فإن التعبد والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى هو غاية الغايات من خلق الإنسان.
هذا كله إذا غضضنا الطرف عن كل المنافع الدنيوية والأخروية التي ينالها العبد من الدعاء، حتى ولو لم تحصل الإجابة ولم يحصل غرض العبد من الدعاء، فإن الدعاء نافعٌ في الدنيا لأن فيه إراحة للنفس البشرية من الهم والغم؛ ذلك أن الإنسان ضعيف مفتقر بالطبع، ويريد أن يحس بغيره ويحس به غيره، ويسمع لغيره ويسمع منه غيره، ويشكو حاله إلى غيره ويرى من يعطف عليه ويحنّ عليه، هذه طبيعة الإنسان، وكثيرٌ من الناس حين تضيق به الحال وتضيق به الدنيا يفزع إلى من يشتكي إليه من البشر، وهو من الأساليب العلاجية للناس؛ لأنه يخفف من الكبت النفسي والضيق والألم الداخلي في الإنسان، ولكن الأفضل أن يرفع المرء شكواه ويبثها إلى مولاه القوي القادر الغني، الذي بيده مفاتيح الفرج، فإنه سبحانه وتعالى يفرح بمناجاة العبد له، ويباهي ملائكته بذُل الإنسان وخضوعه له؛ إذ هو الغاية من خلق الإنس والجن كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ثم إن المرء لو اشتكى حاله للبشر لا يَأمن منهم أن يشمَتوا به، أو يفشوا أسراره، أو ينتقموا منه بعد حين ويسخروا منه، كما قال الشاعر:
لا تشكوَنْ إلى حيّ فتُشمِتَه شكوى الجريحِ إلى الغِربَان والرخَم
وعكس ذلك لو شكا حاله إلى الله سبحانه، فإنه سبحانه يفرح بدعاء عبده له، وإقبال عبده عليه كما ذكرنا، كيف لا وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وهو الذي ينادي عباده بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وفي هذا يقول الشاعر:
الرب يغضب إن تركت سؤاله وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
وماذا يضير المولى لو ترك الإنسان الدعاء وابتعد عن ربه إن هو لم يستجب له؟! بل ما الذي سيجنيه الإنسان لو ترك الدعاء وابتعد عن ربه إن هو لم يستجب له؟! فهو إضافةً إلى خسرانه مطلوبَه وعدم وصوله لمرغوبه فإنه في نفس الوقت يخسر الدعاء وما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية والقرب من الله سبحانه والأنس به تعالى.
ودونك المتضرعين والداعين والمنيبين إلى ربهم، اسألهم كيف هي قلوبهم ونفوسهم بعد الدعاء، حتى لو لم تستجب دعواتهم، وانظر إلى ما هم فيه من النعيم والطمأنينة، والسكون والراحة النفسية، وهو ما عبر عنه أهل الدعاء والرجاء والإنابة حين قالوا: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب”([43]).
ولكن الملحد أغلقت عليه الدنيا أبوابها، فلا يملك في قلبه أملًا ولا غايةً من حياته ولا ذرةً من رحمة أو شفقة بالخلق؛ إذ إن هذا هو مقتضى إلحاده وإنكاره للإله والدار الآخرة، ثم هو يريد أن ينقل هذا الضيق إلى غيره بقطع طرق الأمل على الآخرين من المؤمنين بالله والمتوسلين إليه الداعين له، وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
وليس معنى الترغيب في الدعاء والتأكيد على أن الله يستجيب لعباده أن يجتهد الإنسان في الدعاء دون أن يبذل الأسباب، فيقول: أنا أدعو الله والله يستجيب لي فيرزقني ويغدق علي نعمه! بل العبد مأمورٌ ببذل الأسباب إلى جانب الاعتماد على الله والتوكل عليه والابتهال إليه، فهو القائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: 10].
والعكس أيضًا غير صحيح، فلا يعتمد الإنسان على نفسه وقدراته وإمكاناته ويترك دعاء الله والاستعانة به والاعتماد عليه، بل لا محيد عن التوازن والجمع بين الأمرين: التوكل والعمل بالأسباب، بل إن الدعاء من السعي والعمل بالأسباب أيضًا، إلى جانب أنه نوع من أنواع التوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وهذا وجه من أوجه فضل الدعاء وتميزه.
الخاتمة:
ختامًا: أيها الإنسان، الدعاء عبادةٌ من العبادات التي فرضها الله، والتعبد لله تعالى مقتضى من مقتضيات الكمال الإلهي أولًا، فضلًا عن كونه مقتضى من مقتضيات خلقه وإيجاده لك، والله سبحانه وتعالى تكفل بإجابة الدعاء فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وتوعد المعرضين عن دعائه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، فما لك منصرف عن صفوف الداعين ومجالس المنيبين والله يدعوك: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]؟!
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) رواه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، والحاكم (1830)، وقال: “هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين”، وقال الذهبي في التلخيص: “صحيح”.
([2]) رواه البخاري (2129)، ومسلم (1360).
([3]) رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، والنسائي في الكبرى (11446)، والطبري في تفسيره (24/51). وقال الترمذي: “حسن صحيح”.
([5]) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
([6]) رواه الترمذي (3479)، والحاكم (494) وقال: “هذا حديث مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المرّيّ؛ وهو أحد زهاد البصرة، ولم يخرجاه”، وقال الهيثميّ في المجمع (10/ 148): “إسنادُه حسن”.
([9]) رواه البخاري (55430)، ومسلم (2189).
([10]) ينظر: الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، لمرعي بن يوسف الكرمي (ص: 35).
([14]) رواه البخاري (3743)، ومسلم (1794).
([15]) رواه البخاري (982)، ومسلم (894).
([16]) رواه الترمذي (3476) وقال: “حديث حسن”.
([18]) رواه البخاري (3565) ومسلم (2498).
([20]) رواه ابن ماجه (1753)، وقال البوصيري في الزوائد (2/38): “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات”، وحسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار.
([21]) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، والإمام أحمد (2/445)، وقال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
([22]) رواه الترمذي في سننه (2516)، والإمام أحمد في المسند (2804)، وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”.
([25]) رواه البخاري (684)، ومسلم (2735).
([26]) رواه البخاري (6351)، ومسلم (2680).
([27]) تقدم تخريجه قبل الحديث السابق.
([28]) رواه البخاري (6339)، ومسلم (2679).
([31]) ينظر: مقال “لماذا لا ندرك الله بحواسنا؟” في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات.
([32]) ينظر: مقالات وجود الله في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات مثل: “الإتقان ووجود الله”، و”الإبداع والاختراع ووجود الله”.
([33]) ينظر: مقال (مفهوم الدليل العقلي ومجاله عند السلف)، ومقال (الدليل العقلي بين الإفراط والتفريط) في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات.
([34]) ينظر الرابط: https://ar.aleteia.org/2014/04/04/مفهوم العدالة/.
([37]) ينظر: ورقة علمية بعنوان: “هل خلق الله الكفار ليعذبهم؟” والصادرة من مركز سلف للبحوث والدراسات.
([38]) ينظر: مقال: “الإرادة الغائية ووجود الله” الصادر من مركز سلف للبحوث والدراسات.
([39]) مقولة للإمام الزبيدي رواها الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 775).
([41]) سنن الترمذي (3573)، وقال: “حسن صحيح غريب من هذا الوجه”.
([42]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 691)، إحياء علوم الدين، للغزالي (3/ 38).
([43]) تُروى هذه المقولة عن إبراهيم بن أدهم، وقد طارت بها الركبان، ينظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (6/ 303).