الاثنين - 11 ربيع الآخر 1446 هـ - 14 أكتوبر 2024 م

التجديد والثورة على السلف

A A

لم يكن التجديد الإيجابيُّ مرفوضًا في داخل الثقافة الإسلامية، وكان تداوله تداولًا بريئًا لا يحمل أي شحنة ثقافية في رفض النقل عن السلف، ولا يعدّ المجدد خصيمًا للسلف ولا لإنتاجهم العلميّ، بل مستوعبًا وموضّحًا ما اندرس منه، وهنا استطاع المجدّدون من الأئمة البناء على المنجزات التي سبقتهم والإضافة إليها، دون الانحياز إلى فِناء آخر والبناء فيه بحجة التجديد.

وقد كان المجددون من العلماء الراسخين في العلم معروفين بمؤهلاتهم التي تخوّلهم لهذا المقام العظيم، والتي من أهمها لزوم غرز أهل العلم، والاتصاف بسمتهم ودلهم، مع طول ممارسة العلم، وهو ما غاب في زماننا، حيث صار التجديد علَمًا على المشاغبين وخريجي التخصّصات العلمية الذين لا يعرفون من الشرع إلا اسمه ومن الفقه إلا رسمه، ويوقعون شقاقًا بين تخصصاتهم وبين العلم الشرعي، ثم يتبرعون بممارسة وظيفة المجدِّد؛ ليخرقوا الإجماع، ويردوا التأويل، ويختلقوا لدين الله آليات جديدة؛ بحجة التجديد في الفقه والفهم.

ونظرا لكثرة المجددين غير المؤهَّلين وشيوع هذا الوصف، فإنه قد التبس على الناس أمر دينهم، وعمي عليهم مفهوم التجديد، وصار مريبا لما اتسم به مدَّعوه من خروج على الشرع، ورد لأحكامه، وتتفيهٍ لمنجزات السلف ومحاولة تجاوزها، ونحن في هذا المقال سنحدِّد مفهوم التجديد، ونبين من يحقّ له ذلك، وعلاقة التجديد بالتراث.

مفهوم التجديد:

التجديد لغة: إعادة الشيء إلى سيرته الأولى، جدَّد الثوب تجديدًا: صيَّره جديدًا، وتجدَّد الشيء تجدُّدًا: صار جديدًا، تقول: جدَّده فتجدَّد وأجَدَّه -أي: الثوب- وجدَّده واستجدَّه: صيَّره، أو لبِسه جديدًا فتجدَّد. والجديد: نقيض البلى والخلق([1]).

أما التجديد في الاصطلاح الشرعي: فهو اجتهاد في فروع الدين المتغيرة، مقيَّد محدود بأصوله الثابتة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»([2]).

وعرف العلماء التجديد في الحديث بـ: “إحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة، وما ذهب من السنن وخفي من العلوم الظاهرة والباطنة”([3]).

وقد علق ابن حجر -رحمه الله- على الحديث فقال: “ولا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز؛ فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متَّصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كلّ من كان متَّصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا”([4]).

وجميع من تكلَّم في المجدِّد من العلماء جعله رديفًا للمجتهد، وطلبوا فيه ما طلبوا في المجتهد، قال ابن القيم رحمه الله: “الْمُفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام: أحدهم: العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة؛ فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي -رحمه الله ورضي عنه- في موضع من الحج: قلته تقليدًا لعطاء، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم، ويتأدَّى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»، وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته”([5]).

ويلاحظ أن التجديد هو مستوى من المعرفة العالية بالنصوص والتمسك بها وعدم الخروج عن مدلولها، مع مراعاة الاتباع بشرطه الشرعي الذي يشمل الوقوف عند السنة واتباع سبيل المؤمنين المأمور به شرعًا في قوله سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

وهذا القيد من العلماء في مفهوم التجديد الظاهر أنه كان تحسُّسًا من الانفلات العلمي الذي يتَّسم به أهل البدع في كثير من أطروحاتهم الفقهية والعقدية، كما هو شأن سائر طوائف أهل البدع، وقد ظهر حديثًا في زمننا مجدِّدون جعلوا النصَّ هو محل التجديد، وجعلوا تجاوُزَه علامة الاجتهاد الحقيقيّ، بحيث لا يستقرّ للرجل قدَم في العلم حتى يثورَ على المألوف، ويتجاوز الإنجاز العلمي لدى السلف، ويعتبره تراثًا لا بدَّ من نفضه من أجل الخروج إلى مساحة أوسع في التعامل مع النصوص، وهذه المحاولة عادَة ما تلغي كثيرًا من مسائل الاجتهاد وطرق الاستدلال، وتصفها بالعوائق العقلية لعملية الاجتهاد والتجديد؛ لأنه لا يمكن التجديد في ظل الالتزام بضوابط السلف التي تعيق المبدع عن فهم النص فهمًا ذاتيًّا بعيدًا عن التوجيهات المؤدلجة للنصوص -كما يزعمون-، وقد أنتج هذا التوجُّه مظاهر تفلت أصحابها من الدين، وقسموا القرآن عضين، ولم يكن لهم في القرآن من مشاركة غير التشكّي والتشكيك والردّ، أمَّا السنة الغراء فقد أخذت مقاعد الاحتياط، ونُظِر إليها بعين التهمة، واتخذوا أقوال العلماء والسلف ظهريًّا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: لسان العرب (3/ 111)، الصحاح للجوهري (2/ 454).

([2]) أخرجه أبو داود (3740).

([3]) فيض القدير (1/ 10).

([4]) فتح الباري (13/ 295).

([5]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 163).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في الإسلام

  إنَّ حريةَ الاعتقاد في الإسلام تميَّزت بتفاصيل كثيرة واضحة، وهي تعني أن كلَّ شخص حرّ في اختيار ما يؤمن به وما يدين به، ولا يجب على أحدٍ أن يُكرهَه على اعتقاده، كما تعني الاحترامَ لحرية الآخرين في اختياراتهم الدينية والمعتقدات الشخصية. موقفُ الإسلام من الحرية الدينية: الأصلُ عدمُ الإجبار على الإسلام، ولا يُكره أحد […]

دفع إشكال في مذهب الحنابلة في مسألة حَلِّ السِّحر بالسحر

  في هذا العصر -عصر التقدم المادي- تزداد ظاهرة السحر نفوذًا وانتشارًا، فأكثر شعوب العالم تقدّمًا مادّيًّا -كأمريكا وفرنسا وألمانيا- تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. […]

الفكر الغنوصي في “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي وموقف فقهاء ومتصوفة الغرب الإسلامي منه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم لا تخفى المكانة التي حظي بها كتاب إحياء علوم الدين عند المتصوفة في المغرب والأندلس، فكتب التراجم والمناقب المتصوفة المغربية المشهورة، شاهدة على حضور معرفي مؤثر ظاهر لهذا الكتاب في تشكيل العقل المتصوف وتوجيه ممارسته، وأول ما يثير الانتباه فيه، هو التأكيد على الأثر المشرقي […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017