القيم الروحيَّة وأهمّيتها في التديُّن
خلق الإنسان من جسد وروح، وجعلت سعادته وقيمته في الروح، وكان الجسد مجرَّد وعاء لهذه الروح، يشقى بشقائها ويسعد بسعادتها، فالروح لها قيمة عالية في تكوين حياة الإنسان وتشكيل انطباعه عن الحياة التي هي سر وجوده، ومن هنا كان الحديث عن القيم الروحية في تكوين التديُّن الصحيح للشخص حديثًا عظيمًا في جميع الفلسفات والأديان، وقد أولى الإسلام للقيم الروحية اهتمامًا خاصًّا، وجعلها على قائمة التشريعات الأخلاقية ومقصدًا من مقاصدها، فحين تكلَّم الله عن منَّته على عباده ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم جعل منها قيامه بواجب التزكية والتربية، قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: 2].
والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء. والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟! والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم تُشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وفي عداد الأموات، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن، كان ميتًا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميّت القلب في الظلمات([1]).
كما ركز الإسلام على محل القيم من الإنسان وهو القلب، فعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([2]).
وأناط الفلاح والخسران في الدنيا والآخرة بمدى تمثُّل الإنسان للقيم الخادمة للقيم الروحية فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، قال ابن كثير رحمه الله: “يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله كما قال قتادة: وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، وكقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} [الأعلى: 14، 15]، {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسَّى الله نفسه”([3]).
وقد تحدث القرآن عن الفطرة وتأثيرها على حياة الإنسان وصناعة قيمه، وكيف تكون هذه الفطرة نقية قبل أن تطالها يد التغيير والتبديل بسبب التربية الزائفة، قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء»([4]).
ويحيل النبي صلى الله عليه وسلم في معرفة الحلال والحرام إلى القيم الروحية التي يعرفها الإنسان من نفسه فيقول: «استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة -ثلاثا- البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك»([5]).
وقد أحال القرآن أيضا إلى القيم الروحية في جانب التكاليف، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} [المائدة: 94]، أي: ليختبرنكم الله بشيء من الصيد، وفائدة البلوى والاختبار: إظهار المطيع من العاصي، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى، وسبب هذا: أن رسول الله لما نزل بالحديبية مع أصحابه -وكانوا محرمين- كان يدنو منهم الصيود والوحوش؛ فهموا بالأخذ؛ فنزلت الآية.
وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يَعْنِي: من صغَار الصيود، {وَرِمَاحُكُمْ} يَعْنِي: من كبار الوحوش، قَالَ مُجَاهِد: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يَعْنِي: الفرخ وَالْبيض، {وَرِمَاحُكُمْ} يَعْنِي: الصيود الْكِبَار.
وقوله: {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} قيل: معناه: ليعلم الله من يخافه بالغيب، فيعامله معاملة من يطلب العلم للعمل؛ إظهارًا للعدل، وقيل: معناه: ليرى من يخافه بالغيب، وقوله: {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} هُوَ أَن يخَاف الله وَهُوَ لَا يرَاهُ([6]).
والقيم بهذا الاعتبار هي ضوابط ومعايير تقوم بها تصورات الفرد وتصرفاته، والقيم الروحية نسبة إلى الروح، بمعنى أنها تستند إلى عالم الغيب لا عالم الشهادة، فيها غذاؤها واستقرارها؛ ولذا تجد الآيات التي ترشد إلى القيم تحيل إلى الغيب وإلى علم الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} [ق: 16].
وهذه القيم التي أرشد إليها الإسلام تستند إلى أصول ومرجعية، هي القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما أساس الدين ومصدرَيِ التشريع ومنهاجَ حياة المسلمين في جميع شؤون حياتهم، والسيرة النبوية التي تُعَدُّ التطبيق العملي للقرآن، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق الرسول، قالت: «كان خلقه القرآن»([7]).
ونظرًا للمنزلة الدّينيّة للقِيَم الروحيَّة فقد جعل الإسلام جميع الشعائر خادمة لها ومرشدة إليها، فمن فوائد الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، ومن فوائد الصوم كذلك أنه يهذِّب النفوس، فيجعلها مقبلة على الله، تاركة للمعاصي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وهذه القيم حين يتمثّلها الفرد كما أراد الله عز وجل فإنه يسود الأمن والأمان في المجتمع، وتقل القلاقل والبلابل والمشاكل؛ ولذلك رتب النبي صلى الله عليه وسلم بعض العقوبات الكونية العظيمة على ترك القيم الأخلاقيّة، فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمَّتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»([8]).
وهذه هي خلاصة القيم، فكلّ قيمة هي صمام أمان أمام عقوبة كونيّة، ما ترك الناس هذه القيمة إلا حلت بهم العقوبة التي يدرك الجميع خطرها وحجم آثارها على الكون والحياة.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1]() ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 93-94).
[2]() أخرجه البخاري (52).
[3]() تفسير ابن كثير (8/ 400).
[4]() أخرجه البخاري (1319).
[5]() أخرجه الدارمي (2533).
[6]() ينظر: تفسير السمعاني (2/ 140).
[7]() أخرجه أحمد (24601).
[8]() أخرجه ابن ماجه (4019).