أهمية أصول الفقه في تقرير مسائل الاعتقاد – دلالات الألفاظ نموذجًا
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعينوبعد:
فإن تحديد منهجية الاستدلال يعدُّ من أهم الوسائل لإنتاج المعرفة اليقينية الصحيحة، كما أن ضبط هذه المنهجية وبناء مرجعية موحَّدة لها يجعلها ذاتية، ويحافظ على خصوصيتها في التصورات والأفكار، ويضع حدًّا للتأويلات الممكنة للنصوص الشرعية محل التطبيق أو الإشكال.
ولا شكَّ أنَّ أيَّ فكر له مبادئ ومنطلقات لا يمكن أن يكون فكرًا حتى يمتلك القدرة العلمية والعقلية الكافيتين لتحديد مبادئه ومنطلقاته؛ لينتقل من الهلامية والسيولة إلى الوضوح والتأسيس، ومن هنا تظهر أهمية أصول الفقه كأداة لضبط الاستنباط وحصر الأقوال التي يمكن القول بها في تفسير الوحي، كما تظهر أهميته في توفيره للآليات العلمية المنضبطة، والتي يمكن من خلال إعمالها أن يدرك المختص الحصيف خطأ أيّ مجتهد، وذلك من خلال محاكمته إلى هذا العلم الجليل، وفحص مدى تمسكه بقواعده وضوابطه؛ لأن علم أصول الفقه علم متعال على الأشخاص، يحاكمون إليه ولا يحاكم إليهم، ويمكن دخول الخطأ على الخائض في علم الشريعة من نواح متعددة:
الناحية الأولى: الدليل:
فالخائض في فهم النص يعرض له الخطأ في الدليل من جهة اعتقاد ثبوته، فيكون غير ثابت كما هو الشأن في الحديث الضعيف الواهي الذي لا يتقوَّى بغيره والحديث المتروك والموضوع، ويقع الخطأ له أيضا في نفي الدليل واعتقاد عدم ثبوته والأمر بخلافه، والتمسك بما يقابل من أصل كالعموم والحقيقة وغيرهما في باب الظاهر، أو الاستصحاب الأصلي عند انعدام الدليل مطلقا.
الناحية الثانية: الاستدلال:
فقد يقع الإنسان في الخطأ في الشرع لا من ناحية تمسكه بالدليل، وإنما من جهة إعماله له إعمالا خاطئًا، فيردّ عليه ويبطل قوله.
الناحية الثالثة: الخطأ في ترتيب الدليل:
فيقدِّم من الأدلة ما حقُّه التأخير شرعًا، فيوقعه ذلك في فوضى منهجية، وقد يتفرع على هذا مسائل كثيرة تؤدي إلى الابتداع.
ونظرًا لأن الأخطاء الواقعة للناس في التعامل مع الشرع لا تخرج عن هذه النواحي فإنها ليست مخصوصة بباب دون باب، فقد تشمل مسائل الاعتقاد كما تشمل المسائل العملية، ومن هنا تدعو الحاجة إلى التنبيه على أهمية هذا العلم عمومًا، وفي ضبط مسائل الاعتقاد خصوصًا، وهذا ما سوف نتناوله في هذه الورقة العلمية بشيء من التفصيل إن شاء الله.
أهمية أصول الفقه:
أصول الفقه هي التي تبني عليها الشريعة، فهي قطعية بقطعيتها؛ لأن الأصل لا يكون أصلا حتى تشهد له كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي، وقطعيتها من كونها إما راجعة إلى أصول عقلية قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي للشريعة وهو قطعي أيضا، ولا يضر تخلف الجزئي أحيانا([1]) كما قال صاحب المرتقى:
وَنَوْعُ الِاسْتِقْرَاءِ في التَّفْسِيرِ | تَتَبُّعٌ لِلْحُكْمِ في الأُمُوْرِ | |
فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِأَنَّ الحُكْمَ قَدْ | عَمَّ مِنَ الأَفْرَادِ كُلَّ مَا وَجَدْ | |
وَرُبَّمَا يَـبْلُغُ في ذَا الْحُكْمِ | مَبْلَغَ أَنْ يُفِيدَ حَالَ الْعِلْمِ | |
كَعِلْمِنَا في النَّحْوِ أَنَّ الرَّفْعَا | يَـعُمُّ كُلَّ الفَاعِلِينَ قَطْعَا | |
وَلَا يُزِيلُ الْقَطْعَ بِالْكُلِّيَّهْ | تَخَلُّفٌ إِنْ كَانَ مِنْ جُزْئِيَّهْ([2]) |
فحاصل الأمر أن تخلُّف الجزئي من الكلي لا ينقض قطعيته في الشرعيات ولا في العاديات ولا في العقليات؛ لأن الكلي الغالب منزَّل منزلة المقطوع به، وقد فصل الشاطبي -رحمه الله- هذا الامر تفصيلا فقال: “إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بين، وهي:
– إما عقلية؛ كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة.
– وإما عادية، وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا؛ إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل.
– وإما سمعية، وجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع، فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة؛ فراجع إلى وقوعه كذلك، أو عدم وقوعه كذلك، وكونه صحيحًا أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو حرامًا فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض”([3]).
ولذا تجد العلماء يؤكدون على أهمية أصول الفقه ومعرفة مباحثه عمومًا، وأنه لا يحق لباحث في الشرع أو متصدِّر للفتيا أن يكون جاهلًا بأصول الفقه، يقول الشافعي رحمه الله: “لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللَّه إلا رجلًا عارفًا بكتاب اللَّه، بناسخه ومنسوخه، وبمُحْكَمِه ومُتَشَابهه، وتأويله وتنزيله، ومَكّيّه ومَدَنيّه، وما أُريد به، وفيما أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بَصيرًا بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثلَ ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مُشْرِفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي”([4]).
فهذه الإشادة بهذا الفن من الشافعي -وهو إمام من أئمة السلف- أدل دليل على أهمية هذا الفن، وقيمته بين العلوم الإسلامية؛ إذ هو أداة التعامل مع الكتاب والسنة، وقد كان محلَّ إجلال وتقدير من جميع الأمة، لا أحد يدَّعي تجاوزه ولا إمكانية إغفاله في التعامل مع النصوص الشرعية، يقول الزركشي رحمه الله: “فإن أولى ما صُرفت الهمم إلى تمهيده وأحرى ما عنيت بتسديد قواعده وتشييده العلم الذي هو قوام الدين، والْمُرَقِّي إلى درجات المتقين، وكان علم أصول الفقه جواده الذي لا يلحق، وحبله المتين الذي هو أقوى وأوثق، فإنه قاعدة الشرع، وأصل يُرَدُّ إليه كل فرع. وقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه إليه، ونبه أرباب اللسان عليه، فصدر في الصدر الأول منه جملة سنية ورموز خفية”([5]).
ويقول السبكي مبينا أهميته في الاجتهاد وضرورته: “وكل العلماء في حضيض عنه [أي: الاجتهاد] إلا من تغلغل بأصل الفقه، وكَرَعَ من مناهله الصافية بكل الموارد، وسَبَحَ في بحره، وتروى من زلاله، وبات يعل به وطرفه ساهد”([6]).
وهذا الشاطبي -رحمه الله- بعد أن قرر أهمية أصول الفقه وميزته العلمية في علوم المسلمين ختم حديثه بقوله: “فإذا تقرَّر هذا فلا يؤخذ (العلم) إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق أن يكون عارفا بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائمًا على دفع الشبه الواردة عليه فيه”([7]).
فإذا تبين للقارئ الكريم أهمية علم أصول الفقه في الاستدلال بقي لنا أن نأخذ له مباحث منه يعرف بها الحق من الباطل، ويعرف كيف يدير العلماء خلافاتهم من خلالها، وهي مباحث الألفاظ والدلالات، فإن المجتهد والمتدبر للقرآن الكريم لا يهتدي سبيلا فيه ما لم يكن له علم ومعرفة بمباحث الألفاظ والدلالات حتى يتنسى له معرفة مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وسوف نبين أهمية معرفة الألفاظ والدلالات.
أهمية معرفة الألفاظ والدلالات:
القرآن نزل بلسان عربي مبين، ففيه ما في اللسان العربي من الأساليب ولو لم يستوعبها لعلوه عن بعضها، لكن كل ما يعد من قبيل الفصاحة والتفنن في المعاني فإن القرآن قد أتى بالمنتهى فيه، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أوتي جوامع الكلم، وتكلَّم بما عهدته العرب من كلامها على مستوى الأساليب، وإن جهل بعض المستمعين بعض مفرداته كما هو الحال في لفظ الرويبضة والهرج وغيرها من الألفاظ التي استشكلها الصحابة، واستشكال المفرد لا ينفي أنَّ التركيب معهود عند المتكلِّم وإن استوحش بعض العبارات، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى معرفة الألفاظ في القرآن ودلالتها، يقول ابن عاصم رحمه الله:
أَصْلُ الأَدِلَّةِ الْقُرَانُ: مَا كُتِبْ | في الْمُصْحَفِ الَّذِي اتِّبَاعُهُ يَجِبْ |
أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّبِي | وَقَالَ فِيهِ: «بِلِسَانٍ عَرَبِي» |
فَفِيهِ مَا في ذَٰلِكَ اللِّسَانِ | مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي |
مِنْ جِهَةِ الألفاظِ وَالْمَفْهُومِ | وَتَارَةً بِالِاقْتِضَا الْمَعْلُوْمِ |
أَوْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الأَصْلِيَّهْ | أَوِ الَّتِي تَكُونُ تَابِعِيَّهْ |
وَلُغَةُ الْعُرْبِ لَهَا امْتِيَازُ | بِبَدْئِهَا، وَالْمُنْتَهَى الإِعْجَازُ |
كَذَاكَ مَا لِلْعُرْبِ مِنْ مَقَاصِدِ | مَوْجُوْدَةٌ فِيهِ لَدَى الْمَوَارِدِ |
مِثْلُ: الْكِنَايَاتِ عَنِ الأَشْيَاءِ | وَالنَّصِّ، وَالإِجْمَالِ، وَالإِيمَاءِ |
وَالأَخْذِ بِالْمَـــفْهــُوْمِ، أَوْ تَعْطيلِهِ | وَالتَّرْكِ لِلْمَنْطُوْقِ مَعْ تَأْصِيلِهِ |
وَالْقَصْدِ لِلْمَجَازِ، وَالإِبْهَامِ | وَالْحَذْفِ، وَالإِضْمَارِ، وَالإِفْحَامِ |
وَالسَّوْقِ لِلْمَعْلُوْمِ كَالْمَجْهُولِ | لِنُكْتَةٍ، وَاللَّحْظِ لِلتَّأْوِيلِ |
وَالْقَصْدِ لِلتَّخْصِيصِ في التَّعْمِيمِ | أَوْ عَكْسِهِ، وَقِسْ عَلَى الْمَرْسُومِ |
فَهْوَ عَلَى نَهْجِ لِسانِ الْعَرَبِ | فَاسْلُكْ بِهِ سَبِيلَ ذَاكَ تُصِبِ |
وَمَنْ يَرُمْ فَهْمَ كَلاَمِ اللهِ | بِغَيْرِهِ اعْتَدَّ بِأَصْلٍ وَاهِي([8]) |
مراده من كلامه أن القرآن تكلَّم بما تكلَّمت به العرب، وجرى على أساليبها في الخطاب، وذلك أن العرب قد تتكلَّم بالشيء فلا يكون على ظاهره، فلا بد له من تقدير؛ إما عقلي أو شرعي، مثل قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. فلا بد في كل هذا من تقدير يدل عليه السياق، ففي هذا يكون التقدير: حرم عليكم أكل الميتة…
كما أن في القرآن الأخذ بالمفهوم، سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، ويمكن تعطيل مفهوم المخالفة من كونه خرج مخرج الغالب أو سيق للامتنان وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب أصول الفقه، وأصل كلام ابن عاصم هو نثر نثره الشاطبي في الموافقات حيث قال: “للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة.
فالجهة الأولى: هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية: فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: (قام زيد) إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت: (زيد قام)، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة: (إنَّ زيدا قام)، وفي جواب المنكر لقيامه: (والله، إن زيدا قام)، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه: (قد قام زيد)، أو: (زيد قد قام)، وفي [التبكيت] على من ينكر: (إنما قام زيد).
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره -أعني: المخبر عنه-، وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار، وما يعطيه مقتضى الحال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمِّماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن؛ لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرَّر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت”([9]).
فلزم مراعاة هذا المعنى في فهم الشريعة عموما؛ ولذا عد العلماء من المزالق تجاوز هذا المعنى والعدول عنه إلى غيره، فمن رام فهم كلام الله بالعدول بالألفاظ عن مساقاتها المفهومة من التركيب فإنه يكون قد عدل بالقرآن عن معناه الأصلي إلى معان يعطيها هو من عند نفسه، وقد نبه الإمام الشافعي -رحمه الله- إلى أهمية معرفة الألفاظ وأساليبها في فهم الوحي حيث يقول: “لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها”([10])، وقال أيضًا: “فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله”([11])، وقال ابن تيمية: “فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه”([12]).
وها هنا مسألة هي من متممات هذا الباب، وهي: معرفة وضع الكلمة اللغوي؛ إذ القرآن قد يستخدم اللفظ على أصله، وقد يستخدمه في بعض مجازاته، وقد يجعل له وضعًا خاصًّا، فتكون له حقيقة أخرى كما هو شأن الحقائق الشرعية عند من لا يراها مجازًا، وهنا يلزم على الإنسان أن يعتبر ألفاظ الشارع، ويقف عندها، ويعلم أن بيان الشارع مقدَّم على كل بيان، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والاسم إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حدَّ مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيفما كان الأمر؛ فإن هذا هو المقصود، وهذا كاسم الخمر؛ فإنه قد بين أن كل مسكر خمر، فعرف المراد بالقرآن، وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب، لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم، وهذا قد عرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن الخمر في لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نبيذ التمر وغيره، ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها، وإذا كان الأمر كذلك فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيِّده إلا بدلالة من الله ورسوله”([13]).
وهنا يأتي دور الألفاظ وأهميتها في الوقوف عند مراد الشارع، فما تنازع الناس فيه من مسمى الإيمان والكفر والفسوق والعصيان كلها أمور راجعة إلى التحري في الألفاظ والنظر فيها نظرا شرعيًّا، فحين قصر المرجئة مسمى الإيمان على التصديق -وهو معناه لغة- أدى ذلك بهم إلى الدخول في مضايق شرعية بسبب إغفالهم للنصوص الشرعية، وقصرهم اللفظ على معناه اللغوي، وإغفالهم للمعنى الشرعي، وإعراضهم عن بيان الله وبيان رسوله صلى الله عليهم وسلم، فتأوَّلوا كل ما يخالف هواهم وتقريرهم؛ وذلك أن اللغة والعقل ليسا كافيين في فهم الوحي دون الرجوع إلى اصطلاح الشارع([14]).
ومن ثم كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله متوقفة على معرفة معاني الألفاظ والوقوف عندها حسب ما حدده الشارع، يقول ابن القيم رحمه الله: “ومعلوم أن اللَّه سبحانه حَدَّ لعباده حدودَ الحلال والحرام بكلامه، وذمَّ مَنْ لم يعلم حدودَ ما أنزل اللَّه على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم، والذي أنزله هو كلامه؛ فحدود ما أنزله اللَّه هو الوقوف عند حد الاسم الذي عَلَّق عليه الحِلَّ والحرمةَ، فإنه هو المنزلُ على رسوله وحده بما وُضع له لغة أو شرعًا، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه، ومن المعلوم أنَّ حد البُرِّ لا يتناول الخردل، وحد التمر لا يدخل فيه البلوط، وحد الذهب لا يتناول القطن؛ ولا يختلف الناس أن حدّ الشيء ما يمنع دخول غيره فيه، ويمنع خروجَ بعضه منه”([15]).
وهذا الكلام من ابن القيم -رحمه الله- يضبط مسألة اللفظ وعلاقته بالمعنى؛ إذ اللفظ هو الذي علّق به الحكم، وكيف يسلم الإنسان بوقوفه عند اللفظ والالتزام بحدوده ما لم يضبط معناه، وإن هذا التمسك باللفظ وبتمام معناه هو الحد الشرعي الذي حده الله عز وجل لعباده في الحلال والحرام والكفر والإيمان؛ فإن لكل لفظ معنى يختص به عن سائر الألفاظ، قد يخصصه الشارع به، وقد ينقله عنه، وقد يستخدمه في مجازه القريب أو الغالب. وهنا لا يسلم الشخص في تعامله مع ألفاظ الوحي وصرفها عن ظاهرها إلا بالتمسك بالآليات العلمية المتعبة عند العلماء في التعامل مع الألفاظ، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- ضابطا للتفسير لا بأس بذكره قبل التمثيل حيث يقول: “إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازي إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك، بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ، وإلا فلا.
فمثال ذلك مع وجود الشرط: قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ وَيُخْرِجُ الميِّتَ مِنَ الحَيِّ} [يونس: 31] ؛ فذهب جماعة إلى أنَّ المراد بالحياة والموت ما هو حقيقيٌّ؛ كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]، وربما ادَّعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ ولهذا الأصل أمثلة كثيرة.
ومثال ما تخلَّف فيه الشرط: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. فالمفسِّرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة، أو سكر النوم وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته، فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وأن الجنابة المراد بها التضمّخ بدنس الذنوب، والاغتسال هو التوبة؛ لكان هذا التفسير غير معتبر؛ لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع، ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى خلق الكونين؛ فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب، لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها، وربما نقل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «تداووا؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء» أن فيه إشارةً إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب، وكل ذلك غير معتبر؛ فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيًّا وبلسان العرب، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه”([16]).
فمن التمسُّك بالألفاظ ودلالتها أن لا تحمل على غير المعهود عند العرب، وخصوصا عند المخاطبين بالوحي ابتداء، فالعرف المعتبر واللغة المعتبرة في خطاب القرآني لا يخرجان عما كان سائدًا في عصر نزول الوحي، فلا عبرة بالعرف الطارئ، ولا بالمعنى الْمُوَلَّد، وهذا هو سر إنكار السلف على المتكلمين تأويل الوحي وصرفه عن ظاهره من أجل معان مولدة أو حادثة بعد السلف، أو قرائن عقلية لكنها ليست بدهية ولا معلومة للمخاطب وقت نزول الخطاب، فحملوا كلام الله على الجوهر والعرض، وصرفوا الألفاظ عن معانيها بحجة معارضتها للقواطع العقلية، ومعلوم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: “أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه، كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه؛ ولهذا كان استعمال القياس في اللغة وإن جاز في الاستعمال فإنه لا يجوز في الاستدلال، فإنه قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك على ما فيه من النزاع، لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان، فيحملها على غير تلك المعاني ويقول: إنهم أرادوا تلك بالقياس على تلك، بل هذا تبديل وتحريف”([17])، وقال أيضا: “فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك”([18]).
ولا شك أن التمسك بالألفاظ وبدلالتها هو الأصل في التعامل مع النصوص الشرعية، ومن هنا عصم به السلف من الزلل في جميع الألفاظ؛ سواء في حد الإيمان والكفر والمعصية وغيرها من الأمور التي تنازع الناس فيها، وكذلك في الأمور العملية.
وكما أنه لا بد من التمسك باللفظ وبدلالته فإنه لا بد أيضًا من جمع النصوص بعضها إلى بعض، والنظر في السياق، فوضع الكلمة كما مر ليس كافيا في معرفة معناها ولا مدلولها، بل لا بد من النظر في القرائن والأحوال المحيطة بالكلمة، والتي تجعل مدلولها قطعيًّا أو مبنيًّا على غلبة الظن، وإن كان اللفظ في نفسه محتملًا، فلا يمكن المعارضة بين أجزاء الكلام؛ إذ الكلام في التركيب هو بمثابة الاسم المركب، لا يكون اسما دالا على المراد إلا بتركيبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع… وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقينًا من لغة العرب والعجم. ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره، وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله، وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالًّا دون آخره، سواء سمي أوله حقيقة أو مجازًا، ولا أن يقال: إن أوله يعارض آخره؛ فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين، والكلام المتصل كله دليل واحد، فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة”([19]).
وأهم شيء في هذا الباب أن يعلم أن الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما لتبيين مراد المتكلم، فإذا تبين فلا عبرة باللفظ أصالة؛ لأن مراد المتكلم قد يتبين بغير الكلام، ومن هنا كانت ضرورة مراعاة التركيب أهم من مراعاة اللفظ، وقد فصل ابن القيم في هذه المسألة وبين أهميتها فقال: “والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه؛ سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا ويبغض هذا. وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يوجد في كلامه صريحًا”([20]).
فاللفظ العام لا بد أن ينظر في مخصصه، والمطلق لا بد أن ينظر في مقيده؛ إذ قد يكون كلا المعنيين غير مراد، فالعجلة في تبني معاني النصوص قبل التأني في مقيداتها هي التي توقع في البدع والمخالفة، وجميع مخالفات أهل البدع لأهل السنة في باب الاعتقاد راجعة إلى الخطأ في التعامل مع اللفظ ودلالته، ودونك أمثلة من ذلك:
1- زعم بعضهم أن آيات الصفات وأحاديثها لا يعقل منها إلا التشبيه، ومن ثم لزم تأويلها، ونحن نذكر هذا التأويل ونردّه، وإن كنا نعلم أنه قد وقع فيه بعض الأفاضل ممن لا يشتركون مع أهل البدع في أصل النِّحلة، فمن المعلوم تأويل المتكلمين لصفة اليد لله عز وجل، ودعواهم أنها القدرة والنعمة؛ بدليل أن هذا الاستعمال موجود عند العرب، وقد تنبه ابن بطال -رحمه الله- لخطأ هذا التأويل، وتجاوزه للمعنى الذي يدل عليه السياق، فقد قال في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]: “استدلاله [أي: البخاري] من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين لله هما صفتان من صفات ذاته، ليستا بجارحتين؛ بخلاف قول المجسمة المثبتة أنهما جارحتان، وخلاف قول القدرية النفاة لصفات ذاته. ثم إذا لم يجز أن يقال: إنهما جارحتان؛ لم يجز أن يقال: إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛ لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين:
أحدهما: أن الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته وبين مثبت لها أن الله تعالى ليس له قدرتان، بل له قدرة واحدة فبي قول المثبتة، ولا قدرة له في قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا لنفسه لا بقدرة.
والوجه الآخر: أن الله تعالى قال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}، قال إبليس مجيبًا له: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، فأخبر بالعلة التي من أجلها لم يسجد، وأخبره تعالى بالعلة التي لها أوجب عليه السجود، وهو أن خلقه بيديه، فلو كانت اليد القدرة التي خلق آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه تعالى عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به تعالى من قدرته، ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أيْ رب، وأيُّ فضل له عليّ وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته؟! ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول: أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن آدم خصه الله تعالى من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس.
وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم للقدرة؟! وظاهر الآية مع هذا يقتضي يدَين، فينبغي على الظاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف الأمة. ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن النعم مخلوقة كلها، وإذا استحال كونهما جارحتين وكونهما نعمتين وكونهما قدرتين ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدي والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا”([21]).
وقال ابن التين: “قوله: «وبيده الأخرى الميزان» يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رفعه: «أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمين» الحديث”([22]).
وقال ابن حجر: “واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز”([23]). ثم أتى بتلك المعاني التي استعملتها العرب لكلمة اليد، وواحد منها هو المراد؛ لأنه هو الذي يسمح به السياق، ولا يتعارض مع النصوص الأخرى.
2- ومن أمثلة التأويل كذلك استدلال بعضهم للتأويل بحديث: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»([24]).
فادَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول في هذا الحديث، وقال: إن التأويل هو الأصل في هذا الباب([25]).
وإذا حاكمنا هذا القول إلى الأصول المعتبرة في الاستدلال -ومنها السياق- لوجدنا أنه غير مقبول علميًّا، وذلك أن ما ادَّعى أنه ظاهر موهم لا يسلَّم له؛ لأن اللفظ إذا قُرِنَ بما يُبَيِّن معناه كان ذلك هو ظاهره، والذي أوقع في هذا الغلط هو بتر العبارة من سياقها، وهو أنها فُسِّرَتْ في نفس النص كما في الحديث، وهذا كثير في القرآن والسنة، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]. فهل يقال: إن ظاهره أنه عاش فيهم ألف سنة ثم أُوِّلَ هذا الظاهر إلى تسعمائة وخمسين سنة؟! وهل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون} [الماعون: 4، 5] ظاهره العذاب للمصلين ثم صرف إلى الساهين؟!
إذًا فالكلام ينبغي أن يكون عن ظاهر الحديث لا ظاهر اللفظة؛ لأن اللفظة يُعلم المراد منها بالسياق، والسياق يبيِّن أن المرض واقع على العبد لا على الرب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا([26]).
فبهذا يتضح للقارئ الكريم أهمية أصول الفقه، وأهمية معرفة الألفاظ ودلالاتها ومواردها التي ينبغي أن تحمل عليها، وهذا لا يتحقَّق إلا بالرسوخ في هذا الفن، مع التوفيق من الله عز وجل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) خلافا لما ذهب إليه الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- من أن أصول الفقه مظنونة، وتعقب الشاطبي في المعنى الذي أكدنا عليه. واعتراض ابن عاشور لا يسلم؛ لأن تخلف الجزئي لا يضر في هذا الباب. وللاطلاع على كلام الطاهر ابن عاشور ينظر كتابه: مقاصد الشريعة (ص: 6).
([2]) مرتقى الوصول، للإمام ابن عاصم (ص: 7)، تحقيق: الشيخ أحمد مزيد البوني.
([4]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 50).
([5]) البحر المحيط في أصول الفقه (1/ 4-5).
([6]) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 6).
([12]) مجموع الفتاوى (7/ 116).
([14]) ينظر: الفتاوى (7/ 116).
([15]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 452).
([17]) الفتاوى (7/ 117) بتصرف يسير.
([19]) الفتاوى الكبرى (4/ 302) بتصرف.
([20]) إعلام الموقعين (1/ 212).
([21]) شرح صحيح البخاري (10/ 436-437).
([22]) ينظر: فتح الباري، لابن حجر (13/ 393-394).
([25]) ينظر: كتاب منصة الحسين (ص: 1) وما بعدها.
([26]) ينظر تفصيل ذلك في: خلاصة الوحيين في نقض منصة الحسين، طبع مع كتاب: تنبيه الخلف الحاضر (ص: 146).