التفسيرُ المعاصِر لأشراط الساعة وخطَرُه على الفِكْر والمعتقد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
لا شكَّ أن الساعة قضيَّة لم يخلُ زمن من أزمان البشرية من الاهتمام بها؛ إذ الاهتمام بها عادةً ما يشكِّل معضلة لمجتمع بأكمله إنكارًا أو إيمانًا، وما من نفس بشرية إلا وفي داخلها هاجس يدفعها للتساؤل حول هذه القضية الكونية وحب الاطلاع فيها على شيء ملموس تطمئنّ إليه النفس ويحصل به الاستقرار، ثم إن تقلبات الحياة وصيرورتها بين الفينة والأخرى إلى أحوال غريبة ومتعددة تُذَكِّرُ الإنسان بهذا الحدث العظيم وحقيقته؛ مما يجعل السؤال يتجدد في كل وقت وآن عن إمكانية وقوع هذا الأمر، وهل هذه الأحداث تسوق إليه أم تدلُّ عليه أم هي مقدمات له وعلامات؟!
كلُّ هذه الأسئلة تتخاصم مع أجوبتها في ذهن الإنسان كائنًا من كان، وغالب البشرية لا يجزم فيها بشيء؛ وذلك لبعده عن المصادر التي يمكن أن تقدِّم معلومات وافيةً وكافية عن نهاية العالم وما يكون من الأحداث دليلا على هذه النهاية وما ليس كذلك، وفي المجتمعات غير المتديّنة أو المتدينة تديُّنا خرافيًّا ظهرت تخرُّصات وتحليلات من نسج الخيال تحاول إيجاد تفسير لنهاية الكون وفترة هذه النهاية، فبعضهم تصوَّر له نهاية معيَّنة بطريقة درامية صنعها الخيال الأدبي للكُتَّاب والفلاسفة، ولا يوجد في واقع الناس ولا في ماضيهم ما يشهَد لها أو يصدِّقها، وكان تأثير هذه القراءات لا يظهر إلا عند أصحاب الفراغ المعرفي والتسوُّل العلمي، فَيَتَلَهَّوْن بهذه القصص والخيالات زمنًا ريثما يأتيهم ما ينقضها، وآخرون من أصحاب الأديان المحرَّفة افترضوا نهاية الحياة على الكون في عام 1930م، وقد تجاوزت الحياة البشرية هذه المدة بفترة كثيرة؛ مما أحرج أصحاب هذه الفرضية، وآخرون أَقَّتُوا للعالم نهاية لا يتجاوز فيها عام 2012م، فتجاوزها وبقيت الكذبة في حيز الخرافة.
وكل هذا يبقى في حدود المعقول؛ لأن صدوره كان عن أناس يتراوحون بين الوثنية الْمُخَرِّفَةِ والنصرانية الْمُحرَّفَة، لكن الاستغراب يشتد ويقوى حين تُلقي هذه الفتنة بظلالها على أمَّة اليقين والعلم أمَّة الإسلام، فيخوضون في أمر ما كان لهم أن يخوضوا فيه ويتجاوزوا نصوص الوحي؛ إما بتنزيلها على غير مواردها، أو تفسيرها على خلاف المراد منها شرعًا، وقد ظهرت هذه المحاولات المتأثرة بالأمم الأخرى وبثقافتها حول الساعة وقيامها مبكِّرة في الإسلام، حتى إنها انطلت على علماء كبار من أئمة الإسلام، فخاضوا فيها، حتى قيَّض الله لهم جماعة من الراسخين في العلم القائمين بأمر الله، فردوا أقوالهم، وبيَّنوا مخالفتها، وظلت هذه المحاولات تحت رميم النسيان حتى أحياها الخرافيون وأنصاف المتعلمين من الأدباء والصحفيين الباحثين عن الشهرة، فنفخوا في العجل الميت روح الباطل، وأحيوه بالترويج، وصاروا ينزلون نصوص الوحي على كل الوقائع، بتخرصات وظنون ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لهم بها من علم ولا لآبائهم، فكان لزامًا أن تبين هذه الأباطيل، ويرد عليها؛ حتى يرجع المغترون إلى الجادة، وينهل طلاب الحقيقة من المعين الصافي.
وسوف نتناول في هذه الورقة ظاهرةَ التفسير لأشراط الساعة، ونبين خطرها وخطر الانفلات من الضوابط في التعامل مع نصوص الأخبار التي يجب تصديقها والإيمان بها، ولا بأس أن نعرج على مظاهر تختلف عن التفسير وهي التوقع وإنزالها في غير مواضعها:
توقع أشراط الساعة:
النفس البشرية متشوفة لمعرفة المستقبل، وقد جبلها الله على ذلك، فلا تطمئن إلا بمعرفته وملء الفراغ النفسي في هذا الجانب؛ ولذا فقد اهتم السلف -رحمهم الله- بهذا الأمر منذ أن قرعت أسماعهم أحاديث أشراط الساعة وآياتها، ونظرا لإيمانهم بها فقد كانت حاضرة في أذهانهم ويتوقعونها ولا يستبعدونها، وهذا مسلك سليم، فقد خاض السلف في أمر الدجال وتوقعوه، وخفضوا في شأنه ورفعوا حتى ظنوه بينهم كما وقع لهم مع ابن الصياد، فلم يزل النبي صلى الله عليهم وسلم يحدثهم عن الدجال وعن قربه حتى ظنوه بين ظهرانيهم كما في الحديث، فعن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: «ما شأنكم؟» قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شابٌّ قَطَط، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزي بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا»، قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم»، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا، اقدروا له قدره»، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: «كالغيث استدبرت الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعًا وأمدّه خواصرَ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك» الحديث([1]).
فقد توقَّع الصحابة خروج الدجال عليهم، كما توقعوا إدراكه، وذلك بسؤالهم للنبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة في اليوم الذي كسنَة، بل زادوا على ذلك أن توقَّعوا أنه رجل يعيش بينهم، فعن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجالُ، قلت: تحلف بالله؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم([2]).
وقد كان السلف يتوقَّعون الأشراط ويرون بعض الأحداث تحقُّقا لها، فمن ذلك ما ورد عن أسماء في قصَّة مقتل ابن الزبير، قالت وهي تخاطب الحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا أنَّ في ثقيف كذابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها([3]).
قال النووي: “قولها في الكذاب: (فرأيناه) تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه ادعى أن جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف، والله أعلم”([4]).
لكن هذه التوقعات مع صحة بعضها وكون البعض قد ظهر خطؤه إما بتخطئة النبي صلى الله عليه وسلم له وبإخباره بخلاف التفسير المذكور كما هو حال ابن الصياد، إلا أنها لم يكن يجزم أصحابها بأن هذه العلامة أو هذا الشرط تليه الساعة بزمن معين يحددونه في أذهانهم؛ لأن ذلك مخالف لخبر القرآن، فقد قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الأعراف: 187]، وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات: 44].
قال ابن كثير: “والمقصود أن التُّرك قاتلهم الصحابة، فهزموهم وغنموهم، وسبوا نساءهم وأبناءهم، وظاهر هذا الحديث يقتضي أن يكون هذا من أشراط الساعة، فإن كانت أشراط الساعة لا تكون إلا بين يديها قريبًا، فقد يكون هذا أيضًا واقعة أخرى عظيمة بين المسلمين وبين الترك، حتى يكون آخر ذلك خروج يأجوج ومأجوج كما سيأتي ذكر أمرهم، وإن كانت أشراط الساعة أعم من أن تكون بين يديها قريبًا منها، فإنها تكون مما يقع في الجملة ولو تقدم قبلها بدهر طويل، إلا أنه مما وقع بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب، كما سترى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى”([5]).
ويمكن إجمال القول أن أشراط الساعة باعتبار التوقع من عدمه تنقسم إلى أقسام: قسم وقع وفق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم وقعت مباديه ولا تزال في تزايد، وقسم لم يقع جزمًا ولا يعلم أحد متى يقع([6]).
فالقسم الأول: مثل علامات النبوة، ومنها كذلك فتوحات البلدان التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وإفاضة المال والفتن بين أصحابه([7]).
ومن الثاني: تقارب الزمان، وكثرة الزلازل، وخروج الدجالين الكذابين، وإلقاء الشحّ، وأنه لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، والخسوف الثلاث، وقد وُجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاث قدرا زائدًا على ما وجد؛ كأن يكون أعظم منه مكانًا أو قدرًا، إلى غير ذلك من العلامات([8]).
ومن النوع الثالث: طلوع الشمس من مغربها، وأنه لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر… الحديث، وذلك يقع قبل الدجال، وغيرها من الآيات([9]).
والظاهر أن النوع الثاني وقع بتفسير، لكن هذا التفسير مقبول؛ لأنه لم يخرج بالنصوص عن معهودها، وقد شهدت عليه القرائن، ثم إنه لم يحصر القول في المسألة بهذا التفسير، فقد جعله بداية وإرهاصات، والنوع الثالث لم يقع لأنه من العلامات الكبرى، والعلامات الكبرى لا يمكن الاختلاف فيها، وفي مقابل هذا التوقُّع والتأويل من السلف ظهرت أنماط أخرى من التأويل لأشراط الساعة مرفوضة، وجهة رفضها مخالفتها للنصوص الشرعية، وخروجها عن سنن العلم في تفسير النصوص والتعامل معها.
التخرُّص بتحديد عمر الدنيا:
وقد كان المدخل الأول للتفسير الخاطئ لأشراط الساعة هو الحديث عن عمر الدنيا، وهذا الحديث لا يترتب عليه شيء، وكان الأولى بالخائضين فيه أن ينصرفوا إلى ما ينفعهم ويزيدهم علمًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخوض في هذا المعنى ومحاولة علمه لا يترتب عليه شيء؛ ففي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يومًا للناس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث»، قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان»، قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله»، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، ثم أدبر فقال: «ردوه»، فلم يروا شيئا، فقال: «هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم»([10]).
وحين جاءه الرجل فقال: متى الساعة قائمة؟ قال: «ويلك، وما أعددت لها؟!» قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «إنك مع من أحببت»([11]).
فهذا المحكم من الدين الذي لا مراء فيه، وعليه تدلُّ النصوص الشرعية الصريحة الصحيحة، إلا أنَّ بعض الناس خاض في هذا الأمر بغير علم؛ معتمدًا على أحاديث موضوعة تحدد عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في الألف الأخيرة من تلك السبعة، وهذا كله كذب لا أصل له([12]).
وقد أَلَّفَ السيوطي -رحمه الله- رسالة في هذا الموضوع، وانتصر للقول بأن عُمْرَ هذه الأمة لا يزيد على ألف وخمس مائة سنة، واعتمد في ذلك على بعض الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة، وادعى أن دلالة هذه الآثار تشهد لهذا القول([13]).
وكلام السيوطي -رحمه الله- لم يلق قبولًا من العامة ولا تقريظًا من الخاصة، وذلك لمخالفته لقطعيَّات الوحي بالظنون التي لم يعتبرها الشارع، فقواطع الوحي تشهد بأن علم الساعة وعمر الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى، لا يعلمه أحد، وقد مضى الاستدلال على ذلك؛ ولهذا أنكر العلماء على السيوطي، وردوا قوله، فقد أورده القسطلاني ورده فقال: “وقال صاحب الكشف([14]): إن الذي دلَّت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة، وذلك أنه ورد من طرق أن مدَّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث في آخر الألف السادسة، وورد أن الدجال يخرج على رأس مائة، وينزل عيسى -عليه السلام- فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، وأن بين النفختين أربعين سنة، فهذه المائتا سنة لا بدّ منها، والباقي الآن من الألف مائة سنة وسنتان، وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها، ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوع الشمس بعدّة سنين، ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين، ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي، ولا بقي يمكن خروج الدجال عن قرب؛ لأنه إنما يخرج عند رأس مائة، وقبله مقدمات تكون في سنين كثيرة، فأقلّ ما يكون أنه يجوز خروجه على رأس الألف إن لم يتأخر إلى مائة بعدها، وإن اتفق خروجه على رأس الألف مكثت الدنيا بعده أكثر من نحو مائتي سنة المائتين المشار إليهما، والباقي ما بين خروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها، ولا ندري كم هو، وإن تأخر الدجال عن رأس الألف إلى مائة أخرى كانت المدة أكثر، ولا يمكن أن تكون المدة ألفًا وخمسمائة أصلًا، واستدلّ بأحاديث ضعيفة على عادته قال: إنه اعتمد عليها في أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث في آخر الألف السادسة، منها: حديث الضحاك بن زمل الجهني قال: رأيت رؤيا فقصصتها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث، وفيه: فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف، وأنا في آخرها ألفًا» رواه البيهقي في دلائله، فقوله: «وأنا في آخرها ألفًا» أي: معظم المدة في الألف السابعة؛ ليطابق أن بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أواخر الألف السادسة، ولو كان بعث أول الألف السابعة كانت الأشراط الكبرى كالدجال وجدت قبل اليوم بأكثر من مائة سنة لتقوم الساعة عند تمام الألف، ولم يوجد شيء من ذلك، فدلّ على أن الباقي من الألف السابعة أكثر من ثلاثمائة سنة”([15]).
وما استدلَّ به السيوطي هو من الإسرائيليات المأخوذة من أهل الكتاب الذين حرَّفوا دينهم، وتقوَّلوا على الله بغير علم، وزعموا أن الدنيا عمرها أربعة آلاف سنة، والنصارى يقولون: إن للدنيا خمسة آلاف سنة([16])، وكل هذه تخرُّصات ما كان لهم بها من علم، وهي مردودة بنصِّ كلام الله: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51].
وهذا الخوض كان مدخلًا للمعاصرين من الصّحفيّين وطلاب الشهرة وعشاق الألعاب المعرفية للعبث بأشراط الساعة ونصوصها، فألَّفوا الكتب وملؤوها من التخرصات والظنون الباطلة؛ مما ترتب عليه كثير من الابتداع في الدين، وهذا الابتداع يقع في التأويل والعمل بمقتضى هذا التأويل المبتدع الذي لا يستند إلى أثارة من علم أو مسكة من عقل، وقد كان من مظاهر التأويل الخاطئة إسقاط أحاديث الفتن على أعيان من الناس، مثل ما وقع لبعضهم في رميه للحركة السَّلفية الإصلاحية بأنها خارجية، وحمل عليها أحاديث الفتن التي هو أولى بها منها([17])، وهذا الحمل الخاطئ راجع إلى الخطأ في فهم الحديث والخطأ في تنزيله، فالحديث روي بروايات، منها:
ما روي عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فأشار نحو مسكن عائشة فقال: «هنا الفتنة -ثلاثا- من حيث يطلع قرن الشيطان»([18]).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «ألا إن الفتنة ههنا -يشير إلى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان»([19]).
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق: «الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان»، قالها مرتين أو ثلاثا([20]).
وقد حمل سائرُ الأئمة ذلك على بادية العراق، قال ابن العربي: “استفاض على لسانِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن جهة المشرق، وذكر أن فيه الفتنة وفيها الفدادون أهلها، وكانت في ذلك الوقت نجد كلها كفرًا، ومن جملتها العَراق الذي كرهِ كعب لعُمر بن الخطّاب رضي الله عنه دخوله؛ لأنّ الله تعالى قَدر فيه باطلًا كثيرًا وهو السحر، ولأجل هذا عدَلت إليهِ فسقة الجِنُّ، وبها الداء العضال، يريدُ: الهلاك في الدينِ، وكذلك كانَ منها نشأة البدع، ومنه طارت إلى الآفاق؛ ولذلك كان مالك رضي الله عنه يسمّي الكوفة دار الضَّرب، وأول من ضرب فيها الأحاديث الحارث الأعور عن عليّ رضي الله عنه، وكثير من أصحاب عليٍّ رضي الله عنه، ومما يكره لعلي رضي الله عنه اختيار العراق وهو على الصَّوابِ، واختار معاوية الشام وهو على الخطأ، ولو بقي عليّ رضي الله عنه في حرمِ الله وحرمِ رسوله صلى الله عليه وسلم لجمعَ الله تعالى له الأمر المشتَّت ببركةِ البقعة، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعُولًا”([21]).
وهذا نموذج للإسقاط والتفسير الخاطئ المخالف لنهج أهل العلم، ولا يخفى على القارئ خطر ما يترتب عليه من إخراج دعوة إصلاحية بكاملها نشأت على محاربة البدع واتباع السنة إلى دائرة أهل الفتن والأهواء، فما بعد هذا من قالب الحقائق شيء يعتدّ به.
وقد كان للمعاصرين من مضحكات التأويل ومن عبث التفسير ما يشيب لهوله الولدان، وتضحك من سخافته الثكالى، ودونك -أيها القارئ- نزرا منه يكون زادًا في حمارة القيظ والشدة الحر:
نماذج من التفسير المعاصر لأشراط الساعة:
لقد كان التفسير المعاصر لأشراط الساعة نموذجا للعبث بالعلم، والتفسير الذي لا يستند إلى عقل ولا إلى شرع، كان العبث له ظاهر، منه التفسير، ومنه اعتقاد وقائع معينة تدل على بعض الأشراط دلالة قطعية وهي ليست كذلك، ومن هذه الأمثلة قضية المهدي التي خفض فيها المعاصرون ورفعوا، وتكلموا وأطنبوا، وكذلك قضية الدجال والرايات السود ومن هم أصحابها، وقد عكس منهجهم طريقة الاستدلال المتشكلة في طريقة تعاملهم مع النصوص، وقد لخص محمد إسماعيل المقدّم منهجهم حيث قال:
“هل المنهج الذي سلكه العابثون بأشراط الساعة يعكس التزامهم بالضوابط التي وضعها العلماء في حكاية الإسرائيليات؟ والجواب بالنفي:
أولا: لأن من القوم من يروون كل ما يقفون عليه منها بغض النظر عن هذا التقسيم([22]).
ثانيا: ولأن من يقتصرون على حكاية القسم الثالث منها لا يذكرون ذلك استشهادًا وتحلية -على حد تعبير ابن كثير-، وإنما اعتقادا واستدلالا واحتجاجا، بل منهم من يقسم على صحة ما فيه، ومنهم من يعبر عن هذه الإسرائيليات بالوحي القديم.
وثالثا: ولأن عامتهم -كما يتضح من كتاباتهم- ليسوا من الراسخين الذين يجوز لهم النظر في كتب أهل الكتاب، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ ولذلك تأتي أقوالهم -بل أقوال الواحد منهم- متعارضة متضاربة، يكذب بعضها بعضا، وينقض آخرها أولها.
ورابعا: أن منهم من يتجاوز الاستشهاد بالإسرائيليات إلى الاستدلال بها، ثم يزيد الطين بلة حين يضيف إلى ذلك الاستدلال بتفسيرات علمائهم ومفكريهم لها، فإذا كانت هذه الإسرائيليات نفسها محل توقف في كونها وحيًا معصومًا أو لا، فهل هناك توقف أو تردد في أن علماءهم وأحبارهم ومفكريهم غارقون في التيه والحيرة والضلال المبين؟!”([23]).
وقد كانت قضية المهدي ونزول عيسى ابن مريم والدجال وكثير من أشراط الساعة محل عبث من هؤلاء، حتى تكهَّن متكهِّن بأن المهدي شخصية تايوانية تظهر في حروب متصوَّرة بين أمريكا والصين([24]).
ومن النماذج المضحكة على هذا الافتعال: ما صنعه ميرزا غلام أحمد القادياني، والذي ادعى الإصلاح ثم التجديد ثم المهدوية ثم كونه المسيح المنتظر، فقام ببناء منارة بقاديان سماها: منارة المسيح، وذلك بعد دعواه المسيحية باثنتي عشرة سنة، وذلك ليكمل دعواه أنه المسيح ابن مريم الذي ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق!!([25]). ومحمد عيسى داود حيث يقول: “يعلن تلفاز المهدي وإذاعاته على العالم كله أن سلطات الأمن قبضت على جواسيس ومخربين من روما والفاتيكان، واعترفوا بأن البابا الجالس على عرش الفاتيكان يومئذ بدأ يجهز خطة سرية للقضاء على المهدي اغتيالا، وأن الحكومة الإيطالية اشتركت معه بشبكات المافيا لتسهيل المهمات الاغتيالية والتخريبية بأي ثمن، وفي أسرع وقت، ونفت روما الأنباء بفزع وتضارب، وأعلن البابا أن الأمر كله خلط وخداع من المهدي للعالم.
فكانت المفاجأة أن يعترف الجواسيس صوتا وصورة أمام العالم كله بالحقائق، ويقدموا الأدلة المادية الدامغة، وتنقل الشاشات الاعترافات والأدلة على الهواء مباشرة، وأمام حضور مندوبين من الغرب وأمريكا، واعترفوا بتفاصيل الخطط… وأنهم أيضا ممهدون للأجواء التخريبية ولخطط أكبر ينفرد به سدنة الفاتيكان… وأنهم الآن يلجؤون إلى دولة الخلافة الإسلامية ويطلبون جوار المهدي والحماية والأمن لهم ولعائلاتهم.
وتباينت ردود الفعل العالمية، إلا أن المهدي حسم الأمر في خطاب موجه للعالم كله بأن هذه الحبكة الشيطانية الدرامية هي كيد البابا بالاتفاق مع مكر حكومة إيطاليا، وأنه يعلن حماية هؤلاء الذين لجؤوا إليه، وحماية ذويهم في روما، وإن حدث وأصيب أحد الأبناء لمن دخلوا في حمى المهدي ودولة الإسلام العظمى فإن الجيوش الإسلامية ستتحرك من قواعدها بالبحر والبر والجو؛ لأن حماية وجوار ذمي هو كحماية وجوار مسلم، ويمنح المهدي حكومتي الفاتيكان وروما مهلة أربع وعشرين ساعة يأتي فيها بأهالي طالبي الحماية وأولادهم، لكن السيف قد سبق العذل، فقد كانوا انتقموا من بعض الأهالي بالقتل.
وهنا يعلن المهدي على العالم كله أن جيوشه متحركة لا محالة للفاتيكان وإلى روما (عاصمة الأجراس والكنائس). ويدندن العالم كله الغربي والصليبي وأمريكا بالتنديد بالمهدي والشجب والاستنكار والاجتماعات التي تنفض دون أي حركة إيجابية تنقذ ماء وجوههم الذي أريق ذلة ومهانة وهوانا.
سبحان الله! وتلك الأيام نداولها بين الناس، تماما مثلما كان يحدث مع المسلمين أيام ضعفهم وهوانهم.
نعم، سبحان الله! كما تدين تدان، ولا يبقى كما هو إلا الله الواحد الديان. ويشير المستشارون الأفذاذ على المهدي بتأخير فتح روما والفاتيكان لتنفيذ مخطط أكبر، لا بد من إعداد الجيوش له.
وهنا نترك المهدي يعد جيوشه ويسرج خيوله، أعني رؤوس صواريخه وحاملات طائراته ودباباته ومدافعه التي تعبر القارات، لا مجرد عدة دول وبلاد على مرمى البصر منه”([26]).
ويقول محمد عيسى داود: “ولا أستبعد أن يكون آدم وايزهاوبت يهودي الأصل، بل لا أستبعد أن يكون هو نفسه المسيح الدجال، لو كان أعور العينين، ولو كان معي صورة له لحددت ذلك الأمر، وإن كنت أغلب أنه حلقة الوصل، أو الصديق المخلص جدا للمسيح الدجال، أو ممثله الشخصي أمام الروتشيلديين الأثرياء اليهود، ثم من يختارهم لتكوين المنظمة السرية”([27]).
هذه الترهات العلمية والسخافات العقدية هي التي صنعت عقول كثير من الخرافيين، وتسببت للأمة في ترك الأسباب، ودخل الناس في معارك لا طائل من ورائها، وآخرون تركوا الأسباب الشرعية وفرطوا فيها انتظارا للمهدي المنتظر، واعتمادا على هذه التفسيرات المضحكة والتأويلات العبثية، وتظهر خطورة هذه التأويلات حين يعلم حيادها عن السنن ومخالفتها لطريق النصوص الشرعية، فالأخبار في هذا الباب لا تحتاج إلى الحمل المتكلَّف، بل هي أخبار تقع على نحو ما أخبر.
ومن ناحية أخرى فإن في بعض الاعتقادات المتعلقة بأشراط الساعة رجمًا بالغيب وكلامًا في دين الله بغير علم، كما هو حال العابث محمد عيسى داود، ومنه ما وقع للعالم المغربي الغماري في كتابه “المطابقات العصرية لما أخبر به سيد البرية”، ففيه تعسف في التأويل وتكلف في الحمل، سواء تعلَّق الأمر بالآيات القرآنية أو بالأحاديث النبوية الشريفة، مع ما صحب ذلك من اعتماد على الحديث الضعيف في باب الأخبار، بل والموضوع والإسرائيليات، وقد نتج عن هذه التفسيرات الباطلة شك للناس في دين الله، وفتنة لهم عن الحق؛ وذلك لضعفها ووضوح بطلانها وتكذيب الواقع لها أيضا، فينبغي لطالب العلم الحرص على أخذ الدين من منبعه الصافي، واتباع السنن، ولزوم الجادة، والابتعاد عن طريق أهل الزيغ والنحل، والوقوف مع النص، وعدم تجاوزه بانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج»، قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال هكذا بيده، فحرفها كأنه يريد القتل([28]).
ومن أمارات قبض العلم تكلُّم أهل الصحافة وأصحاب الظنون الباطلة في شرع الله، وتأويل أخباره، ألا ترى -أيها القارئ الكريم- إلى تمحلات عيسى داود وتفسيراته لأشراط الساعة التي لا تصلح لأن تكون تعبيرا للرؤيا، فضلا عن أن تكون تفسيرًا لآية أو حديث، وهذا عيسى داود، فلو حدثناك عن الكيالي المهندس وممارساته البهلوانية التي يعتبرها إعجازًا علميًّا وتفسيرا منطقيا لأشراط الساعة لخرجت عن الوقار من شدة الضحك، ولَخِلتَ الرجل يفكِّر بإحدى نعليه، ولا يتكلم من رأسه، والله المستعان.
وتتبُّع القوم يخرج الورقة عن حجمها، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([4]) شرح صحيح مسلم (16/ 100).
([5]) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 20).
([6]) ينظر: فتح الباري (13/ 73).
([7]) ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (6/ 318 وما بعدها).
([8]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 84).
([12]) ينظر: ضعيف الجامع الصغير (3/ 160) رقم (3013).
([13]) ينظر: رسالة شريفة للإمام الصنعاني (ص: 50).
([14]) يقصد بالكشف رسالة السيوطي الموسومة بـ: “الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف”.
([16]) ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 84).
([17]) ينظر: الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية (ص: 7).
([21]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1151).
([22]) يريد التقسيم الثلاثي لأحوال الإسرائيليات.
([23]) المهدي وفقه أشراط الساعة (ص: 657).
([24]) ينظر: فقه أشراط الساعة (ص: 611).
([25]) انظر: القاديانية لإحسان إلهي ظهير (ص: 164).
([26]) ينظر: تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم والفتن (ص: 176). وينظر: المهدي المنتظر على الأبواب (ص: 238).