الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

الأسماء والصفات عند الإمام الذهبي

A A
 #مركز_سلف_للبحوث_والدراسات

الإمام الذهبي هو أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ولد سنة 673 هـ بدمشق، وطلب علم القراءات، ثم شغف بالحديث حتى ملك عليه قلبه، فرحل في طلبه، واجتهد -بذل وحصَّل- وتبوأ مكانة قلما يصل إليها أحد، ألف في كثير من الفنون، وأشهر كتبه (تاريخ الإسلام)، و(سير أعلام النبلاء)، توفي سنة 748هـ .

والإمام الذهبي رأس في الحديث والرواية، قال عنه ابن السبكي: «هو إمام الوجود حفظاً، وذهب العصر معنىً ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، كأنما جُمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها» [طبقات الشافعية الكبرى (9/101)]

والمشهور المعلوم عن الإمام الذهبي أنه على مذهب أهل الحديث في العقيدة، وفي باب الأسماء والصفات خاصة لا يختلف قوله عنهم في ذلك.

ومن العجب أنَّ أحد مشاركي مؤتمر جروزني -السيء الذكر- قد اتهم الذهبي وغيره من أئمة الحديث بأنهم كانوا يفوّضون معاني الآيات والأحاديث الواردة في بعض الصفات، وأن مآل الأمر عندهم في الاعتقاد يؤول إلى منهج الأشاعرة والماتريدية، وأنهم يسلكون مسلك التفويض والتأويل.

وقد ذكر هذا الباحث أن الذهبي من أكثر الناس تأكيداً على أن المذهب الصواب الذي مشى عليه سلف الأمة هو تفويض معاني آيات الصفات.

وذكر قوله في السير: «فقولنا في ذلك -يعني آيات الصفات- بابه الإقرار والإمرار، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم. [السير (8/105)]

وذكر هذا الباحث رد الذهبي على ابن خزيمة في تكفير من تأول الصفات [راجع مقال الأشاعرة وكتاب التوحيد لابن خزيمة وهو من إصدار مركز سلف] ثم قال: «فهذا موقف الذهبي يأمر بتفويض المعنى، ويعذر من تأول الصفات، وقد علمت أنه ما تأوّل من تأوّل إلا صيانة لأفهام العوام وحفظاً لها من الوقوع في درن التشبيه، فالتأويل ضرورة تقدر بقدرها».

وعليه فالتفويض الذي يقول به مآله إلى التأويل لأنه يعذر من قال بالتأويل.

وهذا تلبيس عجيب!

فالذهبي لا يرى كفر من تأوّل الصفات فقط، لا أنه يرى أنهم مصيبون فيما ذهبوا إليه من تأويل الصفات وكيف يكون هذا وهو نفسه قد نص على إنكار التأويل حيث يقول: « قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكناً، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلاً، وهي أهم الدين، ولو كان تأويلها سائغاً لبادروا إليه، فعلم قطعاً أن قرائتها وإمرارها على ما جائت به هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك، ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات الله تعالى، استأثر الله بعلم حقائقها، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين » [ السير (10/505-506)]

وقال: «قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً وإثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف». [مختصر العلو (ص: 141)].

لأجل ذلك سنبين في هذا المقال عقيدة الذهبي في باب الأسماء والصفات، وما هو مذهبه فيها، وهل كان مفوضاً في ذلك أم كان سلفي المعتقد؟

لا بد من الإشارة إلى أن الذهبي يرى أن مذهب السلف هو إمرار نصوص الصفات كما جاءت دون تكلف معرفة حقيقتها، وينقل إجماع السلف على ذلك [مختصر العلو (141-142)]

ويثبت الصفات الخبرية التي لا يثبتها الأشاعرة، كصفة الوجه واليدين والأصابع، والقدم والساق، والمجيء والإتيان، بل إنه ألف كتاب الأربعين في صفات رب العالمين وذكر في الجزء الأول منه هذه الصفات مع الاستدلال على وجوب إجرائها على الظاهر بما سرده من الآيات والأحاديث وأقوال السلف.

كما نجد الذهبي يثبت الاستواء على العرش وأنه تعالى في السماء، بل ألف كتابا مستقلا في هذا وهو الكتاب المعروف بـ “العلو للعلي الغفار”، وقد ذكر فيه أقوال السلف، التي تدل على أن المعتقد الصحيح هو: الإيمان بأن الله فوق العالم بذاته وأنه جل جلاله مستوٍ على العرش.

ونجده رحمه الله يستدل على صحة المنهج السلفي بالقاعدة المشهورة: القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك ليس كمثله شيء في صفاته [السير (13/300)].

ولم يقف الإمام الذهبي في نصرته للمنهج السلفي عند إثبات الصفات على ما هو ظاهر منها بل أكد على أن هناك مقامان مذمومان، مقام التأويل وصرفها عن موضوع الخطاب، والمقام الثاني مقام التشبيه بصفات المخلوقين. [السير (10/610-611)]

بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا عندما ذكر أن إثبات صفات الله وعدم تأويلها، وإمرارها بلا تكييف هو ما كان عليه أبو الحسن الأشعري وأصحابه، إلى أن وقع الاختلاف بعد ذلك في زمن أبي حامد [السير (17/558-559)]

فكيف يصح بعد هذا أن يقال: إن الذهبي يؤولُ قوله إلى مذهب الأشاعرة؟

وهل يصح أن يحكم على شخص بأنه يؤول مذهبُه إلى ما يقول به الأشاعرة إلا إذا جرى على أصولهم، والذهبي ما وافق الأشاعرة في أصولهم، بل أنكر عليهم قولهم.

ومما يؤكد ما ذكرنا من أن الإمام الذهبي كان على المنهج السلفي رادًّا لبدع الأشاعرة: أنه قد حيل بينه وبين تولي مشيخة دار الحديث الأشرفية مع كونه إمام أهل الحديث في زمانه وما ذاك إلا لأنه لم يكن على مذهب الأشاعرة، [انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/74)].

بل قال ابن السبكي عنه: إنه «كان شديد الميل إلى آراء الحنابلة، شديد الازدراء بأهل السنة الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعري فيهم مقدم القافلة» [طبقات الشافعية الكبرى (9/103)].

ومراده بأهل السنة: الأشاعرة كما فسره هو بنفسه، فهل كان ينكر عليهم أنهم يقولون بمثل قوله أو بما يؤول قوله إليه أو بما يعذرهم فيه؟!

‏إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017