فلسفات الحداثة من رؤيـةٍ شرعيّةٍ
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونةشَهدتِ العلومُ الإنسانيَّة تحوُّلاتٍ كبرى عبرَ التاريخ، أدَّى إليها عدَدٌ من التراكمات الفكريَّة، التي شملت كثيرًا من العلوم بما في ذلك العلوم الإسلامية، لتأتي الحداثة كنَسق معرفيٍّ يتفاعل مع التغيرات العلمية، ويحاول فهمَها عبر أنساق معرفيّة خاصةٍ، تجمع بين السياقات الدينية والفلسفية والاجتماعية. وكانت غاية الحداثة تقديمَ صورة متطوَّرةٍ للحياة في جميع الميادين، وجعلت من العقل والتجربة أسسًا للعلم وإصلاح الحياة السياسية والاجتماعية، كما يُقرَأ عبرها التاريخ، ويُحاكم إليها، ويُعتبر أيّ منجَز ديني محلَّ نظر واستشكال ما لم يشهَد الواقعُ والتجربة بصدقِه.
وقد تمَّ ذلك عبر آليَّات ومغذِّيات فكرية واجتماعيةٍ تَستنِد إليها الحداثة في تشكُّلها ومضامينها، وأغلب هذه المغذِّيات نشأ خارجَ البيئة العربية والإسلامية، لكن تمَّ استيراده وتدويله وتوفيده إلى سائر المجتمعات؛ ليصير مفهومًا كونيًّا لا تُفهم المصطلحات إلا عبر عرف المتخاطبين به أصالةً من أهل الثقافة الغربية، فكانت الحرية والدولة المدنية والتراث والتنوير مفاهيمَ يراد تدويلها وتعميمها على جميع الثقافات، ويتمُّ فرض معانٍ موافقة لها، وأخرى مسالمة، وثالثة معادية ومضادة، وتُفْرَضُ الحمولة الثقافية لهذه الكلمات على جميع المستخدمين لها عبر وسائل الإعلام الكونية ذات التأثير العالي؛ حتى لا يبقى بيتُ حجر ولا وبر إلا دخلته وفرضت عليه نفسها، وقد أدَّى هذا الفرض إلى استسلام قطاعات كثيرة من حملة الأقلام وروَّاد الثقافة للثقافة الغربية وما تمليه من معارف، وما تستند إليه من فلسفات وأسس، وأحيانا تطغَى الثقافة الغربية على منتحليها إلى حدِّ أن يظهر عليهم التأثّر بها ظهورًا يدركه كل مؤمنٍ كاتب وغير كاتب.
وسوف نسعَى في هذه الورقة العلمية إلى تبيين فلسفات الحداثة التي بُنيت عليها في بيئة منشَئها، ونبيّن الموقف الشرعي منها، وكيف أن عدم المحاذرة في التعامل مع المصطلحات أدَّى إلى نوع من الاستسلام والاستلاب الثقافي للممارسين لهذه الميادين دون استعمال سترة نجاة من العلوم الإسلامية، أو إدراك للخصوصية الثقافية وما تمليه من ممانعة أو صدام، وقد انبَنت الحداثة في بيئةِ نشأتها على مجموعة من الفلسفات تعدّ هي المؤسِّس الحقيقي لها، ومن هذه الفلسفات:
الفلسفة العقلية:
لا يمكن الحديث عن الفلسفة العقلية لدى الحداثة مع إهمال الفيلسوف ديكارت (1650م)، وهو الأب الحقيقيّ للفلسفة، والمؤسس الشرعي للذاتية الغربية، وقائد معركة التخليص للمناهج العلمية من هيمنة اللاهوتية. وهذا الصراع هو الذي أدى إلى اصطدام العقل المعرفي بالتنظير الكنسي، واعتبار التنظير الكنسي غير كافٍ في الإقناع؛ ما لم يستند إلى أدلة يصدّقها العقل الطبيعي([1]).
ويرى ديكارت وجوبَ إثبات جميع القضايا بالعقل؛ لأن إثباتَ الذات المفكِّرة متقدِّم على إثبات الخالق والعالم ضرورة([2]).
وقد شهدت الفلسفة العقلية عدة تشكّلات، مرورًا بديكارت وانتهاءً بكانط، وكانت كلها محاولات للتخلّص من هيمنة اللاهوتية والأرسطية، ومحاولة للانتقال من مرحلة الجوهر إلى مرحلة الأداة، والالتفات إلى سؤال إمكانات العقل وحدوده حسب كانط، وقد تمَّت أنسنة العقل في هذه الفلسفة؛ لأن عصر الحداثة عصر الذاتية على حدِّ تعبيرهم، وهذه الذاتية عند هيكل هي أرضية المشروع الحداثي ومكمن تميُّز عصر الحداثة بسبب سمتين أساسيتين هما: الحرية والتفكير.
وإضافة إلى هذا ثمَّة سمة أخرى أبرزتها الفلسفة الهديغرية وامتداداتها في فكر ماركينو، وهي العقلية التقنية ونزوعها نحو السيطرة على الطبيعة([3])، والتخلُّص من جميع المغذِّيات الخارجية المدعاة، والجنوح نحو الذاتية والتجربة، وإبعاد الفطرة كمصدر من مصادر المعرفة العقلية، والانفراد بالحكم العقلي على الأشياء، والاستناد إلى التجربة البشرية وما تمليه من مادية للأشياء، ومن هنا اتسمت النظرة الحداثية للعقل بالتمجيد له، وجعله عقلًا طبيعيًّا لا يتجاوز المحسوس، ولا يهتمّ بالغيب ولا بما وراءه، ونظروا لجميع الأطروحات الدينية على أنها مجرَّدُ نظريات خاضعة للتجربة في جانبها المادي، وحملها على المحسوسات، وفي جانب المتافيزيقي الغيبي مجرَّد خرافة.
وقد أدت النزعة العقلية عند الحداثة إلى نوع من الفردية؛ لأنها في شقها العقلي ومحاولة إثبات ذاتيته كانت مجرَّد ردة فعل على ممارسات أخرى أهمها:
أولا: الطغيان الكنسي وفرض السلطان المذل للناس.
ثانيا: ثورة الصناعة التي حدثت وغيرت حياة المجتمعات.
وقد أدَّى هذا التفكير بأصحابه إلى النزعة الفردية، واعتبار الإنسان كيانًا عاقلا لا يخضع لغير عقله أو لغير العقل بصفةٍ عامة، ويرفض الأفكار الموروثة والتي ترى أن للمجتمعات غايات محتومة غيبية تسعى لها، والإنسان مسخر لها([4]).
وتتَّسم الفلسفة الحداثية في طورها الغربي ونسختها العربية المحدَثة بالرفض المطلق لكثير من المفاهيم الدينية، واعتبارها مناقِضة لها كالوحي والغيب وما في معناهما، فالوحي قيدٌ على العقل بالنسبة لهم، كما أنَّ الغيب خروج بالعقل من المادة إلى الأسطورة، ويشتركان في كون كل منهما -أي: الغيب والوحي- يُفقِدان العقل الحداثي حياديتَه المدَّعاة، ويجعلان منه أسيرًا للأفكار المسبقة والمعارف المعلَّبة الجاهزة، وهو ما يتناقض مع مضمون الحداثة في طورها الغربي وميلادها العربي.
وقد أدَّى سؤال العقل الحداثي إلى نوع من النسبية في الحقائق؛ وذلك لما يمليه تطوّر العلم والتكنولوجيا، فالعقل الحداثي يعتمد على كيفية صُنع حضارة القلق، بمعنى: كيف يكون الإنسان مستعدًّا باستمرار لفهم ذاتهِ ومحيطه؟ وهدفه في الفهم هو فهم خصوصياته الثقافية والجينية والغرائزية؛ لكي تتحول إلى نزعات عقلية جديدة، تقودهُ من جديد لتفكيك خصوصياته المختلفة بحثًا عن أُخرى أكثر منفعةً، تُمكِّنهُ من تجاوز ظرفية بنيوية سببها تطوّر العقل، أو بفعل تأثيرات نظرية التعطيل العقلي.
والسعادة في العالم المعاصر التي يسعى الجميع لتحصيلها سعادةٌ مادية بحتَه، ومن ثم فإن العقل يركِّز على الطبيعة والمادة، ويبعد ما سواهما من الأشياء؛ لعدم أهميتهما في التعاطي مع الحياة المحسوسة، ويتمّ إبعاد الشقّ الروحي وتجاهله.
هذه الفلسفة هي التي كوَّنت العقل الجمعي الحداثيّ عبر عصور متعدِّدة، وهي الحاكمة لكثير من تصرفاته وتقلباته، ومنها ينطلق وإليها يرجع، وحين نمعِن النظر في هذه الفلسفة نجدها بلا شكٍّ -كما يقول أصحابها- تتنافى مع التديُّن عمومًا، ومع العقلية الشرعية خصوصًا، وذلك راجع إلى أمرين:
الأول: محوَرية العقل في الفكرة وكونه الأساسَ لها، دون اعتبار أيّ مصدر آخر.
والثاني: الإغراق في المادية بمفهومها السطحي المحصور في الطبيعة وما فيها، والذي يغضّ النظر عما وراء الطبيعة.
ومنهج القرآن مختلِف من هذه الناحية، فهو يحثُّ الإنسان على إعمال قواه المعرفية الفطرية للاهتداء وإدراك الأشياء على حقيقتها كما خلقها الله، ويبين المقصد منها، كما أن العقل المثمر بالنسبة للشرع هو العقل الواعي لما حوله، الموظِّف له توظيفًا شرعيًّا إيمانيًّا، يجعل العقل منسجِما مع الكون والحياة، ويتفاعل مع الطبيعة ويتحرك في العمل؛ لأن العلاقة بين العلم الذي يفرضه العقل والعمل علاقة تلازم، فليس العقل هو ذاك المفكر الأعمى الذي يحدث النسبة بين التصوُّرات، كما أن العاقل ليس هو ذاك الشخص المعزول عن الكون والحياة، القلق بسبب تحديد المجهول وإدراك اللامعقول، والذي يحدث جدلية مختلقة بين العلم والعمل، بل العمل يزيد العلم ويثبِّته، فليست المعرفة في منطق القرآن معرفة نظرية يمكن فصلها عن البعد العملي والتطبيقي، فإذا حصلت المعرفة عند المرء ولم يقترن بها العمل لم تعد تلك المعرفة عند العارف معرفةً حقيقيةً؛ لأنها بتجرُّدها من العمل تدلُّ على عدم رسوخِها في النفس، وليست هي المقصودَة للقرآن مطلقًا؛ ولذا يربط القرآن بين المعرفة والتأثُّر بالحياة وما يسمع الإنسان مما هو شاهد لما علمه، قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [المائدة: 83].
فالعقل الشرعي عقلٌ أرقى من عقل الإنسان الطبيعي؛ لأنه ممتزج بالوحي، وهو رافد معرفي غزير لا يمكن مقارنته مع العقل المحصور في المادة، لا من ناحية صنع القيم، ولا من ناحية فهم الأشياء وما بنيت عليه. ومن هنا لا نكون مجازفين حين نقول: إن العقل الإنساني العادي بالمقارنة مع العقل الشرعي يعدُّ عقلًا بسيطًا وساذجًا، حتى عندما يكون هذا العقل الإنساني برهانيًّا وبريئًا من المغالطة، فإنه لا يمكن مقارنته بالعقل الشرعي؛ وذلك لعدم الانضباط في الأول، والتشتُّت بسبب المغذيات والمؤثرات التي لا ينبّه عليها إلا الوحي، وهذه المغذيات هي ما يعترف الحداثيون بأنها دوافع لجميع الأعمال العقلية التي ينتجها العقل الحداثي، ألا وهي الملذَّات والشهوات، فالعقل الغرائزي لا يصلح للتقييم، ولا لإصدار الأحكام؛ لأن العقل الغرائزي عقلٌ ظاهريّ، وليس عقلًا في حقيقتِه وجوهره، فمادة العقل مادَّة منعٍ، يعني أنها تمنع الإنسان مما يؤدِّي إلى المفسدة، فالشبهات والميولات النفسيَّة تؤدي إلى الشهوات وتحقيق الرغبات، مع ما في هذه الشهوات من مفاسد، وما في الرغبات من ألم، فإذا كان العقل يعترف بداية بأن هذه هي دوافعه دون النظر في العواقب على الفرد والمجتمع؛ فإنه لا يمكن الثقة فيه مطلقا؛ لأن توصُّلَك بعقل إلى الشهوة وتذليل المستحيل لذلك لا يعدُّ عقلًا بالاعتبار الشرعي والقيَمي الأخلاقيّ؛ لأن الوصول إلى اللذة وتذليل العقبات لها -بغَض النظر عنها في نفسها- يعدُّ طيشًا وسفَهًا، وإلا فما الفرق بين المحتال العاقل والسارق الحاذق وبين الحكيم والعامل المتقن إلا طريقة توظيف العقل والانضباط بما تمليه القيم. وإن نظرنا إلى العقل مجرَّدًا فإن كُلًّا من الرجلين عاقل، فهذا وظف التقنية التي صنع للقتل والاحتيال، وهذا وظفها للحياة. وطبقا للعقلية البرغماتية: كلّ مصيب ما دام عقله في إطار الحياة والمادة والنظرية الفردية المعلية من شأن الشهوة واللذة على حساب الأخلاق والقيم والشرائع.
والعقل الغرائزي يريد أن يكسِب المال طبقًا لمنطق نفعيٍّ لا وجود للأخلاق فيه، المهمّ أن تحصل على المال، وليس المهمّ أن يكون مصدره مشروعًا، العقل الغرائزي لا يحرم الكذب والغدر والانتقام وما إلى ذلك من الشرور التي تعتبر موافقةً ظاهرًا لطبع الإنسان، إلا أنها مخالفة للتكليف العقلي النابع من البرهان والتبصّر البعيد بعواقب ومآلات الأمور، والعقل بهذا الاعتبار ليس محترما في الشرع، وأحكامه لا قيمة لها، بل لا يعتبر عقلًا أصلًا، وهو في القرآن مرادف للنفس والوسواس والشيطان، والإنسان مطالب بمعصيته والابتعاد عنه، قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]، وقال سبحانه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم} [يوسف: 53].
فالإنسان الذي لا يعصي هواه ولا يكبح جماح شهوته ليس سويًّا، والإنسان الذي لا يعترف بالأخلاق إلا في إطار ما توفِّره له من مصلحة آنية ليس إنسانا عاديًّا؛ لأن الإنسان الطبيعي هو إنسان اجتماعيّ متديّن، لا يتعالى على ذاته، كما أنه يدرك أهمية الأخلاق ومآلات الأفعال، فلا يحكم على أمر إلا بما يؤول إليه، لا بما يظهر منه في بادئ الأمر؛ ولهذا فإن الله سبحانه جعل أجرًا للإنسان في مقابل أعماله وأقواله ونواياه وتصرفاته، فجعل الثواب لمن أطاع الله، وجعل الجنة لمن كان من الصابرين وعصى هواه، ولم يتّبع المفسدين في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد المادي والمعنوي، وابتعد عن الشر وما يُحدِث القلق له ولغيره، ومن ذلك شهواته ونزواته التي إذا لم يهذِّبها بالشرع والعقل الأخلاقي -وليس الغرائزي- فإنها توبِقه وتهلكه، كما جعل النار والعذاب العاجل والآجل لكل من أتبع نفسَه هواها، واشتغل بالمادة وظاهر الحياة على حساب الحقائق الكونية المطلقة؛ من وجود الله وضرورة عبادته، واعتقاد الرجوع إليه، والمساءلة عن الأعمال كلِّها، واعتبار أن الْمُنْكِرَ لذلك والمشكِّك فيه ليس عاقلا؛ إذ كيف يُعقَل كونٌ بهذه الدرجة من العناية والإتقان ويكون عبثًا دون أن يكون هناك نظامٌ يحكمه وأمد ينتهي إليه، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم} [المؤمنون: 116]، وقال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [التغابن: 7].
وما لا يتعقَّله الحداثيون طبقًا لفلسفتهم ولا يُسلِّمُون به: أن هذا العقل الذي يريدونه حاكمًا على البشرية لم تجن البشرية من قوانينه إلا الويل والدمار على مستوى الأخلاق وعلى مستوى الاقتصاد، ولا يعترض على هذا النقد بالإنجاز التقني الذي لم يقم به العلماء ولا الصالحون؛ لأننا لا ننكر أهمية العقل ولا وجوده، وإنما ننكر أن تكون هذه الأشياء ذريعة لسطوة العقل على شؤون الحياة التي لا يمكن له أن يبدع فيها بمفرده، فكما أبدع في الجانب التقني فإنه أخفَق في الأخلاق والسياسة، بل وفي توفير السعادة، ولم يكن من عذر في هذا الإخفاق إلا تغيير مفهوم السعادة، والعدول به عن معناه الروحي الحقيقي، إلى المعنى المادي الذي ينتقض بأتفه الأشياء من غضب ومرضٍ وموتِ قريب، بل بفوات مصلحة آنية، وما كان هذا حاله فإن محاكمة القيم الدينية والمجتمعية له تعدّ مخاطرة بالقيَم نفسِها وتضييعًا للحقائق وإبعادًا للمعرفة عن الإنسان.
وقد أدَّى الغلو في مفهوم العقل عند الحداثة إلى اعتقاد التضادّ التامّ بين الوحي والعقل وبين الحسّ والغيب، فصارا في نظر الحداثيين نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فلا يتصوَّر عند الحداثي إيمان مع التطور، ولا مادة مع الغيب، ولكي ننهض بالعقل البشري لا بد أن نخرجه من أسر الوحي والأسطورة والقيم، لنخرج به إلى المادة والطبيعة، بعيدًا عن قدسيَّة الأشياء وتسليمها قبل إخضاعها للعقل والتجربة الحسية، فالفرد هو أساس الحياة، وهو الذي تدور حوله بعيدًا عن التنظير، وحقّ الحياة هو مصدر القيم والأخلاق؛ لأن منه تنشأ الحقوق الفردية، ويعيش الإنسان كما يريد لا كما يُراد له، ويعبر عن حياته ولذَّته بوسائله وقناعاته، لا وفق ما يملَى عليه ويُفرض، فهو يعيش كامل الحرية في عالم الشهادة، ولا ينبغي أن يدار من عالم الغيب([5]).
فهذه الرؤية والفلسفة العقلية تعكس حجمَ التضادّ بين الحداثة والفلسفة في الواقع أولا، وفي تنظير أصحابها ثانيًا؛ وعليه فإنَّ التفاعل مع المفهوم وفق ما يمليه المصطلح الوديع ذو الدلالة البسيطة يعدُّ تغافلا في غير محلّه، وتسامحَا أقربَ للبله منه إلى الإنصاف، فالحمولة الثقافية للكلمة ووفق فلسفة أصحابها قائمة على اعتبار التناقض بين الدين والعقل، وحتمية إبعاد الدين عن الحياة ومراكز التأثير؛ حتى يتسنى للبشرية القيام بشؤون الحياة والنهوض بالمجتمعات كما ينبغي، فإذا تبين هذا بقي للقارئ أن يدرك الفلسفة التي ينبغي أن تطبع حياة الناس وتحميها وفق هذا التنظير الحداثي، ألا وهي:
فلسفة الحرية:
كان للكنيسة مشاركة كبيرة في صنع الحداثة بمفهومها الفكري المعاصر، وذلك لما للكنسية من ممارسات سيِّئة باسم الدين، تسبَّبت في النظرة العدائية للدين من طرف كثير من الثائرين على الكنيسة، وتم تعميم هذه النظرة على جميع الأديان بعد ذلك، سواء كانت سماوية أو وضعية، وساد التنظير على أن الدين مجردُ فكرة اجتماعية صنعها نفعيون في المجتمعات، وروَّجوا لها، وأضفَوا عليها صبغة القداسة؛ لتغطية الخلل المعرفي والعقلي الموجودين في مضامينها. كما قامت الحركات التحرُّرية بالتأكيد على مفهوم الحرية، ولا يراد بها عندهم المعنى الإرادي الذي يقابل الجبر، فذلك مبحث عقديّ بسيط، وإنما أرادوا للحرية مفهومًا كونيًّا ذا حمولة ثقافية تتجاوز المعنى اللغوي الاصطلاحي الفلسفي، ليستقي معناه من الممارسة اليومية التي تسعى إلى تطويره عبر اتفاقيات ومفاهيم تتجدَّد وتتوسَّع في جميع شؤون الحياة، فكانت الحرية بالمفهوم المدني تعني تنظيمًا للعلاقة بين المجتمع والدولة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الدين وغيره، واعتبر الحداثيون الحرية -وخصوصًا حرية الفرد- قيمة أساسية عليَا وحقًّا طبيعيًّا لازما للوجود الإنساني، فالحرية هي المبدأ والمنتهى والغاية، وهي المنظومة المعنية بالحكم على الأشياء، وهي تعني باختصار كما يقول بعضهم: “للإنسان سلطان مطلق على نفسه وجسمه وفكره”([6]).
فمع محورية الحرية في الفكر الحداثي إلا أنه يوجد تفاوتٌ كبير في مفهومها وحدودها، وبعيدًا عن التطور الدلالي للكلمة الذي استقت فيه مدلولها من الممارسة الفعلية لحملتها وتمكنهم من الحياة القانونية الذي يجعلهم يصدرون قوانين تعكس مفهوم الحرية عندهم وسعته، إلا أنهم انقسموا حيال الحرية إلى اتجاهين رئيسيين في مفهومها:
الاتجاه الأول: الاتجاه الكلاسيكي: وهذا الاتجاه يؤكِّد على أهمية الحرية الفردية المطلقة، ويجعلها أساسًا في الحياة وفي العلاقة بين الأفراد والدولة، ويمنع أي تدخل من خارج الإنسان، فالإنسان له السلطان المطلق على نفسه، ومجال الدولة وسلطتها محصوران في حفظ السلطان على الفرد في شتى مجالات الحياة([7]).
الاتجاه الثاني: الاتجاه العصري: وهو اتجاه ظهر بديلًا عن الاتجاه الكلاسيكي بعد إخفاق الاتجاه الكلاسيكي اقتصاديًّا بسبب الرأس مالية، وظهور نتائجها المدمرة فيما عرف بالكساد الكبير عام 1929م، ونشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتحمّل الاتجاه الكلاسيكي الكثير من أوزار هاتين الحربين وتداعياتهما، فظهر الاتجاه العصري للحداثة بمفهومه الجديد للحرية، والذي يمنح الحرية دائرة أوسع، ويتجاوز بها انعدام القيود والضغوط الخارجية، ليخوض بها الصراع مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية والأديان السماوية وكل ما يعوق الإنسان أو يمكن أن يشكِّل عقبة في حريته، والقوانين لا تنال صبغة إلزامية من ذاتها، وإنما من جهة اتفاق الناس عليها لتحقيق سعادتهم الخاصة([8]).
والفرق بين المفهومين: هو أن المفهوم الكلاسيكي يسعى إلى ضبط الحرية بالسلطة، بينما المفهوم الثاني يسعى لاستيلائها على السلطة([9]).
وهذا عنها في طورها الغربي، أما في طورها العربي فقد كانت مجرد ترجمة حرفية لما عند الغرب بدون إضافة أو اختلاف سوى في النفسية، فالغربي يتعامل مع هذه المفاهيم بمنطق المتعالي والمنشئ لها، بينما العربي يتعامل معها بمنطق التابع المنبهر. ومن أكثر من تكلَّم في مفهوم الحرية وفلسفتها من الحداثيين العرب المفكر المغربي عبد الله العروي، وقد خلص في تقييمه للتراث بعد بحثه عن دلالة الكلمة اللغوية إلى أن لها عدةَ استخدامات في التراث الإسلامي، أهمها أربعة معان:
1- معنى خلقي، وهو ما يعنيه العرب حين يقولون: عبد حرٌّ، أي: كريم.
2- معنى قانوني، وهو مثل ما يعنيه القرآن في مثل: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
3- معنى اجتماعي، استخدمه بعض متأخري الفقهاء للإشارة إلى المعفى من الضرائب.
4- معنى صوفي، وهو التحرُّر الكامل عن رقِّ الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار([10]).
وبعد تنظير طويل رأَى أنَّ ضيق معنى الحرية في التراث الإسلامي يؤكِّد أن المجتمعات المسلمة عبر تاريخها لم تشهَد حرية حقيقيّة؛ وذلك أن التداول للكلمة ظلَّ محصورًا في البعد الديني وليس الإنتاجيّ، وأن وجه التغاير بين المفاهيم الإسلامية والغربية يكمن في أن الغرب يتكلَّم عن حرية الفرد المنتج، بينما تتكلَّم الثقافة الإسلامية عن الفرد المؤمن. هذا مع ما تحمِله كلمة “المؤمن” من دلالة تلطيخية في فكر العروي([11]).
وهو لم يخرج عن كونه محاكمًا للمصطلحات الإسلامية عند محاكم الغرب اللغوية، وحاول فرض القيم الغربية وما أملته الصراعات التاريخية وتحولات المفاهيم على الثقافة الإسلامية، ولم يُلق أي اعتبار لاختلاف البيئات والتحديات، مع رفعه لشعار الواقعية والنظر في التاريخ واعتبار السياقات، فكلمة الدين ليس لها إلا مدلول واحد، وهو ما يفهم من الثقافة الغربية من دلالة سلبية للكلمة، ومثلها كلمة الوحي والتقاليد والأعراف، ومن ثم دعا إلى القطيعة العلنية مع التراث الإسلامي بوصفه تراثا متجاوَزًا لا يتلاءم مع القيم الغربية ومتطلباتها الحياتية.
ولا شك أن المقارنة بين مفهوم الحرية في الإسلام ومفهومها في الحداثة الغربية يعدّ خُلفًا وغير ذي معنى أو دلالة؛ وذلك لاختلاف الزمان والمكان، كما أن مقابلتها بمفهوم الحرية في الديانات الأخرى يعد خارجًا إجرائيًّا عن الموضوع، لكن تعامل حملة الثقافة العربية أو المنتسبين إليها مع مفهوم الحرية الوافد هو الذي ينبغي مقارنته، وهل نجحوا في الحفاظ على الخصوصية الثقافية أم استسلموا لضغط الثقافة الغربية.
لقد كانت قضية الحرية من أساسيات الفكر الإنساني، وهي في بعض جوانبها لا يعارضها عقل ولا يرفضها دين، لكنها باتت في الفكر الحداثي نفسية منبهرة بالغرب، شاحذة سكاكينها ورافعة معاولها لهدم الثقافة الإسلامية واعتبارها مجرد قيود على المجتمعات الإسلامية، ويرون أن التمسك بالثقافة الإسلامية مرادف للجمود والانغلاق الفكري والتموقع حول الذات، وصادروا حقَّ الأمة في التمسك بثقافتها وهويتها، وطالبوا منها التراجع لصالح المفاهيم التي تمليها الحضارة المدنية الغربية. ومن الغريب أن شعار الحرية نفسه هو الشعار الذي تولى كبره الحداثيون، وقمعوا به حق الأمة في خصوصيتها الثقافية، وفرضوا له معنى معينًا وهو ما استقر عليه في بيئة نشأته، وهذا يقتضي أن لا تقيّد الحرية إلا بالقوانين، فالحرية لا تضبط إلا بالقانون الوضعي المصدر الوحيد للتشريع، وهذا القانون يعتمد على العقل المجرد لمن بأيديهم التشريع، وهو عقل مادي لا يؤمن بغير المحسوسات، يقول فولتير: “إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام؛ لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجل الدين لنظم الدولة، ويخضع فيه الراهب للقاضي”([12]).
وهذا الطرح والتعميم بين الأديان لا شك أنه أوقع الحداثيين في صراع مع الشريعة الإسلامية في جوانب عدة من الطرح، وكلها تصل إلى حد التضادّ والتناقض، فانخرط الحداثيون في صراع مع المجتمع والثقافة؛ متسلِّحين بأسلحة الحداثة الوافدة المؤلِّهة للحرية، ويتم النظر إلى الأخلاق كقيمة نسبية تتغير من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، وكذا القيم الدينية، فإنه يجب تجاوزها لأنها أصبحت تمثل الوصاية المفروضة، ومن ثم يجب فصل الدين عن الأخلاق؛ لأن الأخلاق لا علاقة لها بالفضيلة أو الاحتياجات الروحية، وإنما علاقتها بالسعادة والنشوة واللذة، ومن ثم فإن الشر والخير لا يعرفان إلا تعريفًا ماديًّا، فالخير هو ما يحصّل المنفعة، والشر عكس ذلك، وخلاصة الأمر أن الحداثة في طورها الغربي وميلادها العربي تلخّص الأخلاق والقيم في النسبية، وتجعلها متغيرة، وقد أسس ديكارت لفلسفات الفكر الحر في الأزمنة الحديثة، لكنه ترك أسئلة غير متوفرة الإجابة تزدحم تحت الظل الممتد للزمن([13]).
وقد أدت الفلسفة الأوربية -وخصوصا الأدبية- إلى نوع من التوسّع في الحرية، حتى توصلوا إلى الإباحية والتنظير لها بوصفها قيمة إنسانية، وقد انعكس هذا المفهوم على السلوك والنظم الاجتماعية، وقد امتزجت هذه الحركة مع الفكر الحداثي وشكّلتها حتى صارت أحد مكوناته، ويمكن إجمال ما تسعى إليه الحداثة في عدة أمور:
أولا: وضع تصوّر أخلاقي يحمل طابعًا دنيويًّا
ثانيا: تحجيم السلطة بصورتها المطلقة.
ثالثا: الثورة ضدّ القيود المعارضة للحرية في سائر مناحي الحياة الإنسانية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية([14]).
ولا شك أن الحداثة بهذا المفهوم للحرية تشكّل صدامًا مع النص القرآني، وذلك بإزاحتها له من مركزية التأثير والتشريع، وجعله في محلّ النقد والتقييم، وهو ما يتنافى مع دلالة كلمة الإسلام، وما توحي به من الاستسلام لله عز وجل والإذعان له في جميع شؤون الحياة، وهو كذلك ما أكدت عليه النصوص الشرعية القرآنية: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [لقمان: 22]، وقوله سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [البقرة: 112]، وقوله سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون} [آل عمران: 83].
فلا يمكن للإنسان أن يكون متديِّنا وهو يتعامل مع الوحي بحذر، أو يرى لنفسه الحق في الاعتراض على الأوامر الشرعية والتوقف في الأخبار، بل الدين قائم على الامتثال، قال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [هود: 112]، وقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير} [الشورى: 15]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب”([15]).
هذا فضلا عن نزع القرآن لأحقية التشريع من البشر وجعلها خاصة بالله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى: 21]، وقال سبحانه: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُون} [الأنعام: 136].
فكل تشريع للبشر لا يولي الشريعةَ اهتمامًا ولا يرجع إليها فهو حكم جاهليّ باطل، وإن اتفق عليه من بأقطارها، كما أن تصوّر وجود إنسان لا يتقيَّد إلا بما يمليه على نفسه أو ما تواضع عليه مجتمعه الخاصّ هو في نظر الشرع اتباع للهوى الذي هو نقيض الشرع وخصيمه، ولا يحق للمسلم الإذعان له؛ لأن الإذعان له ترك للشرع، قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الجاثية: 18].
فكل من لا يتبع الشرع هو من الذين لا يعلمون وإن علم ما علم من العلوم التجريبية، فإن التجربة لا تنال المصداقية من ذاتها، وإنما من إقرار الشرع لها واعتبارها، ومثلها الظنون المعتبرة، فإنما اعتبرت من جهة الشارع لا من جهة نفسها ولا اتفاق الناس عليها.
هذا مع أن الحرية التي ينادي بها الحداثيون اختلفوا عليها اختلافا كبيرا بعدد أقلامهم، ولا يمكن أن تسير البشرية وتقاد بمفهوم عائم تتولَّد معانيه من ممارسات الناس بغض النظر عن صوابها وخطئها، فما يراه هذا حرية يراه الآخر سقوطًا أخلاقيًّا، وما يراه هذا سقوطًا أخلاقيًّا يراه الآخر ازدراءً لرغبة الفرد، وهكذا دواليك حتى يدخل الناس في أمر مريج، ويكون أمر الحياة عليهم غمَّة.
وقد أدت الحداثة بتشكّلاتها وفي صورها الأكثر وضوحًا إلى الخروج على جميع الأخلاق والقيم، سواء تعلَّق الأمر بالجنس أو بالمأكل والمشرب والملبس وغير ذلك مما ينادي به حملة رايتها في هذه العصور، فهي في صورتها النهائية خروج بالإنسان عن إنسانيته وبشريته إلى البهيمية المحصورة في الغريزة واللذة، والتي لا تولى اهتمامًا لخلُق ولا لدين.
فكرة استحالة التأصيل:
وقبل الانتهاء من ختم هذه الورقة يحسن بنا أن نجمِل فلسفة الحداثة العربية حول الشريعة من خلال مرتكزاتها التي مرَّت معنا وذلك بتبنيها لفكرة: استحالة التأصيل؛ لأن الحداثة في طورها العربي ترفض التأصيل للشريعة مبدأً وغايةً، ويتبنَّون فكرة التنازع بين التأويلات بدل الدفاع عن فكرة واحدة في التأويل، وهذا ما تمليه العقلانية؛ لأن من شروط العقل أن لا يتورط في بناء منظومة معرفية تؤصّل للحقيقة؛ لأن انتاجات العقل ستنقلب إلى سياج دغمائي مغلق([16]).
كما اتَّسمت الحداثة المعاصرة -كما يقول فتحي التريكي- بنقدها اللاذع لكل محاولة لبناء مرجعية موحدة وممركزة للفلسفة، وترفض الأيديولوجيات التي تحبس الفكر داخلها وتضيق عليه الخناق([17]).
ولذلك فإنهم يعتبرون الفلسفة النقدية والتجريبية قد قضت على كل معرفة تستند لأساس ديني وأخلاقي، واستبدلت ذلك بالمادة المتغيرة وقوانينها وجعلتها المرجعية الوحيدة، ومن هذه النظرية قام مبدأ رفض التأصيل أو وجوده أصلا؛ لأن التأصيل يعني إثبات الحقائق المطلقة وسجن الأفكار ومحاصرتها في جوّ من القيود المقدَّسة والذهنيات الوصية، وهو ما يتنافى تنافيا كليًّا مع الحداثة، فأوجبت الحداثة التخلص مما تعتبره أوهاما دينية، واعتبار الكون نسقًا سائلا بلا يقين أو غاية، والإنسان ليس له حدود أو ذات، ولا يوجد شيء خارج الكون للإنسان ارتباط به أو علاقه توجب عليه أن يأخذ التفكير فيه مساحة من فكره وعقله؛ وقد دارت عباراتهم حول إنكار الوحي والغيب واعتبارهما أساطير، وكان هذا الدوران مبعثه وغايته الاستسلام لفكرة العقلانية والفردية والحرية في الأفكار الغربية، والتي وصلت إلى حد الإلحاد واعتبار الأديان وضعية منتحلة ليس فيها ما يستحق التسليم والقبول دون تفكير وروية، ولا يخفى ما في هذا من إبعاد للحقيقة عن الإنسان وتطويل طريق المعرفة وتوسيع دائرة الشك في حياة الإنسان، هذا مع ما يؤدي إليه من مشاكل اجتماعية وأخلاقية بسبب الثورة على القيم ورفضها حتى تثبت التجربة والحس جدوائيتها، وهو ما يجعل الفرد يعيش من أجل اللذة، ولكي يجدها لا بد أن يصارع ما تواضع عليه البشر على مرّ العصور من أخلاق ومعارف، ليبدأ رحلته الشاقة من جديد، ويوقع نفسه في هلاك، فهو لا يعتبر التراكمات ولا يبني عليها، بل يستبعدها ويعتبر معرفته لها كافية في التخلص منها؛ ولذا كان سؤال الأين والغاية والبديل من أكثر الأسئلة إقلاقا للحداثة؛ لأنها لا تقدّم أجوبة وإنما تقدّم إشكالات، تنفي الإيمان ولا تأتي باليقين، تثور على القيم ولا تنتجها، تدعو للحرية ولا تحفظها، تركز على الحقوق ولا تعيّنها، إلى غير ذلك من التناقضات الفكرية والأخلاقية التي تجعل كل صاحب عقل وفكر جاد يعتبر هذا الطرح هزيلا لا يليق إلا بالمجتمعات البدائية المظلمة.
ــــــــــــــــــــــ
المراجع
([1]) ينظر: المركزية الغربية إشكالية التكون والتمركز حول الذات (ص: 71).
([2]) ينظر: ديكارت مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين (ص: 38).
([3]) ينظر: العقل والذاتية في فلسفة الحداثة من ديكارت إلى كانط (ص: 2).
([4]) ينظر: عن الديمقراطية الليبرالية قضايا ومشاكل، لحازم الببلاوي (ص: 12).
([5]) ينظر: خواطر في الليبرالية، لتركي الحمد، مقال منشور بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ (30/ 1/ 1428ه).
([6]) ينظر: أسس الليبرالية السياسية، جون ستوارت ميل (ص: 128).
([7]) ينظر: حدود الحرية (ص: 68)، ومفهوم الحرية (ص: 68).
([8]) ينظر: حدود الحرية، إيزيا برلين (ص: 49).
([9]) ينظر: المرجع السابق، نفس الصفحة.
([10]) ينظر: مفهوم الحرية، عبد الله العروي (ص: 7) وما بعدها.
([11]) للمزيد ينظر: مفهوم الحرية (ص: 12).
([12]) تراث الإنسانية (8/ 75).
([13]) ينظر: الفكر الحر، أندريه ناتاف (ص: 87).
([14]) ينظر: موقف الليبرالية في البلاد العربية من محكمات الدين (ص: 979).
([15]) ينظر: مدارج السالكين (2/ 104).
([16]) ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، محمد أركون (ص: 15).