الأشاعرَةُ المُعاصِرون ومعياريَّة الحقّ هل أكثر عُلمَاء الأمَّة أشَاعِرَة؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مثال توضيحيّ:
تخيَّل أنَّ هنا جنَّةً واسعةً، وارفَةَ الظِّلال، كثيرَةَ الأشجار، متنوِّعة الأصناف، لا يُرى آخرُها من أوَّلِها، ثمَّ قيل لرجلٍ: صِفْ لنا هذه الحديقة، فَدَخلَها وعدَّ منها مائةَ شجرة عِنَب، ثمَّ خَرَج يقول للنَّاس: ليست هذه إلَّا حديقة عنَب، ولا يمكِنُ أن تجِد فيها إلا أشجارَ عنب، فإن قِيل له: بل فيها أنواعٌ وأصنافٌ من الأشجار، صاحَ بِهِم مستكثرًا لما جمع: قد رأيتُ مائة شجرة عنب، فلا يمكن أن تكونَ إلا حديقةَ عنب! وغفَل المسكين أنَّ وراء تلك المائةِ ألوفًا من الأشجار الأخرى، وأنَّ تلك المائة ليست إلا كمَثل حفنةِ ترابٍ في كفِّ صبيٍّ من صَحراء شاسِعة.
فإذا فهمتَ هذا فإنَّ ما يحصل من بعضِ الأشاعرَةِ المُعاصرين -من دعواهم أن أكثر العلماء أشاعرة- هو ما حصَلَ من هذا الرَّجُل سواءً بسواءً!
تمهيد:
(الحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي، وابن الصلاح، والنَّسفي، وأبو حيَّان، والقرطبي، والنووي، والزركشي، وابن حجر، والسيوطي…) قائمةٌ طويلة من أسماءِ العُلماء على مرِّ القرون، ينشرُها ويتمسَّك بها الأشاعرة المعاصرون في مقام محاججَة السلفيَّة! يتغنَّونَ بها في كلِّ محفلٍ، ويُزاحمون بها في كلِّ نادٍ، ويطيرون بها في كلِّ مجلس، بل وصَلَ الأمر إلى أن يودِعوها كتبَهُم كما في كتاب “أهل السُّنة الأشاعرة.. شهادة علماءِ الأمَّة وأدلتهم“، عقد فيه المؤلّفان([1]) فصلًا بعنوان: “الأشاعرة والماتريديّة هم غالبُ الأمة”. ثم بدأ المؤلِّفان يسردان -حسب وجهة نظرهما- علماءَ الأشاعرة مِنَ المفسِّرين، وأهلِ الحديث، والفقهاء، وأهل اللغة([2])، وكلّ ذلك في سبيل التَّكثُّر بالعلماء وادِّعاء أن علماءَ الأشاعرة هم أكثَرُ الأمَّة، ونتيجة ذلك عندهم أنَّ الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، وهم أهلُ الحقِّ لا سواهُم.
صورَة الدَّعوى:
يقولون: كيفَ يزعم أهلُ السلفيةُ أنَّهم على الحقّ ونحن معنا قرينةٌ واضحةُ الدّلالة جليَّة الإشارة، وهي: أنَّ الأشاعرة هم أكثَر الأمة، وعلماؤُها هم علماء الأمَّة إلا ما شذَّ وندَر؟! فغالبُ علماء الأمَّة من فقهاء ومفسِّرين ومحدِّثين ولغويِّين -بل وفاتحين مجاهدين- هم من الأشاعِرَة، وتلكَ القرينَة التي لا يُبحث بعدها عن قرينة، ولا ينقَّب بعدها عن دليلٍ.
هذه دعوَى الأشاعرة المعاصرين في بيانِ أنَّهم على الحقّ، وهي ليسَت دعوَى جديدةً، بل قرّر ذلك ابنُ عساكر في كابته: “تبيين كذِب المفتري”([3])، والسُّبكي في كتابه: “طبقات الشافعية الكبرى”([4]).
تنبيه على قضيّتين:
قبلَ أن نُجيبَ عن هذه الدَّعوى نودُّ أن ننبِّه على قضيَّتين مهمَّتين:
القضيّة الأولى: أنَّ هذه المسألةَ لا ينبني عليها أيّ عمل، والكلام فيها من أصلِهِ هو تضييعٌ للجُهد، وإعمالٌ للفكر، وتسويدٌ للصَّفحات دونَ طائل، ولولا وُلوعُ الأشاعرة المعاصرين بإيرادِ هذه الحُجَّة ونشرها، والتلبيس على النَّاس بها، وعطف سردهم المطوَّل بنبز المخالفين لهم بالحشوية والمجسِّمة والمشبهة؛ لما رفعنا لها رأسًا، ولما كتبنا فيها حرفًا! أما وقد لبَّسوا على النَّاس، ورفعوا بها صوتَهم عاليًا، فقد لزِم الردّ والتبيينُ حتى لا تنخدع العامَّة، وحتى يتبيَّن الحقُّ، وتُقام الحجَّة، واستئناسًا بمن يقول: إنَّ وجودَ غالبية العلماء على منهجٍ ما مطمئِنٌ لنفوسِ العامَّة.
القضيّة الثانية: أنَّنا إذ نرفُض هذه الدعوى ونناقشها مناقشةً علميةً، فإنَّنا لا نقصد التنقُّص من هؤلاء العلماء أو الحطّ من قدرهم، وأولئك أناسٌ قد مضوا إلى ربِّهم؛ تاركين لنا اجتهاداتهم، نأخذ منها ما وافقَ الكتاب والسُنَّة ونطرح ما سواه، وكلامنا هنا هو في بيانِ أكثرية علماء الأشاعرة لا في فضلهم.
إذا عرفنا هذا فإنَّنا في هذه الورقةِ سنُنَاقشُ هذه القضيَّة نقاشًا منهجيًّا دون خوضٍ في تفاصيل الأسماء التي أوردوها كلّها، ودون تطويلٍ في سرد أسماء أهل السنَّة والجماعة والعلماء منهم، مع التَّنبيه على أنَّنا لن نوردَ العوامّ كما يورده بعض أهل العلم في الردِّ عليهم؛ وذلك أنَّ هذا خارجٌ عن محلِّ النِّزاع، فأصلُ النِّزاع في أكثرية علماء الأشاعرة لا في أكثريَّتهم مطلقًا -وإن كانوا يدَّعون ذلك أيضًا!-، وستكونُ المناقشة من خلالِ النّقاطِ الآتية:
أولًا: السَّلف والولوع بالكَثرَة:
لم يكن حاضرًا عند السَّلف الكرام ولا من تبعهُم ممَّن سارَ على طريقَتِهم هذا التكثُّر من الأسماء عند إقرار الحقّ، فإنَّ الحقَّ يُعرف بدليله لا بكثرةِ أتباعِه، وأهلُ السنة والجماعة في ذلك ماضُون على طريقةِ القرآن في تبيانِ حال الكثرة الغالبَة، وأنَّهم ليسوا دائمًا على الحق، بل ذمُّ الكثرة في القرآن أكثرُ من مدحِهَا، فإن شئتَ فاقرأ قولَه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وقوله: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، بل زد على ذلك قول الله لنبيِّه صلى الله عليهِ وسلم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، واعضد ذلك بأنَّ الطَّائفةَ المنصورة واحدةٌ من بين ثلاثٍ وسبعين فرقة، فلِمَ هذا الولوعُ بالكثرة؟! ولِمَ حشد الأسماء وعطفها على بعض؟!
من كانَ مع أحمد بن حنبل في تلكَ الفتنة التي اقتلعت كلَّ شيء حتى كبار المُحدِّثين وكان صامدًا هو وقليل ممن معه؟! ومن كانَ مع ابن تيمية وتلاميذه وهم قلَّةٌ في خضمِّ بحرٍ هائجٍ من المخالفين لهم في وقته؟! ومن كان مع محمَّد بن عبد الوهاب وهو يمخرُ عبابَ أمواج الفتنِ المحيطة به؟!
كانوا قلة يجابهون أمواجًا من الفتن والشبهات، ومع ذلك نؤمن بأن الحقَّ كان معهم لا مع الكثرة.
ولم يكن العزوف عن التكثر بذكر العلماء – إلا ما كان على سبيل الرد – هو منهج أهل السنة والجماعة فقط، بل العزوف عن ذلك هو أيضًا منهج أئمَّة الأشاعرة، فأين هذا التكثُّر في كلامِ أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلَّاني، وأبي إسحاق الشيرازي؟! بل أينَ ذلك عند الإسفرايينيّ والجوَينيّ وعبد القاهر البغداديّ؟! بل أين هو ممَّن جاءَ بعدهم كالغزَاليّ والآمديّ والإيجيّ؟!
فهؤلاء علماءُ الأشاعِرة وأئمَّتُهم، ومَن أصَّلُوا لمذهَب الأشعريّة، وحاجَجوا عليه مخالِفيهم، لم يذكروا هذا التكثُّر ليستدلّوا به على أنَّهم على الحقّ! وإنما هذا فعلُ الأشاعرة المعاصرين الذين لم يجدُوا ما يقوِّي حُجَتَهم ويؤيِّد آراءَهم، فذَهبوا يتقوَّون بتعداد من مضَى من العلماءِ والأئمَّة! وصاروا يحشُدون المُوافقَ والمُخالف! ويحرصون على إدخالِ كلِّ من وجدُوا له موقفًا ولو محتملًا، وبتروا النُّصوص، وانتقَوا العباراتِ والمواقف، وخلطوا هذا بذاك، وقالوا: انظُروا؛ هؤلاء علماؤُنا وأئِمَّتنا.
وقد نبَّه ابن قدامة على هذا السَّبيل فقال: “وَمن الْعجَب أَنَّ أهل الْبدع يستدلُّون على كَونهم أهلَ الْحق بكثرتهم، وَكَثْرَة أَمْوَالهم وجاهِهم وظهورهم، ويستدلُّون على بطلَان السُّنة بقلَّة أَهلهَا وغربتهم وضَعفهم، فيجعلون مَا جعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيلَ الحق وعلامة السُّنة دَلِيل الْبَاطِل! فَإِنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرنَا بقلَّة أهل الْحق فِي آخر الزَّمَان وغربتهم، وَظُهُور أهل الْبدع وكثرتهم”([5]).
ومختصر الكلام في ذلك: أنَّ فتح باب المعطوفات والاسترسال في ذكر العلماء الذين قالوا بقولِهم ما هو إلا أسلوبٌ تستنكفُه أصولُ الاحتجاج وأدبيَّات المطارحة العلمية، وهذا الصَّنيع صنيع من لا حجَّةَ له، ولا بيِّنة لقوله، ولا قوَّة لمذهبه إلا بمثل هذا التكثُّر، فهب أنَّنا قلنا: إنَّ أكثرَ عُلماءِ الأمَّة أشاعرَة، ثمَّ كان ماذا؟!
ثانيًا: الإطار الزمني للكثرة:
تنزَّلنا وقلنا: إنَّ الكثرةَ دليلٌ صحيحُ الدلالة على الحقّ، وعلى أنَّ ذلك المنهج سليمٌ صحيح؛ لكن يبقى الإشكال في تحديد زمن هذه الكثرة المعتبرة، فهل تقصدونَ في الدلالة على صحَّة المنهج أن يكونَ علماءُ ذلك المنهج هم الأكثريّة على مرِّ التَّاريخ الإسلامي؟ أم تقصِدونَ أنَّه متى ما صار علماء منهجٍ ما أكثرية في زمنٍ معيَّن كانَ ذلكَ المنهج هو الحق؟
فإن كان المقصود أنَّ أكثرية العلماء في وقت ما كافٍ في معرفة صحَّة المذهب قلنا: فما رأيُكم بظهورِ المعتزلة في عصرٍ من عصورِ التَّاريخ، وغلبتهِم على مقاليد الإفتاء والقضاء، وذيوعِ صيتهم، وكونِ القُضاة منهم، بل كان هو مذهب الدولة، وبه يُفتى ويُقضى بين الناس؟! أكان هذا كافيًا في كونِ الحق معهُم؟!
وإن كان المقصود أن الأكثريَّة لا بدَّ وأن تكونَ على مرِّ التاريخ الإسلاميّ، وتقولونَ: إنَّ علماءَ الأشاعرة هُم أكثَرُ العُلماءِ على مرِّ التَّاريخ الإسلامي، فمَا أبطلَها من دعوى!
فكم عدَد العُلماء الأشاعرة الذين يُذكَرون في مثل هذِهِ القوائم مقابلَ علماءِ الأمَّة؟! فمؤلِّفا الكتابِ السَّابق([6]) ذكرا ثمانيةً وأربعينَ عالمًا من علماء الأمة، وأكثر قائمةٍ وقفتُ عليها فيها مائة وأربعة وخمسون عالمًا، فمن هؤلاء على مدى خمسة عشر قرنًا؟! وما ذا يُمثِّلونَ بالنِّسبة للعدد المهول من العُلماءِ الذين أنجَبتهُم الأمَّة؟!
مع ملاحظة أنَّ أكثرَ الأسمَاء التي أورِدَت في تلك القائمة هيَ لعلماء من القرن السابع فما بعد، وإن شِئتَ فانظر إلى هذهِ القَائمة وتَتَبَّع تواريخَ وفاة أصحابها([7])؛ لتعرفَ أنَّ القرنَ الرابع والخامس لم يكن فيه نبوغٌ ولا ظهورٌ قويٌّ للأشاعرة، ثم لا يغِب عن ذهنِك أنَّ الأشاعرةَ أنفسهم قد انقسمُوا ومرُّوا بأطوار عديدة، إلى درجَة أنَّه لا يُمكن أن تنسِبَ أشعريَّة اليوم إلى أشعريَّة الأمس! فالجويني والغزالي والرَّازي ليسوا على مثل قول أبي الحسن ولا الباقلاني وأبي علي بن شاذان وغيرهم، يقولُ ابن تيمية -رحمه الله- موضِّحًا هذه الحقيقةَ: “وأئِمَّة أصحاب الأشعري كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وشيخه أبي عبد الله بن عبد الله بن مجاهد، وأصحابه كأبي علي بن شاذان، وأبي محمد بن اللبان، بل وشُيوخ شُيوخِه كأبي العباس القلانسي وأمثاله، بل والحافظ أبو بكر البيهقي وأمثاله، أقرب إلى السُّنة من كثيرٍ من أصحابِ الأشعري المُتأخِّرين الذين خرجوا عن كثيرٍ من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة؛ فإنَّ كثيرًا من مُتأخِّري أصحابِ الأشعريّ خرجوا عن قولِه إلى قول المعتزلة أو الجهميَّة أو الفلاسفة؛ إذ صاروا واقفين في ذلك كما سنُنبِّه عليه”([8]).
ورغم ذلكَ فيبقى السؤال قائمًا في حقِّ هؤلاءِ العُلماءِ منَ القرن السَّابع إلى القرنِ الخامس عشر: من هُم في أنفُسِهِم؟ وكم هم في عدَدِهِم؟ بل ومن هُم بالنسبة إلى القُرون السَّابقة؟!
لا شكَّ أنَّ السُّؤال في مثل هذا المقام يكفي عن الإجابَة! فهُم بلا شكٍّ أقلُّ عددًا من أهلِ القُرون الأولى ممَّن كانُوا قبلَ أبي الحسن الأشعري وخالفهم الأشاعرة في مسائل، وهم بلا شكٍّ أقلُّ فضلًا عن أهل القرون المفضَّلة، بل وأفضليَّة الطَّور الأول من الأشاعرة على ما رسَت عليه الأشعرية المعاصرة لا تخفَى على أحد، وهم بلا شَكٍّ أقلُّ اجتهادًا من أهل تلك القرون ممَّن كان الاجتهاد فيهم أكثرَ بكثير ممن جاءَ بعدهم في الجملة، فأينَ الأكثريَّة المزعومة؟! وأين دلالة الحق التَّابعة لتلكَ الأكثريَّة؟! وبأيّ شيءٍ صار أولئِك هم عُلماء الأمّة الذين تقاسُ بهمُ الكثرة؟!
غايةُ ما يُقال إحقاقًا للحقّ واتِّباعًا للعَدل: كان علماءُ الأشاعرة في بعض العصور لهمُ الغلبةُ والظُّهور، خاصَّةً في البلاد القريبة من الحكم المباشر لوالي المسلمين، كما كان لغيرهم غلبةٌ في عصور أخرى كعلماء المعتزلة، ولسنا نُنكر ذلك، لكنَّا نُنازع في قضيَّتين وهما:
1- دعوى أن علماء الأشاعرة هم أكثر علماء الأمَّة على مرِّ التاريخ الإسلامي.
2- أن الأكثرية تدلُّ على الحقّ.
ثالثًا: مِعياريَّة الأشعريَّة:
مَن يضَعُ هذهِ القائمةَ تحت الفَحص والتَّدقيق يجد أنَّها شاملةٌ على أشاعرة خُلَّص، وعلى من قالَ ببعضِ عقائِدِ الأشعريَّة وإن لم يقل بأصولهم، وعلى مَن كانت له بَعض المواقفِ في بيانِ فضلِهم مع كونِه ليس مِنهم، ويحقُّ لنَا حينئذٍ أن نتسَاءَل: ما المعيارُ الذي تمَّ وضعُه لجعلِ الرَّجل أشعريًّا؟
إن شئتَ أن تعرفَ المعيار لَديهِم فاقرَأ قولَ بعضِهم: “وكانَ [أي: ابن جرير] معاصرًا للإمامِ الأشعريّ، وتوفِّي قبلَهُ، فلا يبعُد أن يكونَ وقَفَ على شيءٍ من تصانيفِ الإمام أبي الحسن على كثرتِهَا، واستفادَ منها، لا سيَّما وهمَا في بلدٍ واحِد، ومن أمعَنَ النَّظر في تفسير الطبري لا يستبعد ذلك… بل نزيدُ ونقول: إنَّه لا يبعُد أن يكون انتسَبَ إليه فيما لم يَصلنَا من كُتُبه”([9]). فانظر كيف أنَّ هذه الخيالات التي استطرد فيها الكاتبان جعَلَاها معيارًا ليكون ابن جرير أشعريًّا!
وإن كُنتَ تتعجَّب من هذا الصَّنيع، فليس هو بأعجب ممَّا صنَعُوه بالدارقطني حيث نسبوهُ إلى الأشعرية لأنَّه قبَّل رأس الباقلاني!([10]).
وإنِّي لمتَعجِّبٌ معَك -أخي القارئ الكريم- كيف أنّهم يورِدون الدَّارقطني في الأشاعرة وهو الذي قال عنهُ الذَّهبيُّ في نفسِ الكتاب الذي يحتجُّون به: “وصحَّ عنِ الدَّارقطني أنَّه قال: ما شَيء أبغض إليَّ من علم الكلام. قلتُ [أي: الذّهبي]: لم يدخلِ الرَّجلُ أبدًا في عِلم الكلام ولا الجدال، ولا خاضَ في ذلك، بل كان سلفيًّا، سمِع هذا القولَ منه أبو عبدِ الرحمن السُّلَميّ”([11]). وربَّما وقَف الكاتِبان على خَبرِ تقبيله لرأس الباقلانيّ، فغمرهما الفرحُ إلى درجَة أنَّهم نسوا أن الدارقطني هو مؤلِّف كتاب “الصِّفات” الذي يقرِّر فيه مذهب أهل السُّنة والجماعة ويُخالفُ الأشاعرة، كما أنهُ هو مؤلِّف كتاب “النُّزول”!
لكن هذا هو ديدَنُهُم في تلكَ القائِمَة، حيثُ خلَطُوا فيهَا بينَ الأشعريَّة المحضَة، وبينَ من كانَ لهُ نوعُ تأويلٍ وإِن لم يُوافق في الأُصول، وبَينَ من هُم أبعَدُ النَّاس عن الأشعريَّة، وكل هذا من أجل التكثُّر بعلماءِ الأمَّة!
ومُرادَنَا في هذهِ النُّقطة أن نبيِّن حقيقةَ بعض العلماء الذين أدخلُوهم في القائمة، وليس مرادنا تتبُّعهم جميعًا؛ فإنَّ ذلك لا تحتمله ورقة علميَّة، مع التنبيه إلى أنَّ هذه الأسماء التي سأذكرها هي أسماء وقعَ حولَها جدلٌ كبير، وغايَةُ ما يُقال فيهم أنَّ منهم من وقع في بعضِ التَّأويل دون أن يكونَ ذلك أصلًا مطَّردًا عنده، ودون أن ينطَلِقَ من مُنطلقات الأشاعرة وأصولهم في التَّأويل، ومن هؤلاء:
1- أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ):
وقد ذَكرهُ ابن عساكر في كتابِه “تبيين كذب المفتري”([12])، ولكن هذا مُخالِفٌ لمَا كتبَهُ هو في معتقده، فإنَّهُ كان مخالفًا لما تقرِّرُه الأشاعِرة، ومِن ذلك ما نَقَلهُ عنه ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: “وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه (محجَّة الواثقين ومدرجة الوامقين) تأليفه: وأجمعوا أنَّ الله فوق سمواته، عالٍ على عرشه، مستوٍ عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية: إنَّه بكل مكان؛ خلافًا لما نزل في كتابه: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه: 5]، له العرش المستوِي عليه، والكرسيّ الذي وسِع السموات والأرض، وهو قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وكرسيُّه جِسم، والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرضِ فلاة، وليس كرسيُّه علمَه كما قالت الجهمية”([13]).
ونَقَل عنه ابن القيم أيضًا: “قالَ في عقيدته: وأنَّ الله سميعٌ بصيرٌ عليمٌ خبير، يتَّكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلَّى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزولُ الربِّ تعالى إلى سماءِ الدُّنيا بلا كيفٍ ولا تشبيهٍ ولا تأويل، فمن أنكر النُّزول أو تأوَّل فهو مبتدعٌ ضالّ، وسائرُ الصفوة العارفين على هذا. ثمَّ قال: وأن الله استوى على عرشِه بلا كيف ولا تشبيهٍ ولا تأويل، فالاستواء معقول والكيف مجهول”([14]).
وهذا بلا شكّ يناقض أصولَ الأشاعرة ومذهبهم.
2- البغوي (ت 516هـ):
عدُّوه أيضًا من الأشاعرة مع أن له تقريراتٍ عديدةً في بيانِ مُعتقده، والتي يُخالف فيها الأشاعرة، ومن ذلكَ قولُه: “بابُ بيانِ أنَّ الأعمال من الإيمان، وأنَّ الإيمان يزيد وينقص والرد على المرجئة”. ثم أورَدَ بعض الآيات والنُّصوص ثم قال: “وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عدي: إنَّ للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا، فمن استكملها استكملَ الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعِش فسأُبيِّنها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص. واتَّفقوا على تفاضلِ أهل الإيمان في الإيمان وتبايُنِهم في درجاته، قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثينَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلُّهم يخاف النِّفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل. وقالَ مُعاذ: اجلس بنا نُؤمن ساعة. وكرهوا أن يقولَ الرجل: أنا مؤمنٌ حقًّا، بل يقول: أنا مؤمن، ويجوز أن يقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله؛ لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده من حيث علمه بنفسه، فإنَّه فيه على يقينٍ وبصيرة، بل على معنى الخوفِ من سوء العاقبة… وفي الحديث بيانُ أن الأعمال من الإيمان، حيث فسَّر الإيمان بإقام الصلاة” ([15]).
وهذا مُخالفٌ لاعتقاد الأشاعرة في الإيمانِ كما هو معلوم.
ومن أوضح عباراتِه في نبذ التأويل قولُه: “وعلى هذا مضى سلفُ الأمَّة وعلماء السنة، تلقَّوها جميعًا بالإيمان والقبول، وتجنَّبوا فيها عن التَّمثيل والتَّأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الرَّاسخين في العلم، فقال عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]”([16]) .
فانظر كيف صرَّح بنفي التأويل على خلافِ الأشاعرة.
3- ابن كثير (ت 774هـ):
وهذا من أعجَب ما تقرأ من ادِّعاءاتهم على العلماء، وقدِ استدلُّوا على ذلِكَ بما أورده ابن حجر من أنَّ ابن كثير قال لابن القيم -رحمهما الله-: “أنتَ تكرهُني لأنَّني أشعريٌّ”، فقالَ لهُ: “لو كانَ من رأسِكَ إلى قدمِك شعر ما صدَّقَك النَّاس في قولك: إنَّك أشعريّ وشيخك ابن تيمية“([17]).
ويكفي في بُطلان هذا الادِّعاء سوقُ هذه الرواية، فماذا تُريد أكثرَ من أنَّ ابن القيم -رحمه الله- لم يصدِّقه في ذلك؟! بل قال مؤكِّدًا كلامَه: لو كان من رأسك إلى قدمِك شعر ما صدَّقك النَّاس في قولك: إنَّك أشعري! فكيف يكون تلميذُ أحدِ كبار مُبطِلي مذهب الأِشاعرة أشعريًّا؟! فشيخُ ابن كثير -كما هو معلوم- هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثمّ إنَّ تقريرَ عقائدِ الناس وبيانَ منهجهم لا يكونُ بسردِ مثلِ هذه الحكايات التي ليس لها إسناد تقوم عليه، ولو كان لها سندٌ لم تكن أيضًا مستندًا لإثباتِ العقائد، بل يُرجع في ذلك إلى كتبِ الشخص نفسِه وتقريراته. وإذا رجَعنا إلى كتب ابن كثيرٍ نجدُ أنه يخالف الأشاعرة، فها هو يقول في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] يعني: لفصل القضاء بين خلقه، فيجيء الربُّ تعالى لفصلِ القضاء كما يشَاء، والملائكة يجيئُون بين يديه صفوفًا صفوفًا”([18]). وواضحٌ أنَّ هذا مخالفٌ لمذهب الأشاعرة في صفةِ المجيء.
ومن أظهرِ ما يدلُّ على أنَّه كان على خلافِ مذهب الأشاعرة تشنيعُه على ابن حزم -رحمه الله- من أجل التأويل، فقد قال رحمهُ الله: “والعجب كلّ العَجَب منه أنَّه كان ظاهريًّا حائرًا في الفروع، لا يقول بشيء من القياس، لا الجلي ولا غيره، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخَل عليه خطأ كبيرًا في نظَره وتصرُّفه، وكان مع هذا من أشدِّ النَّاس تأويلًا في باب الأصول وآياتِ الصفات وأحاديثِ الصفات؛ لأنَّه كان أولًا قد تضلَّع من علم المنطق”([19]). فكيفَ يشنِّع على ابن حزم من أجل تأويله آيات الصفات ثم يذهب فيدخلُ في ذلك الباب؟!
فإن قيل: إن ابن كثير قد وليَ مشيَخَة دار الحديث الأشرفية، ومعروفٌ أنَّ شرطَ التَّدريس في الدار -فضلًا عن تولي مشيختها- هو أن يكونَ أشعريًّا، فهذا دليلٌ قاطع على أشعريَّته، وإقرارٌ من نفسه على نفسِه.
قُلنا: لا يلزم من تولِّيه مشيخَة الدار أن يكون أشعريًّا، بل لو كتب عن نفسه أنَّه أشعريٌّ لا يلزم من ذلك أن يكونَ أشعريًّا حقيقة؛ وذلك لأنَّه رُبَّما قد راعى المصلَحَة العامة، فعقيدته تؤخَذ من تقريراته العلميّة، لا من إقراره لو كان منه إقرارٌ وكتابةٌ بأنَّه أشعريّ في موضع يحتمل مراعاة المصلحة.
فإن قيل: هذا مُجرَّد ظنٍّ وتخمين لا يردُّ قوة هذه الحجة.
نقول: فما قولكم في المزّيِّ؟ فقد تولَّى مشيخة الدار قبل ابن كثير، وهو من أعلامِ أهل السُّنة والجماعة، مخالفٌ للأشاعرة، وقد حُبِسَ لقراءته كتاب “خلق أفعال العباد”، لكنَّه ولي مشيخة الدار، بل كتب بخطِّه أنه أشعريٌّ! لكنَّ الناس لا يحكمون بهذا الإقرار على أنَّ هذا مذهبه حقيقَة، ولذلك ضُيِّق عليه، ولم يرضَ به عوامّ الأشاعرة، لدرجة أنَّهم لم يحضروا حفلَ الافتتاح، وفي بيان هذا يقول ابن كثير رحمه الله: “ولم يحضُر عندَهُ كبيرُ أحد، لِمَا في نفوس بعضِ النَّاس من ولايتِه لذلك، مع أنَّه لم يتولَّها أحدٌ قبله أحقّ بها منه، ولا أحفظ منه، وما عَلَيه منهم إذ لم يحضروا عنده؛ فإنَّه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أُنسٌ، والله أعلم”([20]).
ولكن ما جعلهم يولّونه مشيخةَ الدار -بشهادة أحد أعلام الأشاعرة أنفسهم- هو: “علمُه وفضلُه، وهُمَا مما لا يستطيع أن ينكرَه الأَشاعرة ولا غيرهم… وقد جرَت محاولاتٌ عدّة لإخراجِه من مشيخة هذه الدار، باءَت كلّها بالفشَل؛ لِمَا كانَ يتمتَّع به الحافظ المزّيّ من المكانة الرفيعة بدمشق، تلكَ المَكَانة التي اعترف بها المُخالِف قبل المُوافق. واستمرَّت المكائِدُ تحاكُ ضدَّه حتى وهو في آخر شيخوخته”([21]). وكانَ سبب ذلك كما بيَّنه السُّبكي بقوله: “إنَّ صدر الدين المالكي لا يُنكر رتبة المزي في الحديث؛ ولكن كأنَّه لاحَظَ ما هو شرط واقِفِها من أن شيخها لا بدَّ وأن يكون أشعريَّ العقيدة، والمزي وإن كان حين وليَ كَتَبَ بخطِّه بأنه أشعريٌّ إلا أنَّ الناس لا يصدّقونه في ذلك“([22]). فتأمَّل هذا الكلام الصَّادر من السبكي وهو من هو في أشعريَّته، فإن كانَ مجرّد الإقرار يكفي في بيان المذهب لِمَ ضيَّقوا عليه؟! ولِمَ حاولوا مرات عزلَه عن ذلك المنصب؟! بل لم كانَ النَّاس -وهم عوام- لا يصدقون إقرار المزي على نفسه؟! كلُّ ذلك يدلّ دلالةً واضحةً على أن مجردَ تولي الدار بل والإقرار لا يعني أنه أشعريٌّ حقيقة.
4- ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ):
وهُو من أكثر من ادَّعى هؤلاء أشعريَّته، وحشدوا لذلك النُّقولات العديدةَ، وغايةُ ما يُمكنُ أن يُقال فيه ما قالَه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “أمَّا الحافظُ الثَّاني: فهو ابن حجر رحمه الله، وابن حجر حسب ما بلَغَ علمي متذبذبٌ في الواقع، أحيانًا يسلكُ مسلكَ السَّلف، وأحيانًا يمشي على طريقة التَّأويل التي هي في نظرنا تحريف”([23]).
أمَّا أشعريَّته فإنَّه لا يمكن إثباتُ أشعريَّته بحجَّة وقوعه في تأويل بعضِ الصفات؛ إذ لم تكن أصولُه هيَ أصول الأشعرية؛ ولِذلِكَ خالفهم في أوَّل واجبٍ على المكلَّف، فإنَّه قد عرض أقوالَهم في ذلك، ثم ذكر ما يُوافق قولَ أهل السنة والجماعة([24])، وكان -رغم تأويله لبعض الصفات- يُنكر فتحَ بابِ التأويل، فلم يكن التأويل لصفات الله هو الأصل عنده، وفي ذلك يقول: “واشتدَّ إنكار السَّلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافعي، وكلامهم في ذمِّ أهل الكلام مشهور، وسببه أنَّهم تكلَّموا فيما سكتَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيءٌ من الأهواء، يعني بدع الخوارج والروافض والقدريَّة، وقد توسَّع من تأخَّر عن القرون الثَّلاثة الفاضلة في غالِبِ الأمور التي أنكرها أئِمَّة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلِكَ حتَّى مزجوا مسائِلَ الدِّيانة بكلام اليونان، وجعلُوا كلام الفلاسفة أصلًا يردُّونَ إليه ما خالفَهُ من الآثار بالتَّأويل ولو كان مُستكرَهًا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتَّحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسَّعيد من تمسَّك بما كان عليهِ السَّلف، واجتَنَبَ ما أحدثَه الخلف، وإن لم يكن له منه بدٌّ فليكتفِ منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة، والله الموفِّق”([25]).
فما قولُ الأشاعرة في نصِّ ابن حجر هذا؟! وما رأيُهم في ذمِّه للتَّأويل، وأن المذهب الأسلم والأحكم هو مذهب السَّلف المتقدمين؟! بل ما قولهم في إنكار ابن حجر على استعمال الجوهَر والعرض، والذي يقوم عليه أحَدُ أكبر أدلَّة الأشاعرة وهو دليلُ الحدوث؟! قال ابن حجر -رحمه الله- ناقلًا عن أبي المظفر السمعاني مقرًّا له: ” وكانَ ممَّا أُمر -صلى الله عليه وسلم- بتبليغه التَّوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترُك شيئًا من أمورِ الدِّين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلَّغه، ثم لم يدعُ إلى الاستدلال بما تمسَّكوا به من الجوهَر والعرض، ولا يُوجد عنه ولا عن أحدٍ من أصحابه من ذلك حرفٌ واحد فما فوقَه، فعُرِفَ بذلك أنَّهم ذهَبوا خلافَ مذهبهم، وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريقٍ محدثٍ مختَرع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكِه العود على السَّلف بالطَّعن والقدح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة، واشتباه الطُّرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم، فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التَّناقض” ([26]).
فليت الأشاعرة ينقلون مدى إشادة ابن حجر بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو الرجوع إلى فهم السلف الصالح، ونبذ التأويل في الجملة، ونبذِ ما أُحدث من المصطلحات بعد خير القرون. ولا نريد الاسترسال -في هذه الورقة المختصرة- في تبرئةِ كلِّ منِ ادَّعى الأشاعرة أنه منهم، ولتحقيق ذلك مواضِع أخر([27]).
رابعًا: علماءُ أهل السّنَّة:
بعدَ أن أخَذنا جولةً سريعةً في تلك الدعوى، ورأينا كيف أنَّها متلبِّسة بحُزمة كبيرةٍ من الخلَل المنهجيّ؛ نودُّ أن نأتيَ على ما تبقَّى مِن بُنيانها، فقد سبَقَ بيانُ أنَّ غايةَ ما عدُّوه من العلَماء قد بلغوا مائةً وخمسين عالمًا، وحتى إن كانوا أضعاف ذلك، فمَن هؤلاء أمامَ الجمع الغفير من العُلماء من أئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة؟!
ومن نافِلَة القول أن نقول: إنَّ كلَّ الصحابةِ الكرام والتَّابعين لهم بإحسان إلى القرن الرَّابع ليسوا من الأشاعرة، فمِن وفاة النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى تحوُّل الأشعريّ عن الاعتزال زهاءَ أربعةِ قرون ليس فيهَا أشعريٌّ واحد، وهم ممن زكَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّهم خيرُ القرون، فأيُّ نقصٍ كانوا فيه في الاعتقاد حتى أكمَلَهُ أبو الحسن الأشعري؟!
فإن قالوا: هو لم يأتِ بجديد، وإنَّما أصوله هي أصول السَّلف قبله.
قلنا: هذا ادِّعاءٌ باطلٌ يهدِمه أدنى نظرٍ في المسائِل العقدية، فمسألة واحدة على سبيل المثال وهي مسألة العلوّ خالفَ فيها الأشعريُّ سائرَ السلف، وقد عدَّ الذهبي -رحمه الله- من التَّابعين أكثرَ من مائة وخمسين عالمًا من الحجاز والشام وخراسان والمدينة ومصر والبصرة والكوفة كلُّهم يُخالف قولُهم قولَ الأشعريِّ في هذه المسألة، وهؤلاء ممَّن لهم قولٌ صريحٌ في المسألة، فكيفَ بمن أورَدهم اعتضادًا؟! وهذا في مسألةٍ واحدةٍ، فكم عدَد من خالَفهم الأشاعرةُ في المسائل الأخرى؟! وهذا جمعُ مؤلِّفٍ واحِد، وجهد رجلٍ واحِد، فكيف بما جمعه غيره؟!
وإن شئتَ أن تقِف على نزرٍ يسير من علماء أهل السنة والجماعة فاقرأ كلام ابن المبرد الحنبلي حيث يقول: “ونحنُ نذكر جماعةً ممَّن ورد عنهم مُجانبة الأشاعرة، ومُجانَبَة الأشعري… منهم أبو محمَّد الحسن بن علي البربهاري، ومنهم زاهر بن أحمَد، ومنهم أبو محمَّد الحسن بن أحمد البغدادي الحريري، ومنهم أبو علي الرفاء، ومنهم أبو حامد الشَّاركي، ومنهم أبو يعقوب بن زوران، ومنهم الإمام أبو محمَّد عبد الله بن عدي الصابوني، ومنهم يحيى بن عمار، ومنهم أبو إسحاق القراب، ومنهم أبو العبَّاس أحمد بن محمد النهاوندي، قال الدينوري: لقيتُ ألف شيخ على ما عليه النهاوندي في ذلك [أي: في ذم الأشعرية]، ومنهم أبو علي الحداد، ومنهم أبو عبد الله الدينوري، ومنهم الإمام أحمد بن حمزة، ومنهم أبو سعيد الزاهد الهروي، ومنهم أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ومنهم أبو حامد الإسفراييني، ومنهم أبو بكر القفال، ومنهم أبو منصور الحاكم، ذكر الأنصاري وغيره مجانبته لهم وذمه، ومنهم أبو عمر البسطامي، ومنهم أبو المظفر الترمذي حبال بن أحمد، ومنهم أبو القاسم الحاكمي، ومنهم أبو عبد الله محمد بن الحسين السلمي، ومنهم هيضم بن محمد بن إبراهيم بن هيضم، ومنهم أبو نصر بن الصابوني، ومنهم الحسن بن أبي أسامة المكي، ومنهم منصور بن إسماعيل الفقيه كان مجانبًا لهم، ومنهم زيد بن محمد الأصبهاني، ومنهم أحمد بن أبي نصر الماليني…”([28]).
وقد عدَّ أَسماء كثيرة من محدِّث وعابدٍ وفقيه وإمام، كلُّهم ممن نصُّوا على أنَّهم مجانبون للأشاعرة، صدَّرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف المرداويّ، ثم قال بعد ذلك: “وقد رأينا في أصحابِنَا ورفقائنا ومن اشتغل معنا أكثرَ من ألف واحدٍ على مجانبتهم ومفارقتهم، والوقوع فيهم، وما تركنا ممن تقدم أكثر ممن ذكرنا، فهذه لعمرك الدساكر لا العسكر الملفَّق الذي لفَّقه ابن عساكر، بالصدق والكذب الذين لا يبلغون خمسين نفسًا بمن قد كذب عليهم، ولو نطوِّل تراجم هؤلاء كما قد أطالَ في أولئك، لكان هذا الكتاب أكثر من عشر مجلَّدات، ووالله ثمَّ والله لما تركنا أكثر ممن ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبَّع كلَّ من جانبهم من يومهم إلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس”([29]).
وأخيرًا:
ما عساهُم أن يقولوا عن هؤُلاء وكلُّهم ممَّن عاصر الأشعري ومن جاءَ بعدهم؟! وقد أغفلنا القرونَ الثلاثة لعدم إمكانية حصرهم بين دفَّتي كتاب، فهل بقِيَ بعد هذا لهؤلاءِ مسحةُ خَجلٍ يتراجعون من أجلها عن دعواهم؟!
وهؤلاء الذين ذكرهم ابن المبرّد يربون على الأربعمائة عالم، كلهم في زمن الأشعري وبعده، وأولئك من ذكَرَهم الذهبي في مسألة واحدة، وإن شئت أن تزدادَ فخذ ما كتبه الإمام ابن القيم -رحمه الله- في مسألة واحدة من عقيدة التَّابعين وتابعيهم وأقوال الأئمة الأربعة وتابعيهم، وأقوال أئمَّة الحديث والتَّفسير واللغة والزُّهاد([30])، ولو شئت بعد هذا كلِّه الزيادة لزدنَاك، فإنَّه معينٌ لا ينضب ماؤه، ولا ينقطع وصله، ولا يختلط بهذا السَّلسبيل شوائب ولا كدر، فأين من هذه الكثرة الكاثرة من يذكرونَهُم من العلماء -الذين قد رجع منهم أغلبهم ليموت على عقيدة عجائز نيسابور- ممَّن لا يساوون عشر معشار علماء الأمَّة؟!
وهَل يُمكن بعد ذلك أن يُدَّعى أن علماء الأشاعرة هم أكثرُ علمَاء الأمة؟!
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) وهما: حمد السنان، وفوزي العنجري.
([2]) انظر: الكتاب (ص: 247-268).
([5]) المناظرة في القرآن (ص: 57-58).
([6]) وهو كتاب: أهل السُّنة الأشاعرة.. شهادة علماءِ الأمَّة وأدلتهم.
([7]) انظر مثلا: “أعلام الأشاعرة والماتريدية” على هذا الرابط:
([8]) شرح الأصفهانية (ص: 127).
([9]) أهل السنّة الأشاعرة (ص: 252).
([10]) انظر: أهل السنة الأشاعرة (ص: 254). وانظر القصة في سير أعلام النبلاء للذهبي (13/214).
([11]) سير أعلام النبلاء (12/ 418).
([14]) اجتماع الجيوش الإسلامية (2/279).
([18]) تفسير ابن كثير (8/399).
([19]) البداية والنهاية (12/113).
([20]) البداية والنهاية -ط. إحياء التراث- (14/ 101).
([21]) مقدمة كتاب تهذيب الكمال، لبشار عواد معروف (1/27).
([22]) طبقات الشافعية الكبرى (10/398).
([23]) شرح الأربعين النووية (ص: 289).
([24]) ينظر: فتح الباري (13/ 349).
([27]) انظر في تبرئة أعلام الأمَّة من الأشعرية كتاب: الأشاعرة في ميزان أهل السنة (ص: 597-642).
([28]) انظر: جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر (ص: 150- 151).