نقد النقد.. مراجعة للأطروحات الحداثيَّة تجاهَ فكر السَّلف
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
كثيرًا ما رفَع الحداثيون شعارَ النقد للتراث الفقهي أو السلفيّ، أحيانا زعمًا منهم أن الخلاصَ لما تعيشه الأمةُ من تخلف سياسيٍّ ومادّي وتقنيّ سببُه هو الاختيارات الفقهية للفقهاء، ومن ثم يَسعون إلى نبشِ التراث بجميع أشكاله بأحداثه وممارسات أهله ومعتقداتهم؛ ليجعلوا من هذا كلِّه مادّة علميةً للنقد وممارسةِ أشكالٍ من التمويه الثقافي والعنف النّقدي، فكانوا هم اللسان العربيَّ الذي ينقل المعارك الفكرية الغربيةَ مع الدّين إلى الساحة الإسلامية، والتي هي بطبيعتها ترفض ذلك النّقد وتاباه؛ لأنه يستعمل مناهجَ تُعدُّ أجنبية على الثقافة الإسلامية وتراثها، فاتَّسم النقد الحداثي بالفوضَويَّة ومحاولة الفَهم اليائسة للفكرة الإسلامية في سياقها التاريخي والمكاني، ومحاولة حصرها فيه، وإبعادها عن مواقع التأثير في الحياة.
ولم تخلُ عِبارة الحداثيّين من تتفِيهٍ للتراث ومحاولةٍ لتجاوُزه، واعتبار فهمِ السلف ابتداعًا سلفيًّا يقيِّد الإبداع ويأسِر الحياة، ومع هذا يقدَّم النقد في ثوبٍ مقدَّس، ويحاط بهالةٍ من التعالي المعرفي التي لا تتوفَّر لأهل المدرسة الحداثية مجتمعين، فضلا عن حالهم متفرِّقين، كما أخضعوا النصَّ القرآني للدراسة النقدية المتداوَلة في مجال اللسانيات، وطبقوا نظريات التأويل المعاصرة على الوحي، وجعلوه حقلَ تجارب لها؛ لينتَهوا من خلال ذلك إلى “تاريخيَّة النصّ”، وهي تعني بالعبارة المكشوفة: تعطيل مفهومه، أو اعتباره متأخِّرًا زمنيًّا عن الحياة البشرية؛ مما يجعل محاوَلة تطبيقه أو التمسّك به رجوعًا بالبشرية إلى حقَب متأخّرة جدًّا، وهو ما ترفُضه الحياة المادّيّة بسرعتها وإنجازاتها الهائِلة.
ونحن اليومَ نردُّ إلى القوم بضاعتَهم، ونقوم بفَحص معاييرهم العلميّة واختبار مدى أهليَّتهم لما يتصدَّرون له ويخوضون فيه من محاولة التجديد والفهم. ونظرا لأنَّ كثيرًا من الحداثيّين لا يقبلون الاعتراف بأجنبيَّتهم على الفكرة الإسلامية فلا بأس أن نعرِّج قليلًا على ضوابط الفكرة الإسلامية في قبول كلام الشَّخص في العلم الشرعي، وأظنّ أن شروطَ أهلِ العلم في قبول قول القائل هي شروطٌ موضعيَّة وعلميّة، تدلُّ على علوِّ مستوى البحث عندهم؛ مما يجعل مهمَّة تعقُّبهم مهمَّةً ليست بالسهلة، وإن كانت غير مستحيلة.
وسنتناول نقدَ التيار الحداثي في هذه الورقة العلميّة من خلال أربعةِ مطالب على النحو الآتي:
المطلب الأول: عدم الأهلية العلمية:
أوَّل عمليَّةٍ نقدية توجَّه للتيار الحداثيّ هي عدم الوصول للمرتبة العلميّة الكافية في قبول كلام الشخص في العلم الشرعي، بل لم يحصِّلوا المستوَى المتوسِّط فيها، فضلًا عن العالي، ومن المعلوم أن أيَّ فن له أدواتٌ مَن لم يحصِّلها على الوجه المتعارَف عليه عند أهل الفنّ المعتَبَرين فإنه يظلّ أجنبيًّا عليه، وكلامُه يعدُّ تعالُمًا وتحاذُقًا، يتنَدَّر عليه العقلاء بسبَبِه، وينفرون منه.
فمِن قوادح الأهليَّة تلبُّسُ الناقد بباطلِ ما ينتَقِد، أو جَهلُه بالحقّ أصلًا، فالجاهل بالشيء ليس كفُؤًا للعالِم به، ومَن لا يعلَم لا يجوز له جِدالُ من يَعلم، فالسؤال النَّقدي الأولُ هو سؤال المؤهِّلات العلمية: أين ما يُثبت علمَكم بعلوم القرآن والسنّة واللغة والتاريخ والأدب حتى تتأهَّلوا لنقد الفقه والعلم الشرعيّ؟!
وبالنسبة لسؤال المعدّات فإنَّ الحداثيين لا يمانعون في الجواب عليه بالإقرار بأن المادَّة النقدية لديهم ليست وليدة البيئة الإسلامية، وإنما هي خارجة عنها تمامًا، فالجهل باللغة العربية التي هي أداة فهم النصّ الأولى سمةٌ بارزة سبَّبت العُقدة من الإمام الشافعي رحمه الله؛ لأنه أَعلَى من شأن اللغة في فهم الوحي، ودعا إلى تعلُّمها، وهذا ما لم يرتَح له الحداثيّون؛ لأن فيه بخسًا لبضاعَتهم أوربّيّة النَّشأة، فنادوا بما أسموه اللغة البِكر، وهي اللغة التي تتجرَّد عن القواعد والضوابط، وتغرق المعاني فيها بالنّسبية للرموز والتفسير([1]).
وللقارئ الحقُّ أن يسأل عن المؤهِّلات العلمية للتيار الحداثي التي تخوِّله لما يريد، وله الحقُّ أن يطلبَ الجواب من أفواههم لا أن يسمعَه من غيرهم. وحين تسمع الجوابَ لك الحقُّ أن تسأل أيضا، فالقوم يصرِّحون أن ما يجرّئُهم على القول على الله بغير علم هو إمكانياتهم المعرفية؛ لكن هل هي شرعية؟ لنترك النصَّ الحداثي يتحدَّث، يقول الجابري منتقدًا العقليةَ الأصولية ذات المؤهّلات العلمية فيقول: “فجعلوا من الاجتهاد اجتهادًا في اللغة التي نزَل بها القرآن، فكانت النتيجة أن شغلتهم المشاغل اللّغوية عن المقاصد الشرعية، فعمَّقوا في العقل البياني وفي النظام المعرفي الذي يؤسِّس خاصّيتين لازمتاه منذ البداية: الأولى: هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني، ومن هنا أهمية اللفظ ووزنه في التفكير البياني”([2]).
وهذا الكلام من الجابري لا وجهَ له إلا تبرير الضَّعف اللغوي عنده، وضعف الاطِّلاع كذلك على الإنتاج العلمي للفقهاء الذين ينتقدهم، فإنَّ البحث اللغوي عند الفقهاء لم يكن غرَضه الاهتمام باللفظ على حساب التركيب والسياق، فضلا عن تغييب المقاصد، وتصوّرُ المقاصد الكلية منفردةً عن المعاني أو إمكان التوصُّل إليها قبل فهم المعاني الجزئية التي تتحصَّل منها القضايا الكلية قضيَّةٌ تصوُّرية لا وجودَ لها إلا في أذهان الحداثيين؛ ولذا نجد الشافعي حين تكلَّم عن عربية القرآن وأهميّة معرفتها بيَّن مقاصد معرفتها، وهي فهم الكلام على وجهه الصحيح، وتتبّع المفردة لمعرفةِ سياقاتها لإثباتِ معانٍ متناقضةٍ أمرٌ لا يقبله العقل ولا يقرُّه الشرع، وقد فصَّل الشافعي مراده بمعرفة اللسان العربي ومقاصده حيث يقول: “فإنما خاطَب الله بكتابه العربَ بلِسانها على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا ظاهِرًا يُراد به العام الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه، وعامًا ظاهرًا يراد به العام ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعامًّا ظاهرًا يُراد به الخاصّ، وظاهرًا يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه. وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبَيِّنُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيءَ يبيِّن آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ. وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جَهَالتها. وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمّي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به -وإن اختلفت أسباب معرفتها- مَعْرِفةً واضحة عندها، ومستَنكَرًا عند غيرها ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه، ومن تكَلَّفَ ما جهِل وما لم تُثْبِتْه معرفته كانت موافقته للصواب -إنْ وافقه من حيث لا يعرفه- غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم، وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه”([3]).
فقد تبيَّن مما سبق مدَى ضعف تصوُّر الحداثيين في نَقدهم للعقليَّة السلفيَّة؛ حيث إنهم لم يعرفوا اللغة العربية المعرفةَ الحقّة اللائقة بمن يريد أن يتلكم في دون الله، وكذلك لم يفهموا كلام الأئمَّة على النحو الذي أراده الأئمّة، وهو ما وقع للجابري مع الشافعيّ، ووقع لنصر أبو زيد كذلك في نقده للشافعي، حيث اعتبر الشافعيَّ مخترعًا لأصول الفقه، ولم يكلِّف نفسه عناء البحث في الأسلوب اللغوي الذي يدَّعي الشافعي وجوده ومحاكمة النص إليه، وكان بإمكانه أن يأخذَ أنماط الاستدلال عند العلماء قبل الشافعي، وينظر هل هي خارجة عن ذلك الأسلوب، بدل أن يتَّهم الشافعيَّ بالانتحال([4]).
وإذا قبِلنا دعوى الحداثيّين حول اللغة ومحاولة تجاوُزها في فهم النص والانضباط به، فيبقى السؤال النقدي الأهمّ وهو: ما مقترحاتُكُم الموضوعية لفهم النصّ كبديلٍ عن اللغة وضوابط الفقهاء؟ هنا يأتي الجوابُ من الحداثيين متواضعًا ومتنافيًا مع المنطق؛ حيثُ يصرِّحون بأن المنهجية المقترحة للتعامل مع النصّ القرآني هي منهجيةٌ غربية، فيعتمدون البنيوية كمنهجية في تفسير النصّ، تسعى إلى استعادة مركزية الإنسان وذاتيته في فهم النص، وتعيد للعالم نوعًا من العقلانية في الخطاب، أو المنهجية التفكيكية لتوسيع دائرة العلاقة بين الدال والمدلول وإسقاط اللغة في دائرة الصيرورة، حيث لا يكون للنص معنى نهائيّ، بل النص لا يتأتَّى معناه إلا بقراءته كاملًا، وفي حالة قراءته كاملًا فإن النص يحيل إلى نصّ آخر، وهكذا يكون المعنى قد تمّ إرجاؤه وتعليقه نظرًا لتعقّه بنصوص أخرى يحدِثها النص الأخير([5]).
ومن حقِّنا أن نتساءل: كيف نفهم النقدَ الحداثيَّ وقواعده في ضوء التقعيد للَّامعنى؟ وما الفرق بين قولنا: إن الفكر الحداثيَّ فكر فوضويٌّ وبين كونه تجديدًا؟ فكلا المعنيين قد يصير إلى ما يناقضه نتيجة لعدم التناهي في المعنى.
وهل من الموضوعية أن يؤخَذ نصّ بلغة معينة ويحاكَم إلى قواعد لغة أخرى وأدبياتها؟ وماذا لو كُتب العلم التجريبي بهذه الطريقة وتعومل معه بنفس العقلية، أيمكن أن ينتهي إلى شيء؟!
المطلب الثاني: نقد الاعتناء بأصول الفقه:
مِن أكثر ما انتقَده الحداثيون عند السلفيّة الاعتناء بأصول الفقه، واعتبروا أصولَ الفقه مجرّد عملية سطو معرفي لمصادَرة الآراء التجديديّة وإعطاء التفسير السلفي صبغة إلهية، وتعاملوا مع الشريعة كتعامل الغربيين مع السلطة، فجعلوا لكلِّ فرد من الأمّة حقًّا في التشريع، وادَّعوا أنه ما لم تكن الأمّة مشاركة في التشريع فإنه لا يحقّ نسبته إليها([6]).
مع أنَّ لازم هذا القول القولُ بوضعيّة الشريعة ولو على مستوى التفسير في الآليات، إلا أنَّ الدافع له هو التخفُّف -كما أسلفنا- من القيود العلمية التي تفرض نوعًا من المكنة العلمية التي هم عاجزون عنها معرفيًّا؛ ولذا صرَّحوا بأن هذه النظرية -وهي مشاركة الأمة في التشريع- مفادُها تخفيف العبء على الناس في عملية الاجتهاد؛ لأن النظرية الأصولية في الاجتهاد تجعل الاجتهاد حكرًا على النُّخَب العلمية ذات القدرات العلمية المتميزة، وهو ما يجعل الحداثيين خارجَ الحلبة، فاختار الحداثيّون الدخولَ الفوضويَّ للتجديد، ولو من غير بابه، فخفَّفوا المعايير العلمية لهذا الغرض، يقول المرزوقي: “لا معنى لأي تشريع ما لم يكن نابعًا من أعماق ما تعتقِده الأمّة؛ ذلك هو المصدر الوحيد للشرعية… ولما كان الأمر في متناول الجميع ولا يحتاج إلى علم كبير؛ فإن سلطة الفقهاء والقانونيين احتاجت إلى تعقيد الأمور لتكون وسيطًا ضروريًّا في أهم الفروض العينية: التشريع”([7]).
وهذا تصريحٌ من المرزوقي بالدافع الحقيقيِّ للمحاولة تجاوز أصول الفقه، وهو ضحالة الإمكانيات المعرفية. ولم يقِف هذا النقدُ عند هذا الحد، بل اعتبروا بعضَ مواضيع أصول الفقه مجردَ تبوُّؤ لمنصب الألوهية من الفقهاء؛ لأن الضوابط الصارمةَ في أصول الفقه تجعل عملية الاجتهاد عسيرةً إلا على الخاصة، وهذا التصرّف محلُّ تحفُّظ من الحداثيين؛ لأنه بالنسبة لهم تخصيص للشريعة وجعلها تخدم الخاصة دون العامة.
ويذهب الجابري إلى أن مصطلحَيِ الأصل والفرع لم يكونا متداولين في عصور التدوين حيث يقول: “يمكن الاطمئنان إلى أن الزوج الأصل الفرع إنما ظهر في عصر التدوين كأداة نظرية لا بد منها في عملية التدوين ذاتها عملية البناء للثقافة الإسلامية”([8]).
ومن ثم نظَّروا لفكرة استحالة وجود أصل، واعتبار ذلك نوعًا من محاولة الهيمنة على الفكر ومحاصرة العقل.
ويرى أركون أن الفكرة الإسلاميةَ أسيرة فكرة الأصل، وهي فكرة للربط بين الأحكام الشرعية والفروع التي تنشا عنها([9]). وقد سعى أركون إلى التأصيل لتاريخية الأصول وتعددها([10]).
ولذا فإن الحداثي يجعل العقل في مقابل الأصول، ويرفض -انطلاقًا من العقل الجديد- التورطَ في بناء منظومة علمية ومؤصلة للحقيقة؛ لأن ذلك يؤدي حتمًا إلى إحاطة العقل بسياج يرضخ العقل له، ولا يستطيع الخروج منه([11]).
وأكبر دليل على تقييد العقل بسياج الأصول نمطية الفكر الإسلامي وتوارد أهله على فكرة واحدة منذ نشأة الأصول، وقد كان السبب الرئيس في هذا الجمود هو القوانين اللغوية والفقهية التي وضعها الأصوليون العلماء للتعامل مع نصوص الشرع([12]).
المطلب الثالث: ملاحظات على النقد الحداثي لأصول الفقه:
يمكن ملاحظة عدّة أمور على النقد الحداثي للأصول منها:
أولا: أنَّ هذا النقد راجعٌ في مجمله إلى الجهل بالأصول أوَّلا، والخوف من ممارسة عملية الاجتهاد من خلالها؛ لأن ذلك يتطلَّب جهدًا كبيرًا ليس لدى الحداثيين وقت لتحصيله أو السعي فيه، فضغط الحضارة المهيمن لا يترك المجدِّدَ يقرأ ويصنع ذاتَه؛ لأنه أثناء تلك العملية سوف تتجاوزه الحياة بتطوّرها المستمر.
ثانيا: لم يقدّم الحداثيون تفسيرًا مقنعا لتركهم للأصول، ولا لسبب وجودها، بل عدلوا عن ذلك إلى التفسير الأيديولوجي واختلاق الدوافع المكذوبة وادِّعاء مشاركة السلطة في تأسيس المادة الأصولية([13]).
ومن مضحكات التأويل أن الجابري حين لم يجد تفسيرًا مقنعًا لدعواه العريضة ذهب إلى أنّ التدوين بحّد ذاته يعني التقديم والتأخير؛ لأن تبويب الفقه والأصول يعني أن التبويب كان بتصرّف من المؤلف، وهو ما يعني بطبيعة الحال وجود مشاركة بنسبة معينة من المؤلفين في التأصيل وعدم الحيادية([14]).
واعتبارُ الفكر الأصولي ردّةَ فعل ما هو إلا استسلامٌ لفكرة ديكارت التي تجعَل الواقع هو من يصنَع الفكرَ وليس العكس، وقد حاول تأصيلها عبر الاستشهادات التاريخية المبتورة من سياقها الزماني والمكاني؛ رغم أهمية كلا الأمرين في التفسير عند الحداثيين، فلو رجعنا إلى العصور ما قبل تدوين الأصول على يد الشافعي رحمه الله -وهي عصور ليست متقدّمةً كثيرا، لا تزيد على قرنين من الزمن- نجد أن أهلها ممن دُوِّنت آراؤهم لم يكونوا يخرجون عن النّمط الذي قرره الشافعي؛ لأن الشافعيَّ لم يكن مبتدعًا، وإنما كان مستقرئًا لحالة المفتين من قبله وطريقتهم في التعامل، وإذا نظرنا إلى الإمامين اللَّذين سبقا الشافعي رحمه الله -وهما الإمام أبو حنيفة ومالك- ودقَّقنا في فتاويهما المنقولة وطريقتهما في الاستدلال سوف نجد نفسَ الطريقة في الفهم ونفس الأدوات في الاستنباط، فدعوى الجابري كانت تحمّسًا مؤدلجًا لنظرية الحداثة في كيفية تشكّل الأفكار لا غير، ودليل ذلك أن الحداثيين لم يُعطُوا شواهدَ تشهَد لما قالوا، وتدلّ على أنّ الطرق المتَّبعة عند الشافعي كانت خاصة به، لا من التاريخ، ولا من كتب الفقه أو الحديث.
ثالثا: لو نظرنا في كتب الفقه وأصوله وقواعد الاستدلال عمومًا نجدها تتَّسم بالحيادية والموضوعية، فيمكن للإمام أن يقعِّد القاعدة ثم هذه القاعدة تكون حجَّة عليه، وبها يرد قوله، فانظر مثلا إلى تعامل الفقهاء مع قاعدة تقديم الكتاب والسنة على قول الرجال، فكم رد بها من قول للشافعي لم يظهر لأصحابه موافقته للدليل!
وأيضا فإن شروط الاجتهاد ليست تبرّعًا، فإن التعامل مع النصوص ليس مفتوحًا ولا متاحًا حتى يمكن التلاعب به من طرف الساسة، فهذا الشافعي رحمه الله يقول: “ولا يقيس إلا من جمع الآلةَ التي له القياسُ بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضِه، وأدبِه، وناسخِه، ومنسوخِه، وعامِّه، وخاصِّه، وإرشاده. ويَستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماعٌ فبالقياس. ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالِمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت. ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزدادُ به تثبيتًا فيما اعتقده من الصواب. وعليه في ذلك بلوغُ غاية جهده، والإنصافُ من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك. ولا يكون بما قال أَعنَى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله. فأما مَن تمَّ عقله ولم يكن عالِمًا بما وصفنا فلا يحلُّ له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه. ومن كان عالِمًا بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة فليس له أن يقول أيضًا بقياس؛ لأنه قد يذهب عليه عَقْل المعاني. وكذلك لو كان حافظًا مقصِّرَ العقلِ، أو مقصِّرًا عن علم لسان العرب: لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس. ولا نقول: يَسَع هذا -والله أعلم -أن يقول أبدًا إلا اتباعًا ولا قياسًا”([15]).
رابعا: دعوى المصلحة السياسية في التأصيل يكفي في الجواب عليها أزمة الفقهاء مع الأمراء، فكم من عالم قُتل وجُلد بسبب فتوى له تخالف ما عليه النظام السياسي من لدن أبي حنيفة الذي روي أنه ضرب أكثرَ من مرة من أجل أن يلي القضاء فلم يفعل([16])، ومالك ضرب على طلاق المكره، وكان لا يراه، ولم يرجع عن ذلك، فلو كان في الأمر دخلٌ للسلطة أو رضوخ لها فلِمَ الصبر تمسكًا بالأصول؟!
والرواية عن مالك تكشِف مدى تمسُّك الأئمّة بالأصول حيث يقول: “ضُربت فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة، ولا خير فيمن لا يؤذَى في هذا الأمر”([17]).
وقد كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل مع السلطان وهو تلميذ الشافعي، فلو كانت القضية سياسية فما الذي يدعو أحمد بن حنبل إلى مواجهة السلطان والتمسك برأيه العقدي وبما كان عليه الناس قبله وهو بيده المادة الأصولية التي يمكنه توظيفها لصالح السلطان ورأيه؟!([18]).
فدعوى أن للسلطة أدنى تأثير في تأسيس الأصول دعوى تفتقد للمعايير الموضوعية والسند التاريخي والواقعي، بل الواقع يشهد استقلالية الأصول وفوقيتها حتى على الفقهاء؛ لأنها قاعدة تحاكم وفض نزاع، وليست مادة أدبية بحته.
خامسا: دعوى أسر العقل بالأصول هي دعوى أيضًا عريّة عن الحقيقة، بل الأصول تنظيم معرفي وترتيب لأحكام العقل لكي تكون سليمة؛ ولذا أبدع الفقهاء حين تبنّوها واستطاعوا تغطية مساحة كبيرة، بل كل الحياة البشرية عن طريق استعمال قواعد الاستنباط، في حين كان العقل الحداثي المادّي مجرد مشاغب لم يضف للفكر الإسلامي شيئا، ولم يحاذِ الفكر الغربي، بل وقف من الأخير موقف التلميذ البليد من شيخه المهيب.
سادسا: لا يزال سؤال البديل غامضًا على مستوى التعيين، فإنه من الناحية الإجرائية واضح أن البديل عن أصول الفقه هي أدوات النقد الغربية، لكن هل هي بديل نهائيّ أو مؤقت؟ كل ذلك ما زال التصريح به قيدَ العدم، ومن ناحية بلوغ الغاية والمقصد: هل بإمكان الأدوات الغربية أن تبدع في فهم النص؟ الواقع والمنطق يقولان: لا؛ لأن الواقع يشهد بضعف المنتج المعرفي الحداثي وعدم قدرته على المنافسة، والمنطق لا يقبل أن تستعمل أدوات أجنبية على موضوع في فهمه؛ لأن ذلك يعني بطبيعة الحال الخروج بهذا الموضوع إلى موضوعٍ آخر، فحين يستعمل الطبيبُ أدوات النَّقد الأدبيّ لفهم المادة الطبية أو إفهامها؛ فإنه لا شكَّ سوف يكون لنتائجه حكمٌ مختلف عما تواضَع عليه الطبّ، وقل نفس الشيء في الهندسة والفلك، وليست هذه العلوم بأقعد ولا أحكم من العلوم الشرعية، بل العلوم الشرعية علوم ممانعة على مستوى الآلات والأحكام، لا تقبل غيرها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50].
والفكر الحداثي ينطلِق في فهم الشريعة من منظور الذات، لا من منظور الموضوع، فهو يبحث في النصّ ليجد ما يريد، لا ليوجِّهَه النص، ولا ليستفيد منه، وهي نظرة تجعل الإنسان يريد تأكيد معتقداته لا تصحيحها، وهو ما يتنافى تمامًا مع العقل الشرعي، ويتصادم معه، وقد ذم الله عز وجل أصحابَ هذا التصرّف فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} [المائدة: 41].
فالانطلاق من معارف مسبَقة ومناهج غيريَّة في فهم النص هو اتباع الهوى شرعًا، ولا علاقة له بالعلم، ولا بالبحث عن الحقيقة، وهو ما صرَّح به القوم في نتيجتهم النهائية، وهي عدم وجود حقيقة مطلَقة؛ لأنه من المعلوم أن الطرقَ العلميَّة المتبعة لديهم في البحث عنها لا توصل إليها، ولنا الحق أن نطالبهم بالتوقف مع أدواتهم والتشكيك فيها، فنفس التهمة التي يوجِّهون إلى الفقهاء هي عندهم وبصورة أوضَح، فهم لا يستنكفون من التصريح باستعمال أدوات أجنبية هي نتاج عقول أخرى، ولا ينكرون تأثير الواقع في فكرهم وإنتاجهم المعرفي، وهذه نقطة لرفض أفكارهم لا لِقبولها، وهي دعوى تلزمهم لأنهم معترفون بها، ولا تلزم غيرهم لعدم وجودها عنده أصلا. ويظهر تهافت الطرح الحداثي حين يتعلق الأمر بالاجتهاد الذي هو ثمرة الأصول، فإن فائدة الأصول هي الترقِّي الواعي في مراتب الاجتهاد وتحصيل الملكة العلمية، فحين يستحيل تأصيل الأصول أو يُدَّعى ذلك؛ فإن صاحب الدعوى أمام تحدٍّ صعب، وهو إثبات وجوده في ميدان الاجتهاد، فأين هم الحداثيون من الاجتهاد؟!
المطلب الرابع: موقف الحداثة من الاجتهاد:
تحيل كلمةُ الاجتهاد إلى جهد عقليٍّ، وهو ما يتحمَّس له الحداثيون نظرًا لأهمية العقل عندهم ومكانته وخصوصًا العقل الغربي في فترة أفوله، فمن الطبيعي أن لا يتخلّف الحداثيون عن عملية الاجتهاد والإدلاء بدلوهم فيها؛ وذلك لسهولتها عندهم؛ نتيجة للمعايير المخفضة والطرق المتبعة لديهم. ولا شك أن موقفهم المعاند لعلماء الأصول سوف يكون ساحة النزال والاختبار فيه هو الاجتهاد وطرقه، ولا نحتاج للإطالة في الحديث عن الاجتهاد عند التيار الحداثي، فهم يصرّحون بالمقصد منه فيقولون: “تجديد الخطاب الديني بدون إطالة هو المطالبة باجتهاد أكثر ليبرالية”([19]). وليس للاجتهاد ضوابط ولا قيود في الفكر الحداثي، فلكلٍّ طريقته التي يتعامل بها مع النص، وهي تختلف عن طريقة غيره حتى من أصحاب مدرسته([20])، فالمفكر الحداثي بعقله المستقلّ يمكن أن يخصّص العام ويقيّد المطلق انطلاقًا مما يراه مصلحة([21]).
فالحداثي مجدّد جديد، ينطلق من كون الاجتهاد لا يحتاج إلى ضوابط سابقه تقيده وتكبله وتحبط مسعاه([22]).
وكل هذا التحلُّل من القيود الاجتهاديَّة هو من أجل توسيع دائرة العقل في النصوص، والتخفُّف من التكاليف، والتوجيه عبر المنظومات العلمية المحكّمة للتعامل مع النصوص، ويظهر من خلال ما سبق أن الاجتهاد في النظرية الحداثية هو عملية تحتاج مجهودًا ذهنيًّا بحتًا، ولا تحتاج جهدًا علميًّا، ولا إلى تأهيل، وهم في هذا التخفّف من الالتزام بالشروط العلمية المعتبرة في فهم النصوص يسعَون إلى جعله عملية سَهلة وكلأ مباحًا وحمًى مستباحًا، لكن هذه السهولة الحداثية تجعل سؤال المصداقية لا يزال قائمًا وهو: إن من لم يثبت له المستوى العلمي الكافي في فهم الشرع فإنَّ تقحُّمه للاجتهاد يجعل منه مسخرة؛ لأنه لم يحترم التخصّص؛ ولذلك لا تعجَب إن وجدتَ المجتهد الحداثي أثناءَ ممارسة العملية الاجتهادية ذات الجهد الذهني الوحيد يقع في أخطاء في العزو وفي النحو وفي اللغة وفي الفقه وفي منهج الاستدلال والاستنباط؛ لأن التسلُّح بأدوات الاجتهاد كما هي عند القدماء بالنسبة له جبنٌ معرفي، وهذا الاجتهاد الذي يجعل الأصول عرضةً للنقد قبل الفروع هو الذي ينادي به الجابري، ويجعل علم الحديث والأصول خاضِعين لعلم التجربة والمادة([23]).
ويدعو الشحرور إلى تجاوز مفهوم السنة واللغة والأصول لتمرير العملية الاجتهادية المعاصرة([24]).
إن أكبر انتقاد موضوعي يقضي بحقٍّ على عملية الاجتهاد الحداثية هو عدم التخصص والخواء المعرفي، وهو نقد موضوعي لا يمكن دفعُه، وليس لدى الحداثيين ما يفسرون به جرأتهم على تقحّم مسائل العلم الشرعي، فليس لديهم متخصِّص في الحديث، ولا في الأصول، ولا في اللغة، ولا في الفقه، فكيف بمن ليس له أدنى معرفة بذلك؟!
ومن ناحية أخرى فإن المصداقية العلمية لدى السلفيين وأنصار التراث -كما يحلو للحداثيين تسميتهم- أوضح؛ وذلك لاكتمال أدواتهم المعرفية وانضباطها وتحديد أهدافها، ولا شكَّ أن المنطق الفقهيَّ القاضي بوجود قطعيٍّ هو منطق بناء وليس منطقَ هدم؛ لأنه لا يمكن الاجتهاد في ظلِّ عدم وجود القطعي أو القاعدة التي يمكن الانطلاق منها، ومن ثم فإنَّ عملية الاجتهاد الفقهيّة عند السلف -حين انطلقت من النصوص وجعلتها مؤسسة- أمكنها بعد ذلك أن تسير في الاتجاه الصحيح، في حين كانت الحداثة ذات منطلق عقلي بحت، لا يستند إلى الشرع، ولا يعتبره، فامتازت بالغموض في النتائج والآليات، وكانت نهايتها هي التوصل إلى عدم النهاية، وتعليق الحقيقة وجعلها أمرًا هلاميًّا، وجعل الدين مجرّد نصّ أدبي يحقّ لكل شخص تفسيره على نحو ما يحلو له. ففي التعامل مع الفكر الحداثي لسنا أمام فكرٍ ديني، وإنما أمام أديانٍ متعدِّدة بعدد رؤوس العقلاء ومن يستطيعون القيام بأبسط مجهود ذهني، ولا توجد قاعدة يمكن التحاكم إليها في التنظير الحداثي غير العقل المتعدّد والحقائق النسبية، فالنهاية محدَّدة بالوقت لا بالحقيقة، وبالطاقة الذهنية لا بالآلة العلمية، ويبقى السؤال الأهم وهو: هل يستطيع الحداثيون إقامة أدلّة علمية تثبت دعواهم؟ فالواقع يقول بأنهم لا يستطيعون، ولا يسعون لذلك، وليس في تنظيرهم ما يشهد له([25])، فمؤداه نفي الألوهية والنبوة وخاصية الوحي.
وهنا ينبغي تسجيل ملاحظة وهي: أن الفكر الحداثي في هذه النقطة لم يكن مبدعًا، بل كان مجرد ترجمة حرفيّة للفكر الاستشراقي، ولم يكن تجديدًا ولا اجتهادًا، وقد صرح المفكر الحداثي الجابري بنفس نتائج المستشرق ثيدور فيقول: “ورثت الثقافة العربية الإسلامية كل علوم المعقول واللامعقول في الثقافات الأخرى”([26]). ويتماهى الجابري مع الرؤية الاستشراقية ليبرهن على تشكيلها لثقافته، فيقرر أن الكتاب والسنة وعلومهما أخذا من الموروث الجاهلي، فيقول: “ليس هناك موروث قديم يمكن عزله عما عبَّرنا عنه بالفكر الديني العربي، والذي نقصد به الكتاب والسنة، كما يمكن أن يقرآ داخل مجالهما التداولي نفسه، يتحدّد أساسًا بالموروث الجاهلي أي: بنوع الثقافة ومستوى الفكر السائدين في مكة والمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم”([27]).
فالفكر الحداثي لم يكن مبدعًا، لا على مستوى الآليات، ولا على مستوى الاجتهاد، ولم يوفَّق في قراءة النص، ولا في فهمه، ولا في توجيه الوقائع التاريخية، فأمام كلّ عَملية اختبار عِلمية يتساقط الحداثيون، وتنقص مصداقيتهم، فلم ينضبطوا في الاجتهاد بمفهومه الشرعي، ولم ينجحوا في الإبداع وفقًا للأدوات الغربية، بل نقول: كلامهم وطريقتهم إما سرقة أو تقليد. فنحن نطالب الحداثيين بالتجديد والخروج من دائرة الاستسلام للمناهج الاستشراقية والثقافة الغربية؛ ليبدعوا بعيدًا عن الرضوخ المعنوي والفكري للثقافة الغربية، كما هم مطالبون أيضًا بإثبات إمكانياتهم العلمية أمام الإنتاج الضخم للفقهاء، وأمام قوة الاستيعاب لديهم، فلا يمكن أن نقبل عقلًا المقارنةَ بين مبدعين في القراءة والكتابة، أتقنوا علوم المعقول والمنقول، وتسلَّحوا بأدوات اللغة والفقه والحديث، وآخرين لم يتقنوا فنًّا ومع ذلك يجتهدون في غيره.
والغرض من كل ما سبق: التنبيه على عدم الجاهزية العلمية لكثير ممن يتصدَّرون لنقد التراث وفهم السلف؛ إذ هم مقصِّرون علميًّا عن مجاراتهم واللحاق بهم؛ وذلك للتفاوت الواضح في الإمكانات العقلية والمعرفية، خصوصًا فيما يتعلق بفهم الشرع، ومن ناحية أخرى فإنه لا يلزم من وجود النقد تسليمه، لا عقلًا ولا شرعًا، خصوصًا إذا كان النقد لا يستند إلى معايير علمية، ولم يقدّم صاحبه بديلا عمليًّا يثبت دعواه، أو يجعل إمكانية الانتقال إلى فكرته نتيجة لاكتمالها وسلامة أدواتها العلمية في الوصول إلى الحقيقة. ومن ناحية أخرى فإن الحداثيين يعملون على إثارة الإشكال لا على حلِّه، وعلى التساؤلات لا على الجواب، ومنهجهم يكرِّس الشكَّ ولا يوصل إلى اليقين، ويبعد الحقيقة ولا يقربها، وهذا يتنافى مع الطبيعة البشرية، ويسلك بها سبلًا فجاجًا، تفرض الحزن على الإنسان، وتورثه اليأس، في حين إن الحياة بطبيعتها العادية توجب التوقّف وتفرض الحقائق، ولا يمكن للإنسان أن يعلِّق الحقيقة تعليقًا كليًّا كما يريد أصحاب النظرة الحداثية. ثم إنَّ من ميزاتِ الحياة الاتفاقَ بين الناس والسعيَ إلى إيجاد قانون جامع يمكن التحاكم إليه، وهذا ما لا يوجد له ذكر في الفكر الحداثي وإن على مستوى العقائد والأحكام، فالعقل السليم لا يتصوَّر وجود تعليق مطلق للحقيقة، فتأطير المعرفة بالأصول هو منطق الشرع، والسعي إلى اليقين وإلى اطمئنان القلب ضرورة عقلية وفريضة شرعية، والشك في بعض الحقائق مرضٌ نفسيّ ومحالفة شرعية ومجازفة في الحياة، لا سيما في كبريات الحقائق مثل الإيمان والوجود والبعث ومآل البشرية.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: النسبية في الفكر الإسلامي على محمود (ص: 84).
([2]) بنية العقل العربي (ص: 58).
([4]) ينظر: الشافعي وإيديولوجيا الوسطية (ص: 50).
([5]) ينظر: المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية عبد العزيز حمودة (ص: 9-10).
([6]) ينظر: إشكالية تجديد أصول الفقه لأبي يعرب المرزوقي (ص: 39).
([8]) بنية العقل العربي (ص: 109).
([9]) ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (ص: 7).
([10]) ينظر: المرجع السابق (ص: 8).
([11]) ينظر: المرجع السابق (ص: 14).
([12]) ينظر: تكوين العقل العربي للجابري (ص: 343).
([13]) ينظر: تكوين العقل العربي (ص: 60).
([14]) ينظر: تكوين العقل العربي (ص: 64).
([16]) ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 395).
([17]) ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي (11/ 331).
([18]) ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 333).
([19]) تجديد الخطاب الديني في مصر (1/ 21).
([20]) ينظر: عيال الله محمد الطالبي (ص: 73).
([21]) ينظر: الاجتهاد النص الواقع المصلحة محمد جمال (ص: 135).
([22]) ينظر: الاجتهاد أمر ممكن خالد زيادة (ص: 376).
([23]) ينظر: حوار المشرق والمغرب للجابري وحنفي (ص: 69).
([24]) ينظر: الدولة والمجتمع (ص: 118).