نماذج من أجوبة السَّلف في مسائل المعتقد
لا شكَّ أنَّ الجوابَ عن السؤال يكشِف المستوى العلميَّ للمجيب، ومدى تمكُّنه من العلم الذي يتكلَّم به. ولأن السلفَ قدوةٌ في المعتقد والسّلوك فإن التعرُّف على أجوبتهم يعدُّ تعرُّفًا على منهجهم، كما أنه يحدِّد طريقتَهم في تناول مسائل العلم وإشكالاته، وخصوصًا في أبواب المعتقَد؛ إذ تكثر فيه الدَّعوى، ويقلّ فيه الصواب من المتكلِّم بغير عِلم.
وقد امتازت أجوبة السلف -رحمهم الله- بموافقتها للوحي، وقربها من العقل، وسهولة مقدِّماتها، ومخاطبتها للوجدان، وحرص أصحابها على الحقّ والهداية بدل الإفحام، فيكتفون من الجواب بما ينفع السائلَ ويبيِّن الحقَّ للحائر ويردّ الجافي إلى الحقّ، مع موافقة الجواب في نفسه لمنطوق الوحي، وعدم ردّ شيء مما أنزل الله، مع التمسك بمعهود العرب في خطابهم وطريقتهم في الكلام. والمتتبِّع لأجوبتهم ومناظراتهم يجد منهجَهم قويمًا في هذا الباب، وهو الجمع بين الأدلَّة وعدم رد شيء مما أنزل الله، ونذكر لهذا أمثلة:
النموذج الأول: أجوبة ابن عباس للخوارج:
في أجوبة ابن عباس رضي الله عنه للخوارج في مسائل المعتقد والخلاف مع الصحابة ما يدلُّ على ما تقدَّم، فقد اعترض الخوارج على الصحابة رضوان الله عليهم، وخصوصًا على عليٍّ بثلاثة اعتراضات: أولها: أنه حَكَّمَ الرجال في دين الله، ثانيها: أنه قاتل ولم يسب، ثالثها: أنه لم يقبل أنه أمير للمؤمنين.
فانظر كيف أجاب ابن عباس القومَ فقال: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ قَالُوا: حسبنا هذا، قال لهم: أرأيتكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله -جل ثناؤه- وسنة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم، قال: أما قولكم: حَكَّمَ الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمَه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكّموا فيه، أرأيتم قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وكان من حكم الله أنه صيَّره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء لحكم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى هذا أفضل، وفي المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله، حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم! أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أُمُّكُمْ؟! فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمّنا فقد كفرتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
وأما محيُ نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعليّ: «اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله»، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عليّ، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه نفسَه ذلك محاه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار([1]).
ومثال تمسُّكه بمعهود العرب في لسانهم جوابُه لمسائل ابن الأزرق فقد سأله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: ٨٥] ما الْمُقيت؟ قال: قادرٌ، قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
وذي ضِغْنٍ كففتُ الضِّغْنَ عنه وإنِّي في مساءته مُقيت([2])
النموذج الثاني: أجوبتهم في القدر:
فمن المعلوم أنه من المسائل الشائكة التي وضعت فيها الشبه قضية القدر، وقد كانت أجوبة السلف فيها على القدرية واضحَة محدَّدة، من ذلك ما جرى بين غيلان وميمون بن مهران حيث قال غيلان بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء الله أن يُعصَى؟ فقال له ميمون: أفَعُصِي كارهًا([3]).
فانظر إلى قُرب مأخذه، وكيف أجابه بما يجمع الأدلَّة، فإنَّ القدريَّ لم يفرّق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فأحاله الإمام إلى ما يكون به الجمع بين الأدلة من الأجوبة؛ ولذا وضع الإمام الشافعيّ ضابطًا مهمًّا في مناظرة القدرية فقال: “ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا”([4]).
ومثله تبيين الأوزاعي لمنكر القدر محلَّ مشيئة المخلوق من مشيئة الخالق بسؤاله لهم، فقد أورد اللالكائي عن الأوزاعي أنه جاء لهشام بن عبد الملك من أجل أن يناظر رجلا يقول: إن الله لم يخلق الشرَّ، فقال له الأوزاعي: إن شئت سألتك عن واحدة، وإن شئت سألتك عن ثلاث، وإن شئت عن أربع، أخبرني عن الله: هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقال: قلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة -أي: أن الأوزاعي يقول لهشام بن عبد الملك: هذه واحدة لا يعرف كيف يردّ عليها-. ثم قال له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ فقال الرجل: هذه أشد من الأولى، فقال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قال له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرَّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية. فقال: يا أمير المؤمنين، هذه قد حلَّ بها ضرب عنقه، ولم يأت بالمسألة الرابعة([5]).
النموذج الثالث: نهج الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في رده على الجهمية:
فقد اعتمد على البدهي من الأدلة العقلية التي لا يستطيع أحد ردّها، وقلَّل المقدمات، وعضَّد ذلك بالكتاب والسنة، من ذلك ردُّه على الجهمية في مسألة الاستواء، حيث استدلَّ عليهم بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك مما يقطع لسان المعترض، ثم عرض لاعتراضهم العقلي وهو: أن الله في كل مكان، فأجابه بجواب محكم حيث قال: “أرأيتم إذ قلتم: هو في كل مكان، وفي كل خلق، أكان الله إلهًا واحدًا قبل أن يخلق الخلق والأمكنة؟ قالوا: نعم، قلنا: فحين خلق الخلق والأمكنة، أقدر أن يبقى كما كان في أزليته في غير مكان؟ فلا يصير في شيء من الخلق والأمكنة التي خلقها بزعمكم، أو لم يجد بدًّا من أن يصير فيها، أو لم يستغن عن ذلك؟ قالوا: بلى، قلنا: فما الذي دعا الملك القدوس إذ هو على عرشه في عزه وبهائه، بائن من خلقه، أن يصير في الأمكنة القذرة وأجواف الناس والطير والبهائم، ويصير بزعمكم في كل زاوية وحجرة ومكان منه شيء؟!”([6]).
وبعد أن أجاب على اعتراضهم بيَّن منهجه في الاستدلال عليهم فقال: “فهل من حجة أشفى وأبلغ مما احتججنا به عليك من كتاب الله تعالى، ثم الروايات لتحقيق ما قلنا متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، سنأتي منها ببعض ما حضر إن شاء الله تعالى، ثم إجماع من الأولين والآخرين العالمين منهم والجاهلين أن كل واحد ممن مضى وممن غبر إذا استغاث بالله تعالى أو دعاه أو سأله يمدّ يديه وبصره إلى السماء يدعوه منها، ولم يكونوا يدعوه من أسفل منهم من تحت الأرض، ولا من أمامهم، ولا من خلفهم، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم، إلا من فوق السماء؛ لمعرفتهم بالله أنه فوقهم، حتى اجتمعت الكلمة من المصلين في سجودهم: سبحان ربي الأعلى، لا ترى أحدًا يقول: ربي الأسفل، حتى لقد علم فرعون في كفره وعتوّه على الله أن الله عز وجل فوق السماء”([7]).
فيتبين من خلال هذه الأجوبة عُمق علم السلف وقلَّة تكلّفهم، ومدى تمسّكهم بالوحي، وعدم معارضته بظنون العقل وشبهات الشيطان، والتسليم له والانقياد له، كما يتبين أن العقل الصريح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح، بل يشهد له ويؤيده ويصدقه، فهو الميزان الذي وضعه الله بين عباده للشهادة بالحق والعدل.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البيهقي في الكبرى (8522).
([2]) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 248).
([3]) ينظر: تاريخ الطبري (8/ 125).
([4]) ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 247).
([5]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (7/ 42).