فوائد عقدية وتربوية من فتح مكة
مكة هي أم القرى ومهبط الوحي وحرم الله وقبلة الإسلام، ومنها أذن أبراهيم لساكنة الكون يدعوهم لعبادة الله سبحانه وتعالى، وأُمِر بتطهير البيت ليختصّ بأهل التوحيد والإيمان، فكانت رؤية البيت الحرام مؤذِنة بالتوحيد ومعلمة به، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [الحج: 26]؛ ولذا فإن استرجاع هذا البلد من يد الشرك التي اغتصبته وإرجاعه إلى الحنفية السمحة لا يمكن أن يكون حدثًا جانبيًّا في الكون فضلا عن الدين، وقد امتنَّ الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن فتح على يده هذا البلد الحرام، ولم يكن ليقعَ ذلك إلا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فتح هذا المكان يحتاج تشريعًا خاصًّا به وشرائع تشرع بعده ما كان الناس ليهتدوا إليها، وحين نقف وقفَةَ تأمل مع هذا الحدث العظيم فلا شكَّ أن التأملات سوفَ تذهب بنا كلَّ مذهب، لكن حسبنا حتى لا نشتِّت القارئ أن نختصر له الفوائدَ في جانبين مهمَّين، ألا وهما الجانب العقدي والجانب التربوي؛ لما لهما من أثر فيما سواهما من أمور الدين والدنيا:
الفوائد العقدية:
من الطبيعي أن تكون هناك فوائد عقديَّة جمَّة في فتح مكة؛ لأنها معركة دينيَّة بحتَة، تقاد من أجل استرجاع أهمِّ بقعة للتوحيد على وجه الأرض، ومن هذه الفوائد العقدية:
أولا: عناية الله سبحانه وتعالى بالحدث، وتولي جميع محاولات إفشاله السرية التي قد تخفى على النبي صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب، فخذوه منها»، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجِنَّ الكتاب أو لنلقِيَنَّ الثياب، فأخرجته من عقاصِها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة؛ يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم([1]). وهذا من عناية الله عز وجل بهذا الحدث أن كشف محاولةَ إفشائه من فوق سبع سماوات لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي.
ثانيًا: تبيين بعض أحكام الولاء والبراء، فقد كان فعل حاطب هذا سببًا في تبيين حكم مظاهرة المشركين على المسلمين، وأن ذلك محرَّم، وفيه نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل} [الممتحنة: 1]. فقد نزلت في حاطب بن بلتعة([2])، وفيه أيضا أنَّ الولاء المخرج من الملَّة هو ما كان بالقَلب؛ ولذا استفسر النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فلما قال له حاطب: لا تعجل عليَّ يا رسول الله؛ إني كنت امرأً من قريش، ولم أكن من أَنْفسِهِمْ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببتُ -إذ فاتني من النسب فيهم- أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي، وما فعلتُ ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد صَدَقكم»([3]).
ثالثًا: إبطال شرائع الجاهليَّة وتحقيق التوحيد، وبيان أن ذلك هو ثمرة النصر، فحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيتَ في فتح مكة خطب فكبر ثلاثا ثم قال: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاجّ وسدانة البيت»، ثم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد -ما كان بالسوط والعصا- مئة من الإبل: منها أربعون في بطون أولادها»([4]).
رابعًا: إظهار التوحيد وإبطال الشرك وكسر الأصنام، وتبيين أن ذلك من أولويات الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة كان من أول ما قام به تحطيم الأصنام التي كانت تعبد من دون الله وإبطال عبادتها، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاث مائة نُصُبْ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحقُّ وزهق الباطل، جاء الحقُّ وما يبدئ الباطل وما يعيد»([5]).
الفوائد التربوية:
كان هذا الفتح العظيم مؤذِنا كذلك بإظهار أخلاق الإسلام في الحرب والسلم، وكيف يدير المسلمون حروبهم مع أعدائهم، وكيف ينظر إلى المسلم في الحرب ويتعامل معه، فقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعدَ الأخلاق في هذا الفتح وأظهرها للناس، ومن ذلك:
أولًا: خلق العفو عند المقدرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين مكَّنه الله من أعدائه الذين أخرجوه وأصحابه من ديارهم وآذوه وآذوا أصحابه لم يتعامل معهم بالانتقام، ولم يفعل بهم ما فعلوا به وبأصحابه، فقد قال لهم حين اجتمعوا في المسجد: «ما ترون أني صانع بكم؟» قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولم يجعل منها فيئًا قليلا ولا كثيرا، لا دارًا ولا أرضًا ولا مالًا، ولم يسبِ من أهلها أحدًا، وقد قاتله قوم فيها فقتلوا وهربوا، فلم يأخذ من متاعهم شيئا، ولم يجعله فيئا([6]).
ثانيًا: إنزال الناس منازلهم، فأبو سفيان كان سيِّد قريشٍ، وقد جرت عادة الحروب أنه إذا هزم قوم أن يذلَّ أسيادُهم، ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أعلن صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»([7]). وحين أبطل شرائع الجاهلية لم يبطل منازل الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاجّ وسدانة البيت»([8]).
ثالثًا: إقالة أصحاب العثرات من خيار الناس ووجوهم، فهذا حاطب رضي الله عنه حين أخطأ في إفشائه سرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يهدِر النبيُّ حقَّه وسابقته، وإنما ذكر له فضله السابق فردَّ على عمر قوله وقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([9]).
رابعًا: إقرار مبدأ الجوار، وتعظيم المرأة في الإسلام، فعن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمتُ عليه، فقال: «من هذه؟»، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأم هانئ»، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلا قد أجرتُه، فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجَرنا من أجرتِ يا أم هانئ»([10]). قال ابن بطال: “فيه من الفقه: جواز أمان المرأة، وأن من أمَّنته حرُم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله أبا العاص بن الربيع، وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق، منهم: مالك، والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وشذَّ عبد الملك بن الماجشون وسحنون عن الجماعة فقالوا: أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز، وإن ردَّه رد. واحتج من أجاز ذلك بأمان أم هانئ؛ لو كان جائزا على كلِّ حال دون إذن الإمام ما كان علي ليريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه، ولقال لها رسول الله: قد أمنت أنت وغيرك، فلا يحلّ قتله، فلما قال لها صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت» كان ذلك دليلا على أن أمانَ المرأة موقوف على إجازة الإمام أو ردِّه”([11]).
خامسًا: التواضعُ لله عز وجل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نصره الله على عدوه، ودخل مكَّة عنوة، لم يدخلها دخول الجبابرة، ولا تصرف فيها تصرفَ الظلمة، بل أعلن التواضعَ لله عز وجل، ودخل مطأطِئًا رأسه عليه الصلاة والسلام، ولم يقبل أن يكون دخوله دخولَ الجبابرة، وردَّ على سعد قوله: اليوم تستحل الكعبة، فقال عليه الصلاة والسلام: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة، ويوم تكسَى فيه الكعبة»([12]).
وفوائد فتح مكة لا تحصَى ولا تعدّ، وحسبنا ما يحصل به المقصود، واللبيب تكفيه الإشارة، وإلا ففتح مكة كان تأسيسًا لكثير من الشرائع في الصوم والصلاة والتعامل مع العدوّ، وغير ذلك، والله ولي التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: فتح الباري (8/ 635).
([4]) أخرجه أبو داود (4547)، وصححه ابن حبان (6011).
([6]) ينظر: معرفة السنن والآثار (18231).