معنى الفتنة في حقِّ الأنبياء.. ضبط المصطلح وحرج الفهم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
فمِن المعلوم عند كلِّ من يعتَنق دينًا من الأديان السماوية أهميةُ الأنبياء فيه وقداستهم، وأن الدينَ قائم على أخبارهم وتصديقِهم، فلا يمكن معرفةُ حكمٍ من أحكام الله إلا عن طريقهم، وأيّ تنقُّص منهم هو تنقّص من الدين، كما أن نبوَّتهم دليلٌ على علوِّ مقامهم عند الله سبحانه وتعالى وتعظيمه لهم، فالنبوة تعني جزمًا اصطفاءَ الله لمن جعله من أهلها، وأن الله اختاره على الناس لحمل دينه، وهذا الاختيار لسابق علم الله سبحانه وتعالى أنَّ هذا المخلوق مفضَّل مختار على بني جنسه، وَأَهْلٌ لتحمُّل هذه الرسالة، وعلم الله لا يتغير ولا يتبدَّل، وقد بين الله عز وجل أنَّ الأنبياء مختارون من بين الخلائق لهذه الوظيفة، فقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75]، وقال بعد أن ذكر جملة من الأنبياء: {وَكُلًا فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين} [الأنعام: 86].
وهذا التفضيل والاختيار هو مِن علم الله بحالهم وببواطن أسرارهم، وأنَّ هذه المهمة العظيمةَ النبيلة لا يصلح لها غيرهم؛ ولذا ردَّ القرآن على كلِّ مشكِّك في إمكانياتهم وأهليتهم لذلك، وتوعَّد من توهَّم إمكانية الوصول إلى مرتبتهم بظنِّه أو اشترط ذلك على الله، فقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُون} [الأنعام: 124].
وهذا التكليف العظيم له أيضًا تبِعاته وآثاره، فصاحِبه معرَّض للبلاء أكثر من غيره؛ لأن صاحبَه يمارس مهمَّة من أعظم المهامِّ على الإطلاق، وهي تبليغ رسالة الله لخلقه، فلا بد أن يقع عليه من البلاء بقدر ما يظهر صدقه للناس وصبره، ويكون به قدوة للناس في كل خير؛ ولذا حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة»([1]).
وهذا الابتلاء ليس له صورة واحدة، فقد يكون بالتكذيب، وقد يكون بالقتل والأسر، فقد قتل زكريَّا وابنه يحيى عليهما السلام، وسُجن يوسف عليه السلام، وقد يكون هذا الابتلاء فتنةً يختبره الله عز وجل بها؛ ليظهر صدقه ويبين فضله ويرفع درجته، وهذه الأخيرة هي محلُّ بحثنا.
فما معنى الفتنة في حق الأنبياء؟
وما معنى ما ورد من ذكر الفتنة في حقِّهم في القرآن؟
ولا بأسَ قبل الخوضِ في الموضوع أن نبيِّنَ معنى الفتنة؛ لأن به يتبيَّن المعنى الحقيقيّ لها في حقِّ الأنبياء، فحين يثبت تعدُّد معانيها يسهُل أن نعرفَ المعنى اللائقَ من هذه المعاني بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
معنى الفتنة:
للفتنة في اللغة معانٍ عدة، أصلها الامتان والاختبار. تقول: فتنت الذهب؛ إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته، ودينار مفتون… ويسمَّى الصائغ: الفتان، وكذلك الشيطان، وفي الحديث: «المؤمن أخو المؤمن، يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتَّان»، يروى بفتح الفاء وضمِّها، فمن رواه بالفتح فهو واحد، ومن رواه بالضم فهو جمع([2]).
وتأتي لمعان أخَر، منها الإحراق، قال الخليل: “الفَتْن: الإحراق، وشيء فتين أي: محرق، ويقال لِلْحَرَّة: فتين، كأن حجارتها محرقة”([3]).
قال أبو زيد: فَتَن الرجل يفتِن فُتونا؛ إذا أراد الفجور، وقد فتنته فتنة وفتونا، وقال أبو السفر: أَفتنته إفتانًا، فهو مفتَن، وأُفتن الرجل وفُتن فهو مفتون؛ إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله، وقد فتن وافتتن، جعله لازما ومتعدِّيًا، وفتَّنته تفتينًا فهو مُفَتَّن أي: مفتون جدًّا، والفتون أيضًا: الافتتان، يتعدَّى ولا يتعدَّى؛ ومنه قولهم: قلب فاتن أي: مفتتن([4]).
والملاحظ أن الفتنةَ ترجع إلى معنى الامتحان والابتلاء كما مرَّ، كما تستعمل في معان أخرى منها الإبعاد عن الحقِّ والإضلال، قال صاحب اللسان: “والفتنة: الضلال والإثم، والفاتن: المضل عن الحق، والفاتن: الشيطان لأنه يضل العباد، صفة غالبة”([5]).
وكل هذه المعاني وردت في القرآن، فمن ورود الفتنة بمعنى الابتلاء والاختبار قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} [الأنعام: 53] أي: ابتلينا بعضا ببعض([6])، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون} [الأنبياء: 35].
ومن ورودها بمعنى الإحراق قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون} [الذاريات: 14] أي: يعذَّبون([7]).
وأما بمعنى الإضلال عن الحق والإبعاد عنه فمنه قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس -من رؤساء اليهود- بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد، قد عرفتَ أنَّا أحبار اليهود وأشرافُهم، وأنَّا إن اتَّبعناك لم يخالفنا اليهود، وإن بيننا وبين الناس خصوماتٍ فنحاكمهم إليك، فاقض لنا عليهم نؤمِن بك ويتبعنا غيرنا، ولم يكن قصدهم الإيمان، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم، فأنزل الله عز وجل هذه”([8]).
قال الراغب: “والْفِتْنَةُ من الأفعال التي تكون من الله تعالى، ومن العبد، كالبليّة والمصيبة، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر الله يكون بضدّ ذلك، ولهذا يذمّ الله الإنسان بأنواع الفتنة في كلّ مكان”([9]).
محاولة إضلال الأنبياء عن الحق من أقوامهم:
الفتنة بمعنى الإضلال عن الحقِّ لا يمكن صدورها من الله عز وجل في حقِّ الأنبياء عليهم السلام؛ لأنه لو أراد ذلك لوقع، وهو مستحيل شرعًا في حقِّ الأنبياء، لكن محاولة أهل الكفر لهذا المعنى ليوقعوا الأنبياء فيه قد أخبر عنها الشرع، ولكنها مستحيلة قدرًا؛ لأن الله لا يأذن في ذلك.
ومحاولة فتنة الأنبياء عن الحقِّ تصدر عمن لم يقتنع بنبوتهم من البشر، وهذا النوع من الفتنة يكون أحيانًا بالتعذيب وإلقاء الشبه والتهديد بالقتل؛ ليرجع النبيّ أو من تبعه عن الحقّ، لكن الله عز وجل جرت سنته الشرعية والقدرية أن الأنبياء لا يمكن صرفهم عن الحق ولا فتنتهم، وإن وقعت الفتنة عليهم فإنها لا تصرفهم ولا تخذلهم، قال سبحانه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. قال الطبري: “يقول تعالى ذكره: وامتحنَّا -أيها الناس- بعضَكم ببعض، جعلنا هذا نبيًّا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملِكًا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا؛ لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيَه الغنيّ، والملكَ بصبره على ما أعطيَه الرسول من الكرامة، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أُعطي وقُسم له، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطي غيره. يقول: فمن أجل ذلك لم أعط محمَّدًا الدنيا، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق، ولأبتليكم -أيها الناس- وأختبر طاعتكم ربَّكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه؛ لأني لو أعطيته الدنيا لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعًا في دنياه أن يَنال منها”([10]).
ومن هذه الفتنة تعذيبُهم من أجل الرجوع عن الحقِّ الذي هم عليه، فقد أوقَد قوم إبراهيم لإبراهيم النارَ؛ ليردوه عن الحق، لكن الله عز وجل منع استجابة إبراهيم لهذه الفتنة، فقال سبحانه: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِين} [الصافات: 98]؛ بأن نجاه الله من النار، وثبته على التوحيد.
وتكون هذه الفتنة أيضًا بإلقاء الشبه للنبي ومحاولة استمالته إلى الباطل، كما فعلت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون} [الأنبياء: 98]، فاعترض عبد الله بن الزِّبَعْرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عيسى وعزيرًا ونحوهما قد عُبدوا من دون الله، فيلزم أن يكونوا حصبًا لجهنم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. ثم قرر الأمرَ بالإشارة إلى الأصنام التي أرادها في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ}، فقال: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً}، وعبَّر عن الأصنام بـ {هؤُلاءِ} من حيث هي عندهم بحال من يَعقل([11]). وبين سبحانه أن هذا التمثيلَ منهم بعيسى كان مجردَ مخاصمةٍ ومحاولة لصدِّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحق، فقال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57، 58]، فأكثر المفسرين على أن هذه الآيةَ نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزل قوله: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مَثَلًا لآلهتهم وشبَّههوه بها؛ لأن تلك الآية إنما تضمَّنت ذِكْر الأصنام؛ لأنها عُبِدَتْ مِنْ دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مَثلًا لأصنامهم؛ لأنه معبود النصارى، والمراد بقومه: المشركون([12]).
وقد سجل القرآن محولاتٍ متكررةً لفتنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الحقِّ من طرف اليهودِ والمشركين، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73].
قال القرطبي: “وَمَعْنَى {لَيَفْتِنُونَكَ} أي: يزيلونك، يقال: فتنت الرجل عن رأيه؛ إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي. وقيل: يصرفونك، والمعنى واحد. {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفةً لحكم القرآن؛ {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي: لتختلقَ علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرِّم وادينا كما حرَّمتَ مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل: الله أمرني بذلك حتى يكون عذرًا لك، {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي: لو فعلتَ ما أرادوا لاتَّخذوك خليلًا، أي: والوك وصافّوك، مأخوذ من الخُلَّة بالضم وهي: الصداقة [لممالأته] لهم”([13]).
فجميع هذه المحاولات قد عصم الله منها نبيَّه كما عصم منها الأنبياء قبله، فالفتنة إذا جاءت بمعنى الإضلال عن الحقِّ والإذهاب فإنها لا تكون من الله في حقِّ الأنبياء، بل هي من أقوامهم، ومن كفرة البشرية، ومن الشيطان.
ومن أمثلة وقوعها من الشيطان قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدو لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الحج: 54].
قال ابن عطية: “و{تَمَنَّى} معناه المشهور: أراد وأحب، وقالت فرقة: هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له، قالوا: فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضِه الله وجد الشيطان السبيل”([14]).
وقد تكفل الله بعصمة النبي والوحي من إلقاء الشيطان، وبنسخ ذلك كله كما نصت عليه الآية، وهذا المعنى منسجِم مع ما قرَّرنا آنفا من أن الفتنة لا تأتي على النبيِّ بمعنى الضلال عن الحقّ وإن أراد ذلك من أرداه، “وقد اتفق المسلمون على أنه لا يستقرّ فيما بلَّغه باطل، سواء قيل: إنه لم يجر على لسانه من هذا الإلقاء ما ينسخه الله، أو قيل: إنه جرى ما ينسخه الله، فعلى التقديرين قد نسخ الله ما ألقاه الشيطان، وأحكم الله آياته، والله عليم حكيم؛ ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق”([15]).
فهذا هو المتقرِّر في الشرع، ويدل عليه عدة أمور، منها: دعاء الأنبياء العصمة من الفتنة التي بمعنى الميل عن الحقِّ أو إضلال الناس، فقد دعا إبراهيم ربَّه أن لا يجعله فتنةً للذين كفروا، قال سبحانه على لسانه: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [الممتحنة: 5]. “يقول: ربنا لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا وما سُلِّطنا عليهم”([16]). ومثله قول موسى وقومه: {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين} [يونس: 85].
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «اللَّهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال»([17]). فلا يقع رسل الله في شيء استعاذوا بالله منه ودعَوه أن ينجيَهم منه، مع ما سبق من علم الله بحالهم واصطفائهم وعصمتهم.
معنى الفتنة من الله في حق الأنبياء:
إذا ورد في القرآن وقوع الفتنة من الله للأنبياء، فإنه لا يمكن حمل ذلك على أنهم فُتنوا بمعصيةٍ ولا بما يصرفهم عن الحق إلى الباطل، بل الفتنة هناك بمعنى الاختبار والابتلاء، فالله تعالى لا يريد بأنبيائه شرعًا ولا قدرًا إلا الخير؛ لأنه اصطفاهم لحمل رسالته، وجعلهم أوعيةً لوحيه، لكن هذا لا يناقِض أن تجريَ عليهم سننُ الله الكونية في الابتلاء والاختبار؛ لإظهار الحكمة من الاختيار، وبلوغ الدرجات التي لا تبلغ إلا بتلك الأسباب التي قدرها الله لها، ومن بين هذه الأسباب وقوع مصائب في الدنيا عليهم من قتلٍ وأسرٍ وتكذيبٍ، ترتفع بها درجتهم عند الله، وتحقّ بها كلمته على الكافرين، وتظهَر حكمته في التشريع في مثل تلك الحوادث.
وقد وقعت حوادثُ للأنبياء سماها الله سبحانه وتعالى فتنةً، وسمى البعضَ الآخر ضرًّا ومصيبة، لكن كلها يرجع إلى معنى واحدٍ وهو الابتلاء والاختبار، فلم تقع فتنة على أحد من الأنبياء ليضلَّ بها عن الحقّ أو يميل إلى الباطل، بل ليظهر الحق أكثر مما كان من قبل، أو ليشرع الله من خلالها تشريعا جديدا للأمم، ويقتدي به الناس من بعده، ويكون مثالا حيًّا لإخوانه من الأنبياء ليقتدَى به.
وقبل الخوض في ذلك لا بدَّ من التنبيه إلى أن العصمةَ لا تنافي الخطأ في الاجتهاد ولا النسيان، وإنما تنافي تعمُّد الخطأ واتِّباع الهوى، فالنبي قد يجتهِد فيصيب الأجر وإن فاته الصواب، لكن فرق ما بينه وبين غيره أنه لا يُقَرُّ على النسيان ولا على الخطأ، بل لا بد أن يصوِّبَه الوحي، ونحيل في ذلك إلى الآيات الواردةِ فيه، والتي منها قوله سبحانه: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِين} [التوبة: 43]، وقوله سبحانه عن اجتهاد داود وسليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: 79].
فخصَّ سليمان بالفهم دون داود، وهو ظاهر في أن المصيب للحق واحد([18])، وهذا التقعيد يوضِّح بعضَ ما سوف نأتي عليه من الأمثلة، وسوف نقتصر في الأمثلة على ما رود فيه لفظ أنه فتنة في حقِّ نبيّ؛ ولذلك أمثلة منها:
أولًا: فتنة موسى عليه السلام:
قال الله تعالى: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40].
وقد ورد فيه حديث الفتون عن ابن عباس، وهو حديث طويل وذكر فيه قصة موسى بكاملها([19])، وقد اتفقت كلمة المفسرين على معنى واحد لهذه الفتنة في حقِّ موسى -عليه السلام- لا يخرج عن الابتلاء والاختبار، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: (اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: (ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا)([20]).
وهذا الابتلاء والاختبار لموسى وامتحانه ونجاته من محنةٍ بعد محنةٍ تفصيلُه: أن موسى حملته أمُّه في العام الذي يَقتل فيه فرعون الأطفالَ، فهذه هي أول فتنة، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم منعُه الرضاع إلا من ثديِ أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى همَّ بقتله، ثم تناوله الجمرة بدلَ الدرة، ثم قتلُه القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفًا، وهذا هو معنى قول بعضهم: أخلصناك إخلاصا([21]).
وحين نتأمَّل هذه الفتنةَ الواقعة على موسى نجد أنه ليس فيها ذنبٌ ولا صرفٌ عن الحقِّ، بل كلها ترجع إلى معنى الاختبار والابتلاء الذي تظهر به حكمة الله وقدرته، وليس فيها مما يشكل إلا قتل النفس، وموسى قتلها بالاجتهاد، فلم يكُن قاصدا للقتل، وإنما وقع بسبب الضربَة التي لا تقتُل عادةً، ويدل على ذلك السياقُ، حيث قال بعدَه مباشرة: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِين} [القصص: 15]، والندم دليل عدم القصد، قال الماوردي: “فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله، وإنما يريد دفعه، {فَقَضَى عَلَيهِ} أي: فقتله. و{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي: من إغوائه”([22]).
وما سوى ذلك ليس فيه ذنب، ولا ميل عن الحق، وإنما هي أقدار مؤلمة جرت على موسى، وأعانه الله سبحانه وتعالى فيها.
ثانيًا: فتنة داود عليه السلام:
ورد في القرآن أن الله فتن داودَ عليه السلام، وقصة هذه الفتنة ودرت في صورة ص، قال سبحانه وتعالى: {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعًا وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} [ص: 21-25].
وقد ذكر المفسِّرون في هذه الفتنة قصصًا واهيةً، ولا تليق بمقام الأنبياء عليهم السلام، وكثيرٌ منها منتحَل من بني إسرائيل؛ ولذلك نضرب عنه صفحًا، ونقتصر على ما ذكره ابن عطيَّة، فبه يتَّضح المعنى ويتجلَّى، حيث يقول تعليقًا على الآيات: “وهنا قصص طوَّل الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكةً بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد خرَّ وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها فروي أنه -عليه السلام- جلس في ملأ من بني إسرائيل، فأعجب بعمَله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسِه الفِتنة، ويقال: بل وقعَت له في مثلِ هذا محاورَة مع الملكين الحافظين عليه، فقال لهما: جرِّباني يومًا، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروها”([23]).
وذكر القصص الأخرى وعلَّق عليها قائلا: “والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصَّة صورٌ لا تليق، وقد حدَّث بها قُصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدَّث بما قال هؤلاء القصَّاص في أمر داود -عليه السلام- جلدته حدَّين؛ لما ارتكب من حرمة مَن رفع الله محلَّه”([24]).
وأكثر المفسرين على أن الخصمين اللذين جاءاه كانا ملكَين، وضربا له هذا المثل ليتضح له الحقّ ويتبين، وحين حكم في النازلة بالحق تبين له الحق، وعلى القول بأن القصة نفسها وقعت لداود مع أوريا فهي محمولة -كما نقل البغوي- على ما يليق بالأنبياء حيث قال: “وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له، فاتَّفق غزو أوريا وتقدّمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغُرت فهي عظيمة عند الله”([25]).
فليس في الأمر معصيةٌ ظاهرة، ولا مخالفة، وقد ضرب الله المثل لداود واختبره؛ ليبين له وجه الصواب في هذا الحكم، وقد علق ابن العربي تعليقًا حسنًا على هذه الروايات فقال: “والذي أوقع الناس في ذلك رواية المفسّرين وأهل التقصير من المسلمين في قصص الأنبياء مصائبَ، لا قدر عند الله لمن اعتقدها رواياتٍ ومذاهبَ، ولقد كان من حُسن الأدب مع الأنبياء -صلوات الله عليهم- أن لا تبثَّ عثراتهم لو عثروا، ولا تبثَّ فلتاتهم لو استفلتوا، فإن إسبال الستر على الجار والولد والأخ فضيلةٌ أكرم فضيلة، فكيف سترتَ على جارك حتى لم تقصَّ نبأه في أخبارك، وعكفت على أنبيائك وأحبارك تقول عنهم ما لم يفعلوا، وتنسب إليهم ما لم يتلبسوا به، ولا تلوّثوا به؟! نعوذ بالله من هذا التعدّي والجهل بحقيقة الدين في الأنبياء والمسلمين والعلماء والصالحين. وقد وصيناكم: إذا كنتم لا بد آخذين في شأنهم ذاكرين قصصهم ألا تَعَدَّوا ما أخبر الله عنهم، وتقولوا ذلك بصفة التعظيم لهم والتنزيه عن غير ما نسب الله إليهم، ولا يقولن أحدكم: قد عصى الأنبياء فكيف نحن؟! فإن ذكر ذلك كفر”([26]).
ولذا اتفق المفسرون على أن الفتنة في الآية بمعنى الابتلاء والاختبار، ويؤكد هذا أن الفتنة وقعت في عرض الخصمين وتنبيههما، لا في شيء فعله داود -عليه السلام- وارتكبه.
ثالثا: فتنة سليمان عليه السلام:
شأن سليمان شأن كل الأنبياء، ويجري عليه ما يجري عليهم من الابتلاء والاختبار، وقصة الفتنة التي جرت عليه نصَّ عليها القرآن، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب} [ص: 34]. فقد أجمع المفسرون على أن الفتنة هنا بمعنى الابتلاء والاختبار([27]) مثل ما مرَّ، واختلفوا في سبب هذه الفتنة على خمسة أقوال:
أولها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، فكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها، فعوقِب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا. قاله سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده، فقالت له يومًا: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُليَ لأجل ما قال. قاله السدي.
والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذْكُر أبي وما كنتُ فيه، فلو أنك أَمَرْتَ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها، ففعل، فكانت إذا خرج سليمان تسجد له هي وولائدها أربعين صباحًا، فلمّا عَلِم سليمان كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها، ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفرًا ممّا كان في داره، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه. هذا قول وهب بن منبّه.
والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام، فلم تنظرُ في أُمور عبادي، ولم تُنْصِف مظلومًا من ظالم! فسلّط الشيطان على خاتمه. قاله سعيد بن المسيب.
والخامس: أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره. قاله الحسن([28]).
واختلفوا في الجسد الملقى على كرسيه على أربعة أقوال:
القول الأول: أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله، فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرا لاسم الله تعالى، فنزعه يوما ودفعه إلى جارية، فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم، فدفعته له، وجلس في مكان سليمان يحكم بين الناس، وفر سليمان بنفسه وأصابه الجوع، فطلب حوتا فوجد فيه خاتمه، فرجع له ملكه.
القول الثاني: أن الجسد هو الصورة التي صنع لزوجته، فعبدتها دون علمه.
القول الثالث: أن سليمان كان له ولد وكان يحبّه، فقتله الجنّ، فالفتنة على هذا حب الولد، والجسد هو الولد الملقى بلا روح.
القول الرابع: قوله: لأطوفنَّ بمائة امرأة تلد كل واحدة منهن بولد يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل إلا واحدة منهم، حملت بشقِّ إنسان، فالفتنة عدم قوله: إن شاء الله([29]).
وقد أجمع المفسّرون على أن الشياطين لم يسلَّطوا على نساء سليمان، ولا كان له عليهم من سلطان، وأولى الأقوال بالصواب هو نسيانه قول: إن شاء الله([30])، “وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصفَ إنسان، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الآية”([31])، ولهذا نظير، فقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: إن شاء الله، فأدبه الله في ذلك وأنزل عليه: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 24].
فحاصل الأمر أن اللائق بمقام الأنبياء هو حمل ما يرد في حقِّهم على اللائق بعصمتهم ومقامهم عند الله من الاصطفاء والتكريم، ولا يجوز للمسلم أن يعتقد فيهم غير ذلك، كما أنه ينبغي في التعامل مع الوحي أن تحمل ألفاظه على اصطلاحه وحقائقه الشرعية، لا على فهوم من كفر به أو من لم يفهمه، ومقام الأنبياء في القرآن عظيم، وقدرهم عند الله كبير، ومن تمام الإيمان بهم اعتقاد ذلك، والتنقص من واحد منهم كفر بهم جميعًا، فلا ينفع التوسّط في الإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 151]. فهذا الكفر والعياذ بالله.
كما ينبغي التنبّه إلى أن المفسِّرين ينقلون في مثل هذه الأمور الإسرائيليَّات، ويتجوزون في ذلك، وبعضهم يقصد إلى الاستقصاء لا إلى التحقيق، فمهمَّته أن يجمع كلَّ ما نُقل في المسألة، ولا يهتمُّ بتنقيحه، وبعضُهم يكتفي بظهور بطلان القول عن التعليق عليه، فيأتي مَن لا علم له بطرائق الفسرين ولا بكلامهم، فيعتمد قولا من بين أقوال عدَّة، دون أن ينظر إلى مدى توافقه مع ظاهر النصوص الصحيحة الصريحة في الباب، والتي هي من كليات الشرع التي لا تنخرم، والتي من أعظهما حماية جناب الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم حملة الوحي، والواسطة بين الله وبين خلقه، وشهداؤه عليهم يوم القيامة، فويل لمن شهِد عليه نبيُّه بالتنقّص منه بتكذيبه أو باعتقاد باطل فيه، والله ولي التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه الترمذي (2398) وقال: “حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان (2920).
([2]) الصحاح تاج اللغة (6/ 2175).
([3]) ينظر: مقاييس اللغة (4/ 473).
([4]) ينظر: لسان العرب (13/ 318).
([5]) ينظر: المرجع السابق (13/ 318).
([6]) ينظر: غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 154).
([7]) ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص: 260).
([8]) ينظر: تفسير البغوي (2/ 58).
([10]) تفسير الطبري (19/ 253).
([11]) ينظر: تفسير ابن عطية (4/ 101).
([12]) ينظر: زاد المسير (4/ 81).
([13]) تفسير القرطبي (10/ 300).
([14]) تفسير ابن عطية (4/ 128).
([18]) ينظر: تفسير الطبري (18/ 475)، وتفسير السمعاني (3/ 394).
([19]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (11263).
([20]) ينظر: تفسير البغوي (3/ 262).
([21]) ينظر: تفسير البغوي (3/ 264).
([22]) النكت والعيون (4/ 242).
([23]) تفسير ابن عطية (4/ 498).
([24]) تفسير ابن عطية (4/ 499).
([26]) تفسير ابن العربي (3/ 564).
([27]) ينظر: تفسير القرطبي (15/ 198)، تفسير العز بن عبد السلام (3/ 81).
([28]) ينظر: زاد المسير (3/ 573)، تفسير البغوي (7/ 91 وما بعدها).
([29]) ينظر: التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 208).