ثقوب في الفكر الحداثي: الموقف من الحضارة نموذجًا
لم يكن الفكر الحداثيّ متماسكًا، لا على مستوى الأدوات المعرفيَّة، ولا على مستوى الطرح العلميّ، يعرف ذلك كلُّ من اختبر الجدِّيَّة العلمية لدى القوم، فغالب ما عندهم ذوقٌ واستحسانٌ، يخرجونه مخرجَ التجديد، وبلغةٍ انفعاليَّة ثائرة على الشَّرع، محبَطَة من الواقع، مستسلِمة لثقافات أجنبيَّة وافِدة، ولو أنها استسلمت لها في مصدرِ قوَّتها لكان الأمر هيِّنًا وفي حدود المقبول، لكن تضارب المشاعر أدَّى للخلط بين مراكز القوَّة ومراكز الضَّعف، بين عوامل الانهيار وعوامل الانبهار، فالغرب قد شيَّد حضارةً مادِّية معاصرةً، استفاد فيها كثيرًا من الحضارة الإسلامية ومن مقوِّماتها، لكن هذه الاستفادة ظلَّت مقصورةً على الجانب المادِّيِّ العمراني، وإن تعدَّته إلى شيء فإلى الجانب السياسيِّ وبعض القوانين والقيَم، مع التعديل عليها بما يلائم ثقافتهم وتوجُّههم الديني أو اللاديني، لكنه في المقابل شهد خواءً أخلاقيًّا منقطعَ النظير، وارتباكًا قيَميًّا لم تشهده البشرية في عصر من العصور، فسلَّط الحداثيون عدَسَتَهم على الجانب المادّيِّ، وافتتنوا به، وجعلوه مقصدًا من مقاصد الشَّريعة ووسيلة وغاية ينبغي أن تُصاغ أحكام الشريعة طبقًا لما يمليه ووفقا لما يتطلَّبه، وليتهم وقفوا عند هذا الشعور السلبيِّ، لكنهم قدَّموه في ثوبٍ ممنهج، وجعلوه تجديدًا، ونظَّروا له، وحاولوا الاستدلال له من ذات الشريعة.
والمشكِل في هذا الطرح هو اختزال الإنسان في الدوافع المادية والأطماع الاقتصادية، واعتبار العلاقة والشراكة مبنِيَّتين على المشترك الإنساني التجريبي، بعيدا عن أيِّ قيمٍ دينية وأخلاقية، والإنسان المثالي هو ذلك الإنسان الذي استفاد من العلوم التجريبيَّة، واستطاع توظيفها لصالح الحياة الإنسانيّة، مع التماهي المطلق في الطرح الغربي، واعتبار الترابط بين القيم المزوَّرة التي تنتجها الحضارة الغربية وبين التقدّم المادي الذي عندهم.([1])
ومن ثم يتمُّ تسليط الضوء على الآليات المصنَّعة للثقافة الإسلامية، والتشكيك فيها، واعتبار منجزاتها منجزاتٍ ضامِرةً، لا تقدِّم ولا تؤخِّر، وينبغي استبدال غيرها بها، فهذا الأديب اللبناني النصراني جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدُّن الإسلامي” لم يُخفِ في هذا الكتاب افتتانَه بالحضارة الغربية، واستعارته للآليات العلمية لدى أصحابها، ومحاكمة التاريخ الإسلامي لذلك([2]).
وكذلك المفكر السوري ذو التوجهات الماركسية المادية المعروف بطيب تزيني، جاءت قراءته للثقافة والحضارة وفقًا للرؤية المفتونَة، وألَّف كتبًا في ذلك، أهمها مشروع رؤية جديدة في الفكر العربي الوسيط، والذي اقترح فيه منهجيةً لقراءة التراث العربي، أكد فيها على الابتعاد عن الرؤى العقديّة الساذجة والمثالية، والاعتماد على الجانب المادّيّ، والابتعاد عن الغيبي الخرافي([3]).
ولا يخفى ما في هذا الطرح من اجتزاء للحياة البشرية، وفهم سطحيٍّ للواقع والتاريخ؛ إذ إن الحضارات التي شهدتها البشرية في جانبها المادّيّ والعمراني لم تكن مرتهنة لدين ولا لفكر، وإنما هي تابعة للأسباب كونية، ولا تحمل ولاءً لأحد، فجعلُها مرتهنةً لفكر أو لتوجُّهٍ معيَّن هو سذاجة في الطرَّح، وغباءٌ في التصوُّر، وقصور في الربط بين الأسباب ومسبباتها، ونَتِيجةُ هذه الفلسفات إيجادُ معاول للهدم والتقويض والتفكيك للدين، وتعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية الدينية؛ بحجة الرقيّ الحضاري والارتقاء بالإنسان من عالم الميتافيزيقا إلى ميدان يفكر فيه بالعلم والعقل، ويستبعد الخرافة والدجل اللذين سيطرا على عقله ردحًا من الزمن.
ومن ناحيةٍ أُخرى يظهَر في الفكر الحداثيّ ثُقب من طرفٍ خفيٍّ، وهو عدم فَهم كيفية تقييم الحضارات ومنجزاتها، فالمنجزات الحضاريَّة للبشرية ينظر إليها في سياقها التاريخيِّ والمكاني، ولا تقاس بما بعدها؛ لأن في ذلك تجاوزًا للزمن وتعاليًا على المعطيات، لا يتناسب مع الموضوعية والإطار المعرفي الحاكم لِلَّحظات التاريخية وللنمو البشري، فالإبداع نسبيٌّ تحكمه المسافة الزمنية التي يقطعها عبر التاريخ، فمحاكمة الحضارة الإسلامية ماديًّا ومقارنتها بالحضارة الغربية المعاصرة تجاهلٌ للعوامل، وجهلٌ بالتاريخ، وقياس مع الفارق، وتغيير للترتيب، هذا مع أنَّ الثقافة الإسلامية لم تكن ثقافةَ شعب ولا قوم، بل ثقافة شعوب متعدِّدة ودول مختلفة، أسهمت في صناعة الحضارة البشرية على مرِّ التاريخ، وشكَّلت إضافة حقيقيَّة في جميع ميادين الحياة، ولعل مما يخفِّف ضغط المعلومة ويضبط الشعور أن المسلمين مع مشاركتهم القوية في الحضارة وإسهامهم فيها، لكن ذلك لم يكن وفقًا للترتيب الشرعي هو الغاية والمقصد، بل كان ينظر إلى الإنجاز على أنه مجرَّد وسيلة أو ثمرة، ولا يكون محلَّ إشادة ما لم يُضَف إليه بعدٌ ديني وأخلاقيّ.
وقد جاء الإسلام وكثير من الحضارات قد شُيِّدت، وبلغت مبلغا بعيدًا في الصناعة والعمران، ولم يكن هذا المعنى محلَّ إشادة من الوحي، وذلك لانحراف أهله به عن المعنى الحقيقيِّ للحياة التي ينبغي أن يستثمرها لصالح الأخلاق والقيم؛ لأن مقوِّم الحضارة الأساسي والسبيل السابل لديمومتها ورقيِّها هو إرساؤها على قواعد الدِّين والعقل، لا الجنوح بها إلى الشهوات والاستكفاء عن الإيمان، وهذه حقيقةٌ واضحة في الوحي، فدمار الحضارة التي لم تبنَ على أسس دينيةٍ ولا أقيمت على العدل بالمفهوم الشرعي متحقِّق شرعًا وكونًا، وزوالها وزوال أهلها مكسَب دنيويٌّ وأخروي للبشرية، ألا ترى إلى تعقيب القرآن على حادثة غرق فرعون وجنوده وهم من هم في القوَّة والمال والعمران؟! لقد عقَّب القرآن عليهم قائلا: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِين} [الدخان: 29]. ومثله قارون صاحب المال والهندسة العمرانية الذي أوتي علمًا لم يؤته أحدُ من قبل، لم يكن رخاؤه الاقتصاديّ وعلمه الدنيوي سببًا في مدحه، ولا شافعًا له في بقائه، وذكر الله تعالى قولَ من وصفَهم بالعلم وترغيبَهم في الآخرة وغضّ النظر عن الأشياء المادية الفانية فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِين} [القصص: 80، 81].
وهذا المعنى مُصَرَّفٌ في القرآن في جميع السور والآيات، فالحضارة إنما تكون حضارةً حقيقيّةً متكامِلةَ الأركان بوجود الدين وظهور القيَم وإرسائها، أما العمران والرخاء المادّيُّ مع غياب جميع المعاني الروحية فهو احترابٌ بين الروح والجسد، وخروج بالبشرية عن معناها، وإزراء بها، ونزوح إلى البهيميّة والحيوانية، ولا يمكن لعاقلٍ الإشادةُ بتوفير الملذات بجميع أشكالها مع غياب معنى الإنسان المكرم الأخلاقيّ الذي به يتميَّز، وعلى أساسه يُستخلف في الكون، ويكون لحياته معنى، فهذا الاختزال للمعنى السامي للحضارة في معنى آنيٍّ وهو الإنتاج، والابتعاد عن البعد الدينيّ كسلٌ معرفيٌّ ونقصٌ في العقل، وقد أدَّى بأصحابه إلى كثير من الأفكار المنحرفة، والتي كان سببها الربط الخاطِئ بين الإنتاج الاعتناء بالجسد وإهمال الروح، والخلط بين الآليات التي لا تحمل ولاء لأحد وبين الأسباب الكونية الشرعية.
وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: نحن والتراث قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، للجابري (ص: 16).
([2]) ينظر: تاريخ التمدن الإسلامي (2/ 16).
([3]) ينظر: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي المعاصر في العصر الوسيط (ص: 130).