هَل غَلِط السَّلفيُّون في مفهوم العبادة؟ -مناقشة للأشاعرة والمتصوِّفة في مفهوم العبادة-
الخلاف في مفهوم العبادة:
الخلافُ في مفهومِ العبادة خلافٌ في أصلٍ كبير، وينبَني عليه كثيرٌ منَ الأحكام، ومن ثَمَّ حرِص علماءُ الملَّة على تحرير مفهوم العبادة؛ لأنَّ به يتَّضح ما كان حقًّا لله عز وجل وما هو من خصائص المعبود، وما هو حقٌّ للعبد يمكن أن يُصرَف له تبعًا لعبادةٍ أو خاصًّا به، وتحريرُ هذا المصطلح يحتاج رجوعًا إلى النصوصِ؛ وذلك لتوقُّف معنى العبادةِ على ما تقرِّره النصوص، وصاحبُ الحقِّ من كان في تعريفه جامعًا لما تقرِّرُه النصوص، موفيًا لحقِّها، مراعيًا معانِيَها في التعريف. وقد نَشِب صراعٌ فكريٌّ في العصر الحديثِ بين بعضِ الأشاعرةِ ومَن ينتسب إليهم من المتصوِّفة وبين أتباع المنهج السلفيِّ في تحرير هذا المفهوم، وهذا الصراعُ ألقى بِظلاله على أبواب المعتقد، فما يرى السلفيُّ أنه عبادةٌ خاصَّة بالله عز وجل يرى الصوفيّ الأشعريُّ أنه لا يدخُل في حدِّ العبادة شرعًا، ومن هنا لزِمَ النظر في مفهوم العبادة عند الطرفين، وتحرير الصواب في ذلك.
مفهوم العبادة عند الأشاعرة:
لم يهتمَّ جمهور المتقدِّمين ولا المتأخِّرون من الأشاعرة بتعريف توحيد العبادة؛ وذلك نظرًا لخروجه عن الاهتمامات العلميَّة لهم عند النَّشأة، فهم كسائر الفِرقِ الكلاميَّة التي نشأت للردِّ على الفلسفة، فكان اهتمامُهم منصبًّا على إثبات وجودِ الصانع، إلا أنَّ بعض الأشاعرة أُثِرت عنهم كلماتٌ محصنة في هذا الباب، لكن معظَم الأشاعرةِ لم يجعَلوه أوَّلَ واجبٍ، فكان هذا أحدَ أسباب عدم إفرادِه بالتأليف، وكان تفسيرهم للإله منصبًّا على المعنى الذي يهتمُّون به وهو: كونه صانعًا مخترعًا، فقد ذكر الرازي أن الإله من له الإلهية وهي الاختراع والقدرة على الاختراع، واستدلَّ لهذا القول ونصره([1]).
وأوَّل واجب عند الأشاعرة هو المعرفةُ والنظرُ، أو القصد إلى النظر المؤدِّي إلى إثبات وجود الله، وهذا الإثبات مقصدُه إثبات الوحدانية في الذات والأفعال، فانصبَّ كلامُهم على التوحيد من هذه الحيثيَّة، إلا أنَّ الغالبَ في تفسير الإله عندهم هو ما تقدَّم([2])، إلا أنه مع ذلك وُجِدت نصوصٌ من متقدِّمي الأشاعرة تُدخل معنى العبادة في التوحيد، يقول الباقلاني رحمه الله: “والتوحيدُ له هو: الإقرار بأنه ثابتٌ موجود وإله واحد فرد مَعبود، ليس كمثله شيء”([3])، ومثلُه منقول عن الباجوري([4]). هذا وقد نصّ بعضُهم كالحَلِيمي على حرمة دعاء غير الله، وعلى دخول الدّعاء في معنى العبادة([5]). وكذا الرازي في تفسيره، واستدلَّ على ذلك بأدلَّة نقلية وعقليَّة حيث قال: “وقال الجمهور الأعظم من العقلاء: إنَّ الدعاءَ أهمُّ مقامات العبوديَّة، ويدلُّ عليه وجوهٌ منَ النقلِ والعقل”([6]).
وقد وضع الحَلِيميُّ النِّصالَ على النِّصالِ، فأثبت التلازم بين الدعاء واعتقاد التأثير حيث قال: “كلُّ مَن سأل ودعَا فقد أظهر الحاجةَ، وباح بها، واعترف بالذِّلَّة والفقر والفاقة لمن يدعوه ويسألُه، فكان ذلك في العبدِ نظيرَ العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله عز اسمه”([7]).
ومع أنَّ متقدِمي الأشاعرة لم يقصدُوا إلى تحرير المفهوم، إلا أنَّ نصَّهم على مسائل من العبادة وإدخالهم لها في التوحيد يدلُّ على أنَّ معنى التوحيد على نحو ما يذكره السلفيُّون كان حاضرًا عندهم، وقد نبتت نابتةٌ منهم اختلَطَت بالتصوُّف، فجعلت الشركَ هو صرفُ شيءٍ من خصائص الربوبية لغير الله، فلم تكن الاستغاثةُ بالمخلوق عندهم شركًا ما لم ترتبط باعتقادِ الضرِّ والنفع، وقد ألَّف بعضهم في تجوزيها، فللنَّبهاني كتاب أسماه: “شواهد الحقِّ في الاستغاثة بسيد الخلق”، وألَّف محمد علوي المالكي كتابًا بعنوان: “مفاهيمُ يجِب أن تُصحَّح”، ودافع فيه عن الاستغاثة بناءً على التعريف آنف الذكر([8]).
مفهوم العبادة من خلال النصوص الشرعية:
والحقيقة أننا حين نتحاكم إلى الكتاب والسنة نجد أن العبادة لها مفهومٌ غير محصور في اعتقاد النفع والضرِّ، فقد يكون الإنسانُ ناسبًا النفعَ والضرِّ لله سبحانه وتعالى اعتقادًا وهو واقعٌ في الشرك في العبادة، قال سبحانه: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس: 31]. قال ابن عطية: “{فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة”([9]).
وقال سبحانه: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [النمل: 64]. قال قتادة: “إنك لست تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربُّه، وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشركٌ في عبادته”([10])، وقال ابن زيد: “ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربُّه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77]؟! قد عرف أنهم يعبدون ربَّ العالمين مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي؟! تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا”([11]).
فقد كان إلزام الربوبية هو إلزامٌ بالعبودية، وصرف الخصائص في العبودية هو الشرك بعينه؛ ولذا اتَّفَقت كلمة علماءِ السلفية على التنصيص على أن ما ثبَت أنه عبادةٌ لله لا يجوز صرفه لغير الله سبحانه وتعالى، سواء كان ذبحًا أو نذرًا أو دعاءً أو سجودًا، كل هذا هو من عبادة الله التي يطلب إفراده فيها سبحانه وتعالى.
أنواع العبادة:
العبودية لله تعالى نوعان:
عبودية عامة: لا يتعلق بها الثواب والعقاب، وهي ما يسميه العلماء: العبودية الكونية.
العبودية الخاصة: وهي العبودية الشرعية، التي يتعلق الثواب والعقاب، والإيمان والكفر، والمدح والذم.
والفرق بينهما أن العبودية الكونية عبودية قهر، ومنها ما ذكره الله تعالى في قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
والعبودية الشرعية هي التي تضاف لله سبحانه وتعالى، وهي التي شرع، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 92]، وقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وهذه الأخيرة هي المقصودة([12])، وهي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله”([13]).
ولا تكون العبادةُ شرعيةً إلا بتواطؤ القلب واللسان عليها والجوارح، ولا تكون مقبولةً إلا إذا جمعت الإخلاص والمتابعة([14]). قال ابن القيم رحمه الله: “الإخلاص: عدم انقسام المطلوب، والصدق: عدم انقسام الطلب. فحقيقة الإخلاص: توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق: توحيد الطلب والإرادة. ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة؛ فإنْ عدم الإخلاص والمتابعة انعَكَس سيره إلى خلف، وإن لم يبذل جهده ويوحّد طلبه سار سيرَ المقيَّد”([15]).
ومِن خلال هذه القيود تعرف صمام الأمان للعبادة، فالإخلاص أمانٌ من الشرك، وهو عدم تعدُّد المعبود، والمتابعةُ أمان من البدعة في العبادة، وهذا المعنى في العبادة مطروق عند السلف رحمهم الله، قال الفضيل في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: “أخلصه وأصوبه”، وقال: “إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا وصوابًا”، قال: “والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة”([16]).
فتوحيد العبادة وشرطه الذي يتكلَّم عنه السلفيون هو الذي يشهَد القرآن به، وينصره كلام السلف وعمَلهم، ويقرِّره المحقِّقون من أهل الملل بعدهم؛ لأن المقصودَ بالتعريف موافقةُ النصِّ والنزولُ عند كامل معناه، لا التقصير به أو الزيادة فيه، وتقصير متأخِّري الأشعرية في تفسير العبادة وغلوُّ الصوفية في أشياخهم جعَل هذا المفهومَ يلتبس حتى صُرفت العبادة لغير الله، وصار همُّ هؤلاء الدّفاع عما جوَّزه أشياخهم من عبادةِ غير الله، لا الدفاع عن الشرع وحماية حقِّ الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله تعالى أن يلهمَنا رُشدنا ويهديَنا سُبُلنا، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: شرح أسماء الله (ص: 124).
([2]) ينظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 123).
([4]) ينظر: تحفة المريد (ص: 10).
([5]) ينظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/ 517).
([7]) المنهاج في شعب الايمان (1/ 517).
([8]) ينظر: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (ص: 150)، ومفاهيم يجب أن تصحح (ص: 95).
([9]) تفسير ابن عطية (3/ 118).
([10]) ينظر: تفسير الطبري (13/ 375).
([11]) تفسير الطبري (13/ 376).
([12]) ينظر: مدارج السالكين (1/ 176).
([13]) مجموع الفتاوى (10/ 149).
([15]) مدارج السالكين (2/ 97) بتصرف.
([16]) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان (9/ 356)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 95). وينظر: جامع العلوم والحكم (1/ 72).