هل السَّلفيةُ عاجزةٌ عن تطبيق أفكارها؟
مقدّمة:
لا تُحاكَم الأفكارُ إلى تحقُّقِها في الواقِع دونَ قيودٍ، فذلك أمرٌ غيرُ موضوعيٍّ، فالدّين في صورته النقيَّةِ اكتمَل تشريعًا وبيانًا، لكن بعض أحكامِه بقيَت معلَّقة لموانعَ تتعلَّق بالواقع وحياة الناس، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يبنِ الكعبةَ على قواعدِ إبراهيمَ لحداثة عهد الناس بالجاهليّة، ومات ولم يفعَل ذلك، لكنه بيَّنه، وأرشد إليه. وتمنى صلى الله عليه وسلم أن يفعل عباداتٍ ثم وافاه الأجل قبل ذلك. والخلافةُ الإسلامية ما كانت لتخرجَ في صورتها النهائيَّة إلَّا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ هذا شرطٌ قدريّ في وجودِها، لا يمكن أن تسبقَه. ثم قِسْ على ذلك سائرَ أحكام الشَّرع عند من يريد تطبيقها من المكلَّفين، فلا يمكنه القيامُ بها بمفردِه؛ لأن منها ما لا يتحقَّق إلا بوجودِ الجماعة المعينة عليه، ولا يمكن مساءلة الفردِ عنه ما دام لم يقصِّر في الأسباب التي يؤدِّي إليه.
وتطبيقُ الإسلامِ النقيِّ هو أُمنيةُ كلِّ مُسلمٍ ومُبتغاه، فردًا كان أو جماعةً، وإذا استثنَينا جيلَ الصحابةِ فإنَّ صورةَ الإسلام لم تتكرَّر في الكون بعدهم على نحو ما كان عندهم، ولا توجد طائفةٌ أو مذهب استطاع أن يطبِّق كلَّ رُؤاه، فحسبه منَ النجاح أن يطبِّق أغلَبَها وأصولَها، ولا يُعاب عليه بعد ذلك ما وقع من تَقصير؛ لأنه إذا لم يقَع فإنه ادِّعاء لعصمةِ الجماعةِ، وهو ادعاءٌ يخالف أصولَ الشرع.
ومِن ثم فإنَّ السؤالَ الملِحَّ الذي كان ينبغِي أن يُطرحَ على كلِّ المناهج هو سؤال الإمكان وليس سؤال الوقوع، ومِن بين مَن ينبغي أن يُطرح عليهم هذا السؤالُ أصحابُ المنهج السَّلفيّ، لكن الخصومة السياسيَّة والثقافيَّة تجرُّ أصحابَها دومًا إلى الأسئلة التعجيزية؛ لتبتعدَ بذلك عن الموضوعيَّة، في زمن يغيب الإسلام وتندحر فيه دولته ويتحكَّم في العالم الرعاء الحُطَمَة.
دعوى عَجز السلفية عن تطبيق أفكارها:
يُحمَّل السلفيّون مسؤوليةَ غيابِ منهجهم وعدَم تطبيقه، ويُدَّعى عجزُهم عن ذلك؛ دون مراعاةٍ للواقع والموانع التي تحول بين الناس وبينه، وهي موانع لا يمكن تجاوُزُها بين عشيَّة وضحاها.
ولذا فإنه قبل أن يقال: إن السلفيةَ عجزت عن تطبيق أفكارها فإنَّ السؤال الصحيحَ أن يقال: هل في الفكر السلفيِّ ما يستحيل تطبيقُه لو أتيحَت له الفرصة الطبيعية؟ وهنا يأتي الفحص للأصول الكبرى وإمكان تحقُّقها في الواقع.
فحين ننظر إلى مكوِّنات الرؤية السلفية نجد أنها مكوِّنات موضوعيَّة، وهي كالآتي:
المكوِّن الأول: النظرة للكون وللحياة:
فهذا أشمل المكوِّنات وأعمُّها وأخطَرها، كما أنه أدقُّها؛ لأنَّ جميعَ القضايا تندرج تحتَه، فالسلفية ترى أن الكونَ بسمائه وأرضه وجميع مخلوقاته هو مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى، والمخلوقات من غير الإنسان خُلقت من أجل الإنسان، وهذا ما صرَّح به القرآن في أكثر من آية، فقال سبحانه: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار} [إبراهيم: 33]، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [النحل: 12]، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: 13]، وقال سبحانه: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَام} [الرحمن: 10].
وهذا التسخيرُ هو لمقاصدَ عظيمةٍ تندَرج تحت ثلاثةِ أصول: ابتلاء الإنسان، والاستعباد لله تعالى، وعمارة الإنسان للأرض.
ومن ثمَّ فإن الحوادثَ في الكون كلّها لا تخرج عن هذه المقاصد، ومن هنا يرى السلفيون أن بعضَ ما يجرى على الإنسان يكون أحيانًا من باب الابتلاء، ومقصد الابتلاء التمحيصُ أحيانًا، أو الاستدراج، أو العقوبة، كما أن الأوامرَ التي يأمر بها الشرعُ الإنسانَ لا تخرجُ عن معنى مقصد العبودية وإصلاح الأرض وإعمارها([1]).
أمَّا النظرةُ للحياة فهم يرونَ أنَّ هذه الحياةَ قصيرةٌ وفانية كما نطقت بذلك النصوصُ، وعليه فمكانة الحياةِ الدنيا إنما هي تبعٌ لما يترتَّب عليها في الآخرة، فلا يشيدون بإنجازٍ دنيويٍّ بحت لا يخدم الآخرة؛ فلذا لا تجِدهم يقفون بإجلالٍ لأرباب الصناعات، ولا لأهل العلوم الدنيوية التي يستغنون بها عن الآخرة، فقارون ليس محلَّ إشادةٍ في القرآن؛ لأنه حاولَ الاستغناء بعلمه عن الآخرة: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون} [القصص: 78]، وقال سبحانه: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر: 49].
المكوِّن الثاني: قضايا المعتقد:
وهي ما يحصُل به معرفةُ العبد لربِّه، أو القدر الذي إذا جهِله الإنسان كان جاهلًا بالدين، وقد ربط القرآنُ بين الإيمان والعمل فلا وجهَ لوجود صورةٍ نظريَّة لا تثمر عملًا في حياةِ الفرد والمجتمع، فالإيمان صلاحٌ للمجتَمع وسبَب في حصولِ كثيرٍ منَ الخيرات والبركات، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون} [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 55]. قال البغوي: “يَعْنِي: وَاللَّهِ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أَيْ: لَيُوَرِّثَنَّهُمْ أَرْضَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ مُلُوكَهَا وَسَاسَتَها وسكانها، كما استخلف الذين من قبلهم”([2]).
فقاعدة الحياة عندهم أنه لا تحصُل سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأيُّ إهمال للمعتقد يعدُّ تفريطًا في الإصلاح وخيانةً للمجتمع وإدارةً للتناقضات.
المكوِّن الثالث: مصادر التلقِّي:
وهي مكوِّن رئيسٌ من مكونات المنهج السلفيّ، وهي محصورة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما تعارف عليه أهلُ العلم من قواعد أصولية وفقهية وظنونٍ معتبرة، ولا تتمّ أيّ عملية إصلاحية في الدين والدنيا إلا بالرجوع إلى المصادِر والنظرِ فيها ومحاكمةِ ما يصدر عن البشر إليها.
وبعد هذا العرضِ المجمَل لمكوِّنات الفكرة فإنَّ السؤال المطروحَ: هل في هذه الأفكار شيء يستحيل تطبيقه؟ والجواب بطبيعة الحال: لا.
لكن حين يأتي السؤال الموالي وهو: لماذا لم تطبَّق ما دامت غير مستحيلة ولا بعيدة؟!
فإن الجواب هنا يحتاج إلى تفصيل:
فقضايا المعتقد والسلوكِ هي غالبة -ولله الحمد- وظاهرة، والسلفيون يتبنَّونها ويدعون إليها، وقد استطاعوا نشرها، ودَحضوا كلَّ ما يخالفها، وبيَّنوها، هذا مع تعاضد الطوائف عليهم، وتناصرها، فالعلمانيّ الملحد يضعُ يدَه في يدِ الصوفي الخرافي وفي يد الشيعي الغالي ليحاربوا السلفيةَ ومعتقدَها، وهذه الحرب قد يئسوا من أن تكونَ علميَّة؛ لأنَّ الأرضية لا تخدِمهم، فجعلوها إعلاميَّةً دِعائية، والواقع لا يحتاج معه إلى مثال.
أما بالنسبة لقضايا الفقه فقد نجَح علماء السلفيَّة في تأصيل قضايا الفقه، وإرجاع الناس إلى المنبع الأول، والعلوّ على أقوال متأخرِّي أهل المذاهب، ممَّن جعلوا المعتمَد هو ما يقرِّره شُراح المختصرات من المقلِّدة، فقد قامت الدعوةُ السلفية بإرجاع المذاهب إلى أقوال الأئمَّة الأوائل وعرضها على الوحي وتأصيلها.
أما قضايا النظام والحكم فالسلفيون وَفَّروا أغلبَ مراجع السياسَة الشرعية، وبيَّنوها أكمل بيان، ودفعوا عنها الشبهَ كما بيَّنوا إمكانها، والذي يمنع من تطبيق الرؤية السلفية هو طبيعة الأمَّة وضعفُها وانتشار أهل الضلال وتمالؤُهم ضدَّ الحق؛ لكن ذلك لم يمنع السلفيَّة من المجابهة وإبداء الرأي ولو في حدود المتاح، وهو التعبير عن الرأي، والوقوف عند الإمكان مع الأمل في المطلوب، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر ورقة علمية بعنوان: التغيير بالإصلاح في المنهج السلفي (ص: 7)، وهي على هذا الرباط: