الخميس - 26 شوّال 1446 هـ - 24 ابريل 2025 م

ملخص في معنى (الظاهر) في نصوص الصفات

A A

تنازع الناسُ في الألفاظ ودلالتها على المراد، ونظرًا لأن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين لزمَ حملُه على المعهود من هذا اللسان، فأحيانا يرد اللفظ في لغة العرب ويراد به ظاهره، وأحيانا يرد ويراد به غير ذلك، ويعرف ذلك بالسياق، أو من القرائن، ومما يدل عليه التركيب. وقد كان من أعظم الأبواب التي دخل منها الباطل على كثير من المخالفين للمنهج القويم اعتمادُ علوم أجنبيةٍ على الشرع، أعلت من شأن اللفظ المفرد على حساب التركيب، ودقَّقت في المعاني التي لم يقصد الشارع التدقيق فيها، والتدقيق فيها خروج عن معهود اللسان وأسلوب القرآن.

وكان من بين هذه المسائل التي طالتها يد التأويل وأُعملت فيها الفنون المختلفة المجانفة للشرع مسألة الأسماء والصفات، فقد ادعى الناس فيها دعوى كثيرة، في المراد من ذلك الظاهر، فساروا الناس في ذلك على طريقتين:

الطريق الأولى: طريق السلف وهو: اعتماد الظاهر فيها، واعتبار أن معناها الظاهر مقصود للشارع، وهو المعنى اللائق بالله سبحانه، ولا يوهم تشبيهًا، بل هو متحدِّد بإضافته إلى الله عز وجل، وبه يزول الاشتراك المدَّعى.

الطريق الثاني: طريق جمهور المتكلِّمين وهو: اعتقاد أن ظاهر تلك النصوص غير مراد لله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ وجب تأويلها أو تفويضها مع اعتقاد نفي الظاهر.

ولم يختلف جميع هؤلاء على معنى الظاهر، لكنهم اختلفوا فيما يفهم منه هل هو لائق بالله أم لا، والحقّ الذي عليه السلف ونطق به العلماء هو اعتقاد ظواهر النصوص، واعتماد ما دلت عليه، مع نفي التشبيه.

والظاهر هو: المعنى المتبادر إلى الذهن من الكلمة عند تجرّدها عن القرائن اللفظية أو الحالية، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره، فالحقيقة ظاهر في مقابل المجاز، ولا يجوز دعوى المجاز في كلام الله تعالى إلا بدليل أو قرينة ظاهرة تصرف الكلام عن ظاهره، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مراد رسول الله”([1])، ويقول أبو الحسن الأشعري: “فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] على المجاز؟ قيل له: حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة. ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر، وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة، كذلك قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدَين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادَّعاه خصومنا إلا بحجة. ولو جاز ذلك لجاز لمدَّع أن يدَّعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة، وإذا لم يجز هذا لمدَّعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادَّعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازًا بغير حجة، بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين؛ إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيديّ، وهو يعني النعمتين”([2]).

ونفس المعنى أكَّده الغزالي -رحمه الله-، وأكَّد على أن التمسك بالظاهر هو السبيل الأسلم حيث يقول: “الحق فيه الاتباع، والكفّ عن تغيير الظواهر رأسًا، والحذر من إبداء تصريح بتأويل لم يصرّح به الصحابة رضوان الله عنهم، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث واتّباع ما تشابه من الكتاب والسنة”([3]).

ومحلّ الاستشهاد بكلام الغزالي هو دعوته للوقوف مع الظاهر، ونفي التأويل، ولا يرد على هذا تفويضه، فالتفويض إذا كان موقفًا للشَّخص لا إشكال فيه، وإنما الإشكال أن يكون منهجًا وموقفًا تُلزم به الأمّة؛ وإلا فإن العالم قد يعتبر بعضَ آيات الأحكام أو الصّفات متشابهةً في حقِّه؛ لشبهة عرضت عليه، فيتوقُّف فيما لم يظهر له حتى يتبيَّن، لكن الذي يعاب هو المجازفة ومطالبة الأمة بالتوقف وإلزامها بالجهل بصفات الباري جل وعلا.

وقد صور شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- موقف السلف من الظاهر بعبارة مختصرةٍ حيث قال: “فمذهب السلف -رضوان الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها”([4]).

فالظاهر في الصفات هو المعنى المتبادر إلى الذهن الذي يفهمه صاحب اللسان من وضع الكلمة أو من تركيبها، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل، وهذا الدليل إما أن يكون شرعيًّا، فلا بدَّ من دليل يبيِّن المعنى المراد بدل الظاهر، والدليل هو قرينة السياق أو التقييد أو التخصيص وغيرها من الأمور التي يقيَّد بها، وإما أن يكون عقليًّا فلا بد أن يكون بدهيًّا معلوما للمخاطب وقت الخطاب لا مولَّدًا حادثًا بعده، وما سوى ذلك فهو تكلُّف وخروج بالقرآن عن معهوده في الخطاب، فإن الظواهر في باب الأخبار إذا لم تكن مقصودة للشارع فإنه يلزم من ذلك أن الشارع لم يكن قاصدًا للبيان في أعظم أبواب الدين، ولم يأت بما يوجب العلم في ذلك، ويزيل الشبهة ويقطع لسان المعاند، وهذا إزراء بالشرع والعقل، وردٌّ لهما معا، فإن العقل يشهد بأن النص جاء للهدَى والبيان، وأنه شفَى الصدور فيما حارت فيه من أمر الغيب بالأخبار أو بتبيين أن التسليم هو الطريق الصحيح لتناول قضية معينة، فأخبار الله عز وجل حق وصدق، ومحال عليه سبحانه أن يبين الأحكام الشرعية أكمل بيان ثم يتكلَّم في أعظم أبواب الدين بالألغاز أو بما ليس على ظاهره.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: العرش للذهبي (1/ 11).

([2]) الإبانة عن أصول الديانة (ص: 140).

([3]) فيصل التفرقة (ص: 27).

([4]) الفتاوى (4/ 6).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

حجاب الله تعالى -دراسة عقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: معرفة الله سبحانه وتعالى هي قوت القلوب، ومحفِّزها نحو الترقِّي في مقامات العبودية، وكلما عرف الإنسان ربَّه اقترب إليه وأحبَّه، والقلبُ إذا لم تحرِّكه معرفةُ الله حقَّ المعرفة فإنه يعطب في الطريق، ويستحوذ عليه الكسل والانحراف ولو بعد حين، وكلما كان الإنسان بربه أعرف كان له أخشى […]

ترجمة الشَّيخ د. عبد الله بن محمد الطريقي “‏‏أستاذ الفقه الطبي والتاريخ الحنبلي” (1366-1446هـ/ 1947-2024م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   اسمه ونسبه([1]): هو الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمود بن محمد الطريقي، الودعاني الدوسري نسبًا. مولده: كان مسقط رأسه في الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية، وتحديدا في ناحية الروضة الواقعة جنوبي البلدة (العَقْدَة) -ويمكن القول بأنه حي من […]

ضبط السنة التشريعية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: السنة النبوية لها مكانة رفيعة في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي التطبيق العملي لما جاء فيه، كما أنها تبيّن معانيه وتوضّح مقاصده. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وتحذّر من مخالفته أو تغيير سنته، وتؤكد أن […]

القواعد الأصولية لفهم إطلاقات السلف والتوفيق بينها وبين تطبيقاتهم العملية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُعدّ مسألة التعامل مع أقوال السلَف الصالح من أهمّ القضايا التي أُثيرت في سياق دراسة الفكر الإسلامي، خاصةً في موضوع التكفير والتبديع والأحكام الشرعية المتعلقة بهما؛ وذلك لارتباطها الوثيق بالحكم على الأفراد والمجتمعات بالانحراف عن الدين، مما يترتب عليه آثار جسيمة على المستوى الفردي والجماعي. وقد تعامل العلماء […]

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

عبادة السلف في رمضان وأين نحن منها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لا يخفى أن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يحرصون كل الحرص على كثرة التعبد لله سبحانه وتعالى بما ورد من فضائل الأعمال، وبما ثبت من الصالحات الباقيات التي تعبَّد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم كانوا يتهيؤون للمواسم – ومنها شهر رمضان – بالدعاء والتضرع […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017