الثلاثاء - 28 ذو الحجة 1446 هـ - 24 يونيو 2025 م

ملخص في معنى (الظاهر) في نصوص الصفات

A A

تنازع الناسُ في الألفاظ ودلالتها على المراد، ونظرًا لأن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين لزمَ حملُه على المعهود من هذا اللسان، فأحيانا يرد اللفظ في لغة العرب ويراد به ظاهره، وأحيانا يرد ويراد به غير ذلك، ويعرف ذلك بالسياق، أو من القرائن، ومما يدل عليه التركيب. وقد كان من أعظم الأبواب التي دخل منها الباطل على كثير من المخالفين للمنهج القويم اعتمادُ علوم أجنبيةٍ على الشرع، أعلت من شأن اللفظ المفرد على حساب التركيب، ودقَّقت في المعاني التي لم يقصد الشارع التدقيق فيها، والتدقيق فيها خروج عن معهود اللسان وأسلوب القرآن.

وكان من بين هذه المسائل التي طالتها يد التأويل وأُعملت فيها الفنون المختلفة المجانفة للشرع مسألة الأسماء والصفات، فقد ادعى الناس فيها دعوى كثيرة، في المراد من ذلك الظاهر، فساروا الناس في ذلك على طريقتين:

الطريق الأولى: طريق السلف وهو: اعتماد الظاهر فيها، واعتبار أن معناها الظاهر مقصود للشارع، وهو المعنى اللائق بالله سبحانه، ولا يوهم تشبيهًا، بل هو متحدِّد بإضافته إلى الله عز وجل، وبه يزول الاشتراك المدَّعى.

الطريق الثاني: طريق جمهور المتكلِّمين وهو: اعتقاد أن ظاهر تلك النصوص غير مراد لله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ وجب تأويلها أو تفويضها مع اعتقاد نفي الظاهر.

ولم يختلف جميع هؤلاء على معنى الظاهر، لكنهم اختلفوا فيما يفهم منه هل هو لائق بالله أم لا، والحقّ الذي عليه السلف ونطق به العلماء هو اعتقاد ظواهر النصوص، واعتماد ما دلت عليه، مع نفي التشبيه.

والظاهر هو: المعنى المتبادر إلى الذهن من الكلمة عند تجرّدها عن القرائن اللفظية أو الحالية، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره، فالحقيقة ظاهر في مقابل المجاز، ولا يجوز دعوى المجاز في كلام الله تعالى إلا بدليل أو قرينة ظاهرة تصرف الكلام عن ظاهره، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مراد رسول الله”([1])، ويقول أبو الحسن الأشعري: “فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] على المجاز؟ قيل له: حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة. ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر، وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة، كذلك قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدَين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادَّعاه خصومنا إلا بحجة. ولو جاز ذلك لجاز لمدَّع أن يدَّعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة، وإذا لم يجز هذا لمدَّعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادَّعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازًا بغير حجة، بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين؛ إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيديّ، وهو يعني النعمتين”([2]).

ونفس المعنى أكَّده الغزالي -رحمه الله-، وأكَّد على أن التمسك بالظاهر هو السبيل الأسلم حيث يقول: “الحق فيه الاتباع، والكفّ عن تغيير الظواهر رأسًا، والحذر من إبداء تصريح بتأويل لم يصرّح به الصحابة رضوان الله عنهم، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث واتّباع ما تشابه من الكتاب والسنة”([3]).

ومحلّ الاستشهاد بكلام الغزالي هو دعوته للوقوف مع الظاهر، ونفي التأويل، ولا يرد على هذا تفويضه، فالتفويض إذا كان موقفًا للشَّخص لا إشكال فيه، وإنما الإشكال أن يكون منهجًا وموقفًا تُلزم به الأمّة؛ وإلا فإن العالم قد يعتبر بعضَ آيات الأحكام أو الصّفات متشابهةً في حقِّه؛ لشبهة عرضت عليه، فيتوقُّف فيما لم يظهر له حتى يتبيَّن، لكن الذي يعاب هو المجازفة ومطالبة الأمة بالتوقف وإلزامها بالجهل بصفات الباري جل وعلا.

وقد صور شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- موقف السلف من الظاهر بعبارة مختصرةٍ حيث قال: “فمذهب السلف -رضوان الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها”([4]).

فالظاهر في الصفات هو المعنى المتبادر إلى الذهن الذي يفهمه صاحب اللسان من وضع الكلمة أو من تركيبها، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل، وهذا الدليل إما أن يكون شرعيًّا، فلا بدَّ من دليل يبيِّن المعنى المراد بدل الظاهر، والدليل هو قرينة السياق أو التقييد أو التخصيص وغيرها من الأمور التي يقيَّد بها، وإما أن يكون عقليًّا فلا بد أن يكون بدهيًّا معلوما للمخاطب وقت الخطاب لا مولَّدًا حادثًا بعده، وما سوى ذلك فهو تكلُّف وخروج بالقرآن عن معهوده في الخطاب، فإن الظواهر في باب الأخبار إذا لم تكن مقصودة للشارع فإنه يلزم من ذلك أن الشارع لم يكن قاصدًا للبيان في أعظم أبواب الدين، ولم يأت بما يوجب العلم في ذلك، ويزيل الشبهة ويقطع لسان المعاند، وهذا إزراء بالشرع والعقل، وردٌّ لهما معا، فإن العقل يشهد بأن النص جاء للهدَى والبيان، وأنه شفَى الصدور فيما حارت فيه من أمر الغيب بالأخبار أو بتبيين أن التسليم هو الطريق الصحيح لتناول قضية معينة، فأخبار الله عز وجل حق وصدق، ومحال عليه سبحانه أن يبين الأحكام الشرعية أكمل بيان ثم يتكلَّم في أعظم أبواب الدين بالألغاز أو بما ليس على ظاهره.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: العرش للذهبي (1/ 11).

([2]) الإبانة عن أصول الديانة (ص: 140).

([3]) فيصل التفرقة (ص: 27).

([4]) الفتاوى (4/ 6).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

نزعة الشّكّ في العقيدة .. بين النّقد والهدم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنَّ العقيدة هي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الإيمان، وهي أصل العلوم وأشرفها، إذ تتعلق بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، وبالإيمان برسله وكتبه، وباليوم الآخر وما أعدَّ الله فيه من ثواب وعقاب. فهي من الثوابت الراسخة التي لا تقبل الجدل ولا المساومة، إذ بها تتحقق الغاية العظمى من […]

السلفية في المغرب.. أصول ومعالم (من خلال مجلة “دعوة الحق” المغربية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مدخل: مجلة “دعوة الحق” مجلة شهرية مغربية، تعنى بالدراسات الإسلامية وبشؤون الثقافة والفكر، أسست سنة 1957م، من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي مجلة رافقت بناء الدولة المغربية بعد الاستقلال، واجتمعت فيها أقلام مختلفة التخصصات، من المشرق والمغرب، وكانت “الحركة السلفية” و”العقيدة السلفية” و”المنهج السلفي” جزءا مهمًّا من مضامين […]

قطعية تحريم الخمر في الإسلام

شبهة حول تحريم الخمر: لم يزل سُكْرُ الفكرة بأحدهم حتى ادَّعى عدمَ وجود دليل قاطع على حرمة الخمر، وتلمَّس لقوله مستساغًا في ظلمة من الباطل بعد أن عميت عليه الأنباء، فقال: إن الخمر غير محرم بنص القرآن؛ لأن القرآن لم يذكره في المحرمات في قوله تعلاى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ […]

السَّلَف والحجاج العَقلِيّ .. الإمام الدارمي أنموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: من الحقائق العلمية التي تجلَّت مع قيام النهضة العلمية لأئمة السلف في القرنين الثاني والثالث وما بعدها تكامل المنهج العلمي والمعرفي في الدين الإسلامي؛ فالإسلام دينٌ متكاملٌ في مبانيه ومعانيه ومعارفه ومصادره؛ وهو قائم على التكامل بين المصادر المعرفية وما تنتجه من علوم، سواء الغيبيات والماورائيات أو الحسيات […]

ذلك ومن يعظم شعائر الله .. إطلالة على تعظيم السلف لشعائر الحج

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا جرم أن الحج مدرسة من أعظم المدارس أثرا على المرء المسلم وعلى حياته كلها، سواء في الفكر أو السلوك أو العبادات، وسواء في أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ فإن الحاج في هذه الأيام المعدودات لو حجَّ كما أراد الله وعرف مقاصد الحج من تعظيم الله وتعظيم شعائره […]

‏‏ترجمة الشيخ الداعية سعد بن عبد الله بن ناصر البريك رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ سعد بن عبد الله بن ناصر البريك. مولده: ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض يوم الاثنين الرابع عشر من شهر رمضان عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية 14/ 9/ 1381هـ الموافق 19 فبراير 1962م. نشأته العلمية: نشأ رحمه الله نشأته الأولى في مدينة […]

تسييس الحج

  منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان […]

البدع العقدية والعملية حول الكعبة المشرفة ..تحليل عقائدي وتاريخي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة تُعدُّ الكعبةُ المشرّفة أقدسَ بقاع الأرض، ومهوى أفئدة المسلمين، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعقيدة التوحيد منذ أن رفع قواعدها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، تحقيقًا لأمر الله، وإقامةً للعبادة الخالصة. وقد حظيت بمكانةٍ عظيمة في الإسلام، حيث جعلها الله قبلةً للمسلمين، فتتوجه إليها وجوههم في الصلاة، […]

الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا […]

إطلاقات أئمة الدعوة.. قراءة تأصيلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: يقتضي البحث العلمي الرصين -لا سيما في مسائل الدين والعقيدة- إعمالَ أدوات منهجية دقيقة، تمنع التسرع في إطلاق الأحكام، وتُجنّب الباحثَ الوقوعَ في الخلط بين المواقف والعبارات، خاصة حين تكون صادرة عن أئمة مجدِّدين لهم أثر في الواقع العلمي والدعوي. ومن أبرز تلك الأدوات المنهجية: فهم الإطلاق […]

التوحيد في موطأ الإمام مالك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يختزن موطأ الإمام مالك رضي الله عنه كنوزًا من المعارف والحكمة في العلم والعمل، ففيه تفسيرٌ لآيات من كتاب الله تعالى، وسرد للحديث وتأويله، وجمع بين مختلفه وظاهر متعارضه، وعرض لأسباب وروده، ورواية للآثار، وتحقيق للمفاهيم، وشرح للغريب، وتنبيه على الإجماع، واستعمال للقياس، وفنون من الجدل وآدابه، وتنبيهات […]

مناقشة دعوى مخالفة حديث: «لن يُفلِح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة» للواقع

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد: تُثار بين حين وآخر بعض الإشكالات على بعض الأحاديث النبوية، وقد كتبنا في مركز سلف ضمن سلسلة –دفع الشبهة الغويّة عن أحاديث خير البريّة– جملةً من البحوث والمقالات متعلقة بدفع الشبهات، ونبحث اليوم بعض الإشكالات المتعلقة بحديث: «لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوْا […]

ترجمة الشيخ أ. د. أحمد بن علي سير مباركي (1368-1446هـ/ 1949-2025م)(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور أحمد بن علي بن أحمد سير مباركي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا بقرية المنصورة التابعة لمحافظة صامطة، وهي إحدى محافظات منطقة جازان، وذلك عام 1365هـ([2]). نشأته العلمية: نشأ الشيخ نشأتَه الأولى في مدينة جيزان في مسقط رأسه قرية […]

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017