قضيَّةُ الأنبياءِ الأولى هل يُمكن أن تُصبحَ ثانويَّة؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
منَ المعلومِ أنَّ الله أرسل رسلَه بالهدى ودين الحقِّ، وقد فسَّر العلماء الهدَى بالعلم النافع ودينَ الحقِّ بالعملِ الصالح، والرسُل هم صفوة الله من خلقه، وقد وهبهم الله صفاتِ الكمال البشريّ التي لا يمكن أن يفوقَهم فيها أحدٌ، وهم الدّعاة المخلصون المخلِّصون للخَلق من عذاب الدنيا وخزي الآخرة، ووظيفتهم الحقيقيةُ هي بيان مرادِ الله عز وجل من عبادِه وتحديدُ علاقتهم به وفقَ ما يقرِّره الوحي.
والمجتمعات البشريةُ تكتسب صفاتها من اهتماماتها التي تشغلها؛ ولهذا تنوَّعت المجتمعات وتنوَّعت أولوياتها طبقًا للثقافة السائدة فيها، فبعض المجتمعات قد تسود فيها التجارة والصناعة على حساب القيَم والدين، فتكون هي الصفة الغالبة عليه، ومن ثم فإنها تتعامَل مع القيم الأخلاقية والدينية بالقدر الذي لا تصطدم فيه مع المصلحة والتوجُّه العام للمجتمع، ومتى ما حاول إنسان توسيعَ دائرة أيّ قيمة ليجعلها حاكمةً على مجتمع يسود فيه خلافها فإن ذلك يعني تعرُّضه لمواجهة الملأ من المستكبرين وأصحاب النفوذ وجبلّة المجتمع من الكبراء وأتباعهم من الطغام والعوام والضعفاء، وهنا تأتي أهمية العقيدةِ والقناعة في الذبِّ عن القيم؛ فإن مواجهة الدعوات المهيمنة تفتح عدةَ خطوط للرجعة أمام صاحب الدعوة؛ ليتراجع عن دعوته وقيمه ولو مع بقائها شخصية، فقد يفتح أمامه خيار التبديل للقيم أو المداهنة فيها أو تقديم غيرها عليها، مقابلَ مكاسب معينة قد تصل إلى الرئاسة والملك. وللمغريات تأثيرها في النفوس التي لا ينفع معها إلا عصمة الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
ولأن الأنبياء أصحابُ رسالات سماوية فإنَّ الدينَ هو الأهمّ في حياتهم، وقضاياها هي التي تشغل بالهم، وهي مرتبة عندهم حسبَ علاقتها بأصله وصلبه؛ ولذا فإن العقيدةَ كانت تشغل حيّزًا كبيرًا من خطابهم رغم تعدُّد المشكلات التي عالجوها، وتنوُّع المجتمعات التي خاطبوها. وقد وُجدت بحوث متعدِّدة تناولت أهميةَ العقيدة في حياة المسلم ودعوة الأنبياء، لكنها كانت بحوثا توجيهيّة لم تقصِد إلى المقارنة ولا إلى رصدِ القضية رصدًا محددًا بين المحور الأهمّ فيها، فكثير منهم يذكره ولا يفرِده، وإنما يذكره في سياق التقرير العامّ، ولعلنا ندرس أهمية هذا الجانب في مباحث متوالية.
المبحث الأول: العقيدة في خطاب الأنبياء:
مما لا شكَّ فيه أن مسيرة الأنبياء الدينيَّة تعاضد فيها القدَر المهيمن والشرع الموجِّه، وهذا ما جعل أفعالهم محلَّ تأسٍّ؛ لأن العفوية فيها تشريعٌ ودليل على المطلوبيَّة، أو الإذن ذي الوجهين وهو المصطلح عليه عند الأصوليين بالمباح.
فحين يرصد الإنسانُ حركة التاريخ المتعلِّقة بالأنبياء وما حفِظ الوحي منها ونقلَه ليكون عبرةً كما هو الشأنُ في جميع قصصهم التي قال الله فيها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [يوسف: 111] يجد أن هناك محورًا مهمًّا شغَل حياتهم وأخذ أوقاتهم، ألا وهو تعبيد الناس لربِّ العالمين.
وهنا يمكِن أن نستثني الكلامَ عن آدم ونطويَ بساطَ الحديث عنه؛ لأنه أصلُ البشريةِ، وقد خلق على التوحيد والفطرة، فظلَّ على ذلك هو وأجيال من بنيه، وقد وقعت فيهم المعصيةُ لكنها لم تصل إلى حدّ الشرك وفساد العقيدة، وقد دوّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن آدم وذريته الأولى، فقال صلى الله عليه وسلم فما يحكيه عن ربه: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا»([1]).
فالتوحيد امتدَّ من عهدِ آدمَ إلى زمان نوح زهاءَ عشرة قرون، فعن قتادة في قوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] قال: “ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحقّ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحًا، وكان أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبعث عند الاختلاف من الناس وترك الحقّ، فبعث الله رسله وأنزل كتابه يحتج به على خلقه”([2]).
وقد تواترت الرواية على أن الانحرافَ العقديَّ انطلقت شرارته مع قوم نوح عليه السلام، ومن بعد ذلك توالت الرسل على البشريَّة مذكِّرةً بعهد الله وميثاقه الذي أخذه على بني آدم، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وقد كان أول انحراف سببه التعلُّق بالأولياء والصالحين والغلو فيهم، حتى تدرَّج الأمر إلى عبادتهم من دون الله سبحانه وتعالى، فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: “صارتِ الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ، أما ودٌّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأمَّا سُواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِميًر لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبِدت”([3]).
فجاء نوح ولم يهتمَّ بأيّ فساد صاحَب هذا الفساد، بل جعله قضيتَه الأولى، فدعا قومه إلى عبادة الله سبحانه، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف: 59]. ولك أن تتصوَّر الجهد المضني الذي بذله نوح في هذه القضية، فقد أخذت منه تسع مائة وخمسين عامًا كما حكى الله عنه فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُون} [العنكبوت: 14].
ولم يكُن طولُ الزمن مدعاةً لتضييع الوقت في غير الدعوة، بل كل هذا الوقت الطويل كان مملوءًا بالدعوة فقط لهذه القضية والتركيز عليها وتصريف القول في بيانها، فهذا نوح يحدِّث ربَّه عن جهده في دعوة قومه، فيقول كما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 6-10].
وقد قابلَ قومُ نوح نوحًا بالتكذِيب، ونوَّعوا له القولَ في ذلك، ووصَّى بعضُهم بعضًا بالكفر، فتوارثوه كابرًا عن كابر، وقد سجَّل القرآنُ المرحلةَ النفسيّة التي وصل إليها نوح مع قومه فقال عنه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 9، 10]. قال ابنُ عطيَّة: “{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل أهل مكة {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحا، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي: زجروه عن دعوته ومقالته بالشتم والوعيد، وقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 116]، وقال مجاهد معنى: ازدُجر أي: استطير جنونا، {فَدَعَا} نوح {رَبَّهُ} وقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ}: مقهور، {فَانْتَصِرْ}: فانتقم لي منهم”([4]).
ثم تتابعتِ الرسل بعد ذلك في بيان هذه القضية، قال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44].
فهذه هي قضية البشرية، وهي التي تدور عليها رحى الحرب بين الأنبياء وأقوامهم، وهي السبب في تعذيب كل من خالف فيها، قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 9، 10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [النحل: 36] أَي: “وحدوا الله وَاجْتَنبُوا الْأَصْنَام”([5])، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} [الزخرف: 45].
قال ابن كثير رحمه الله: “فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك، منذ حدث الشرك في بني آدم، في قوم نوح الذين أُرسل إليهم نوح، وكان أوَّلَ رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوتُه الإنس والجن في المشارق والمغارب”([6]).
وقال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُون} [الأنبياء: 24]. قال بن القيم رحمه الله: “أي: هذا الكتاب الذي أنزل عليَّ، وهذه كتب الأنبياء كلّهم: هل وجدتم في شيء منها اتخاذ آلهة مع الله، أم كلها ناطقة بالتوحيد آمرة به؟!”([7]).
المبحث الثاني: اتفاق الأنبياء في العقيدة تفصيلًا وبيان أهميتها في دعوتهم:
حين ننتهي من السَّرد التاريخيِّ للمسار العقديّ نجد أن البشريةَ نشأت على أن لا إله معبود بحقٍّ في هذا الكون غير الله، وظلّت البشرية هكذا حتى اجتمَعت عليها الشهوات والشبهات والشياطين، فاجتالتِ البشريةَ عن الفطرة السوية، وحرفتها عن المعتقد الصحيح، ومن هنا جاء تكليف الأنبياء بالتبليغ والرسالة وبيان ما يريده الله من خلقه. وأول ما يجب عليهم بيانه هو أحقِّيَّة الله سبحانه وتعالى بالعبادة وإفراده بها، ومن ثم صرّح جميعهم بهذا المعنى لأقوامهم، وهو مطالبتهم بتوحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.
وقبل تقريرِ هذا المعنى من القرآن نجدُ أنَّ أهمَّ قضية في المعتقد شغَلت الأنبياءَ هي قضة العبادة، وما سواها تبعٌ لها أو دليل عليها كالربوبية والأسماء والصفات، فكلها من مقتضيات العبادة، فكان الرسل يعرفون المعبودَ بأسمائه وصفاته حتى يتبين للناس أنه المستحقّ لذلك، ويستدلون على معنى العبودية بأدلّة الربوبيّة من خلقٍ وتدبير ورزق وملك، وهذا واضح في خطابِ نوح وإبراهيم لأقوامهم، فكلّ ما ذكروه من الربوبية هو من أجل الاستدلال به على العبادة، فهذا نوح قال لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا} [نوح: 10-20].
وهكذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وجد قومَه يعبدون الكواكب، فقد حكى الله محاجَّته لقومه بأدلة الربوبيةَّ؛ ليخلص من ذلك إلى إفراد الله عز وجل بالعبادة، فقال سبحانه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون * إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين} [الأنعام: 76-79].
وقد أحسن الإمام بن القيم رحمه الله في تجلية مقصدِ إبراهيم وطريقةِ استدلاله على التوحيد فقال: “وفي ذلك إشارةٌ إلى أنه سبحانه خالقُ أمكنتها ومحالِّها التي هي مفتقرة إليها، ولا قوام لها إلا بها، فهي محتاجة إلى محلّ تقوم به، وفاطرٍ يخلقها ويدبرها ويربُّها. والمحتاج المخلوق المربوب المدَّبر لا يكون إلها، فحاجَّة قومه في الله، ومن حاجّ في عبادة الله فحجته داحضة، فقال إبراهيم عليه السلام: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80]. وهذا من أحسن الكلام، أي: أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق، حتى استبان لي كالعيان، وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته، وأن آلهتكم لا تصلح للعبادة، وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والآخرة؟! فكيف تريدون مني أن أنصرفَ عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد؟! فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلبُ الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحقّ، ومن الجهل إلى العلم، ومن العمى إلى الإبصار، ومجادلتكم إيّاي في الإله الحقّ الذي كل معبود سواه باطل تتضمَّن خلاف ذلك. فخوَّفوه بآلهتهم أن تصيبَه بسوء كما يخوّف المشركُ الموحّدَ بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء، فقال الخليل: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80]، فإن آلهتكم أقلُّ وأحقر من أن تضرَّ من كفر بها وجحَد عبادتها. ثم ردَّ الأمر إلى مشيئة الله وحده، وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْئًا} [الأنعام: 80]. وهذا استثناء منقطع، والمعنى: لا أخاف آلهتكم؛ فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة، لكن إن شاء ربي شيئًا نالني وأصابني، لا آلهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئًا، وربي له المشيئة النافذة، وقد وسع كل شيء علما”([8]).
فإذا تبيَّن أنَّ سائرَ أبواب العقيدة إمّا أن تكونَ أدلةً على العبودية لله أو تابعة لها بقيَ لنا أن نبيّن الدعوة لتوحيد العبودية عند الأنبياء، وأنهم لم يجملوا القول فيها بل فصَّلوه وبيَّنوه.
فهذا نوح عليه الصلاة والسلام قال الله عنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف: 59]، وقال الله عنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون} [المؤمنون: 23]، وقال عنه: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون} [المؤمنون: 32].
ومثلُه هود عليه السلام فقد قال الله تعالى عنه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون} [الأعراف: 65]، وقال عنه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُون} [هود: 50].
وهكذا الشأن في صالح عليه السلام، قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الأعراف: 73]، وقال عنه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب} [هود: 61]، وقال عنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُون} [النمل: 45].
وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [العنكبوت: 16].
وقد أخذ الله العهد على بني إسرائيل على ألسنة رسلهم ألا يعبدوا إلا الله، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
وقال عن عيسى عليه السلام: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [المائدة: 72]، وقال عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [المائدة: 117].
وبنفس الدعوة دعا شعيبٌ عليه السلام قومَه، فقد قال الله عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [الأعراف: 85]، وقال عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيط} [هود: 84].
وقال سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون} [يوسف: 38].
قال الطبري: “يعني بقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ}: واتبعت دينهم لا دين أهل الشرك، {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ}، يقول: ما جاز لنا أن نجعل لله شريكًا في عبادته وطاعته، بل الذي علينا إفراده بالألُوهة والعبادة، {ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا}، يقول: اتباعي ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب على الإسلام، وتركي ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، من فضل الله الذي تفضّلَ به علينا، فأنعم إذ أكرمنا به، {وَعَلَى النَّاسِ}، يقول: وذلك أيضًا من فضل الله على الناس؛ إذ أرسلنا إليهم دعاةً إلى توحيده وطاعته”([9]).
واهتمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يقِف عند حدِّ الدعوة للعقيدة، بل تعاهدوها في أنفسهم وفي مجتمعاتهم، فالقرآن يحكي لنا جانبًا من الاهتمام العقديّ عند الأنبياء في اللحظات الحرجة التي لا يتحدَّث فيها الإنسان عن الأمور الثانوية، قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة: 132]. قال الكلبي ومقاتل: “يعني: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه”([10])، وقال سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [البقرة: 133].
فكلُّ ما هو عبادةٌ لله دعا الأنبياءُ إلى إفراد الله بها، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: 163].
فهذا هو دينُ الإسلام، وهو الذي بعث الله به الأنبياء، وهم متفوقون فيه حدَّ التطابق، مع أنهم أُرسلوا إلى أقوام مختلفين، وكلِّفوا بشرائع مختلفةٍ، لكن هذه هي المهمَّة الأولى لهم، وهي قضيتُهم التي لم تنطق ألسنتهم بخلافها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتُهم شتَّى، ودينهم واحد»([11])، قال القسطلانيّ: “وكأن سائلًا سأل عما هو المقتضي لكونه أولى الناس به، فأجاب بذلك: «أمهاتهم شتّى، ودينهم» في التوحيد «واحد». ومعنى الحديث: أن حاصل أمر النبوّة والغاية القصوى من البعثة التي بعثوا جميعًا لأجلها دعوةُ الخلق إلى معرفة الحقّ، وإرشادُهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسُن معادهم، فهم متَّفقون في هذا الأصلِ وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالموصلة المؤدِّية والأوعية الحافظة له؛ فعبّر عمَّا هو الأصل المشترك بين الكلّ بالأب، ونسبهم إليه، وعبّر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض بالأمهات، وهو معنى قوله: «أمهاتُهم شتَّى، ودينهم واحد»، أو أن المراد أن الأنبياء وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم، فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم كلًّا في عصره أمرٌ واحد، وهو الدين الحقّ، فعلى هذا فالمراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم”([12]).
ومن المعلوم أنَّ هؤلاء الأنبياءَ أُرسلوا إلى أقوامٍ عانَوا من مشاكلَ كثيرةٍ، بعضها أخلاقيّ، وبعضها سياسيّ، وبعضها اجتماعيّ؛ لكن حين كان الخلَل في العقيدة والعبادة فإنَّ ما سواها ثانويّ بالمقارنة معها، فلا بدَّ أن تقرَّر العقيدة أوَّلا، وتوحيد جهة المعبود، ثم بعد ذلك يشمل الإصلاح الحقول الثانوية؛ لأنه إذا وقع الخلل في العبادة والدين فإن جميعَ الميزات الأخرى للمجتمع لا قيمةَ لها، وهي مهدَّدة بالزوال؛ لأن وجودَها لا يعني قيمةً عند الخالق، قال سبحانه: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]؛ ولهذا قام الأنبياء بأوَّل واجِب على المكلفين، وهو عبادة الله، وقرَّروها وفصَّلوها، ثم جعلوها سلَّمًا لما بعدها من المشاكل، فقد أَمروا بكلّيات الشرع من أمهات الأخلاق ومحاسن العادات وفضائل القيم، فهذا مبثوث في شرائعهم مبيَّن، وكان بيانهم له بحسب حاجَة الناس إليه وما قع عندهم من الخلل فيه، لكنه بقي تبعًا لقضية العبودية ومكمِّلا لها.
المبحث الثالث: هل يمكن أن تكونَ القضية الأولى في حياة الأنبياء ثانوية في حياة غيرهم؟
لا شكَّ أن الجوابَ على هذا السؤال من ناحيةٍ عقلية تجريديّة يمكن أن يكون: نعم.
وبالنسبة لمن تضخَّمت لديه قضيةٌ معيَّنة -سواء في ذلك الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي- لا يمانع في الجواب بنعم مع بعض التفصيل.
لكن قبل الجوابِ على هذا السؤال -حتى لا نَظلِم من قد يجيب عليه من وجهة نظرِ معظم للشرع، لكن بجواب فيه بعض الخلل- يمكن أن نقول عن قضية الأنبياء الأولى: هي قضية العقيدة وتقريرها، لكن أي عقيدة يقررون؟ وأي عبادة يدعُون إليها؟
والجواب على ذلك: أن قضية الأنبياء هي توحيد الله بمعناه الشامل لكل مقتضيات “لا إله إلا الله”، وما ترشد إليه نصوص الوحي من قضايا الدين الكلية من إفراد الله بالعبادة، وإيمانٍ بالبعث والنشور والحساب، وكل ما هو شرط صحّة في قبول الأعمال عند الله سبحانه وتعالى، أما فروع العقائد التفصيليّة وقضايا علم الكلام وما اختلَف الناس فيه اختلافًا لا ينبني عليه كبير عمَل ولا يحصل به يقينٌ فليس هو الأولوية، وشَغل الناس به تضييعٌ للحقوق وتفريط في الدين الذي أرسل الله به الرسلَ، فالعقيدة التي يدعو إليها الأنبياء والتي هي أولوية في حياتهم ولا يمكن أن تكونَ ثانوية في حياة غيرهم هي تلك التي بانعدامها ينعدِم الإيمان في قلوب الناس، وتزول صفة الإسلام عن المجتمع من تصديقٍ بالرسل وإيمانٍ بأصول الدين واستقرارٍ لها في حياة الناس، والتي على أساسها يقتنع المؤمِن بأن مهمَّة الرسل بيان الشرائع والحكم بها في حياة الناس، فهذا من المتَّفق عليه، قال سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص: 26]، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44]، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر: 2].
فبيانُ العقائد المنحرفة وصرفُ الناس عن أهوائهم والحكم بينهم بالشرع المنزَّل قضيةٌ أساسية في حياة الرسُل ومهمَّة عظيمة؛ ولذا فإن الأنبياءَ تعاهدوا العقائدَ والقيَم، ولم يعيروا المستوى المادي كبير اهتمام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»([13]).
ومِن ثم نظَر الفقهاء والعلماء من الصحابة إلى زهرة الدنيا بالريبةِ؛ خشيةَ أن تشغلَهم عن القضيةِ الأمّ، وهي بيان العقائد والعمل بها وتعظيم ما عظَّمه الله من الحرمات، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوتي بأموال كسرى: “ما فتح الله هذا على قومٍ إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم”، وقال: “اللَّهمَّ إنَّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيَّنت لنا، اللهم إنَّك منعتَ هذا رسولَك إكرامًا منك له، وفتحتَه عليَّ لتبتليني به، اللهم سلِّطني على هلَكَته في الحقِّ، واعصمني من فتنته”([14]).
فالمقصد من وجودِ الخلق ليس طلب الرزق، ولا التنافس فيه، بل المقصد من إيجادهم هو أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى، وما دامت هذه هي الغاية منهم فهي أولى المهمَّات وأفضلها على الإطلاق، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون} [الذاريات: 57]، قال الربيع بن أنس: “{إِلاَّ لِيَعْبُدُون} أي: إلا للعبادة”([15]). ووَصف أكَابِر الْخلق بِالْعبَادَة وذمّ من خرج عَن ذَلِك مُتَعَدد فِي الْقُرْآن، وَقد أخبر أَنه أرسل جَمِيع الرُّسُل بذلك، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون} [الْأَنْبِيَاء: 25]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت} [النَّحْل: 36]، وَقَالَ تَعَالَى لبني إِسْرَائِيل: {يَا عبَادِيَ الَّذين آمَنُوا إِنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وقال: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [الْبَقَرَة: 41]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 21]، وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر: 11-15].
لكن معَ اكتمال التشريع ووقوف الشرائع على ساقٍ واحدة، فإنَّ إمكان التعارُض بينها واردٌ، وهو ما يسمّيه الفقهاء بازدحام الواجباتِ، وهذا باب واسع، قلَّ من يقف فيه مستويًا، ولكن حسبُنا أننا حين نقرِّر أولويةَ التوحيد فإننا نقرِّره تقريرًا عامًّا، والحاجةُ إليه قائمة في كل زمَن، ولا يعني ذلك جرعةً زائدة على حساب الفقه والعمل وقضايا الحياة مما لا تقوم حياةُ الناس إلا به، لكن إدراك حاجَة الناس لأيّ أمر من الأمور لا يعني أن يكونَ ذلك على حساب أولويات الشرع؛ لأن جميع مصالح الدنيا تعدُّ مقاصد تبعيّة، ومصالح الأخرى تعدُّ مقاصد أصلية، ولا تتحقَّق مصالح الأخرى إلا بتوحيد الله عز وجل أوَّلا، وتحقيق أصول الإيمان وكليات الشرع تحقيقًا عمليًّا مشاهدًا في حياة الناس، وأولوية العقيدة في حياة الناس نابعة من إدراك مقاصِد الشرع، وما يسعى إليه من إسعاد الناس دنيا وأخرى، وتقديم ما هو دائم باقٍ على ما هو آنيّ زائل، فالقِيَم لا تثبت إلا على ظهر العقائد التي تغذِّيها وتعزِّزها وتمنحُها القداسة في نفوس الناس، والعقائدُ لا تستقرُ في قلوب المؤمنين إلا بالتسليم والاستسلام والتعظيم، فإنزالها عن مرتبةِ الأولويات وجعلُها في قائمة الثانويّ أو الاحتياطيّ هو إزراءٌ بها وتضييعٌ لقيمتها الشرعية، وهو مناف لما أمر الله به من تعظيم الشعائر، قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]، قال القرطبي رحمه الله: “الشعائِر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعَر به وأعلَم، ومنه شعار القوم في الحرب، أي: علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدنة، وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمَّى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلامُ دينه لا سيَّما ما يتعلَّق بالمناسك”([16]).
والعقيدةُ هنا بمعناها الشرعيِّ المنصوص في الكتاب والسنة لا بمعناها الاصطلاحيّ الذي تعارف عليه المتكلّمون أو اختصره بعض المعاصرين في أبواب معينة، فالعقيدة كما دعا إليها الأنبياء أساسُ الدين وأصلُه، ولا يمكن أن تكونَ بحال نِسيًا منسيًّا في حياة مجتمع ما ويظل هذا المجتمع دينيًّا؛ لأنه فَقَد ميزتَه واستهان بهُويته، والخلط بين أهمية العقيدة وبن ثانوية المباحث الكلامية عند المتكلّمين هو خلطٌ غير علميّ، وسباحةٌ في موج ضدّ النصوص الشرعية، كما أن المقابلة بينها وبين الفقه غير موضوعية، فهي لا تأخذ من الوقت ما يأخذه الفقه أصلا بمباحثه التفصيلية، التي في كثير منها تكون من قبيل فروض الكفايات، وهي من علوم المتخصّصين، أما العقائد بالمعنى الشرعيّ فهي أمر لا يسَع المسلمَ تركُه، وليست بدرجة من التعقيد تحتاج تفرّغًا أو تفكيرًا زائدا على حدّ المتوسّط، فكلّ ذلك ينافي أمِّيَّة الشرع التي تنصبّ أوَّل ما تنصب على العقائد.
فالعقيدة هي صمام الأمانِ للقيم، وهي بوابة الممانعة ضدَّ الثقافات المخالفة، وأيّ تفريط فيها هو تضحيةٌ بكلّ القيم الأخلاقية والدينيّة لصالح المجهول أو الثانوي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (2/ 377).
([5]) تفسير السمعاني (2/ 172).
([6]) تفسير ابن كثير (4/ 570).
([7]) مدارج السالكين (3/ 474).
([8]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 254).
([10]) ينظر: تفسير البغوي (1/ 170).
([14]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 169).