طوافُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نسائِه بغُسل واحدٍ ودفعُ شبهةِ تحكيمِ العقل
طوافُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نسائِه بغُسل واحدٍ
ودفعُ شبهةِ تحكيمِ العقل
مَن تقحَّم بعقله فيما لا يُحسنه أتى بالغرائب ولحقَتهُ المعايب، وقد يورد العقلُ صاحبَه المهاوي ويودِي به إلى المهالك والمساوي، فالطَّعن في بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة بدعوى عدمِ قبولِ العقول لها ضربٌ من جعل العقل حَكَمًا على قبول الأحاديث وردِّها! وإهدارٌ للمسلك الصحيح؛ من البحث عن صحة الحديث أولًا، فإذا ثبت الحديثُ سأل المستشكلُ أهلَ العلم لدفع ما قد يُتوهَّم معارضته للعقل؛ وبهذا يتَّضح المنهج ويتَّسع المخرج.
وقد نهانا الله تعالى عن تقديم الرأي والهوى على ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، يقول ابن القيم: “فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأيُّ تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟! قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. ومعلوم قطعًا أن من قدَّم عقلَه أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأشدُّهم تقدّمًا بين يديه”([1]).
وفي هذه المقالةِ مناقشةٌ علميّة هادئة لشبهة أُثيرت حول حديث نبويٍّ شريف، وهو: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحد”، حيث عدَّه بعضُهم “إهانة للإسلام، وأنه لو أتى راوي الحديث وكلُّ من رواه يحلِفون على القرآن ما يصدِّقهم، ثم يُقسم بالله أنَّ هذا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرٌ وإساءة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم”!([2]).
والله تعالى أسأل أن يكونَ عنوان تلك المناقشة هو الالتزام بالإنصاف والمدارسة العلمية الجادَّة، بعيدًا عن الدخول في النوايا، أو الاندفاع في الجواب بالعاطفة، أو الدّفع بالصدر، والله تعالى من وراء القصد، وهو الموفق للصواب.
والمأمول أن يُخلص الجميعُ -سواء من تأثر بهذه الشبهة ومن ردَّها- في دعائهم اللهَ سبحانه وتعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»([3]).
وبوابة الجواب عن تلك الشبهة هو إيراد نصِّ الحديث، وتخريجه، ثم كلام العلماء في شرحه، متبوعًا بإيراد الشبه والجواب عنها بعون الله تعالى.
نص الحديث:
ثبت هذا الحديث من عدِّة طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ومنها:
ما رواه الإمام البخاري من طريق قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدةِ من الليل والنهار وهنَّ إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أوَكان يطيقُه؟! قال: كنَّا نتحدَّث أنه أُعطِي قوةَ ثلاثين. وقال سعيد، عن قتادة: إن أنسًا حدَّثهم: تسع نسوة([4]).
وما رواه الإمام مسلم من طريق هشام بن زيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحد([5]). وفيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أخَّر الغسل عن أوَّل وقت وجوبه، ولم يغتسل عند كلِّ واحدةٍ منهنَّ رضي الله عنهن.
وجه الاستدلال منه:
أن أنسًا ذكر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يدور على إحدى عشرة امرأة في ساعة واحدةٍ من الليل والنهار، وهذا يدلّ على أنه لم يغتسل عند كلّ واحدة؛ فإنّ الساعة الواحدة لا تتَّسع للوطء إحدى عشرة مرة، مع غسل إحدى عشرة مرة([6]). وقد صرَّح أنس في رواية ثابتة عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل غسلًا واحدًا.
درجة الحديث:
أوَّل ما ينبغي على من سمع حديثًا منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو التثبّت من صحَّته؛ فإذا لم يكن ثابتًا فلا حاجَة للبحث عن معناه، وفيما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كفاية وغناء.
وهذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، وهو في أعلى درجات الصحة؛ إذ رواه إماما المحدثين البخاري ومسلم في صحيحيهما اللَّذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وقد تلقتهما الأمة بالقبول([7]).
شرح الحديث:
قد ثبت عن جمع من الصحابة -ومنهم: عائشة وأبو رافع([8]) وأنس رضي الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة واحدة، وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه طاف على نسائه بغسل واحد، وذِكرُ الطواف هنا كناية عن الجماع([9])، وهذه الرواية هي التي أشكلت على بعض الناس، وفيما يلي الجواب عن هذا الإشكال إجمالًا وتفصيلًا.
الجواب الإجمالي:
الواجب على المستشكل لبعض معاني الحديث عمومًا -في هذا وأمثاله- سؤالُ أهل العلم؛ امتثالًا لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]؛ ولو فعل لأجابوه بما يشفِي غليلَه ويزيل الشبهةَ التي علقت بذهنه، ومن مبادئ الأجوبة على هذا أن يقال: إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد؛ لبيان جواز تأخير الاغتسال الشرعيّ عن أول وقت وجوبه([10])؛ تخفيفًا على أمته، وأمَّا المستحب لمن أراد أن يطأ مرة ثانية فأَن يغسِل فرجه ويتوضأ([11])، ويتأكد الاستحباب إذا عاود مع امرأةٍ غير التي كان جامعها([12]).
ودليل استحباب الوضوء لذلك: صريح قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ»([13])، وجمهور العلماء على أن الوضوء في هذه الحالة مستحبّ، يقول الحافظ ابن رجب: “واستحبَّ أكثر العلماء الوضوء للمعاودة، وهو مرويٌّ عن عمر وغيره، وليس بواجبٍ عند الأكثرين، وأوجبه قليلٌ من أهل الظاهر ونحوهم”([14]).
ومن فوائد الوضوء في هذه الحالة: أنه يجمع بين تخفيف الحدَث والنظافة، وقد علم أن الإنسانَ لا يتوضَّأ بعد الوطء حتى يغسل ذكره، وذلك يقوّي العضو، ثم إنّ البدن يسكن من الانزعاج بتلك الساعَة فيعود مستريحًا([15]).
وطوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بينهما، ويحتمل أن يكون المراد منه بيان جواز ترك الوضوء([16])؛ إذ ليس في الحديث ما يرجِّح أحدَ الاحتمالين، إلا أن بعضَ العلماء رجَّح الاحتمال الأول بدليلٍ منفصل؛ يقول الوزير ابن هبيرة: “الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ بين الوطأين أو يستنجي؛ لأنه هو الذي يليق بمكارمه وطهارته”([17]).
ويستفاد منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك النظافةَ بحال، وهو اللائق به، فكيف يُدَّعى بعد ذلك تكذيب الحديث، وأن فيه إساءةً للنبي صلى الله عليه وسلم؟! ولو اطلع المستشكل على هذا الظاهر لما ردَّ الحديث.
الجواب التفصيلي:
لا يتسنَّى لمريد الحقِّ أن يفهمَ حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا صحيحًا -بعد التثبت من صحته- إلا بأمور، من أهمها أمران:
الأمر الأول: الوقوفُ على أقوال العلماء في شرحهم للحديث؛ فلا يستقلّ العقل بالفهم بعيدًا عن بيان ورثة النبي صلى الله عليه وسلم -أعني: العلماء- وتفسيرهم؛ لذا كان العلماء يحذِّرون من ابتداع قول لم يقُله أحد قبلَ القائل؛ يقول الإمام أحمد: “إياك أن تتكلَّم في مسألة ليس لك فيها إمام”([18]).
الأمر الثاني: جمع الأحاديث الصحيحة الواردة في الباب نفسه؛ فلا يستقلّ بفهم الحديث بمعزل عن بقية الأحاديث الثابتة؛ إذ جميعها خارج من مشكاة النبوة، وليس بعضها أولى بالتطبيق من بعض، إلا عند ظهور الخلاف الذي يتعذَّر معه الجمع.
أقوال العلماء في شرح الحديث:
لم يكن هذا الفعل من عادته صلى الله عليه وسلم، وإنما فعله لعارضٍ، وقد تنوَّعت أنظار العلماء في تقديرهم لهذا العارض:
فبعضُهم يقولُ: يحتمَل أن يكونَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند قدومه من سفر.
وبعضهم يحتمل أن يكون عند تمام الدوران على جميع نسائه وابتداء دور آخر، فدار عليهن ليلة.
وبعضهم يحتمل أن يكون ذلك عن إذن صاحبة اليوم.
وبعضهم يحتمل أن يكون ذلك مخصوصًا به، وإلا فوطء المرأة في يوم ضرَّتها ممنوعٌ منه، وقد ظهرت خصائِصه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرًا -يعني: باب النكاح-([19]).
ولا يعارض هذا الحديثُ البتة ملازمةَ النبي صلى الله عليه وسلم للنظافة وطيب رائحته على الدوام، ويصف لنا خادمُه أنس بن مالك رضي الله عنه ذلك بقوله: «ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كفِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحًا قطّ -أو: عرفًا قطّ- أطيب من ريح -أو: عرف- النبيّ صلى الله عليه وسلم»([20])، يقول أبو العباس القرطبي: “هذا يدلُّ على أنه كان طيبَ الريح وإن لم يتطيَّب، ثم إنه كان يستعمل الطيب، ويعجبه رائحته؛ لأنه كان يناجي الملائكة”([21]).
طريقة العلماء في الجمع بين الأحاديث الواردة في الباب:
في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه دلالةٌ واضحة على جواز وطء الزوجات في ليلة واحدةٍ، وتأخير الغسل الشرعي -وهو الطهارة التي يجب فيها أمور مخصوصة زائدة على مطلق النظافة-عن أول وقت وجوبه؛ ليجعله غسلًا واحدًا، وهو ما ذهب إليه جماعة السلف والخلف، وحكاه النووي إجماعًا، وأما الغسل بعد كل وطء فهو أكمل وأفضل([22])؛ لما ثبت عن أبي رافع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: قلت له: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا؟! قال: «هذا أزكى وأطيبُ وأطهر»([23])، وفيه دلالة ظاهرة على استحباب الغسل قبل المعاودة، وهذا مما لا خلاف فيه.
ولا منافاة بين حديث أبي رافع وحديث أنس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين في وقتين مختلفين؛ يقول النووي: “على تقدير صحَّته -يعني حديث أبي رافع- يكون هذا في وقتٍ وذاك في وقت، والله أعلم”([24])، والذي قاله حسن جدًّا، فلا تعارض بينهما، فمرة تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا للجواز وتخفيفًا على الأمة، ومرة فعله لكونه أزكى وأطهر([25]).
استشكالات حول الحديث:
مجمل الاستشكالات التي أثيرت عن الحديث تدور حول توهُّم التعارض بين مدلول الحديث وبين ما عُرف به النبي صلى الله عليه وسلم من دوام النظافة وطيب الرائحة والمحافظة على الطهارة وأمره بها، وحول اطِّلاع الراوي على علاقةٍ خاصَّة جدًّا بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، ويمكن الرد على تلك الاستشكالات في الصور الآتية:
الاستشكال الأول: مخالفة الحديث للعقل.
الجواب عن ذلك:
من المقرَّر سلفًا أن الناسَ يتفاوتون في مراتبهم في الإدراك والفهم؛ لذا لا يستنكر استشكال بعض الناس لبعض الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستشكال النصّ لا يعني بطلانَه؛ فإن وجودَ النصوص التي يستشكل ظاهرُها لم يقع في الشريعة عفوًا، وإنما هو أمر مقصود شرعًا؛ ليبلوَ الله تعالى ما في النفوس ويمتحن ما في الصدور، وييسّر للعلماء أبوابًا من الجهاد يرفعهم الله تعالى به درجات([26])، ويجاب عن هذا الإشكال من وجهين:
الوجه الأول: لا وجود لمخالفة العقل في الحديث أصلًا، وغايةُ ما يدلٌّ عليه الحديثٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه مرة في ليلة واحدة -أو في يوم واحد-، ثم أخَّر الغسل الشرعيَّ عن أوَّل وجوبه، وذلك -كما تقدَّم- بيانًا لجواز ذلك، ولا يلزم منه ترك النظافة ولا شيوعُ رائحةٍ غير مرغوب فيها منه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.
ودليل ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحد، وبعد اغتساله بمدَّة يبقى أثر الطيبِ لكثرته؛ روى الإمام البخاريّ في صحيحه عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: ذكرته([27]) لعائشة فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، كنتُ أطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرمًا ينضَخُ([28]) طيبًا([29]).
ومن فقه الإمام البخاري ترجمتُه للحديث: “باب إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل واحد”([30])، يقول الحافظ ابن رجب: “ووجه استدلال البخاري بالحديث على أن تكرار الجماع بغسل واحد: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو اغتسل من كلّ واحدة من نسائه لكان قد اغتسل تسعَ مرات، فيبعد حينئذٍ أن يبقى للطيب أثر، فلما أخبرت أنه أصبح ينضخ طيبًا، استدلَّ بذلك على أنه اكتفى بغسل واحد… وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ في هذه المدّة [يعني: مدة إحرامه]، بل كانت عادته الوضوء لكلّ صلاة، ومع هذا فلم يذهب أثره من شعره، وهذا يدلّ على أنه كان طيبًا كثيرًا له جِرْم يبقى مدة”([31])، فأين هذا من ضرب الأمثال للحديث وأن فعل المرء له مما يتفق النساء على استنكاره؟! فبقاء نضخ الطيب وأثره عليه صلى الله عليه وسلم دليل صريح على عدم تركه للنظافة بحال، ولا انبعاث رائحة تستكره.
الوجه الثاني: أنه لا تلازمَ بين تأخير النبي صلى الله عليه وسلم للغسل الشرعيِّ عن أول وقت وجوبِه وبين ترك النظافة؛ فإن الظاهرَ من حاله صلى الله عليه وسلم المحافظةُ على نظافته والعناية بها؛ لذا ذهب بعض العلماء إلى ترجيح وضوئه في كل مرة، كما تقدم.
بناء على ما سبق: ينتفي هذا اللازم الذي جعله المستشكل سببًا في رد حديث أنس، كما ينتفي ضربه للأمثلة للتنفير من ذلك الفعل، وسقطت دعواه بأن من يثبت الحديث سيثبت أمرًا تتَّفق النساء والطبيعة البشرية على عدم فعله.
الاستشكال الثاني: معرفة الراوي بعلاقة خاصَّة جدًّا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته رضي الله عنهن.
الجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن التحدُّث بالأمور الخاصَّة التي تكون بين الزوجين وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجلَ يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثمَّ ينشر سرَّها»([32]) قد استفاض العلماء في بيان أن المراد به: هو تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه([33])، وليس في حديث أنس ما يدلُّ على ذلك أصلًا.
الوجه الثاني: لا يوجد في حديث أنس إخبارٌ عن حياته صلى الله عليه وسلم الخاصَّة مع زوجاته، ولا إفشاء سرٍّ من أسرار الفراش، وادِّعاء ذلك تحميلٌ للَفظ الحديث ما لا يحتمله، وتقوُّلٌ على الصحابيّ بما لم يقُله، ونِسبة شيء للنبي صلى الله عليه وسلم لا يَرضاه، فليس في حديثِ أنس أكثر من الإخبار بطواف النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نسائه وتأخيره للغسل؛ فغاية ما يدلُّ عليه الحديث هو جواز تأخير الطهارة الشرعية عن أول وقت وجوبها، وهو حكم فقهيٌّ بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته بفعله، وفعلُه تشريع؛ إذ هو المبلغ عن الله تعالى بأقواله وأفعاله وتقريراته؛ فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
الوجه الثالث: مجرَّد ذكر طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحدٍ ليس فيه ما يُستنكر؛ ولهذا يقول القاضي عياض: “وأما ذكر المجامعة والخبر عنه على الجملة فغير منكَر؛ إذا كان لفائدةٍ ومعنى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأفعله أنا وهذه»([34])، وقوله: «هل أَعرستم الليلة؟»([35])، وذكر ذلك لغير فائدة أيضًا ليس من مكارم الأخلاق، ولا من حديث أهل المروءات والسَّمت”([36]).
الاستشكال الثالث: إثبات هذا الحديث سيجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق البشر.
الجواب عن ذلك:
لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر؛ قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) [الكهف: 110]،ولكن الله تعالى أكرمه بطيبِ ريحه وعَرقه؛ فيصف لنا جابر بن سمرة رضي الله عنهما طيبَ رائحته صلى الله عليه وسلم فيقول: “صلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدِهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدّي، قال: فوجدتُ ليده بردًا -أو: ريحًا-، كأنما أخرجها من جُؤنة عطّار([37])“([38]).
قال العلماء: “كانت هذه الريح الطيبة صفتَه صلى الله عليه وسلم وإن لم يمسَّ طيبًا، ومع هذا فكان يستعمل الطيبَ في كثير من الأوقات؛ مبالغةً في طيب ريحه؛ لملاقاة الملائكة، وأخذ الوحي الكريم، ومجالسة المسلمين”([39]).
ويصف لنا أنس بن مالك رضي الله عنه طيبَ عرقه فيقول: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقالَ([40]) عندنا، فعرق، وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلتُ العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟»، قالت: هذا عرقُك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب([41]).
فثبت بهذا صحَّة الحديث سندًا، وجواز ما دل عليه: وهو تأخير الغسل عن أول وقت وجوبه على ما قرره العلماء، وردُّ الإشكالات التي أثيرت حوله، والحمد لله على توفيقه؛ والله تعالى نسأل العصمةَ من التقدُّم بين يدي الله ورسوله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 997).
([2]) هذا بعض كلامه حول الحديث؛ ودونك رابط كلامه:
https://twitter.com/waseem_yousef/status/1213954443072417794
([3]) أخرجه مسلم (770) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
([6]) ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 298- 299).
([7]) ينظر: مقدمة ابن الصلاح (ص: 28)، وإرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق صلى الله عليه وسلم للنووي (1/ 131).
([8]) سيأتي نصُّ حديثهما مع التخريج ضمن المقالة إن شاء الله تعالى.
([9]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (3/ 276).
([10]) ولا يلزم من تأخير الغسل الشرعيّ ترك النظافة، وبينهما فرق سيأتي إيضاحه ضمن المقالة.
([11]) ينظر: معالم السنن للخطابي (1/ 75)، والمغني لابن قدامة (1/ 168)، والمجموع شرح المهذب للنووي (2/ 157).
([12]) البدر التمام شرح بلوغ المرام لحسين بن محمد اللاعي (2/ 115).
([13]) أخرجه مسلم (308) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([14]) فتح الباري لابن رجب (1/ 302).
([15]) ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/ 171).
([16]) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 218)، والإيجاز في شرح سنن أبي داود للنووي (ص: 31).
([17]) الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 290).
([18]) ينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 245)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 320).
([19]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 382)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (2/ 146)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 567-568)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 379).
([20]) أخرجه البخاري (3561)، ومسلم (2330).
([21]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 122).
([22]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 568)، وشرح النووي على مسلم (3/ 217).
([23]) أخرجه أبو داود (219)، والنسائي في الكبرى (8986)، وابن ماجه (590)، قال البيهقي في الكبرى (7/ 192): “ليس بالقوي”، وحسَّن إسناده الذهبي في المهذب (6/ 2765).
([24]) شرح صحيح مسلم (3/ 218).
([25]) ينظر: عون المعبود لشمس الحق آبادي (1/ 254).
([26]) ينظر: الأنوار الكاشفة للمعلمي اليماني (ص: 223).
([27]) الذي ذكر لعائشة هو: أن ابن عمر كره الطيبَ عند الإحرام، فردَّت مقالته بهذه الرواية. ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 297).
([28]) النضخ: الأثر يبقى في الثوب والجسد. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (5/ 70).
([31]) فتح الباري لابن رجب (1/ 298).
([32]) أخرجه مسلم (1437) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([33]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 9)، وشرح المشكاة للطيبي (7/ 2307)، وشرح سنن أبي داود لابن رسلان (18/ 592).
([34]) أخرجه مسلم (350) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([35]) أخرجه البخاري (5480)، ومسلم (2144)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([36]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 614).
([37]) جُؤنة عطار: السَّفَط الذي فيه متاع العطار. شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 85).
([39]) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 85).