هَل ظاهرُ القرآن والسنةِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شكَّ في شيء منَ الدّين؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدِّمة:
أحيانًا يُضطرُّ الإنسان للكتابةِ في موضوعٍ ما، لا حبًّا فيه، ولكن مضايِق الجدال والشُّبه المتناثرة بعدَد أنفس المعاندين للحق وأنفاسهم توجب على الشخصِ حميةً دينيةً وقَوْمَة لله عز وجل ونصرةً لدينه، ومحاولة لغلق بعض أبواب الشرِّ وردِّ بعض الواردين إلى النار عنها.
ومن الشبَه التي ما فتئ أعداءُ الإسلام يردِّدونها محاولةُ التَّنقُّص منَ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن رحى الإسلام تدور عليه، ولا قوام للدين والملَّة إلا بتعزيره ونصره، ومتى ما تزعزع الإيمانُ به في قلب شخص فقد انتفى الدين عنه، وحلَّ محلَّه نقيضُه من كفرٍ ونفاق عياذًا بالله، ولأجل هذا المعنى قصد الكفار إلى الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وليّ ألسنتهم بالكتاب ليتحقَّق لهم هذا المقصد، فقعدوا بكلّ صراط، وابتغوا طريق الحقِّ عوجًا، ومع كفرهم بالوحي إلا أن ذلك لم يمنعهم من طلب الملجأ والمغارات إليه، فعمدوا إلى الوحي، فاشتبه عليهم، فأخذوا تلك الشبَه وجعلوها ملَّةً ودينًا يطعنون به في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان من بين هذه الدعاوى دعوى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في شكٍّ مما أُنزل إليه، وأنه لم يكن على يقينٍ من ذلك، واستشهدوا بآياتٍ وأحاديثَ يرونها تشهَد لما ذهَبوا إليه.
وقبل الخوض في هذه الشبهَة وتبيين ضعف بنائِها وأنها لا تصمُد أمام المحاجَجة لا بدَّ أن نبيِّن محكماتٍ في الدين، وهي:
أولا: الآيات الدالَّةُ على يقين النبي صلى عليه وسلم مما هو عليه:
صرَّحت آياتٌ كثيرة بيقين النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما هو عليه، قال سبحانه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِين} [الأنعام: 57]. “{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: على بيانٍ وبصيرة وبرهان”([1])، فالآيةُ تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان على يقينٍ بما يقول وتأمره ببيان ذلك.
ومن الآياتِ الدالةِ على يقين النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن ما أنزل إليه وحيٌ، وأنه ملتزم به، وأنه بالنسبة له برهان وحجة: قوله سبحانه: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 203]. قال القرطبي: “ومعنى {اجْتَبَيْتَهَا}: اختَلقتها من نفسك، فأعلمهم أن الآيات من قِبَل الله عز وجل، وأنه لا يقرأ عليهم إلا ما أنزل عليه. يقال: اجتبيت الكلام، أي: ارتجلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك. {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أي: من عند الله لا من عند نفسي. {هَـذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة، أي: هذا الذي دللتكم به على أن الله عز وجل واحد بصائر، أي: يستبصر بها، {وَهُدًى}: رشد وبيان، {وَرَحْمَةٌ} أي: ونعمة”([2]).
وقد أكد سبحانه وتعالى في القرآن أن النبيَّ يدعو إلى هدى، قال سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيم} [الحج: 67]، وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى: 52]. وغيرها من الآيات المزكِّية لاعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم، ولإيمانه ويقينه بالله سبحانه وتعالى، وهي قضيَّة لا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم بها والاستسلام، فهي حدٌّ لا يقبل من المؤمن غيره.
ثانيا: الآيات المزكية للنبي صلى الله عليه وسلم في عقله:
من المعلوم أنَّ الشكَّ مرض عقليٌّ خصوصًا في الأمور الضروريَّة، وهو منافٍ لليقين أوَّلًا، ومنافٍ للهداية ثانيًا، فلا يتصوَّر من الحائر ولا من الشاكِّ أن يُقيم حجةً لغيره يستقيم بها ويثبت بها الإيمان في قلبه، وقد نزَّه الله سبحانه وتعالى النبيَّ عن جميع الأوصاف التي تتنافى مع النبوَّة والتبليغ، وأول ذلك سلامة الحواسّ والعقل، قال سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4].
فهذه الآياتُ كلُّها تزكيَّة للنبي صلى الله عليه وسلم وإعلاء من شأنه فيما يبلّغ، وقد علَّق ابن كثير رحمه الله عليها فقال: “{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه بارّ راشد تابع للحقّ، ليس بضالٍّ، وهو: الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي هو: العالم بالحقّ العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله سبحانه وتعالى رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود، وعن علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو -صلوات الله وسلامه عليه- وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} أي: ما يقول قولًا عن هوى وغَرض، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أي: إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملًا موفرًا من غير زيادة ولا نقصان”([3]).
وقال سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، قال البغوي: “أي: ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا ولا شمالا، {وَمَا طَغَى} أي: ما جاوز ما رأى، وقيل: ما جاوز ما أمر به، وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا”([4]). ففي هذه الآية تزكية لبصره، وقبلها قوله سبحانه: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12].
كما زكى الله سبحانه وتعالى عقلَه، فقال: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُون} [الطور: 29]، وقال سبحانه: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} [القلم: 2]، وقال سبحانه: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون} [التكوير: 22].
وزكّى خُلُقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4]، قال ابن عباس وغيره: “على دين عظيم”، وفي لفظ عن ابن عباس: “على دين الإسلام”، وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: “كان خلقه القرآن”، وقال الحسن البصري: “أدب القرآن هو الخلق العظيم”([5]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “واللهُ قد ذمَّ الحيرة في القرآن في قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 71]. وفي الجملة فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد صلى الله عليه وسلم أكملُ الخلق عِلمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلقِ اهتداء في نفسِه، وأهدى لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال”([6]).
وهذا من المحكَم الذي يقطع به كلُّ مسلم، ولا يماري فيه إلا جاهل بالوحي منكِر للنبوَّة؛ لأنَّ من كلِّف بهداية الناس لا بدَّ أن يكون على قدر من اليقين، يمكنه من بيان الحقِّ، فإذا كان المبيِّن شاكًّا والمبيَّن له كافرًا به فأنى للناس أن يميّزوا ظلماتٍ من نور أو هدى من ضلال.
ثالثا: الشكّ في القرآن:
لا شكَّ أنَّ القرآنَ وحي منزَّل من عند الله سبحانه وتعالى، ويُطلب اليقين عليه من جهتين:
الجهة الأولى: جهة التنزيل، وهو أنه من الله سبحانه وتعالى، وقد دلَّت النصوص على ذلك وأرشدت إليه، قال سبحانه وتعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين} [الواقعة: 80]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} [البقرة: 2]، وقال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 23]، وقال سبحانه: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين} [السجدة: 2]، وقال: {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين} [يونس: 37]، وقال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 23]، وقال تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8].
وقد نفَى الله سبحانه أيَّ ريبٍ في القرآن أو شكّ فيه، فنفى أن يكونَ كذِبا كما نفَى أن يكون من عند غير الله، قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]، وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33]. فنفى الشكَّ عنه والريبَ من جميع الجهات؛ في الإتيان بمثله، وفي كونه من عند غير الله.
الجهة الثانية: قضايا الوحي من أوامر ونواهٍ وأخبار، كلّها لا تحتمل الشكَّ فيها ولا الريبَ، وقد ذمَّ القرآن كلَّ مَن شكَّ أوِ ارتاب في أحكامه وأخباره، قال سبحانه وتعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]، وقال سبحانه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ: 54]، وقال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]، وقال سبحانه: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، وقال سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]، وقال سبحانه: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 50].
والمرضُ في الآيات هو الشكُّ كما قال المفسرون، وكذا الريبُ، فهذه آياتٌ كلُّها تذمّ من شكَّ أو ارتاب في الوحي أو في قضاياه من إيمان وأخبار، {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31]. قال ابن القيم رحمه الله: “أخبر الله سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدةَ الملائكة الموكَّلين بالنار تسعة عشر، فذكر سبحانه خمسَ حكم: فتنة الكافرين، فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم، وقوة يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلقٍّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فتقوم الحجة على معاندهم، وينقاد للإيمان من يريد الله أن يهديه، وزيادة إيمان الذين آمَنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به. فهذه أربعة حكم: فتنة الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب”([7]).
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34]، وقال: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِون} [النمل: 66]، وقال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُون} [الدخان: 9].
فالقرآن ذمَّ من كان في قلبه شكٌّ من الوحي مطلقًا، أو في قضاياه الكلية من بعث ونشور ونبوة وإيمان وإسلام، وفي مقابل ذلك مدح أهل اليقين ومن لم يكونوا أهلَ الشكّ، فقال سبحانه مادِحًا للمؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} [السجدة: 24].
فأهل اليقين هم أهل الله عز وجل، وهم الممدوحون في القرآن، أمّا أهل الشك والريب فهم أهل الكفر والنفاق، ويستحيل عقلا وشرعًا أن يبلّغ النبي صلى الله عليه وسلم الوحيَ من عند الله ويصف أهل الإيمان باليقين والثبات على الحقّ، ثم يصف أهل الكفر والنفاق بالريب والشك والتردّد، ويبين أن هذه الأوصاف موجبة لعقاب الله سبحانه وللبعد، وأنها علامة شر في المكلف، ثم -حاشاه وحاشاه- يتّصف بهذه الأوصاف التي يشارك فيها أهلَ النفاق والكفر ممن ذمهم القرآن وهو النبي الكامل المبلغ عن الله سبحانه وتعالى، فإذا تبين ذلك علم أن الشكَّ والريبَ في الوحي وفي قضاياه الكلية معصية لله سبحانه وتعالى، فلزم انتفاؤها عقلا وشرعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: عصمة النبي صلى الله عليه وسلم:
عصمةُ النبي صلى الله عليه وسلم أمر مجمعٌ عليه بين أهل الملة، وهو من محكمات الدين التي لا تنخرم، وكلّ ما سبق من الأدلة هو دليل عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوَّة الأنبياء دلَّت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًّا، وهذا معنى النبوة، وهو يتضمَّن أنَّ الله ينبئه بالغيب، وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق”([8]).
وقد نزَّه الله سبحانه وتعالى النبيَّ عن النطق بالباطل، وبيَّن طهارة قلبه، وأن الوحيَ منزل على هذا القلب الطاهر، فقال سبحانه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين} [البقرة: 97]، وقال سبحانه {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} [الشعراء: 194]، وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} [الشورى: 24].
فهذه محكماتٌ من الشرع لا بدَّ من تقريرها قبل الخوضِ في الشبهة؛ لأنَّ باستصحابها يتبين الخطأ العقليّ والموضوعيّ عند من حاول الاستشهاد بالآيات والأحاديث؛ ليدلِّل بذلك على هذا الاعتقاد الباطل المنافي للنبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
فبعد هذا العرض الموجز عن هذه المحكمات يمكننا أن نناقش الشبهةَ وما استندت عليه من أدلة:
تصوير الشبهة:
وردت آية من القرآن تأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب عما أنزل عليه إن كان في شكٍّ من ذلك، وهذه الآية هي قوله سبحانه: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين} [يونس: 94]. وورد في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نَحن أَحَقُّ بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم»([9])، فتمسَّك المغرضون بالآية والحديث، واستدلُّوا بهما على جواز الشكِّ في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه شبهةٌ لا تنهض لجهل قائلها باللغة أولًا، وبمحكمات الدين ثانيًا، وإغفاله للسياق الذي وردت فيه، وبيان ذلك كالآتي:
أولا: نصُّ الآية ينفي المعنى الذي ذهبوا إليه؛ بدليل أنها ختمت بالنهي عن الشكِّ، فقال سبحانه: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين} [يونس: 94].
ثانيا: من المعلوم أن للشرط أداتين في اللغة هما: (إن) و(إذا)، و(إن) تحتمل وقوع الحدث وعدمه، ومن ثم فإن ترجيح وقوعه لا بدَّ له من قرينة، إما من السياق وإما من خارجه، والقرآن نزل بأسلوبِ العرب، فكان يعلّق المحتملات بأداة الشرط (إن)، وقد ناقش الإمام ابن القيم رحمه الله المسألةَ نقاشًا علميًّا، وأفاض فيها، وأجاب عن الإشكال الوارد على التعليق بـ(إن)، فقال رحمه الله: “المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة (إن) لا يعلَّق عليها إلا محتمل الوجود والعدم، كقولك: إن تأتني أكرمك، ولا يعلَّق عليها محقَّق الوجود، فلا تقول: إن طلعت الشمس أتيتك، بل تقول: إذا طلعتِ الشمس أتيتك، و(إذا) يعلَّق عليها النوعان. واستشكل هذا بعض الأصوليين فقال: قد وردت (إن) في القرآن في معلوم الوقوع قطعًا كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24]، ومعلوم قطعًا انتفاء فعلهم. وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنيَّة على خصائص الخلق، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في عادة العرب حسنًا أنزل القرآن على ذلك الوجه، أو قبيحا لم ينزل في القرآن، فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه بين الناس حسن تعليقه بـ(إن)، من قِبَل الله ومن قبل غيره، سواء كان معلومًا للمتكلم أو للسامع أم لا، وكذلك يحسن من الواحد منا أن يقول: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع علمه بأنه في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه، فهذا هو الضابط لما تعلق على (إن)، فاندفع الإشكال”([10]).
ثالثا: هذا الأسلوب مطروقٌ في القرآن على سبيل الفرض في مسائل المعتقد وغيرها، ولا يلزم منه الوقوعُ مطلقًا، بل هو من بابِ التأكيد على المسألةِ وتقريرها؛ كقولك للرجل: إن كنت صاحبي فانصرني، وأنت تعلم أنه صاحبُك، وكذا قولك لابنك: إن كنتَ ابني فبُرَّني، وأنت لا تشكُّ وهو لا يشكُّ أيضًا أنه ابنك. ومما علِّق بالشرط مع العلم أنه لا يقع قوله سبحانه: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 94]، وقوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين} [الزخرف: 81].
رابعا: يتأكَّد ما ذهبنا إليه من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يشكَّ أنَّ المسألة علقت بالسؤال، والمراد تأكيدها؛ بدليل أن الأمر بالسؤال قد يتوجَّه إلى المعدوم الذي يستحيل سؤاله؛ مبالغة في الجزم بالمسألة وحسمها، قال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} [الزخرف: 45]. ومن المعلوم أنه لا يتأتَّى سؤالهم وهم أموات قد مضوا، ومن ثم حمل المفسِّرون الآيةَ على هذا المعنى الذي ذكرنا، فقال قتادة: “لا أشكّ ولا أسأل”([11]).
خامسًا: هذه الآيةُ هي خطابٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود بها بعض من لم تصحَّ بصيرته ممن آمن به، وهذا القول غير مدفوع، وله آيات تشهَد له، منها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1].
قال الإمام الطبري في تفسير الآية -وهي قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين} [يونس: 94]-: “ولو قال قائل: إنَّ هذه الآيةَ خوطب بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت بصيرتُه بنبوَّته صلى الله عليه وسلم ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه؛ تنبيهًا له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللَّبس عن قلبه، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته”([12]).
سادسًا: هذه الآية معارَضةٌ بغيرها مما ينفي الشكَّ عن الدين، فلزم ألا تحمَل على ظاهرها، قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 104].
قال السمعاني رحمه: “فإن قال قائل: ما معنى قوله: {إِن كُنْتُم فِي شَكٍّ مِن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبدُونَ مِن دُونِ اللهِ} وهو لا يعبد الذين من دون الله شكُّوا أو لم يشكُّوا؟! وما معنى قَوْله: {وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}؟ ولأي شَيْء خصَّ الْوَفَاة بِالذكر؟ الجواب: أما الأول معناه: إن كنتم في شكّ فلستُ في شكّ، ولا أعبد إلا الله على يقين وبصيرة. وأما ذكر الوفاة في قوله: {يَتَوَفَّاكُمْ} بمعنى التهديد، فإن العذاب يقع على الكافر حتى تدركه الوفاة”([13]).
سابعًا: ثمَّةَ توجيهٌ آخر تبقَى به الآية على ظاهرها، وهو أنَّ الأمر بسؤال أهل الكتاب هو في حالة الشكِّ في وجود اسمه عندهم، ليس في الدين ولا في قضايا الوحي، والأمر بالسؤال هو للتأكيد وزيادة اليقين، قال أبو جعفر معلّقا على الآية: “يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: {فَإِن كُنتَ} يا محمد {فِي شَكٍّ} من حقيقة ما اخترناك فأنزلنا إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعثَ رسولا إلى خلقه؛ لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل، {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} من أهل التوراة والإنجيل، كعبد الله بن سلام ونحوه، من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك منهم”([14]).
ثامنًا: الآية عَلم من أعلام النبوة، وليست شبهةً في النبوة، فالشرط لا يدلُّ على وقوع المشروط، بل لا يدلّ أصلا على إمكانه، قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]، وقال سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42].
ولقائل أن يقول: إذا كان الشكُّ لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المخاطَب بهذا الخطاب فما المقصود به؟
هنا نترك ابن القيم رحمه الله يجيب عن هذا السؤال فيقول: “المقصود به إقامةُ الحجة على منكِري النبوات والتوحيد، وأنهم مقرّون بذلك، لا يجحدونه ولا ينكرونه، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسلَه، وأنزل عليهم كتبه بذلك، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه، فمن شكَّ في ذلك فليسأل أهلَ الكتاب، فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارةٍ وأدلها على المقصود، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشكُّ قطّ، ولم يسأل قطّ، ولا عرض له ما يقتضي ذلك، وأنت إذا تأمَّلت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته: من شكَّ فليسأل، فرسولي لم يشكَّ ولم يسأل”([15]).
فإذا عرضنا كلَّ هذه الأجوبة مع الشبهة على محكمات الدين وقواعد الملَّة وجدنا أن الجوابَ المنضبط الذي لا تنخرم معه الأصول وتلتئم به الأدلة هو ما أتحفنا به ابنُ القيم رحمه الله، وهو واقع كثيرًا في القرآن أن ينسبَ إلى النبي فعلًا فعله قومُه، ويكون المراد من ذلك نفيه عنه، وإبطال حجَّة قومه، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب} [المائدة: 116].
قال البغوي رحمه الله: “قيل: فما وجه هذا السؤال مع علم الله أن عيسى لم يقله؟ قيل: هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة، كما يقول القائل لآخر: أفعلتَ كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله؛ إعلامًا واستعظامًا، لا استخبارا واستفهامًا. وأيضا أراد الله عز وجل أن يقرَّ عيسى عليه السلام على نفسه بالعبودية، فيسمع قومه منه، ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك”([16]).
فهذا حاصل الأجوبة على الآية، وما يمكن أن يقال في تفسيرها مما تحتمله اللغة ويتماشى مع النصوص ويلتئم.
شبهة الحديث:
ولا بدَّ قبل الجواب عن شبهة الحديث أن نبيِّن أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن اليقينَ ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، فعلم اليقين يحصل بالتواتر وببراهين الأدلة القاطعة، وعين اليقين يحصل بالمشاهدة، وحق اليقين يحصل بالوصول إلى الشيء ومعايشته واقعًا. وجميع الأنبياء قد حصل لهم علم اليقين الحاصل بالثقة في أخبار الله سبحانه وتعالى، ومن ثم كانت أسئلتهم التي ترد هي طلبٌ للمراتب الأخرى وليست شكًّا، ومن هذا قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو كان على يقينٍ من أن الله يحيي ويميت، وقد ناظر على ذلك قومه، وبيَّن لهم بطلان ما هم عليهم، ومن ثم فإن سؤاله لم يكن شكًّا في قدرة الله، وإنما كان طلبًا لمرتبةٍ من مراتب اليقين وهي عين اليقين؛ ولذلك ورد بالكيف: كيف تحيي الموتى؟ ولو كان شاكًّا في إحياء الله للموتى لقال: ربِّ، هل تحيي الموتى؟
وقد قصَّ الله عز وجل قصة إبراهيم في القرآن فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة: 260].
فالآية تدلُّ على أن إبراهيم كان مؤمنًا ولم يكن شاكًّا؛ بدليل جوابه في الآية: {بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وهو في هذا مثله مثل شخص عَلِم عِلْم يقينٍ بوجود التمساح والفيل والبحار ومكة والقدس، لكنه يطلب رؤيتها ليقينه بوجودها، ويعرف هيئتها التي تكون عليها، يقول ابن حزم رحمه الله: “وما شكَّ إبراهيم عليه السلام في أنَّ الله تعالى يحيي الموتى، وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أننا لا نشكّ في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف وزيادة النهر والخليفة، ثم يرغب من لم ير ذلك منّا في أن يرى كلَّ ذلك، ولا يشكّ في أنه حقّ، لكن ليرى العجَب الذي يتمثّله ولم تقع عليه حاسّة بصره قط”([17]).
فقول إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} هو طلب أَن يرِيه تَعَالَى مثلا محسوسًا يُطلعه على كَيْفيَّة الْجمع من أقاصي الأَرْض وبطون الْحَيَوَانَات، وَكَيْفِيَّة سرعتها فِي الحركات عِنْد الِاجْتِمَاع، ولأي أصل تَجْتَمِع، وعَلى أَي وَجه تتَصَوَّر؛ إِذْ الْجَوَاز بَحر لَا سَاحل لَهُ([18]).
فإذا تبين أن إبراهيم لم يشكَّ أصلا حتى يلزم من شكّه شكُّ غيره؛ بطلت الشبهة بأيسر الأدلة وأقلها تكلفا؛ ولهذا فإن العلماء تكلموا على حديث: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»([19])، فحملوه على أن “المراد نفي الشكّ عنهما، أي: لم يشكّ ونحن كذلك، ولو شكّ لكنا أولى بذلك منه إعظاما لإبراهيم”([20]).
وقد نقل النوويُّ عن المزني وجمهور أهل العلم تأويل الحديث وتفسيره بأن المراد به: “أن الشك مستحيل في حق إبراهيم؛ فإن الشكَّ في إحياء الموتى لو كان متطرقًا إلى الأنبياء لكنت أنا أحقّ به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشكَّ، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشكَّ، وإنما خصَّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشكّ، وإنما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعًا وأدبًا، أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم”([21]).
وفي الحديث معنيان:
أحدهما: أنه خرج مخرج العادة في الخطاب؛ فإن من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلِّم فيه: ما كنت قائلا لفلان أو فاعلا معه من مكروه فقله لي وافعله معي، ومقصوده: لا تقل ذلك فيه.
والثاني: أن معناه: أن هذا الذي تظنونه شكًّا أنا أولى به؛ فإنه ليس بشكّ، وإنما هو طلب لمزيد اليقين([22]).
ومما يبين لك -أيها المبارك- ما ذهبنا إليه من أن إبراهيم إنما طلب زيادة اليقين ولم يكن شاكًّا ما نبّه عليه ابن القيم رحمه الله حيث قال: “ذكر الله سبحانه في كتابه مراتب اليقين، وهي ثلاث: حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين، كما قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لتروُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5-7]، فهذه ثلاث مراتب لليقين:
أولها: علمه وهو التصديق التام به، بحيث لا يعرض له شكّ ولا شبهة تقدح في تصديقه؛ كعلم اليقين بالجنة مثلا، وتيقّنهم أنها دار المتقين ومقر المؤمنين، فهذه مرتبة العلم، كيقينهم أن الرسل أخبروا بها عن الله، وتيقنهم صدق المخبر.
المرتبة الثانية: عين اليقين، وهي مرتبة الرؤية والمشاهدة، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}، وبين هذه المرتبة والتي قبلها فرق ما بين العلم والمشاهدة، فاليقين للسمع، وعين اليقين للبصر، وفي المسند للإمام أحمد مرفوعًا: «ليس الخبر كالمعاينة»([23])، وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى؛ ليحصل له مع علم اليقين عينُ اليقين، فكان سؤاله زيادةً لنفسه وطمأنينةً لقلبه، فيسكن القلب عند المعاينة، ويطمئنّ لقطع المسافة التي بين الخبر والعيان، وعلى هذه المسافة أطلق النبيّ لفظ الشكّ، حيث قال: «نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم»، ومعاذ الله أن يكون هناك شكٌّ، ولا من إبراهيم، وإنما هو عَينٌ بعد عِلم، وشهود بعد خَبر، ومعاينةٌ بعد سماع”([24]).
وبهذا تندفع الشبهةُ، وتبعد وتدحض، ويتبين أن كتابَ الله يصدِّق بعضه وبعضًا، ويعضد بعضًا؛ لأن الكلَّ حقّ من عند الله، ووحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ويعلم المسلم أن مرتبةَ النبوة مرتبةُ تشريف وهبيةٍ، وليست كسبيةً، فلا يمكن أن ينزل صاحبها بعد تشريف الله له قدَرًا إلى غيرها من المراتب، فهي أعلى المراتب، وهي اصطفاء من الله، ولا تصدر عن أهلها مخالفة؛ لاستحالة ذلك قدرا وشرعًا، فالله لم يقدّرها، فهي من هذا الباب لا تقَع أصلا، ولم يطلبها منهم شرعًا فلا يجوز تصوُّرها في حقِّهم أو الحكم عليهم بها، والله الموفق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) تفسير ابن كثير (7/ 443).
([5]) ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 127).
([7]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 14).
([11]) ينظر: تفسير الطبري (15/ 202).
([12]) تفسير الطبري (15/ 203).
([13]) تفسير السمعاني (2/ 408).
([14]) تفسير الطبري (15/ 101).
([15]) أحكام أهل الذمة (1/ 106).
([17]) الفصل بين أهل الملل والأهواء والنحل (4/ 6).
([18]) ينظر: تنزيه الأنبياء (ص: 98).
([21]) شرح صحيح مسلم (2/ 183).
([22]) المرجع السابق (2/ 183).
([23]) مسند أحمد (1842) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (6213)، والزركشي في اللآلئ المنتثرة (78).